16‏/12‏/2017

رسالة انتحار


مقطع من لوحة (موتُ الشيراتون) للفنان الإنجليزي هنري واليس. يُروى أن توماس شيراتون
كان فتى موهوبا نبغ في الشعر في سن مبكرة ولم يلق اهتماما من أهل
عصره فانتحر في السابعة عشر من عمره.

في السابعة والخمسين من عمره، كان الروائي البولدني جيرزي كوزينسكي (Jerzy Kosinski) قد عانى من تعب الحياة حتى أنه شرب قدرا قاتلا من الكحول وخنق نفسه بكيس بلاستيكي ليموت تاركا كلماته الأخيرة الخالية من تنميق الروايات وخيال الأدب: "سأنام الآن نومة أطول بقليل من المعتاد. لكم أن تسموها نومة الخلود." 

في الواقع، لا يمكننا أن نتناول موضوع الانتحار بدون الحديث عن جوانبه الأخلاقية والعلمية والفنية والاجتماعية، فهو في النهاية سلوك ليس بشريا فحسب بل حيواني تمارسه الكائنات من مختلف الأنواع وتتعدد مسبباته وتوابعه. لذا سأكون انتقائيا ولن أتناول في الصفحات القادمة سوى (فن الانتحار) كما يمكن أن نسميه. 

الإنسان... هذا المعقد العجيب لا يكف عن الفن حتى في موته. برغم اختلافاتنا المتطرفة أحيانا، نميل نحن البشر إلى إضفاء لمسة شخصية على كل شيء تقريبا (باستثناء مسرح الجريمة بلا شك). وكل لمسة شخصية لديها إمكانية أن تصير فنا بحسب الناظر إليها. إننا نجتهد طيلة حياتنا في أن نتميز بأكثر عدد من اللمسات الشخصية التي نعتقد بأنها ستدل الآخرين علينا: نشيد البنيان ونستحدث الأفكار ونوثق أفعالنا كما لو أنها أفعال بالغة الأهمية وجديرة بالتكرار. تسهل ملاحظة هذا الهوس بحب الذات والدعوة إلى إعادة خلقها بكل الطاقات الممكنة. لكن قد يصعب على بعضنا تصور أن الانتحار يمثل امتدادا لهوسنا بحب ذواتنا - كيف وهو تجميد واع لحركة الحياة وتحنيط للذات؟ 

بما أنني جزء من الكيان المعقد الذي هو الإنسان فإنني أستطيع أن أجزم بأن البشر هم أكثر الكائنات أنانية. طبعا، تتجلى الأنانية في أبشع صورها في أشكال الحياة الأخرى وحتى في الجموع الأكثر تفانيا وتواضعا وإيثارا. إلا أنها، أي أنانية غير البشر، ينقصها الوعي. أما أنانيتنا، ولو أنها لا واعية غالبا أو شبه واعية، فيمكن توجيهها وتكييفها. 

كلَوْلب من المادة الوراثية يصارع الفناء ويسعى جاهدا لاستنساخ ذاته إلى ما لا نهاية، يقضي الإنسان وجوده من النطفة إلى التحلل باذلا كل أسباب الخلود بكل حماس وشهوة وتحدٍّ. إن هذا الميل إلى حفظ الذات من الفناء ليس مشكلة فلسفية فما الإنسان إلا مجموعة من لوالب المادة الوراثية المستنسِخة ذاتها إلى الأبد. أما المشكلة الفلسفية الحقة فهي سبب سعينا المتواصل لتخليد ذواتنا برغم امتلاكنا سُلطة الوعي الذي يخبرنا بأننا مهما خلدنا فسوف ننتهي كما تنتهي النجوم. هنا يأتي الانتحار ليكون التعبير الأصدق عن حب الذات، أي تخليصها من عناء الغباء المتلبس بقدسية الحياة! لا أصف هنا الانتحار الذي يكون نتيجة اضطراب فكري أو شعوري أو سلوكي، فالوعي في هذه الحالات مشوه ولا يمكن الاعتماد عليه. بل أقصد الانتحار المثالي الذي يقدم عليه الإنسان مختارا وهو في أصفى حالاته العقلية، أي الانتحار الذي لم يقدم عليه أحد حتى الآن على حد علمي. 

أعزائي القراء ومن يتمتعون بحس التحقيق الجنائي، خذوا حذركم! وإليكم معلومات الضحية. 

يبلغ (إياد) 26 عاما. ينتمي إلى عائلة عادية مكونة من 14 رجلا وامرأة يعيشون حياة عادية وأبوين حيين لم يورثا له أية أمراض مزمنة. يعمل (أم يجب أن أكتب: "كان يعمل"؟) صيدلانيا ويحصل أول كل شهر على مبلغ أكثر من كاف لاحتياجاته واحتياجات أهل بيته. عاش طفولة سلمية ومراهقة كأي مراهقة. والآن، في هذه اللحظة الحزينة يستلقي بارتخاء على أرضية الغرفة في "نومة أطول بقليل من المعتاد." أؤكد لكم أنه لم يكن له تاريخ بأية أمراض جسدية أو عقلية وبإمكانكم أن تلقوا نظرة فاحصة على تفاصيل جسده لتجدوه خاليا من أي علامات اعتداء ومقاومة. لا توجد قضية قتل هنا فلينصرف المحققون ورجال الشرطة، بل توجد قضية فكرية فليقبل المفكرون. يجب التنويه بأن (إياد) كان يفكر كثيرا في كل شيء، ليس بشكل مفرط، لكن ربما أكثر مني ومنكم. 



يتبع...


يتم التشغيل بواسطة Blogger.