06‏/02‏/2016

كيف نفهم الغيرة؟



كيف سنبدو لو حاولنا تمثيل وجه "غيور"؟ غاضبين؟ أم حزينين؟ أم خائفين؟
في الواقع، لن نستطيع أن نفعل هذا. هل جربتم؟ أتوقع أن مفهوم الغيرة الآن يبدو لكم غامضا. فما هي الغيرة؟ هل هي عاطفة أساسية للحياة؟ أم هي وسيلة لنجاح التكاثر؟ أم مجرد رد فعل رومانسي مبهم؟
في مقالة حديثة (2014) يوضح بروفيسور علم النفس التطوري David Buss "المزايا التطورية التي تمكننا من تحديد العواطف الأساسية"، ويضرب الغيرة الجنسية sexual jealousy مثلا.
حقا، كيف نستطيع أن نصف عاطفة ما بأنها أساسية أو لا. ما هو المعيار؟ هل هو قوتها؟ أم شيوعها؟ أم مساهمتها في حفظ البقاء؟...
حاول بعض العلماء سابقا حصر العواطف الأساسية. عالم النفس الأميريكي Paul Ekman ذكر سبع عواطف أساسية، هي: "الغضب، القرف، الخوف، السعادة، الحزن، الاندهاش، الازدراء". لكن Ekman لم يختر هذه العواطف السبع لأنها المفضلة لديه أو لأنها تبدو شاعرية! لقد وضع لها إطارا نظريا وهو أن العاطفة الأساسية يجب أن تمتاز عن غيرها بأن تكون لها: ملامحُ facial expression خاصة، إشارة عالمية universal signal، فسيولوجيا خاصة، بداية سريعة، مدة وجيزة، وأن تكون تلقائية، وموجودة في الرئيسيات الأخرى، وأخيرا أن تحدث بلا تدخل منا unbidden occurrence.
فإذا أردنا تصنيف الغيرة، هل سيوافق السيد Ekman على ضمها إلى عواطفه الأساسية؟ لا. فالغيرة أولا ليست لها ملامح خاصة –أعيدو التجربة- ولا بداية سريعة ولا مدة وجيزة. لكن يمكن أن تكون الغيرة مزيجا من ثلاث عواطف أساسية هي: الغضب، الحزن، الخوف. وهي عواطف أساسية.
Robert Plutchik هو عالم نفس آخر شغلته العاطفة من ناحية تطورية، وقد ذكر ثماني عواطف أساسية، هي: "الغضب، الخوف، الحزن، القرف، الاندهاش، الحدس (التوقُّع)، الثقة، الاستمتاع". وكما تلاحظون، الغيرة هي العاطفة الغائبة لنفس السبب، وهي شروط Plutchik التي لم تتوفر في عاطفة الغيرة.
هناك سؤال مهم يجب أن نجيب عليه عندما نفكر في حُسبان أية عاطفة أو آلية نفسية أساسية أو غير أساسية. هل طور الانتخاب الطبيعي العاطفة لأنها حلَّت أثناء تطورها مشكلة تكيُّفية تابعة للنجاح التكاثري أفضل من العواطف الموجودة في السابق؟
إذا عدنا لشروط Eknman و Plutchik فإن كون العاطفة موجودة في الحيوانات الأخرى غير الإنسان –رئيسيات أو غيرها- ليس له تأثير في أوَّلية العاطفة (كون العاطفة أولية أو أساسية). مثلا، المِلاحة بواسطة الصدى echolocation هي عاطفة أساسية في الخفافيش مع أنها نادرة (أو غير موجودة) خارج هذا النوع. مثال آخر هو تكيُّف اللغة عند الإنسان وغيابه في الأنواع الأخرى.
نقطة مهمة: أن تكون للعاطفة وظيفة تكيُّفية يجب أن يُفهم حسب الفهم الحديث للوظيفة في البيولوجيا والسيكولوجيا التطورية. فمحرِّك الانتخاب الطبيعي لم يعد كما كان يُفهم قديما: يسعى لنجاح البقاء survival success. بل يسعى لنجاح التكاثر reproductive success. وهذا مهم حقا، فالأُطُر السابقة التي حاولت تصنيف العواطف كانت تتساءل إذا كانت هذه العاطفة ساهمت في حفظ البقاء. لكن حفظ البقاء ليس هو غاية التطور كما قرأتم، بل غايته هو حفظ النسل عن طريق نجاح التكاثر. وفي الواقع، هناك أمثلة كثيرة على نجاحات تكاثرية تحدث حتى على حساب البقاء (مستويات التستوستيرون العالية -لها دور في النجاح التكاثري- وخطرها على حياة ذكور الإنسان -كلفة بقائية-).
وهذا مهم أيضا فيما يتعلق بالغيرة، فهي لا تحل أية مشكلات تكيفية بقائية. لكنها بالأحرى تطورت لحل مشكلات تكيفية تكاثرية (متعلقة بالاقتران).
إن فلانا يغار من فلان لأنه قد يتسبب في خيانته، في ثني شريكته عن علاقتهما، في سرقتها منه، أو حتى التشكيك في أبوته الجينية لذريته. وهذه بالتحديد هي المشكلات التكيفية التي ربما تكون الغيرة تطورت لحلها. دعونا نفترض هذا السيناريو: يدخل الزوج ويجد زوجته في علاقة جنسية مع رجل آخر. بعد عدة شهور لاحظت الزوجة أنها حبلى. الغيرة في بادئ الأمر قد تمنع حدوث هذه العلاقة أساسا. لأن هذا الحمل يمكن أن يكون من إخصاب الزوج أو من إخصاب الرجل الآخر (عدم يقين أبوة).
وفقا لهذا الإطار التحليلي الجديد، يمكن حسبان الغيرة عاطفة أساسية. وهناك أدلة على أن هذه العاطفة المعقدة (الغيرة) تطورت لأنها حلت العديد من مشكلات الاقتران الكبيرة التي كانت (وممكن أنها لم تزل) متعلقة بالتكاثر. فهي أساسية للتكاثر لا للبقاء. بل إنها قد تكون مدمرة للبقاء. جرائم العشق مثلا، يمكن أن تتسبب في أذية أو موت الشريك الجنسي الغيور.
هناك عواطف أخرى غير الغيرة يمكن أن تُعد أساسية إذا طبقنا هذا الفهم الحديث للوظيفة التكيفية: الانجذاب الجنسي، الإثارة الجنسية، الحب الوالدي (حب الوالدين للأبناء)، الحب الرومانسي، الذنب، العار، الكبرياء، الامتنان. 
من المفترض أن المقطوعة الموسيقية في البداية Tango Jalousie"" تريد ترجمة عاطفة الغيرة إلى موسيقى. الكمان آلة رائعة تحدث فينا الكثير من المشاعر الصادقة. لكن هل ما سمعناه يمكن أن يكون موسيقى خاصة بالغيرة؟ أظن أن المقطوعة كانت خليطا مرتبِكا من الحزن العميق، الغضب، الانفعال، العتاب وربما الوداع.. ولعل وجود البيانو الذي يختلف عن الكمان في كثير من الصفات يوحي بوجود المُنافس الذي يُسمى في علم النفس التطوري mate poacher. هذا ما شعرت به.  

المصدر:
Buss, D. M. (2014). Evolutionary Criteria for Considering an Emotion “ Basic ”: Jealousy as an Illustration. Emotion Review, 6(4), 4–6. http://doi.org/10.1177/1754073914534481

05‏/02‏/2016

أنا مكتئب إذن أنا جيد في حل المشاكل: الاكتئاب تطوريا



بائع التفاح، للفنانة الأميريكية Barbara Stevenson
ببساطة منطق التطوُّر، كل عضو وكل شعور موجود في هذه اللحظة يجب أن يكون له سبب وجود في الماضي وضرورة في الحاضر أو تهديد بالاختفاء في المستقبل. عدد الأصابع، المشي على رجلين، موقع العينين.. أو الخوف، الحب، القلق. كل هذه الأشياء كانت لها مهمة في تيسير التكيُّف مع متغيرات الحياة النفسية والمادية، ولم تزل.
ماذا عن الأشياء التي لا يبدو أن لها ضرورة في أي زمن من الأزمان؟ 
الاكتئاب مثلا، ما هي المشكلة التطورية التي تطور الاكتئاب لحلها؟ 
وعموما، لماذا نصاب بالاكتئاب الذي هو مجموعة من "المزاج الكئيب، التفكير السلبي، عدم القدرة على الاستمتاع، الخمول"؟ 
هل يمكن أن تكون هذه الأعراض مفيدة بطريقة ما؟ 
مفارقة الاكتئاب هذه يمكن أن تُحل إذا افترضنا أن الاكتئاب يأتي نتيجة التقدم في السن. نحن كلما كبرنا قلت كفاءة أجهزتنا وأعضائنا، فتكثر الأمراض، والاكتئاب واحد منها. لكن إذا علمنا أن الناس أكثر عرضة للاكتئاب في سن المراهقة والبلوغ، لن يعود هذا التفسير مرضيا
قد نفترض أن الاكتئاب -مثل السمنة والتهاب الزائدة الدودية- واحد من أمراض التحضُّر، لكن هذا لن يكون مرضيا أيضا إذا كانت الدراسات تشير إلى وجود الاكتئاب في القبائل البدائية مثل الآشي Aché في الباراغواي وقبيلة الكنغ Kung في جنوب أفريقيا. فهذه قبائل بدائية لا تأكل ما نأكل ولا تعيش كما نعيش غالبا.
أحد الافتراضات التي قد تحل هذه المفارقة هي أن الاكتئاب في ذاته تكيُّف. لكن تكيف لحل أية مشكلة؟ هل مشاكل وأضرار الاكتئاب يمكن أن تقارن بفائدة أو فائدتين من فوائده التكيفية؟
دراسة بعنوان "الوجه المضيء للكآبة: الاكتئاب كتكيُّف لحل المشاكل المعقدة" نُشرت في 2009 تفترض كما يقول العنوان أن الاكتئاب هو تكيف تطوَّر -برغم تكاليفه الباهضة- لحل بعض المشكلات.
كيف يكون الاكتئاب تكيُّفا؟
السبب الأول لهذا الافتراض يأتي من الأبحاث التي أجريت على أحد جزيئات الدماغ، وهوالمستقبِل 5HT1A. يرتبط هذا المستقبِل بالسيروتونين Serotonin (ناقل عصبي أساسي في الاكتئاب وهدف للكثير من مضادات الاكتئاب، مثل أدوية SSRI). القوارض التي لا تملك هذا المستقبِل كانت أقل اكتئابا في مواجهة التوتر. عندما قام العلماء بمقارنة 5HT1A في القوارض وجدوه مشابها لجزيء الإنسان بنسبة 99%. وهذا قاد الباحثين إلى افتراض أن الانتخاب الطبيعي أبقى على هذا المستقبل -برغم ارتباطه بالاكتئاب- لما له من أهمية.
ما هي هذه المشكلات التي تطور الاكتئاب لحلها؟
يقول الباحثون في هذه الدراسة: "المكتئبون غالبا يفكرون بعمق في مشاكلهم، هذه الأفكار تسمى تأمُّلات ruminations، وهي أفكار مُلحَّة لا يستطيع المصابون بالاكتئاب التفكير في سواها. العديد من الدراسات وجدت أن هذا النوع من التفكير غالبا يكون تحليليا بشدة. المكتئبون يسهبون في التفكير في مشاكلهم، يحللونها إلى مشاكل أصغر..." إذن يبدو أننا أمام فائدة فكرية للاكتئاب: سنستطيع حل المشكلات المعقدة عندما نكون مكتئبين، لأن الاكتئاب يجعلنا نفكر بشكل تحليلي!
عندما نفكر في مسألة رياضية مثلا، شعورنا بالكآبة سيكون استجابة مفيدة تساعدنا على حلها. من المثير أن بعض الدراسات وجدت أن الناس الذين يكونون أكثر اكتئابا عندما يعملون على حل مسألة معقدة في اختبار ذكاء يحصلون على نتائج أعلى.
يحتاج التحليل الكثير من التفكير المتواصل، والاكتئاب يوفر هذه البيئة لنا لنحل مشاكلنا. المكتئب قد لا يستمتع ببعض النشاطات التي تخرجه من عزلته كالأكل والجنس (بسبب نقص السيروتونين)، فهي تعني أن يخرج من تفكيره العميق إلى موضوعات ومشاكل أخرى.
دعونا نفهم هذا بلغة الدماغ...
لاحظ منطقة VLPFC الملونة بالأخضر
لئلا تنقطع عملية التفكير، هناك منطقة من الدماغ يُطلَق عليها VLPFC يجب أن تواصل إطلاق الإشارات العصبية. لكن هذه العملية تتطلب طاقة عالية جدا. هذا بالإضافة إلى أن مواصلة التفكير قد تجعل الخلايا العصبية تنهار. تذكرُ دراسات على الفئران أن 5HT1A  (الجزيء الكئيب!) يغذي الخلايا العصبية بالطاقة ويحفظها من الانهيار.
لهذا السبب ترى هذه الدراسة أن الاكتئاب تكيُّف بامتياز.
لكن، إذا كانت هذه التأملات هي أحد أسباب وجود الاكتئاب، فهل إذا أعطينا جماعة من المكتئبين مهمة فكرية (الكتابة عن أنفسهم، مثلا) سيتحسنون؟ في الواقع، العديد من الدراسات تؤيد هذا.
السبب الثاني يأتي من نتائج الدراسات التي وجدت أن الناس يحلون مشكلاتهم الاجتماعية عندما يكونون في مزاج كئيب. عندما نواجه مثل هذه المشكلات (اكتشاف خيانة شريك، الفصل من العمل، الإقصاء من المجتمع) نصير كئيبين. قد نظن أن هذا الاكتئاب نتيجة معقولة لهذه المشكلات. لكنه في الحقيقة وسيلة لحلها. مشكلات من هذا النوع تبدو جديرة بأن يحافظ الانتخاب الطبيعي على بقاء الاكتئاب لمواجهتها.
 أخيرا، الاكتئاب واحد من أكثر الأمراض النفسية شيوعا وتدميرا لقيمة الحياة. 350 مليون إنسان حول العالم مصابون بالاكتئاب، منهم مليون ينتحرون سنويا أو 3000 ينتحرون يوميا. وهذه الافتراضات لا تعني أن مشكلة الاكتئاب لم تعد مهمة طالما تساعدنا على حل مشكلاتنا. لكنها تحاول -ولا أكثر من المحاولة- البحث عن جذور الاكتئاب في حياة الإنسان. على الأقل هذا يمنحنا شيئا من الرضى عندما نعتزل الناس ونتفكر في مشكلاتنا ثم نحللها. ويعلمنا ألا نستسلم للتفكير السلبي الحائر الذي يقود إلى المزيد من السلبية ثم المزيد من الشقاء (WHO, 2012).  

* هذه التدوينة  تلخيص لمقالة كتبها ناشرو الدراسة. هنا الرابط

يتم التشغيل بواسطة Blogger.