01‏/11‏/2016

قبلة الكمان




صُول ،
صوت الكمان أقرب إلى صوتي. 

عندما أمنحها كتفي تمنحني كل جسدها. 
العلاقة بالكمان دائما قُبلة. قُبلة الكمان لا تعرف الكتمان. 
المعزوفة معركة. معركةُ احتكاك. 
أشبه بفعل الحُب. 
للكمان قوس مصنوع من ذيل الحصان، وأوتار مصنوعة من الحرير. 
معركة. 
صوت صهيل. 
تركض العادياتُ ضبحا، وتعزفُ نَوْحا.

رِي ،
نوتة البداية.
أعتقد أننا جئنا إلى الحياة بمجموعة فريدة من الجينات والنوتات.
نوتتي تبدأ بالـ ري. 

على مقام الصَّبا.
أستطيع أن أصنع من حلقي آلة كمان إذا وضعت يدي على هذه الدرجة من السلم كل مرة.
لاحظتُ مرارا أن الكمان هي الآلة الأقرب إلى الحنجرة.

لا ،
تانغو الحرية - بيازوللا
"لا" هي التصوير الأدق لزوجين يستعدَّان للرقص.
أنطقُ" لا" فتنفلت لساني من حنكي الأعلى، تضرب في أسفل الفم بشهوة.
ينحبس الهواء كسائل العطر حبيسِ القنِّينة.
حَبس، حُرية.
عندما يقفز الخيل، يبقى عالقا في الهواء، ترتاح خيوط الحرير قليلا،
تتنفس قليلا،
وتمسح العازفة عرقها.

مي ،
أفهم الآن لماذا يحلق بي صوت الكمان أعلى من صوت أية آلة أخرى،
تُصنع الكمان الجيدة من خشب الصنوبر.
في صوت الكمان اعتراضات دفينة، حنين اللحاء إلى دفء القشرة 

وحنين الجذع إلى ملوحة الجذور.
أنا والكمان أبناء عمومة في الحقيقة.
لذا أشعر بهذا الانتماء والإدراك عندما أتوسَّده.

لوحات حاتم




أكتب أحيانا لأجل الصورة، ألملم الحروف وعلامات التنوين لأعبر عن انفعالاتي وأربطها بصورة أحببتها. أكتب عن الليل، مثلا، لأستعير لوحة من فان جوخ، وعن الجسور لأستدعي لوحات مونيه، وعن غموض الملامح لأبحث عن صورة مناسبة لرينيه ماغريت. لكنني الليلة سأعلِّق الصور على ظهري المكشوف لأكتب. لأنني حقا أشعر بجفاء الإلهام.

حاتم هو صديقي في الكلية، يشاركني دراسة الطب ومقترحات الكتب الفكرية وبعض الجَدَل. عرفته منذ أكثر من ثلاث سنوات أنيقا وهادئا ومتحمسا لأفكاره. أعجبني فيه اطِّلاعه الواسع وتقديره للفنون وتميُّزه في النظرة إلى الأشياء حوله. إذا واجهتم صعوبة في تخيُّله فاستذكروا (خواكين فينيكس) بطل فيلم (Her) الذي ظل يبحث عن عالم آخر يتواصل معه حينما لم يكفه كل العالم الطبيعي. 
قبل عدة أسابيع، فاجأني بأسماء جديدة في عالمه: "الوجه الآخر للقمر"، "هذه هي توليبي". فصُعِقت. لم أكن أتوقع أن يتجه حاتم إلى الرسم. يجوز أن يذوب في حياة اللوحات والرسامين ليشبع أعصابه بالألوان والفراشات والجبال، لكن أن يصير رساما فجأة؟ هذا ما حدث. أرسل إليَّ مجموعة من اللوحات الجديدة مرفقة بمجموعة من أغاني فرقة الروك الشهيرة (Pink Ployd). 

"هذه هي توليبي" لوحة بسيطة، حيث تتوسَّط زهرة توليب مساحة هادئة من لونٍ بارد لم أجد له اسما في ذاكرتي. يمزج حاتم في هذه اللوحة بين الصمت والكلام، بين التجريد والتفصيل. يمكن اعتبار "هذه هي توليبي" لوحة شخصية لنبرر العجز عن الخوض أكثر في أسرارها. لكننا لن نتجاهل سحرها. عندما رأيتها خطرت ببالي فكرة: لم لا يتوقف الناس عن تأليف الكتب ويختصرون كل شيء في غلاف جميل؟ ربما تكون الفكرة أشد غموضا! 


آمنتُ دائما بقوة الفن ليس على إنعاشِ أيامنا الخاملة فحسب، بل على إيجاد معنى فريد لحياةٍ واحدة لا آخر لها. قطع الإنسان، ولم يزل يقطع، أشواطا كبيرة من وجوده على هذه الأرض فنَّانا. أصبح البشر فنانين قبل أن يكونوا فلاسفة وعلماء وقتلة. رسموا قبل أن يكتبوا، صمتوا طويلا قبل أن يستطيعوا الثرثرة. يعيش الفنان في سلام مع نفسه. سلام وجودي على الأقل. قد يكون كئيبا أو فقيرا أو متشرِّدا لكنه لن يشعر بأن ذاتَه خذلته أو أنه يخذل ذاته. كيف وهو ينام على مرتاحا على لوحاته أو كتبه أو أغانيه أو منحوتاته كما ينام نبيٌّ على جبال من الحسنات؟ 



إن النبيَّ والفنان يدعوان لنفس النوع من الأفكار: تلك الأفكار التي تعينك على مسالمة الوجود وتضمن لك الخلود. إنهما يتحرَّقان لأن يدرك الناس ما يدور في ذهنيهما. ينتظران الوحي قليلا أو طويلا ثم يجيء ويريح جسديهما الكادحين. يسهر النبي راكعا لأنه أدرك أن الحياة يجب أن تكون أطول من الزمن، لأنه يدرك ويعلِّم الناس أن تدرك أن الذوات العظيمة الصبورة الواسعة يجب أن تفوز بالخلود. ويسهر الفنَّان لأنه يدرك أن كيانه الروحي: أفكاره، انفعالاته، حاجاته، احتجاجاته، ظلامه، نوره يجب ألا يندثر لحظة الموت. الموتُ يرعبُ الفنان ويُفرح النبي. لا يريد الفنان أن ينتهي في لحظة واحدة "كما يموت البعير". يريد الفنان أن تشعر به الأجيال القادمة.. أن تتصفَّحه وتسمعه وتتأمله وتلمسه وتشمَّه ما دامت الحياة. 




لم يسمِّ حاتم كل لوحاته. لم يوقِّع أسفلها. وربما ينتبه إلى هذه الخطوات المهمة لاحقا. فالتاريخ لا يرحم الأشياء الثمينة المجهولة. والتخمين موهبة بشرية قديمة. قد تفتنني الأوديسَّة لكنني لا أرتاح لخلاف العلماء حول كاتبها. أحب أن أضع يدي على توقيع (بيكاسو) البسيط. الاسم يعطي العملَ الفني كينونة. الطبيعة تُبدعُ كل يوم أجمل الأعمال: ندف الغيم وسراب الصحراء وأنين الرياح في الغاب، لكننا لا نستطيع فهمها ككينونة تنفعل وفق فلسفة مفهومة. قد نرى الكينونة في الطبيعة لكنها كينونة غير ثابتة وغير مستقلَّة، تفتقر إلى أبسط مبادئ التواصل. نستطيع بناء صومعة بسيطة فوق تلَّة بعيدة لفهم كينونة الطبيعة، لكن من ذا يرغب في بناء صومعة على لوحة؟ 



لا معنى للجبال ذات القمم المدببة التي يكسوها الضباب حيثُ يعيش حاتم. لا معنى لهذه الصورة بالنسبة لعينيه، لكن قد تجدون المعنى هناك... ربما في تلافيف دماغه التي التقطت هذه الصورة في بداية فيلم أو في ألبوم صور قديم أو في حلم. هذه اللوحة طقس متحرِّك يكاد يزيد برودة أو يقل. أكاد أرتعش من الخشوع والصقيع. أكاد أبحث عن شمس تبتلعني. يعيش حاتم في نفس مدينتي، لذا أدركُ تماما حاجته اللاواعية في التلحُّف بجبلين باردين والشعور بألم مفاصل طبيعي ولو مرة واحدة. سأتدخَّل هذه المرة وأسمِّي هذه اللوحة "الحاجة إلى برد". وأرجو أن تلاحظوا توقيع (H2) أسفل اليمين. قد يكون لهذا الحرف علاقة باسمه، أو إذا شئنا الذهاب بعيدا، بعنصر الهيليوم. عنصرُ النجوم والبدايات والانفجار العظيم! 



أول انطباع شعرت به تجاه هذه اللوحة هو أنها تجسِّد الوحشة. قرصٌ ذهبي يضمُّ زهرة بيضاء وفراشة. تبدو الفراشة جامدة محنَّطة ممنوعة من الحركة برغم إغراء الرحيق والنور. في مركز القرص ثمة ثقب صغير. قد نسمعُ صُراخا إذا وضعنا هذا القرص في جهاز فونوغراف؟ ربما أراد الفنان أن يُسمعنا صوت اعتراضات الفراشة ورفضها لهذه الوحشة. أو ربما أراد المزج بين عناصر الطبيعة وعناصر الصناعة ليصدمنا بحقيقة عدم انسجامهما. هذه اللوحة سجن. أنا أحترم الفراشات وطريقة حياتها. لذا يزعجني حبسها. لكن ماذا لو كان حاتم يريد أن يصور لنا فراشةً تؤدي عرضًا حركيا على خشبة مسرح؟ ما المانع؟ هذه البقعة المركَّزة من الضوء تشبه الأضواء التي تطارد الراقصين والممثلين الصامتين. والفراشة لم تبدأ الرقص بعد. 





* للتواصل مع حاتم على تويتر: Z_AXIZ@

16‏/10‏/2016

كيف تقرأ ورقة علمية (بالتفصيل)؟



قد يواجه بعض المهتمين بالعلوم صعوبات في قراءة البحوث والدراسات العلمية. الأمر ليس معقدا جدا. المهم أن تكون لغتك الإنجليزية جيدة. في هذا الفيديو الذي أعدَّه موقع العلوم الحقيقية، ستجد تفصيلا بسيطا لكل أجزاء الورقة العلمية وطريقة التعامل مع كل جزء حسب الأهمية ونوع المعلومات التي يحتويها. 

للحصول على نسخة مكتوبة
http://real-sciences.com/?p=9163


13‏/10‏/2016

رائحة التمر



إلى هِداية،

نُشُوز.. نُشُوز. نَشَزَتْ عظامي مني إليك. 
أنا هنا كتمثال مدفون. تصوَّري كم أنا عاجز عن الحس والحركة. 
كل قطعة مني انسحقت هنا وذَرَتها قوَّة غامضةٌ إلى غرفة نومك. 
لكن برغم هوْل القوة ووحشيَّتها لم يتزحزح عقلي من مكانه. 
فأيُّ جمودٍ أنا فيه؟! 
أن يكون لديكِ كُلِّي وفي الوقت نفسه أستطيع أن أعيَ مكاني الوحيد وفقاعات الفراغ المحيطة بي. 

أشتهي أن أتجاوزَ ذاتي. 
جربتُ أن أدورَ حولي كالصوفيين لكنني كنت ضعيف الإيمان. 
مدَّدتُ أطرافي ورأيتُها أطولَ، لكنها لما تجاوزت مجالَ رؤيتي لم تعد أطرافي. 
أتمنى لو أستطيع أن أؤدي طقسا أو أكذوبةً أو أهمهم وأغمغم فأنسى ذاتي قليلا وأهوي إليك. 

حينما أدركتُ أنني أحبك تخيَّلتُ رائحتك. 
كيف يتخيَّل المرء رائحة؟ 
كنتِ تقولين إن رائحتك يقطين، خوخ، زنجبيل، جوز. 
لكنني شممتُكِ دائما فكنتِ أقرب إلى التمر. إلى التمر المجفف أكثر. 
صنعتُ من انعدام الرائحة شيئا ألمسه بيديَّ القصيرتين. 
وفي كل مرة أقبض قبضة من التمر وأقرِّبها من وجهي أشعرُ بك. 

اعتاد إنسانُ الصحراء، وأنا ذلك الإنسان، أن يخلُق ما لا يجد وما لا يطال وما لا يفهم. 
يخلق الجنَّ والماء والأبطال الخرافيين بأجنحتهم العملاقة وتحمُّلهم لحرارة النار والأعمال الشاقة. 
ماذا يفعل إنسان الصحراء عندما يحبُّ أو يتخيَّلُ حبيبة؟ 
لذا على شبهِك خلقتُ عصافير بيضاء تحملني إليك بقدر ما أحملها في جيوب ملابسي وذاكرتي. 
أنا إنسان الصحراء حيث يُزرع الأنبياء وأنت إنسانة الجبل حيث تتكلم الآلهة. 

يا جسد التمر الذي بلا رائحة، يا جسد الغياب، يا جسد الحنين والاختناق، 
طعمُ التراب يحجبُ صوتي، وأنا مكبَّلٌ في واقعٍ سيءِ الملمس. 
ما هي احتمالات أن تنشز عظامي وتنسحق عند سريرِ نومك؟ 
سألغي عقلي وأنام. 


05‏/10‏/2016

المبتسمون على حبال الموت



في ذلك اليوم المشهود اجتمع كل الناس ليمتعوا أنفسهم بمشاهد الموت. خرج الرجال والنساء والأطفال متجردين من همومهم ومخاوفهم، غير مبالين بمظاهرهم، حفاة، فارغي البطون، يحدوهم إلى ساحة الموت شعورٌ دفينٌ بالتجدُّد والخلود وحاجة إلى خوفٍ حقيقي ينسيهم أوهامهم. 

انتصب قاضي القرية بثبات ووزَّع وجهه بين الحشود وقال: يا أيها الناس، إن هؤلاء الثلاثة مجرمون بموجب دستورنا العادل والحكيم. فالأول يتبع دينا غير دين آبائنا وأجدادنا، والثاني لا يتبع دينا ولا يؤمن بإله، والثالث ما عرفنا له حقيقة، فلا هو بالمتدين ولا هو بالكافر. فوجب التخلُّص من أفكارهم الفاسدة وأرواحهم الملوَّثة. وكما تعارف الناس الذين هم منا ونحن منهم سيُشنقون بعد إتمام الطقوس المحترمة التي لا نفرط فيها.
وكانت عادة أهل هذه القرية أن يستمعوا إلى الكلمات الأخيرة التي يقولها المحكوم عليهم بالموت ثم يودعوهم قائلين بصوت واحد: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. كنوع من الانتقام مع حفظ الجميل. 


بدأ القاضي بالمجرم الأول، فأشار إليه بأن يبدأ خطبته ويوجز، فقال مبتسما: ما عساكم آخذين مني؟ جسدي المتعب الفاني؟ خذوه هنيئا لكم، فإن روحي صاعدة إلى الحقيقة التي اخترت أن أعبدها، ولو كانت مختلفة كل الاختلاف عن الحقيقة التي ورثتموها. عودوا إلى دياركم أيها الرجال، وعدن إلى دياركن أيتها النساء، فإنني عائدٌ إلى ربي. 

وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فهلل الجميع: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. 

ثم أشار القاضي إلى المجرم الثاني، فقال مبتسما: ما بال أقوام يقتلون العقول التي تفكِّر عنهم؟ سحقا للجهل الذي أنتم فيه! لو تركتموني في مختبري وتجاربي وأبحاثي لما آذيت ذبابة ترفرف حول أجسادكم النتنة. 

وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فهلل الجميع: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. 

ثم أشار القاضي إلى المجرم الثالث، فقال مبتسما: إنني أنا الفنان، وهذه جريمتي. ما هو الموت الذي جئتم للتلذذ بصوته ورائحته؟ إنه لا شيء. هل تتصورون أن حبلكم هذا الذي يلتف حول رقبتي سيُلغيني؟ كلا. أنا آسفٌ عليكم، وآسف على صديقيَّ اللذين بردت أنفاسهما منذ لحظات، فكلكم لم تفهموا الموت كما فهمته. إن الحياة امتداد أيها الحمقى.. إنها امتداد واستمرارية. إنكم جميعا في مرحلة الوجود المادي، تأكلون وتنامون وتتكاثرون وتلعنون الموتى، فأين ستكونون بعد عام أو عامين أيها الشيوخ القذرون؟ وأين ستكُنَّ بعد عام أو عامين أيتها العجائز القذرات؟ وأين ستكونون بعد ستين أو سبعين سنة أيها الأطفال المساكين؟ في اللاشيء، ينتظركم دود المقابر وظلامها، تنتظركم لعنات الناس من بعدكم.
أما أنا، حتى لو كنت سبب جدلكم وأرقكم وآلام رؤوسكم، فإنني خالد فوقكم، معكم وبعدكم، في عقول شبابكم المتمردين وفي عقول أبناء شبابكم. إنني لا أخاف الموت الذي تخافون، فما هو إلا نهاية سيئة لقصة الرعب التي حُكيَت لكم. فأخبروني إن شئتم كيف يشعر الميت بموته؟ وكيف يتحسس آثار الطعنات على جسده؟ وكيف يبحث عن أطرافه المشوهة أو المسروقة؟ وكيف يسمع اللعنات والصلوات؟
ما الموت إلا نوم طويل، أخرج فيه كالحلم وأزعجكم بأفكاري، أكون حلم فتياتكم وقدوة صبيانكم، وأكون فيه صوت الناي في أغصان حقولكم، ووقع الرقص في ساحات أعراسكم، أخرجُ، أعيدُ تشكيل ذاتي، أتجدد، أنمو، أكبر كأسطورة، أستمر، أخلُد. فعودوا إلى دياركم إني معكم وبعدكم. 

وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فنظر الناس إلى بعضهم، ثم هللوا: اللعنة، اللعنة، اللعنة. 


01‏/10‏/2016

دعوة لإعادة النظر إلى الحياة



الحياة بكل بساطة
البقاء، التكاثر. هاتان الكلمتان هما الأهم في قاموس الحياة. البقاء هو الاستمرارية التي ينجزها التكاثر. يحدث كل شيء في الطبيعة. بلا سبب وبلا غاية. لا معنى للحياة الشخصية. ومن ثم لا معنى للمتعة، اللذة، الحرية، الاستقلال... فكل هذه مجرد منتجات ثانوية للنمو الاستثنائي لقدراتنا المعرفية. الحبُّ هو وسيلةُ التكاثر لتحقيق البقاء. والبقاء ليس قوة أو إنجازا نُريدُه أو نحققه، بل هو، بكل بساطة، الذريَّة. لكن الذرية في ذاتها ليست غاية. فلا أحد يفهم لم عليهِ أن يحصل على أطفال. حتى صفاتنا التي تنتقل إلى الأجيال الأخرى لن تبقى صفاتنا. الصفة لا تدرك ذاتها.

الحياة بكل تعقيد
الحياة مفهوم شديد التعقيد. نستطيع أن نؤلف ونرسم ونغني ونهذي آلاف السنين في فلسفات الحياة. لكنها تبقى محصورة في شكلها الأكثر بدائية: أزواج وأطفال. كان البشر في القديم البعيد يمارسون حياتهم بفارقٍ بسيط عن الحيوانات الأخرى: الوعي. تكاثرت الأجيال مدفوعةً بسيكولوجيا الحب والخوف، ثم تضخَّم الوعي فجأة! فجأة بلا هدفٍ واضح. وبينما بقيت الكائنات الأخرى ترتع وتعاني في أبسط أشكال الحياة، صرنا نحن البشر أكثر تعقيدا بشكل غير معقول. أدمغتنا كبرت واستهلكت نسبة كبيرة من طاقتنا الحيوية، واتَّجهنا نحو نوع آخر من الحياة: الحضارة.
لقد كان لدينا، بلا شك، الاستعداد للتطور بسرعة نسبية واختراق الطبيعة. أدركنا رعشة الحب وجرَّدناه من طبيعته النفعية، فابتكرنا العشق والهُيام وسهر الليالي. وجرَّدنا الخوف من طبيعته الوقائية، وابتكرنا الشجاعة والحرية وكوَّنَّا التحالفات وهاجمنا الأعداء وأطلنا الحروب ودمَّرنا البيئة.

الخلود.. الانقراض
لا تعرف الحيتان معنى الحب، لكنها تملك الهرمونات التي تؤدي وظيفة التكاثر. لم تنقرض الحيتان. أما نحن البشر فهوينا في دوَّامة غامضة اسمها الوعي، وتهنا تيها حقيقيا قد آن الأوان لإعادة النظرإليه. إننا نبتعد يوما بعد يوم عن البساطة متجهين إلى التعقيد. نتوقف عن التفكير في العائلة والمجتمع ونفكر في أنفسنا وفي أشياء أخرى أقل أهمية. بل في أشياء غير ممكنة كالخلود أو عبور بوابات الزمن (غير ممكنة على الأقل في الوقت الحالي). فهل هذا هو الوقت الأنسب للاعتراف بقلة أهمية الوجود الذاتي؟ وإعادة الأولوية إلى الوجود الجمعي الكائن في الذرية والمجتمع؟

الأفكار بدلا من الأطفال؟
لا فائدة حيوية من الغرق في التفكير، وعشر سنوات لتأليف رواية أقل بكثير من عشر دقائق للمعاشرة. الأمران سيَّان في العبثية والغموض. لكن هناك مقدِّمات نفسية وجسدية للثاني أكثر من الأول. أي نحن ندرك ونشعر بالفائدة المباشرة من المعاشرة: اللذة، الفائدة طويلة المدى: الذرية. لكن من ذا الذي يعلم ما هي فائدة كتابة رواية في عشر سنوات؟ ربما تكون الأفكار شكلا آخر للذرية؟!

أمراضٌ حضارية، انتحارٌ حضاري
نظرةٌ سريعة إلى قائمة الأمراض العشرة الأولى المسببة للوفاة عالميا تكفي لإقناعنا بإعادة النظر إلى معنى الحياة الذي أنتجته الحضارة. أمراض القلب والأوعية الدموية، أمراض الجهاز التنفسي، السُّكري... الانتحار.
إنهاءُ الحياة هو نتيجة منطقية لعدم القدرة على فهمها أو موازنتها. في 2013، ذكر 8.3 مليون شخص بالغ حول العالم أنهم فكَّروا في الانتحار السنة الماضية (2012). من هؤلاء، مليون شخص حاولوا الانتحار فعلا، وبين كل 25 محاولة انتحار تنجح واحدة! لم الانتحار؟ مع أن الانتحار يتعارض مع المعنى الجوهري للحياة وهو البقاء الشخصي بما يكفي للوصول إلى سن التكاثر وإنجاب الذرية ورعايتها حتى تصل إلى سن التكاثر، ينتحر الناس عندما يعجزون عن مواصلة الحياة، أي عندما تكون الحياة عبئا في ظلال الاكتئاب والإديولوجيا والفقر. ولن أتكلم عن القتل والحروب هنا.
ما أقصده هو أننا نملك من الوعي ما يتعدَّى متطلبات الحياة بمراحل. هذا الوعي الحديثُ نسبيا لم يتحصّل بعدُ على الركائز السيكولوجية والفسيولوجية الكافية. نحن نثرثر هنا وهناك ونبتعد أكثر وأكثر عن جوهر الحياة. لدينا في أدمغتنا مراكز للمكافأة. تنشط هذه المراكز عندما نتمكن من إيجاد شريكٍ مناسب أو عندما نحصل على مولود لطيف. وتنشط أيضا عندما ننهي ورقة علمية في فيزياء الكم. لكن شعورنا بالراحة في المقابل لا يعني أننا نسيرُ في الاتجاه الصحيح من الطبيعة، فالحصول على مولود أهم بكثير من معرفة أشكال الكوارك!

لم أقصد التنظير ضد العلوم والمعارف في هذا المقال. كل ما قصدته هو الدعوة إلى نظرة تحليلية شاملة للحياة ككل. فقد يكون ثقل الوعي هو سبب انعدام توازننا. وقد نستطيع إذا ما عدنا إلى أساسيات الحياة أن نقلل نسب الأمراض الجسدية والاضطرابات النفسية التي تغلغلت فينا بعدما تركنا الطبيعة إلى الصناعة.


22‏/08‏/2016

يوميّات آنسة حلوة


توت رغد الشهي

* امتلك "سراج" أخيرًا جرأة الإفصاح عن اسمها. صار يضع صورًا خليعة أيضًا ويرسل لها عبر "حالته الشخصيّة" ألفاظًا جنسيّةً واضحة. سراج يبلغ من العمر 15 عامًا لكنه رجل في نهاية الأمر، أليس كذلك؟ وقد قالت أمي ذات مرة وهي تحدق في أختي: "قدّمي للرجل ما هو أكثر متعة من الجنس".

* قال لي عزيز: "آنسة، شلت كل الحب وحطّيتو عندك" ثم قدّم لي رسالة مليئة بالقلوب. أليس هذا أثرًا ممتازًا يمكن أن تتركه آنسة في قلب طفل رقيق مثل عزيز؟

* يقول لي خالد "آنسة سعاد". خالد طفل عنيد وساديّ ولديه شخصية قوية جدا. ذكيّ ومناور، لكنه أُعجبَ حقًّا بفكرة اللوح السحريّ الذي ابتكرناه معاً حيث أفصحت لي أخته إيمان عبر "الواتس" عن تعلّقه بهذه الفكرة وكيف أنه استيقظ عصرًا وهو مصرّ على الذهاب عند "الآنسة نور" لرسم بطة صغيرة على اللوح السحري. الأمر الذي أعانه في المرة السابقة على التصالح مع اللون الأصفر  بعد أن كان يواجه صعوبة في تذكره. لم يختر خالد موزة ولا شمسًا ولا ضفيرة شريكته في الدّرس. اختار بطّة كتلك التي تضعها له أمه في حوض الاستحمام. شكرًا يا خالد لأنك تحبّني وتعرف اسمي.

* تنتظر سلمى مفاضلة القبول الجامعي وبينما تنتظر ترسمُ لوحات مدهشة حقا وتقوم بالتقاط بعض الصور المميزة. تحلم بأن تصير مهندسة معمارية، وتربّي أظافرها لتمسك سيجارة وتدخّن "جكرًا" بصديقها السخيف الذي يقول لها "هذا معيب". سوف تكتشف أن هذه المجاكرة غير مهمة مع مرور الوقت، ولن تصير سلمى مهندسة حسب توقعاتي وهذا يحزنني جدا، لكنها ستظلّ فنانة إلى الأبد.

* يفكّر أسامة في السّفر إلى ألمانيا بعد عدم تمكّنه من نيل شهادته الإعدادية، ويقول لرغدا: "بحبك يا مجنونة كيف ما كنت تكوني" ثم يقول لي: "أنا صغير جدا وهي تطالبني بخاتم أبو ألماسة. هل تعرفين كم يبلغ سعره؟" لا أظن أن أسامة يودّ أن يبتاع شيئًا بقدر رغبته في ابتياع درّاجة نارية جبليّة وابتكار فريق لقيادة هذا النوع من الدراجات في الشوارع. وعلى رغدا أن تفهم هذا جيّدا.

* رغد، الطالبة التي تحضر لي التوت في موسمه كتبت لي رسالة سيّئة جدا من الناحية اللغوية لكنها أوصلت لي كمية هائلة من المشاعر التي جعلت يومي أفضل. أنا زهرة في الحقل؟ أوه! شكرًا يا رغد. شكرا جزيلًا.

* تأقلم مصعب مع رحيل من يحبّ نحو حضن آخر أكثر ثراء. ولأنه ضعيف بما يكفي "استعمل" فتاة أخرى لإتمام المهمة ورسب في كلّ مقررات الجامعة.



على الهامش: قابلة للتجديد؟



النميمة تطوُّريًّا: حيث لا توجد نميمة لا يوجد مجتمع!


ملخَّص: يرى عالم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري روبن دونبار (Robin Dunbar) في دراسة نُشرت عام 2004 بعنوان “النميمة  من منظور تطوُّري” أن النميمة gossip (بالمعنى الأوسع للكلمة وهو، حسب قاموس أوكسفورد، تبادل الأحاديث حول الأشخاص الآخرين.) كانت حاسمة لقدرتنا كبشر على تطوير جماعات اجتماعية كبيرة، ويعود السبب إلى أننا نستعمل اللغة غالبا لتبادل المعلومات الاجتماعية، خصوصًا للمحافظة على التواصل مع الأفراد الآخرين وللإعلان عن ميزاتنا ومساوئ أعدائنا. للنميمة أيضا، كجزء من اللغة المتبادلة يوميا، وظائف أخرى كتتبُّع المتطفِّلين (مشكلة الرُّكَّاب بالمجَّان) وخداع الآخرين. يُنهي دونبار الدراسة باستعراض الأسس المعرفية التي نحتاجها لممارسة النميمة، ومن أهمها نظرية العقل.

رابط المقال كاملا: 
real-sciences.com/?p=8387

15‏/08‏/2016

إلى كنزى



عزيزتي كِنْزَى،

عدتُ قبل ساعتين من رياضتي المسائية. نزعتُ ملابسي وتلذّذتُ بحمام ساخن ثم حلقتُ ذقني الخشنة وخدشتُ طرف فمي. صار عندي الآن جهنّم صغيرة تنتظر جنّة قبلتك. أكلتُ بعدها بيضًا مسلوقًا باردًا وشربتُ ما تبقّى من كوب القهوة الصباحي. وها أنا أدخّن سيجارتي وأنفثُ أنفاسها/ أنفاسي على عصفوري الملون معتقدًا أنني أقدم له معروفًا ينسيه موت شريكته بالأمس. أتساءل: هل للعصافير ذاكرة يا كنزى؟ ثم أشعر بدناءتي المتمثلة في قفص نحاسيّ أنيق. أعدك أنني سأطلق سراحه غدًا حتّى يقابل مصير طيرانه ويموت راضيًا عن وجوده.

أفتح النافذة التي تدلّيت منها ذات مرة بعد أن رأيتٍني أقبل إحداهنّ في زقاق خلفي. كان أمرًا لطيفًا جدا أن تنتحري من أجل رجل أحمق مثلي لكنني ما طقتُ عقدة الذنب المتمثّلة في دفع أنثى رقيقة إلى الموت بهذه الطريقة السخيفة لذلك أمسكت خصرك بإحكام ودفعتُ بك نحو الداخل. حين وقعتِ على الأرض انفرشَ شعركِ وبدا وجهكِ مُحمرًّا وغاضبًا وتعيسًا. قلت لي أنك تكرهين شفتيّ، وعقلي المتخلف وساديّتي. ثم أخفيت ملامحك ورحت تنتحبين على نحو لا يصدّق حتّى خفتُ على أتفاسك وكدتُ أجزم أنك تنتحرين بطريقة أخرى. وما إن وضعتُ ذراعيّ حولك لأخلّصك حتّى انهالت عليّ يداك الواهيتان بالضرب. كنت تدقين صدري دون أن تعرفي أن أبوابه مشرّعة لك، وتصرخين في وجهي دون أن تدركي تمزّقي أيضًا. هدأت بعد ساعة وخرجت راكضة من الباب تاركة خلفك بللًا على قميصي، في روحي، في ازدرائي لذاتي، في مرارة القبلة اللعنة. تاركة هذه النافذة المفتوحة المُوحِشة.

التقينا بعد أسبوع ورقصنا على أغنية صاخبة. أذكر أنك كنت حلوة بطريقة لا تطاق بحيث شربت معي القهوة بعد انتهاء السهرة وقلت لي: "يا صديقي"

أحتاج إليك يا كنزى بشكل يتنافى مع حريتي، وأبتغيك بإمكانياتي التي تكاد تكون معدومة، فقد تركتك تتسربين مثلما ينسلّ ضوء من تحت بابي كلّ مساء ويمشي في الممر تجاه غرفة أخرى. لم أفعل شيئا لأحافظ عليك. وها أنا الطفل المهم الذي يصفق له الجميع يفتقد ذراعك المليء بالزغب الأشقر ويرتجي كوبًا آخر من القهوة حتى يُصلح ما كان. وهاهي "نجاة" تذكرني بك وهي تكرر "بسيطة جدا". أقلبُ على وجهي من الضحك وأسترجعك وأنت تزكّين أسنانك وتصرين موافقة على ما تقوله. بينما تشبهين في الحقيقة فستانًا مرصوصًا بالأحجار الملونة. يرهق أكتاف فتاة صغيرة.

12‏/08‏/2016

إلى مارلين







عزيزتي مارلين،

شتمتُ مدير العمل أخيرًا. قلتُ له أنه استغلاليٌّ بكرشٍ مليءٍ بالقذارة، ثمّ هجتُ ومجتُ أمامه مثل ثور بري وانهالت يداي على مكتبه الفخم قائلًا بمنتهى التوحّش: "أنا مستقيل". كان عليك أن ترَيْ وجهه. أشبه بسمكةٍ نافقة. فتحتُ الباب وخرجت رجلًا حرًّا بلا عمل. جبتُ شوارع المدينة وزرتُ المتحف الفنيّ حيث وجدتُ لوحات مدهشة حقًّا وأحببتُ أن أتحسّس قميصك المزهّر أمام إحداها. اشتريتُ بعد ذلك كعكًا وكوبًا من القهوة الداكنة. جلستُ على مقعد خشبي جانب امرأة لا يبدو أنها انتبهت لي أصلا. في الثلاثين كما أعتقد. من النساء اللواتي يعتّقهن العمر ويكسبهنّ اكتنازًا مغريًا. لها شعرٌ أشبه بالذرة قبل أن تخلع ثيابها وتُسلَق. تنغمسُ في قراءة كتاب باللغة الإنجليزية أعتقد أنه "موتُ بائعٍ متجول" الذي يحكي عن تكاليف الحياة الباهظة والعبودية المادية الفظيعة. تذكرين؟ حين أتممتِ قراءته قبل فترة قلت لي إنه جلب لك الاكتئاب لدرجة أنك وددتِ أن تعيدي كلّ الأشياء التي حصلت عليها بالتقسيط وتنتحري. أوه يا مارلي! مرت صورتك في بالي وأنا أحدّق في الصفحة المفتوحة حتّى وثب قلبي تجاه عينيك اللوزيتين وتقتُ إلى تمزيق وجهك قُبلًا محمومة مختلطة بالقهوة ودبق السكر. تعرفين، قُبلًا متسخة مشردة من طفل لا يملك أن ينظّف شفاهه أبدًا. لكنّ المرأة اللعينة قلبت الصفحة أخيرًا ولا أقول أن هذا قد أخفى صورتك لكنه جعلك تختبئين من أفكاري الشيطانية.

قلتُ في نفسي وأنا أنظر نحو أشجار الحديقة المرتّبة على نحو مقلق أنني سأستقلّ أول قطار وأذهب لألقاك. تذكرتُ أنك مسافرة الآن وربّما تشربين الشاي المثلّج مع أحد الزبائن في مقهى منمّق وتمسحين فمك بمنديل أبيض، وتتفقّدين فستانك بين اللحظة والأخرى. إنك لا تكفّين عن ممارسة الحركات الطفولية الحمقاء التي تعجب كل الرجال. لا تكلّفك الحركات شيئًا ولا تتطلب منك تعمّدًا وهذا ما يجعلها مثيرة بشدة. وإنني الآن، ولأسباب غير مفهومة أشعر بالغيرة المطلقة وأودّ أن أضربك بشدّة حتّى تبكين، ثم أغازل عينيك المائجتين بالملوحة وأضربك مجددا. وأخرج لأسكر وحيدًا وأنا أستمع إلى أغنيات كئيبة. وحين أعود أفضل أن أتكور في جسدك البحري مثل دلفين ذكي جدا وأن أتواصل معك بالغناء فقط. فوحدك تعرفين أنني نزق وأحمق ومريض.
خبّئيني يا مارلين من بؤسي. امسحي على رأسي مرتين وقبّلي بطني الفارغ ثم أطلعيني على أكثر أحلامك سخافة واضربي على قلبي حتّى ينفجر. تعالي نغتسلْ بدمائي ونضيع. سيصيرُ بياضك كرزًا ولن أجوع مرة أخرى بعد أن آكلك.

ألا ترين كيف تموج أوراق الشجرة؟ إنها تبعث بي رغبة عميقة في التأمل والرسم وتضعني على حافة العالم. فأنا حر بشكل لا يُطاق.

سأعود إلى المنزل بينما تستمر المرأة في انغماسها الواعي وتستمرين أنت بالتنقل أمامي مثل فراشة شقيّة. سآخذ حماما معتدلًا وأتلحّف بمنشفتي الصفراء التي أهديتيني إياها في عيد ميلادي الماضي دون أن تشاركيني دفئها.

03‏/08‏/2016

مطر





مطرٌ مطر.
الموسيقى الهشّة تسكن أذني وصرير السّرير الحديديّ يصيرُ أكثر وضوحًا والرواية اللعينة التي بدأتُ بها لا تنتهي. هنا، الفستان المليء برائحة النبيذ يستوطن فراغ الأرض ويعوي. كانت له أنثاه قبل قليل، لكنه الآن وحيدٌ ومظلم.
مطرٌ مطر.
وأروقة المعبد الذي صلّينا فيه صلاتنا الأولى قد هُدمت. هل تشعر بالحزن مثلي لأن ليس هناك ظلًا كبيرًا نرمي عليه أصابعنا المتعبَة؟ وهل يؤذيكَ كما يؤذيني ظهور الحقيقة بهذا الشّكل المُفجِع، وانتهاء كوب العصير، وخراب موسم الزيتون وموت جارتنا إثر سكتة قلبيّة وقد كان بإمكانها أن تموت إثر انفجار عظيم لو أنها رافقتني هذا الصباح؟
مطرٌ مطر.
يولّي الرقص وجهه نحو الطرف الآخر وينام مثلَ أي رجلٍ بليد لا يقدّر توهّج الشعر ونعومة القطن واستحالة الفحم إلى جمرٍ برتقاليّ عجيب. يصيرُ الليل مسرحًا هزليًّا وينتظر الجميع وصول القطار. يبنيه بعض الجالسين من الحجر الذي تساقط على رؤوسهم عقبَ آخر غارة جويّة وينتظرون كالحمقى أن يتحرّك فعلًا. بينما يصدّق الآخرون قصّة فيروز عن "المحطّة" ويرفضون أن يصدّقوا أنّ المحطّة لا تعدو كونها "حقل بطاطا" وأنّ بإمكانهم إذا استثمروها أن يشتروا بثمنها قطارًا حقيقيًّا ويعبروا. أنا؟ أحرّك المكعّبات الملونة وأصنع منها صندوقًا مثقوبًا من كلّ الجوانب لأنني لا أطيقُ منزلًا من دون نوافذ ولا أستطيعُ تقبّل السّجن الذي يشيّده لي الآخرون.
مطرٌ مطر.
يا أيها المرميّ مثل سجادة في سوق الأشياء المستعلمة من يشتريك؟ إنك رغم كلّ شيء تبدو أقلّ من طموحاتهم وعليك في كلّ الأحوال ومن أجل نفسك أولا أن تفتت هذا النسيج الغبيّ الذي أنت عليه وتصنع من خيوطك الملونة شيئًا آخر أكثر خفّة. طائرة ورق مثلا. فقد كان خطأ يا عزيزي أن نربط الأشياء الضخمة بالأهمية دوما.
مطرٌ مطر.
وقد اختبأت العصافير في شعري. بنيتُ خيمة فسيحة على كتفي ولجأت إليها. أنا المشرّدة على حدود نفسي. الراغبة في السّفر إليك أبدًا.

02‏/08‏/2016

عندما يصير لون شعرنا أبيض



إلى هداية،

أكتب إليكِ هذه الرسالة وأنشرها. أعلم أنني بنشرها قد أزعجك، فقد ترين أن حميمية الرسالة ستضيع في عوالم أخرى غير عالمنا. لكنني أنشرها لأنني أكسبها قيمة أكبر من لذة الحميمية.
قلتُ اليوم لأمي: "إنني لو عشتُ عمري كله في غرفة مظلمة لما احتجتُ إلى غير الماء والطعام لئلا أموت". فجأة قلتُ عبارتي الغريبة التي آذت مشاعرها. شعرتُ بالارتياح عندما انتهيت، وكأنني فرغت من قراءة ذاتي كاملة. لكنني احتجتُ إلى تعقيب، فقلت: "أنا ممتلئ، أنا أملأ نفسي بنفسي". فبدت على وجهها علامات الارتياح الممتزج بالارتياب.
تذكَّرتُ حديثنا منذ أيام. عمَّ كنا نتحدث يا حبيبتي؟ نعم، عن اللقاء. كنتِ تتمنين أن نلتقي قريبا. أدركت أنني المسؤول عن كل تلك الحواجز التي اعترضت يديك في طريقهما إليَّ. كنت مغرورا عندما تصوَّرتُ أنك آتية، وأنني وِجهتك. لم أضع أمنيتي إلى جانب أمنيتك فرحتُ أتفنن في المواساة قائلا: "سنلتقي قبل أن نموت، إذا عشتِ إلى السبعين فسوف نلتقي، سنلتقي حتى بعد مئات الأعوام". ضحكتِ حينها وأكَّدتِ لي صحة كلامي.
تحدثنا عن الحرب، ضغطنا كتب التاريخ كلها في دقيقتين وتوصلنا إلى أن ما تبقى من أعمارنا الافتراضية يمنحنا بعض الأمل في انتهاء الحرب، ثم لقائنا. "أنا لا أريدكِ في زينة شبابك على أية حال، أريدك حتى لو كنتِ عجوزا" قلتُ لمعابثةِ وجهك الذي أظنُّ أنه انكمش حينها. فقلتِ، وشعرتُ بأنك أصدق مني: "ستكونُ أروعَ في نهاية العمر". وانقطعَ الاتصال!

لويتُ في مكاني مرارا، نظرتُ إلى القاع وكنتُ في مكان شاهق. النظرُ إلى الأسفل أكسبني شجاعة انتظارك. وكم كنتُ بارعًا في المواساة حين قلتُ مرة أخرى: "لن تستمر هذه الحرب إلا ما يكفي لتغيير لون شعرنا، ما رأيك أن نلتقي عندما يصير لون شعرنا أبيض". ضحِكْتِ يا حلوة الضحكة، وأحسستُ اهتزاز نهديك.
لكننا لن نعوِّل على أجسادنا أكثر، صحيح؟ نحن كاتبان يا زوجة الروح. نحن لبلابتانِ راسختان في الوجود. نكتب على أجسادنا الجميلة حياتنا ثم نتساقط. نكون بعد السقوط الظاهري أعمقَ معنى وأشد تأثيرا. قد يكتب على جذعينا عاشقان بعد آلاف السنين، أو قد يحيلنا نحَّاتٌ ماهرٌ إلى تمثالين أبديين، أو قد نصيرُ أبوابا ونوافذ يعبُرها الناس ليصيروا لبلابات، وينتصر جمال الأرواح على جمال الأجساد. نحن قويَّان يا زوجة الروح، أو كما يقول كازانتزاكيس: "دمنا مرجانٌ أحمر، ونحن نبني جزيرة فوق الهاوية."

فاضحكي.. لينمو الياسمين من جديد حول غمَّازتيك. أنا من سيجعل ضحكتك أشهى من ضحكات كل الإناث. سأكوِّرها بين يدي وسأنفخ فيها بقوة رئتيَّ الشَّابتين لتصيرشيئا يعيد خلق نفسه من جديد كل مرة. وكذا ستفعلين أنتِ بضحكاتي ودموعي وعَرَقي وشعري المتساقط وأظافري، اتفقنا؟

أنهي الرسالة شاعرا بالنشوة. بقيت هذه السطور تطعنني يوما كاملا. والآن أنشرها لأنصِّب نفسي معلما للآخرين، لأعلمهم كيف يحبون وجودهم إلى الأبد.



دائرة



هذه الدائرةُ لا تحميني، لكنها تشبهُ المجال الخارق لأنثى "مطّاطيّة"!




تجمّع الرجالُ في الساحة الكبيرةِ، وكانوا يتشاورون بشأن شيءٍ مهمٍ كما كان يبدو. رفع أحدهم يده بغضبٍ وتعالتِ الشّتائمُ، وكاد اثنان أن يتقاتلا لولا أن تدخّل ثالثٌ تظهرُ على حركاته الجسديّة مسحةٌ من الحكمة والاتزان. هذا ما رأيته عندما أزحتُ الستارة لأسلم على العالم الذي ما كان ليبدو لي مختلفًا كثيرًا، فقد تساوى الوقتُ أخيرًا، وصارتِ الساعة السّادسة صباحًا لا تختلفُ عن السادسة مساءً إلا في فنجان القهوة بالحليب!
فركتُ عينيّ وتتبّعتُ لونهما الذي قادني إلى باب الغرفةِ حيثُ فتحتهُ وخرجتْ. كنتُ أمشي كأنثى تجرّها خصلةُ شعرٍ في مقدّمةِ رأسها. سلّمتُ على أمّي -كما يفعلُ الطيّبون- وقد كانت تكتبُ على دفترها الصغير بضع ملاحظاتٍ لم أتبيّنها، ترخي نظّارتها على أنفها ثم تقفُ قليلًا -تفكّرُ على ما يبدو- وتنغمسُ في الكتابة مجدّدًا وهذا ما جعلها تردّ تحيّتي بإيماءةٍ واحدة.
"يالَ الثلاثاء النيسانيّ الموحِش" قلتُ هذا بمنتهى الإجحاف والطفولة، وبرز في وجهي مدرّب التفكير الإيجابيّ  الذي قرأتُ لهُ بضع سخافاتٍ على أحد المواقع وهو يقول: "ما زال في بدايته، لا تحكمي على الأشياء في بدايتها"، عمومًا. لقد تخلّصتُ منه كمن يفقأ فقاعة لأنني أعرفُ أنني لستُ في البداية. لقد قطعتُ إلى الآن شوطًا كبيرًا جدًّا وأشعرُ أن نيسان عالقٌ هنا منذ سنتين وأنّ يوم الثلاثاء تحديدًا يتكرّرُ بشكلٍ لا يُطاقْ، وعندما أقولُ هذا لأخي وهو يشربُ كوب القهوة ويدخّنُ سيجارتهُ "الأولى" يضحكُ بعبث، بدخان، كأنما ضحكتهُ غيمةٌ نُفخَتْ للتوّ من رئة السّماء، ثمّ يعلّق: "مجنونة!".

أنا الآن أجلسُ على الكرسيّ الأسود الوثير الذي كان أبي قد صنعهُ لي قائلًا: "في العمل لا بدّ أن تكون جلستكِ مريحة، ثقي بي". في الحقيقة أنا غارقةٌ فيه تمامًا ولن أخفي زهوي بحذائي الجديد الذي يشبهُ في ذوقه حذاء المدرسة الابتدائية. إنه لامعٌ جدًّا كأنه مرآةٌ تعكسُ ذكرى مصطفى وهو يقول: "أنا بحبِّكْ لأنو كندرتك نظيفة" فأضحكُ وأحزنُ في آن على ضياع يد الصداقة منا بسبب الحرب والموت، لكنني سرعان ما أبتسمُ مجدّدًا وأضربُ بقدميّ الأرض محدثةً طرقاتٍ سريعة وإسبانية حتّى تفرغ الموسيقى التي تسري في رأسي، وتستكين الحياة التي تضجّ خلف الزجاج النظيف.



على الهامش: "إنّي مرساةٌ لا ترسو".













31‏/07‏/2016

موتُ الأخ



خذي أيتها الطبيعة من جسدي كل نرجسة
ومن كتبي كل حكمة
وخذي من طريقي كل خطوة
خذي كل ما تشائين، فأنا التمثال الراسخ في أرضي
المكبَّل ببعضي.

أنا الإنسان الذي صار حجرا
والأغنية التي تجمدت قبل أن تُسمع
وأنا كل الحجارة الصمّاء المعذبة والتائهة
وأنا الصمت الذي كله سجن وموت وبلادة.

الحزن صيرني إلى هذه الكينونة
أو إلى عدم الكينونة
أو إلى الكينونة العدم
والحزن جعل جسدي ناطقا بلا حراك
وجعل لساني كبقية جسدي
جعلني متكلما بلا لغة
جعلني لغويا بلا كلام.

فلتأخذي أيتها الطبيعة رثائي وفظاعتي
أنا الشاعر تحت السيف
والكاهن المستوحش الوحيد
والكتاب الذي يُرمى في النهر ولا يجادل 
ولا يملك حتى قدرة العويل الأخير
وأنا فكرة الإنسان
الغائبة حتى عن إدراك الإنسان وشعوره
المسافرة بلا كلل وبلا فائدة وبلا رجوع وبلا قرار
أنا الفكرة التي عنها يتكلمون ويتعاركون ويتقاتلون ويتلاعنون
الفكرة الهامدة الخرساء التي لا يمكن أن تكون
إلا مجردة من ذاتها.

فهل بعد هذا التوسُّل ما يرقق عواطفك نحوي؟
هل بعد هذه الحسرات والبشاعات، 
بعد هذا الخضوع والكآبة والاستماتة ما يغريك بأخذ أشيائي الزهيدة، 
أشيائي التي لا تتحدد أو تسمي نفسها أو تفصح أو تصرخ أو تستغيث؟ 
هل بعد؟ هل بعد؟

خذيها يا أيتها الطبيعة الأم والأب، ويا كل الرحمة ويا كل القسوة ويا كل الوجود
وهبي لي لغة تشقُّ صلابة وجهي
وتتمدد في العالم
من هذا المكان الصغير المعذّب الذي هو أنا
من المكان الصغير المعذب الراسخ في عذابه.


25‏/07‏/2016

اصنعي لي قهوة أمِّي


by Tim Nyberg
إلى هِداية ،

أبعِدي عني طيورك فإنها تزعجني بحذرها، واصنعي لي قهوة أمي. 
أينما كنتِ، في غرفتك أو في المطبخ، في الحمام أو في البلكونة أو في مكتب العمل، انهضي واستجمعي حُبَّك واصنعي لي قهوة أمي. مهما كنت تفعلين، تقرأين أو تكتبين، تنامين أو ترسمين، تبكين أو تدخنين، احصلي على كومة من البُنِّ والهيل والزعفران والقرفة والزنجبيل واصنعي لي قهوة أمي.
أكتبُ إليكِ يا حبيبتي الصغيرة التي يطبعُ الدانتيل على امتلاء جسدها سيلا من الزهور وحساسية الجلد. فكَّرتُ "يحيطُ بي مساء بالغ البشاعة، يشبه شارِب (دالي) أو عينيْ (نيتشه).. متفرُّع جدا في عالمي الكئيب السخيف". ارتجَّ رأسي. تصكُّ الريح أذنيَّ فلا أسمع إلا طنين الموت وحشرجة دفتر اليوميات. فأهربُ إلى الحمام. أشعل سيجارة. أضع اللابتوب على المرحاض. أبحث عن إناء طبخٍ أجلس عليه. إنني أشْبَهُ بفأر متورِّط بالدخول إلى هذا العالم. لم أسرق خبز أحد، ولم أقفز على أحد النائمين، لكنني أشعر بالهرب، بأنَّ واجبي في هذا الوجود هو أن أقلِّصَ جسدي وأنضغطَ وأكون خائفا جدا لأستطيع الفرار من فُرجةٍ شديدة الضيق أو من المسافة بين الأرضِ والباب في لحظةٍ ما.
لا تداوي الآن جِراح ظهري، ولا تنتظري أن أستعيد شعري الناعم الرمادي الذي يكون أجمل عندما تبلله أصابعك. قومي فحسب، واصنعي لي قهوة أمي. فأنا بحاجة إلى أن أتمرد وأرشف من ذلك النهر الراكد الذي تمتزج فيه تناقضات أمي وأوامر أبي فتعطيه لون الكراميل. أليس هذا لون شعرك، يا حبيبتي الدافئة والمملة؟
لم أنجز أي عمل عظيم في الأيام البغيضة التي انسحقت ببطء في دهاليز الجفون فأورثتني العمى. أتذكر أنني لبستُ معطفي ومشيت في المطر، وافترشتُ رصيفا تعيسا على الشاطئ، وقضيت بقية النهار أرمي قطع البطاطس لطيور البحر المتسوِّلة. ثم رتَّبتُ ذراعيَّ تحت رأسي ونمت.
فاصنعي لي قهوة أمي. لأخبرك كم كانت الطيور، مثلنا، كائنات مقرفة. تلقفُ طعامي وتخاف مني. تأكل من يدي وتحذرني. تحلِّقُ فوقي وهي تظن أنها تغريني بصداقتها ووداعة أجنحتها المنبسطة والممتدة في الغيم، وهي تعلم أنها تُخاتِلُني وتبتزُّني. لأصف لك ريشها المغزول في جلدِها الساخن والمعطر، ومناقيرها السوداء المعقوفة كسلاح بدائي، ومخالبها التي تختفي وقت التحليق لتقنعني بجمالها ونُبلها. لأصوِّر لك كيف كانت تلتهم قطع البطاطس ثم تدفن رؤوسها في الماء لتمرر اللقمة إلى بطونها الممتلئة بالسُّحت. وكيف كانت تحاول الغناء فتفشل، لأن جمهورها الكئيب لا يسمع منها إلا أنين الحاجة إلى الحياة والخوف من الموت.
تساءلتُ "إلى متى ستمارسُ هذه الطيور بشاعتها ولؤمها على زُرقة هذا البحر؟ فاصنعي لي قهوة أمي وأجيبيني. هل ستموت أخيرا؟ ستقفز إلى الجوِّ طيورٌ أخرى. هل ستبقى أبدا؟ إذن هي مثلي. إذن سنكمل أنا وهي دائرة التورُّط. إذن سنشهدُ  أمطارا أخرى ومساءات فظيعة أخرى. إذن سنواصل التملُّق المتمثل في قطع البطاطس الصفراء المشبعة بالزيت وبأوساخ يدي.
كانت أمي تحب قهوتها خفيفة، وأنا أحبها ثقيلة، أثقل حتى من أمي. فأودعي كل بُنٍّ وكل هيل وكل زعفران وكل زنجبيل وكل قرفة في هذه القهوة. وحاولي ألا يتساقط شعرك في فنجاني. تنفَّسي حين تطبخينها جيدا وحين تسكبينها، وإن تصاعد بخارها الساخن إلى فمك فلا تمسحي ذلك الرشح في المسافة بين أنفك وشفتك العليا، يا امرأتي. وإن تعرَّقت يداك فامسحيهما في ثوبك، وغطِّسي ثوبك في قهوتي.



24‏/07‏/2016

التانغو في السينما (2)

جميع اللقطات في هذه التدوينة من حاسوبي


4- درس التانغو The Tango Lesson
هذا الفيلم كله تانغو! مثلت الكاتبة والمخرجة البريطانية سالي بوتر دور المرأة المهووسة بتعلُّم الرقص (الفيلم من كتابتها وإخراجها)، ومثل راقص التانغو العالمي بابلو فيرون دور الراقص.
يتميز فيلم (درس التانغو) ببساطة القصة وقلة الشخصيات والخلفيات الموسيقية الملهمة، كما أنه ليس فيلما ثرثارا، فالحوارات قصيرة وعفوية وذات دلالات عميقة وفلسفية غالبا.
في الفيلم اثنا عشر درسا، وهي بالطبع ليست دروسا تعليمية. أظن أنني أستطيع وصف هذه الدروس بروح التانغو. بدءا من الخطوة الأولى حتى السقوط في الحب وتداخُل الاهتمامات. بعد ثلاث مشاهدات، استخلصت الفكرة الجوهرية من كل درس ولا أشك في أنكم ستشاهدون الفيلم وتفهمونه بطرقكم الخاصة.  

الدرس الأول "امشي، امشي فحسب!"

الدرس الثاني سيري بين الناس.. راقصي أحدهم.

الدرس الثالث الآن، راقصي كل من يستطيع المشي على موسيقى.

الدرس الرابع من يستطيع منعنا من الرقص في الشوارع؟

الدرس الخامس
 بابلو: "هل تؤمنين بإله؟"
سالي: "لا أعتقد بأن الحياة مقدَّرة من قبل، لا أعتقد بأن هناك قوة عليا تحكمنا، لذا أفترض أنني ملحدة. لكنني أشعر بأنني يهودية. ماذا عنك؟"
بابلو: "أنا راقص!"

الدرس السادس لا يمكن أن تنتهي التانغو بعناق!

الدرس السابع "يجب أن تكون علاقتنا أكثر وضوحا"
الدرس الثامن "أعتقد أن من الأفضل تركيز اهتمامنا على عملنا."
الدرس التاسع إذا أحببتِ من تراقصين فانسي أمره وواصلي الرقص.
الدرس العاشر "لا تفعلي أي شيء وقت الرقص، اتْبَعي فحسب."

الدرس الحادي عشر لا تنسي الرقص على موسيقى بيازوللا "التانغو الحُر".

الدرس الأخير الحب في التانغو.. يكون آخرا. 

19‏/07‏/2016

الأخلاقيات التطورية: مقدمة فلسفية (2)

موجز: في الجزء الثاني أستعرض أهم المشكلات التي واجهتها الأخلاقيات التطورية، وهي مشكلة اشتقاق ما يجب أن يكون عليه الشيء ought من حقيقة الشيء is التي طرحها الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، ومشكلة المغالطة الطبيعية naturalistic fallacy التي طرحها الفيلسوف البريطاني إدوارد مور.

رابط المقال: real-sciences.com/?p=8031

14‏/07‏/2016

الأخلاقيات التطورية: مقدمة فلسفية (1)

موجز: في هذه السلسلة التي أنشرها على موقع العلوم الحقيقية real science أستعرض وجهة نظر نظرية التطور فيما يتعلق بالأخلاق. الجزء الأول تناولَ عدة تعريفات للأخلاق morality كما جاءت في قاموس أوكسفورد، ومنها أن الأخلاق هي "المبادئ الخاصة بالتمييز بين السلوك الصائب والخاطئ، وبين السلوك الجيد والسيء". تشارلز داروين هو أول من حاول إدراج الأخلاق في إطار نظرية التطور في كتابه الرائد نشأة الإنسان  The Descent of Man (عام 1871)، ورأى أن الجانب الاجتماعي والمعرفي يشكلان أهمية كبيرة في تشكيل ونمو المنظومة الأخلاقية. ينتهي المقال بذكر آراء هربرت سبنسر الجدلية حول الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.

رابط المقال: 
real-sciences.com/?p=7986

09‏/07‏/2016

الشوارع المظلمة والقهوة المتأخرة




ولّت المرأة وجهها نحو الجانب الآخر. بلعت ريقها ودمعها أيضًا، ثمّ عدّلت جلستها وابتسمت. قالت لي بينما يبرز همّ العالم من حلقها: "أنا بخير كثير. أنا حلوة وأنيقة. عندي ألوان وكتب، وأفكار وجوديّة عظيمة. لم أخسر أحدًا في الحرب اللعينة التي شهدتها، وهذا حكمٌ غير دقيق لأنني أشعر أحيانًا بأنني خسرتُ كل شيء، وفي أحيان أخرى تختلطُ عليّ المفاهيم فأتساءل عن حقيقة الحرب أولا. ما تعريفها؟ ما ملامحها؟ ما هي الشروط الواجب توفرها لنسمّي ما يحدث حربًا؟ أليست الدّنيا -كل الدنيا- في النهاية حربًا سيّئة وبشعة؟
اعتقلوني في الأسبوع الماضي ليوجّهوا لي أسئلة كثيرة. اسمي، بيتي، أصدقائي. أسئلة لا تخطر بالبال، وخيّل إليّ أنهم سيضعون أمامي ورقة مليئة بالمسائل المعقّدة التي من شأنها أن تستكشف كلّ تفاصيل حياتي مهما كانت محرجة وخاصة. خفتُ أن يعرف الرجل الذي يحدّق بي بجمود أن جوربي مثقوب من طرفه، وخفتُ أن يقول لي: "مثقوب؟ لأي جماعة ينتمي الثقب الذي في جوربك؟

حين خرجتُ بعد أن نلتُ كدمة على ذراعي بدا لي أنني أريكةٌ قديمةٌ جدًّا قد فضحتِ الشمس غبارها ولونها المبرِش. شعرتُ بالوحدة وبعزلة لم أبتغِها وتملكني شعور مناقض تمامًا وكأنني كنتُ عارية في سوق مزدحم يعدّ فيه الآخرون شامات رقبتي ويبصقون علي. للحظة، بدا السائق، وبائع الخضار، وأعقاب السجائر وحتّى السماء جوقة من المحققين. رحتُ أركض بسرعة لأتخلص مما علق بي. لأنفض كل الأوساخ، لكنّ هناك قذارةً ما تبقى عالقةً في روحك مهما حاولتِ إزالتها".

ارتشفتْ من القهوة الموضوعة على الطاولة. ابتعلت فمها لثوانٍ ثم ضحكت. كانت ضحكتها مشوبة بالألم الذي يتغذى حتّى على ابتسامات صاحبه. نظرت إليّ كأنها تبحث في وجهي عن شيء ما. النظرُ صار تحديقًا. التحديقُ صار حديثًا صامتًا. الحديثُ انفجر في النهاية حين قالت: "عيناكِ واسعتان مثل المرآة الخشبية الدافئة في غرفة جدّتي. بإمكانك أن تحاربي بهما البؤس كما تقول الأساطير المزعجة لكنّ هذا لن يدوم طويلًا إذ أن للجمال لعنة لا بدّ أن تنال صاحبها. حسنًا! هذا ليس أمرًا يمكن إثباته بالنقاش أو بالبحث العلمي لكنني لا أعرف نساء سعيدات بعينين واسعتين كعينيكِ". تشاركنا في الضحك العميق حتّى وضعتُ يدي على بطني، وتناولتُ حنجرتي في شهقة شديدةٍ ومتخرّشة. لا أعرف بالضبط لم انتابتني هذه القهقهة. ربّما لأنني ما حسبتُ أن تتنبّأ لي هذه المرأة التي تعتني بتفاصيل سترتها، وترتدي ساعة دقيقة جدّا بمستقبلي.

هدأت ثورتنا الصغيرة. ارتشفنا القهوة مجددا. في الحقيقة، شربنا ما تبقى منها مثلما يُشرَبُ قدحُ "العرق" الجبلي. دفعةً واحدة ومن دون تردد، ودون اقتراح نخبٍ ما. الجبليّون لا يقترحون أنخابهم، ولا يدقّون أقداحهم لأن هذا يضعف حماسهم، ويضيّع الفوضى، ويجعل من القدح حكرًا على أمنية واحدة بينما تكون وظيفته دعس العالم كلّه، وزجّه في القفص الصدريّ، وتحويله إلى غيمة.

قالت وهي تقلّب يديها: "هل عشت مثلي في وهم الأشياء العظيمة؟ وبنيتِ لنفسك التمثال القوي الذي توهّمت أن بإمكانك العيش على الأفكار المجردة فقط؟ وأن بإمكانك أن تختصري العالم حقّا دون حاجتك إلى أحد؟ أريد أن أعمل، أن أكتب مجلدًا ضخمًا عن حياتي الزاخرة بالإنجازات. أريد أن أُبعد كل الأشخاص الذين قد يحتلون رفوف قلبي، وأتهم كل الرجال الذين ينظرون إلى فستاني الأصفر بالتحرّش. خفتُ جدا أن أنظر إلى داخلي. عميقًا كما تعرفين! في تلك الزاوية التي قلّما أقضي فيها وقتًا أو أراعيها. ومنذ يومين، عندما كنتُ أداعب قطتي المتسخة، وأعبث برأسها. سرحتُ في المنظر الذي تكشفه النافذة. إنه مشهد كئيبٌ في كل الأحوال. عبارةٌ عن شارع أقرع، في نهايته شجرة قد تكومت تحتها أكياس القمامة على نحو لا يصدّق، تتراشقه المنازل وبعض الأطفال المشردين الذين لا يشتري منهم أحد. فكرتُ في طفولتي السحيقة، وفي التجارب المجنونة التي كان من الممكن أن أحياها مع الرجل الوحيد الذي كان مستعدا لوهبي قلبه. كان الأمر يبدو لي سخيفا جدا. أن يهبني أحدهم قلبه؟ لكنني الآن أعي جمال الأمر ونبله، وأفتقد كتفًا صادقة أضع عليها شعري. كيف تُطاق الحياة دون محبّة؟ حين سألت هذا السؤال أوجعتني الزاوية القصيّة، وشعرتُ بيتمٍ ما. لكنني بدل أن أرقص، أو أتصل بصديقتي، أو أصنع كرات الشوكولا مثلًا. بدل أن أقوم بأي شيء عادي ومبهج، أمسكتُ هاتفي ورحتُ أردّ على كل الذين لا يعرفونني تمامًا. الذين يقولون أنني عظيمة جدا وملهمة. لا يعرفون أنني إناء مكسور من طرفه. هذا لا يفقدني شكلي في نهاية الأمر، لكنه لا يجعلني كاملة في نفس الوقت ولا عظيمة على النحو الذي أرجوه بعد كل هذا العمر".

صمتَتْ. صار وقع الموسيقى المنبعثة من سيارة "الغاز" التي تمر بجانبنا أكثر وضوحًا. "إنها موسيقى سنة عن سنة؟" سألتني فقلت لها: "نعم، ستكون أسطوانة غاز كلاسيكية ومعقدة مثل فيروز"، وعدنا للضحك.
"هل نطلبُ المزيد من القهوة؟" أجابتني: "حلّ الليل وأنا أخشى الشوارع المظلمة والقهوة المتأخرة، وعليّ أن أعود".

تودعنا عند الباب. حدقت بي مجددا، بعيني، وهذه المرة عجزت عن القهقهة. قبلتُ بطاقة عليها رقم هاتفها الأنيق جدا الذي يحتوي على الكثير من الرقم خمسة. لوحت لي: "اتصلي"
لوحتُ لها: "سأفعل، وسوف تعرفين أن رقمي أكثر أناقة" غابت ضحكاتنا في المسافة التي تفصل بيننا وهذا أفضل بكثير من انفصال الأيادي وانقطاع السخرية في أي لقاء عادي آخر. 

05‏/07‏/2016

مع خالص الغناء




صديقتي، قطعة السكّر التي ذابت أخيرًا.

هذه البقعة لا تضيءُ أبدًا. أشعرُ بالعطش وهناك كائناتٌ تتمشّى على جسدي. لا أعرف كيف أقول لك ما أودّ قوله، لكن يجبُ أن تدركي أن رحيلك لم يكن حدثًا عاديًا. لقد فجّر عندي البؤس والشكّ وهشاشة الحياة، وحين تهدّلت يدكِ فقدتُ القدرة على مصافحة العالم.

قبل يومين فكّرتُ في زيارتك. قطفتُ لك الورد من حديقة بيتنا. وردٌ عشوائيٌ جدًّا وملون. دخلتُ المقبرة وبحثتُ عنك طويلًا. أطول مما تظنين. ضعتُ بين الأشجار. وأخيرًا وجدتك تحت ظلال الزنزلخت.
وقفتُ محرجة تمامًا من انتصاب قامتي ولون بشرتي، وفمي، وملابسي. رحتُ أشدّ سترتي. أضغط بأصابعي على الحقيبة التفاحية. أسترعي انتباه العصافير حتّى تساعدني، وأحاول جاهدة استنبات مدىً يجمعنا. تنهدتُ بعدها لافظةً تعبي. جلستُ على حجرة عتيقة قرب رأسك على ما أظن. وزّعتُ الورد، رسمت به عصفورًا، وعدتُ إلى البحلقة من جديد. هناك شاهدةٌ بيضاء تختصر مجيئك وذهابك ببساطة. عروق من الريحان تركها حزينٌ قبلي. فركتُها بيدي، ولم أبكي. أنت تعرفين أنني بليدة، وقد أنشغل مثل الأطفال بطرح التساؤلات على كل شيء قائلة: "حقا؟ كيف حصل هذا؟". لكنّ طفولتي لم تدم طويلًا لأنني أذكر جيدًا كل تفاصيل اختفائك، وأعرف كما لا يعرف سواي أن هذه السنوات قليلة على شغفك بالرسم والنحت واختراع الفوضى. بسيّارة مفخخة إذًا؟ تبخرت كما تبخر الآخرون، لكنك حملت القليل من الأمل. حين أسعفوك إلى المشفى، قلتُ في نفسي: "هذه هي صديقتي القوية التي ستنتصر، ستقوم مجددا لنأكل الفوشار، ونصنع كرات الشوكولا، ونتابع فيلمًا مملا، ونقبل دعوات المعارض الفنية. ستقوم مجددا حتى نجتاز البحر ونخترع شكلًا للغيوم، ونبدّل أعيننا كل يوم". تغذيتُ على هذه الفكرة لأيام، وكنتُ أودّ أن تقومي حقا وتعطي الفكرة شكلًا. لكنك أغمضت قلبك أخيرًا، ونمت. دون أن يعرف أحدنا ما الذي كان يريد قوله. أغمضت قلبك آخذة معك الألوان، ورقعة الشطرنج، والمنزل الأزرق. وها أنا، أستوطن الجماد وأسمع صوت الحشرات وأنفض الحرّ عن جسدي. لا أبكي كما تعرفين، بل أغني من أجلك، إذ يمكن لأغنيتي أن تختصر الحكاية. أن تكون ناعمة مثل المشاوير العتيقة، وبطيئة مثل عصفور ثمل بالراحة والغناء. الأمر الذي يقولون أنه احتاج إلى تخطيط لا يعدو كونه ومضة من الرحيل والدمار والموت. حركة واحدة أرخيتِ فيها جدائلك فقصّها الكبار وباعوها. هذه الأغنية يمكنها أيضًا أن تنطق بالحزن الرقيق، والوداع الذي لم يتم، والصوت المبحوح أبدًا.
أنا مثلك يا صديقتي مركبّة من الفزع والفن وبعض السكاكر، لكن الفرق أنني لم أزل هنا -وهذا ليس شيئًا عظيمًا لو تعملمين- لكنني سوف أستغله حتى أحكي عنك. عن المنازل التي لم تُطلى، والأطفال الذين لم يكملوا "عروسة الزعتر".

في المرة القادمة سأجلب لك بعض الأصداف، والكثير من أحلام البحر بلقائك مجددا. فلترقدي في قلبي. في نافذته المفتوحة، في ثقبه الأسود، على رصيفه الرمادي المليء بالمنافي. في الغيمة التي نالها "الجبل البعيد"، في غصّة "اشتقنا ع المواعيد" وكلمة "ياريت" العقيمة.

30‏/06‏/2016

إلى الرجل الخشبي



صفوان داحول

مرحبًا، من بلاد الشمس والعزلة، من هذه الزاوية التي وصلتُ إليها أخيرًا، بعيدًا عن الجميع.
اخترعتُ حصانًا من قطع الخردة ، وهيأتُ أوراقي لأرسم فستانًا جديدًا حتّى أهبهُ لفتاة صغيرة وأقول لها: "موتي في سبيل الألوان". اقتنصتُ الوقت -الضيق جدًّا- حتى أطعم الحمام مع جارنا. جارنا النحيلُ الذي يريد أن يصير رسّامًا والذي يؤجّل هذا دومًا لأن يده مستنزفة من العمل. قلتُ له: "لا تعمل" فضحك كأنما أغمى عليه من البكاء. أخبرني أنني سأكبر يومًا وأعرف كم أن الحياة موحشة وبشعة. لكنني أصرّيت، لم أجد ما يمنع شخصًا من اللحاق بشغفه. وأصرّ هو أيضًا ولم يجد ما يدفعني إلى العناد.
مرحبًا، من البلاد التي تمطر ياسمينًا، وأحذيةً، وأشلاء.
من هذا السرير المحموم بالأرق الذي سيصير نهرًا مقدّسًا من الأفكار والغضب.
أنا غاضبة جدا، منك، من نفسي، من هذا الجدار اللعين الذي لا يتحرك. من قطعة الدانتيل الصغيرة التي لا تكفي لتصير زنّارًا لشعري. من طبق الشوكولا الفارغ الذي ابتلعه الحزن عني ولم يجعلني سعيدة. غاضبة من أمّي التي قررت الصمت دون أن تترك قرب يديها فلّتين. ليتها و-نحن نقف على أعتاب هذه المأساة- تقوم من تحت الردم وتعيد بناء المنزل معي. أنا أعرف أن منازلنا في النهاية لا تعدو كونها وهمًا. لكنني أريد أن أسترجع اللحظة الأخيرة التي سبقت هذا الانهيار، لأقول لهم: "وجهوا البندقية إلى صدري، لا تعافوا فيه أيّ عصفور، لا تتركوا لحماقته أثرًا، أنا أموت في سبيل المحافظة على اللون الأخير في هذه اللوحة، ولا أصير رمادّا أو مادة إخبارية بسهولة".
غاضبةٌ من الليل، والأسرار، ومن صوت "هدى حداد" الذي سلّمني إلى الحلم و"ضوّ القمر" وأقنعني أنّ أحدًا سوف "يوصلني إلى المنزل" ويقول "منبع الضوء أنت".
مرحبًا، من البلاد التي تشقى بالقسوة مثل أي أنثى رقيقة تتهاوى رويدًا رويدًا. من هذه الزاوية التي وصلت إليها أخيرًا. اخترعتك ، وهيأت أوراقي لأكتب رسالة .

فمرحبًا أيها الرجل الخشبي.
سأحكي لك ما حدث منذ أيام.


أوقفنا الجدار الضخم قائلُا: "أين الهوية؟". أنت تعلم أنني مواطنة صالحة جدًّا وعادية. لذلك، أخرجتُ صكّ براءتي من جيب سترتي ثم قلتُ بثقة: "هذه هويتي". انتابتني بعدها رغبة عارمة بالضحك، لكنني لم أضحك طبعًا، لأنني مواطنة صالحة، عادية، و"خائفة". حدّق بها، قلّبها، حدّق بها مجددا. لم ألمْه، فهذه الفتاة التي يبحلق في صورتها تختلف كثيرًا عن الفتاة التي تقف أمامه، فقد صرتُ أحلى. ونحنُ -هنا- كلّما ازددنا جمالًا تبعتنا لعنة البؤس والمذلّة. راح يضربُ الهوية على كفّه. كنتُ أعرف أنه يريدُ إرهابي فصمدتُ أكثر. صمودي النفسي كان يقول: "اكسرها إن شئت، لا يهمني". نطق: "بإمكانك أن تذهبي".
وأثناء تمريرها إلي، ظلّ يحدّق بي. شعرتُ أنه نفذ إلى داخلي ورأى العصفور المختبئ المرعوب، ولذلك -ربما- ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة. قلتُ وأنا أضع يدي على حقيبتي: "هكذا يا نور، هزيمة أخرى يحققها رجل عابر".
مضيتُ بسلام إذًأ، لكنّ هذا لم يحدث مع الجميع. اقتِيد أكثر من سبع شبّان نحو المجهول، ونجح واحد فقط في الاختباء. كان المنظر مروّعًا، وصوت الرصاص الذي اخترق الهواء قادر على أن يصيبك بالهلع. الهلعُ المتكرر الذي تحظى به هنا والذي يصيرُ شيئًا عاديًّا. أعني أنك بمرور الوقت لا تتعامل معه بالهرب، بل تقف متسمّرًا وأنت تنظر في عينيه، ثم تتفقد ذراعك ووجهك وكلّك قائلًا ببهجة: "أنا حي". هذه البهجة سرعان ما تتحول إلى حزن بالغ ومعقد لأنك تتذكر أن الآخرين ماتوا أمامك للتو.

وهكذا تسمّرنا جميعًا. التقطنا كل شيء لنحوله إلى موسيقى حين نعود إلى منازلنا. لا لشيء، فقط لأن الموسيقى تُعين التعساء على تحضير العشاء، والرقص، ومتابعة القمر المنقوص، والتهيؤ لممارسة الحب على ضوء شمعة.

وأنا أجلسُ على الرصيف شعرتُ أنه بيتي، وأن أحجاره ما هي إلا غرفي المتعددة التي يمكن أن أملأها باللوحات والمصابيح الزرقاء وحفنة لا بأس بها من القبل. لم ينبع هذا من كوني مشرّدة، لكنني أويت إليه حين عزّ عليّ إكمال الطريق وخارت قواي عن رؤية العمود الذي ينتصب جانب بيتنا المطليّ بالأبيض، في ذلك الشارع الطويل الذي تفوح منه رائحة الطماطم وتتقاذفه السيارات كاتمةً أنفاسه الطبيعية، ومُحوّلةً إياه إلى سترة ضيقة جدا يريد أن يرتديها الجميع.
فكرت: "ما رأيك أن تجلس معي، وتكتشف العتمة الملساء التي يمكن أن نسبح فيها؟ وتجرب الرعب المتمخّض عن تبرير نفسك؟ وتعطيني رأيك بالفستان الذي ابتعته قبل أن يحدث كل هذا؟ أجده شيئًا حقيقا، عليه بومة ملونة تختصر تاريخ حياتي.
انظر؟ أنا مستعدة لعد أصابعك الآن وهي تمتد نحوي. إنها كثيرة وجذابة لكنها عاجزة رغم كل شيء".


مرحبًا من هذه الزاوية
سوف أكشف الغطاء وأصير قطة. ألف نفسي حول نفسي وأسمح لهواء الساعة الرابعة فجرًا أن يحرك كتفي الطري ولن أستجدي أحدا. فقد اكتشفت أنني قوية. عدتُ من الموت للتو وعمري في حسبان الحياة صرخة واحدة فقط.

نظرية العقل: كيف نفهم اختلاف الآخرين عنا؟



مقالي في السعودي العلمي عن تعريف نظرية العقل، ومراحل تطورها منذ الولادة إلى سن البلوغ، وفهمها في علم الأعصاب. 
لقراءة المقال: http://www.scientificsaudi.com/ss/10328

28‏/06‏/2016

مع جدّي قبل السّفر








على ظهري حقيبةٌ كبيرةٌ جدًّا كنتُ قد ورثتُها من جدّي الذي أوصاني أن أموتَ في سبيلها ثم قال لي: "ستكونين شهيدة الحماقة"، بينما كان يجلسُ ويأكل البطيخ الأحمر ويتابعُ مقطعًا لنجوى فؤاد. عندما مرّ شريطٌ عاجلٌ قال بنزق: "اقرأيه". "انفجارُ عبوةٍ ناسفة في أحد المتاجر، الضحايا خمسة والفاعل مجهول". علّق باستهجان: "وهل يحتاجُ هذا الأمر إلى خبرٍ عاجل؟ لقد مات صديقي في الأمس القريب محترقًا ولم يعره أحدٌ انتباهه، ومات قطّي الأبيض متأثرًا بجراحه ولم يجد من يمجّدهُ. أليست هذه مأساة يا صغيرتي؟". كنتُ قد بلعتُ لساني حينها حتّى عجزتُ عن مجاراته، وتقيأتُ عقلي في الحقيبة حتى لم أجد وسيلةً لأستوعبَ فكرتهُ تمامًا، لكن قلبي كان يشعرُ بالأسى على الحزن أينما حلّ وكيفما كان شكله, مُمَجَّدًا كان أم منسيًّا، بسطًا أم معقّدًا. أعاد جدّي جلستهُ الهادئة وارتختْ أعصابهُ حتّى قال لي: "لا تقرأي لي الأخبار العاجلة حتى لو طلبتُ ذلك".
راح يحرّكُ رجليه كما يفعلُ طفلٌ صغيرٌ يركبُ أرجوحةً تفوقهُ في الحجم والضخامة، ويدندنُ موسيقى عذبة لم استطع تمييز فيما إذا كنتُ قد سمعتُها من قبل أم لا. الزّغبُ الأبيض على رأسه كان يكتسبُ وهجًا إضافيًّا من أشعة الشمس التي أحاطت به، وكان يتمثّلُ جدّتي كما أعتقد إذ كان بصره معلّقًا على أريكتها، ثمّ توقّف عن الدندنةِ وقال: "روحٌ مليئةٌ بالجمالِ قد عبَرتْ "!



_جدّي رجلٌ ضخمٌ جدًّا ويحبّ أن يقول للآخرين أنه كذلك، لكنه يوم وفاة جدتي راح يبكي بحرقة. ولم يكترث بتجفيف دموعه ولا إقامة أي اعتبار للرجال الذين كانوا يقفون مثل جداريّات سخيفة. قالت امرأة حمقاء أنه حزن لأن التي كانت تصنع له الحلويات قد ذهبت، وقالت أخرى أنه بكى لأنه لن يجد من تتحمّل نزقه كما كانت تفعل.
جدّي لم يبحث عن غيرها أصلًا، ولم يفكّر في الحلويات من بعدها. لأنه أدرك أن الفانيليا مضت أيضًا وأن هذا العالم صار مرتعًا للانتظار، لابتغاء الخلود لهما بطريقة أو بأخرى. وبهذا، خرج -هذا الرجل الجبل- مرة أخرى نحو الضوء، وضع قبّعته وارتدى ثوبه الرمادي وقال: "مرحبا"، ردّ عليه الجميع خوفًا من قسوة سلامه، وابتسمتُ مطوّلا في وجهه، وأنا ألحظ العصفور الصغير الذي قفز من عنقه واستحال بخارًا._

وبينما كنتُ أقول كل هذه الجملة المعترضة في بالي، أعاد جدّي جلسته اللا مبالية، توقف عن الغناء وقال: "ألا تسمعين؟ قلت لك اجلبي المزيد من البطيخ "!   

26‏/06‏/2016

رسائل منّي إلي (1) ~ حتّى لا أنسى


اللوحة للفنان السوري، صفوان داحول
نور العزيزة جدًّا. الأغلى على الإطلاق:

لن تصيري سمكة مهما تدهّنت بالماء وسبحتِ. لن تصيري عصفورًا مهما تسلّقت شجرة التين في الفناء الخلفي لبيت جدّك، ولن تحترقي مهما قلت أن ضلوعك من خشب. لن تتحوّلي إلى دالية عنب مهما قالوا أنّ جمالكِ مُسكرٌ، وأن عينيك خمّارتان ماجنتان غارقتان في الليل والوحدة. لن تُرجعي الأشياء من العدم مهما قرأتِ من نظريات وخضتِ في نقاشات وأشعلتِ آخر فتيل في رأسك. لن تعيدي اللحظة التي سبقتْ افتراق يدك عن يد والدك في ذلك البهو المريض المليء برائحة الرزّ المطبوخ بالخضار مختلطًا مع القليل من المعقّمات ومصحوبًا بضربات الفتاة التي كانت تنظّف جدارًا قريبًا، مُمسكة جمود العالم في ملامحها ومبتسمةَ في آن.
لن تنتصب أعواد روحك المكسورة مهما تحدّثتِ عن الأمل والعودة والحنين، ومهما أضأت الشموع وصليتِ، ومهما هشّمت اللوح الزجاجيّ ودستِ عليه. لن يصير فستانك الورديّ أسود مهما جرتِ عليه وحاولتِ تجاهلَ فجرهِ ولهيبه. لن يقول لك أنه آسف، فالأسف أمر معقد للغاية ينبعُ من مفهوم الخطأ الذي يكون بدوره نسبيّ وضبابي. لن يعود ذلك الخيال من الماضي ليقول لك : "خذيني، اصطفيني" لأنّ الأخيلةَ لا تعود، ولا تصير حقيقة بعد كلّ هذا الوقت من النّأي، ونكران القلب، واجترار الأسى. لن تفهم أمك لماذا بكيت حين فقدت مشبك شعرك البنفجسي لأنها ستعتبر أن شعرك طويل جدا وأن الدنيا مليئة بالمشابك الأكثر جمالًا وألوانًا. لن تتحرك ستارة نافذتك في حزيران بفعل النسيم بل سوف تتعرق وتتقبل انحناء الشمس في دورة مهمة لا تبدي خلالها أي انزعاج.

أنت في قوقعتكِ الملتفّة، المشبوكة. مثل أية بلهاء تحدق في جدار وهي تنتظر أن تخرج الصراصير من شقوقه وتعتذر عن سوادها. ماذا عن الفراشات التي تحلق حولك؟ ماذا عن النور النابع الذي ينعكس على الشقوق ويعقّم عفنها؟ ماذا عن الماضي الذي يستقيم ويمارس صفته من ناحية المضيّ والسكون؟ ماذا عن الآن الذي ينظر إليك بعين واسعة جدا آخذًا جمالك بعين الاعتبار وكاسيًا كتفك الأيمن بشالٍ من "الدّانتيل الأخضر"؟

يتم التشغيل بواسطة Blogger.