29‏/12‏/2015

عاكف: قصة قصيرة (2)





أيُّ قصة هذه؟ إنها مثل آلاف القصص.
سهرت متكئا على حافة النافذة، يحرك شعري نسيم غير بارد، أبادل صديقي بعض الأحاديث ثم أعود إلى نفسي متفكرا ومتعذبا.
ما الذي يجب أن أفعله؟ هل أحاول نسيانها؟ أم أتقرب إليها؟ وهب أنني تقربت إليها وأحببتها وأحبتني، فهل نبقى محرومين أم نتزوج؟ وهب أنني نسيتها، فهل سأنسى كل أنثى أعرفها؟ وهب أنني تزوجتها، فهل سأتزوج كل الإناث؟
فكرت فيما يمكن فعله، وكنت أشعر -وأنا في الطابق الرابع- بأنني مخير بين أن أسقط عليها فأهلك أو أبقى في مكاني ويبقى الحب حيا في كل جزء من أجزائي. ولكن حتى بقاء الحب حيا فيَّ لم يكن يعني لي أنه سيبقى حيا أبدا، إذ سأنتهي قريبا أو بعيدا وسينتهي معي. كنت أطمع في خلود لا ينتهي، في سفر لا ينقطع عبر الأجيال وعبر الثقافات، ولم يكن هذا بمستبعد من آلية تفكيري أنا الذي أقرأ فجرا آثار البابليين وأقرأ ظهرا فلسفة هيغل وروايات سارتر ومسرحيات غوته.
قال لي صديقي متحمسا (أنقل هذا الحوار من ذاكرة غير دقيقة!):
- لا سبيل إلى الخلود الذي تنشد، فإنما الدنيا عابرة، "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون".
فاعترضت:
- لكن هذا العبور ليس سريعا كما تظن، إن الآخرة لن تكون بعد قرن أو قرنين، وأنا بحاجة إلى استنفاذ كل الحياة الدنيا.. كلها.
- وما الذي يدفعك إلى هذا الطمع؟ ألا تحب أن تلقى الله؟
- سواء أحببت أو لم أحب سألقاه، هذا ما لا اختيار فيه، إنما الاختيار يا عزيزي في الفناء أو البقاء.
- سبحان الله، أأنت الذي تختار بين هذين؟
- نعم.
- ألن تموت بلا اختيار أيضا؟
- بلى.
- فكيف يكون لك الخيار بين البقاء والفناء؟
- بين البقاء والفناء، ليس بين الحياة والموت.
- كيف؟ قل لي.
- لا أدري. لكنني أؤمن بأن الخيبة الكبرى هي أن نموت عندما نموت. ألست تقرأ وترى آثار الأولين؟ انظر كيف يعيش كونفوشيوس بيننا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، انظر إلى عرَق بناة الأهرام ومعاولهم، أيبدو أنهم ماتوا عندما ماتوا وتركوها بعدهم؟
- نعم ماتوا، اذكر لي اسم واحد منهم.
- لا يهم، وليست الأسماء هي دليل الحياة، بل الآثار.
- وهل ستشعر أنت بثناء الأجيال القادمة وهجاءهم بعد موتك؟
- لا يهم، فما لهذه الغاية يفني الإنسان عمره، إنما أبقى فيهم كما يبقى السابقون بيننا.
- أريد أن أعرف هل سيكون لديك إحساس لتدرك أنك بقيت أم فنيت؟
- قلت لا يهم، فهذا البقاء لا يعنيني، إنه سيل من الأفكار التي يمكن أن يتركها إنسان يعلم أنه سيموت.
- الأفكار والفنون؟
- الأفكار والفنون.

وحتى بعد نوم صديقي بقيت ساهرا أستعيد حديثنا. نعم، الأفكار والفنون، لقد كنت توًّا حائرا بين السقوط والموت أو العجز في الأعلى، لكن هذا الحديث أيقظني، أعطاني الفكرة التي كانت تنقصني على مدى إحدى وثلاثين سنة.
صباحا، طلعت أوائل الفجر على رجل غير الذي عرفته وعرفه صديقي، جديدا، يتحسس هوامش الساحة التي بدت بنفسجية شاحبة، ويعي أنه هو كل شيء. طردت من ذاكرتي كل قوانين الحياة وسخرت من خوف الناس القديم من الموت، فما هو هذا الموت الذي يوحي بالفزع كلما هاج ذكره؟ وشعرت بالامتنان لمحاجَّة صديقي، أعني بالتحديد سؤاله "وهل ستشعر أنت بثناء الأجيال القادمة وهجاءهم بعد موتك؟"، واهتديت من خلاله إلى أن الموت -ولتشعرْ بالصدمة- هو أعظم الأساطير التي عرفها البشر. إذ بما أن كل الذين يموتون لا يعون أنهم ميتون، فما هو الموت بعدئذ إلا أنه حزن الآخرين أو فرحهم؟ وبلغة صديقي "ثناء" الآخرين أو "هجاؤهم"؟ وإذا كان الإنسان وحده هو الذي يكترث لأحاسيسه ومشاعره، وإذا كانت أحاسيس الآخرين ومشاعرهم لا تغير شيئا في ذاتها، فإن حزن الآخرين وفرحهم هو أيضا أسطورة الأساطير، لأنه لن يكون وقتها -أي بعد موته- إلا عدما.  
كلَّمتُ صديقي ببعض هذا فتجمد وبدى غير مصدِّق أنني تغيرت كل هذا التغير في ساعة واحدة، و"بسبب عيني أنثى" كما قال متهكما.
لكنني يا صديق الفن لم أسعد بهذا التغير كما قد تستنتج، فلم يكن اختيارا بمقدار ما كان اضطرارا وضياعا، صحيح أنني لم أعد آبه بفكرة موتي وانتهائي قريبا أو بعيدا، لكنني أصبحت أنظر بعينين لا تعيشان لحظتهما وحدها بل ملايين اللحظات الآتية المحتملة، وأصبحت غير سعيد بهذه الحياة التي حلمت يوما أنها ستكون مشوارا جميلا.
ذهبنا صباحا إلى إحدى المكتبات، وكنت مشغول البال بها وبما ستؤول إليه أحوال أجسادنا.. في أي بلاد سيتعفن جسدي الأسمر هذا وإلى أي حد ستخبو شعلة الشباب فيها؟ من سيهتم لأمرها إذا سافرت أنا؟ ومن سيسعدها إذا لم أسعدها أنا الذي أحببتها؟ أما أحوال أرواحنا فلم تشغلني كثيرا، لأنني كنت قد عرفت كيف ستبقى حية ما حيي الناس.
في المكتبة، يمم صديقي شطر كتب الفقه والتاريخ كعادته، وبقيت أنا في الطابق الأسفل أقلب الدفاتر البيضاء.
والآن يحق لك أن تسألني عن تمام القصة...
عدت وحدي في عصر اليوم التالي، ووقفت قريبا منها، أحس بسخونة جسدها تحرق أعصابي، وأتعمق في عينيها فأجدهما قد مُلئتا عسلا جديدا. أعطيتها ثمن الحذاءين ثم ابتعدت عنها إلى هذا اليوم الشتوي الثقيل الذي أكتب فيه.

فهذه هي بداية صديقك الخمسيني التعيس الذي يرجو أنها لم تكن طويلة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. 


28‏/12‏/2015

عاكف: قصة قصيرة (1)





سألتَني يا صديقي عن حالي، إنني لست بخير، شكرا لك على حرصك واهتمامك، لكنني -ولتعذرني- لا أذكر أنني كنت بخير منذ أكثر من ثلاثين سنة. لعلك الآن تبتسم وتتوقع أن تقرأ شطحة من شطحاتي عندما يشتد علي برد الليل، بيد أني لا قول إلا الحق، ولك وحدك أقوله لأنك بعيد جدا.
جملة اعتراضية: أشكر أيضا هذا البريد الأمين الذي يوصل رسائلي إليك كما هي بعد أن أكتبها مباشرة، وأرجو أن تعثر على رسالتي هذه وتقرأها في أقرب وقت، وأن تكتمها.. أسألك بشرف صداقة الفن التي تجمعنا.
أنت تبدأ رسائلك دائما بالسؤال عن حالي، فعن أي حال تسأل؟ إن أحوالي كثيرة كما تعلم، فهل سؤالك عن حال عملي؟ إنه مستمر باستمرار ضرورة العيش، أعود كل مساء من الجامعة، وأعرض وجهي على المرآة، ولن يصعب عليك أن تتنبأ بما آلت إليه ملامحي من الذبول والصُّفرة. ألمس شعري فترتعش يداي فوق كومة من الشعر الأبيض الهش المبعثر. أحاول الكلام لأسمع صوتي فلا أسمع إلا عويل رجل جاوز الخمسين ولم يعد قادرا على تغيير أفكاره ومبادئه كما كان فيما مضى من الأيام.
أم تسألني عن حال صحتي؟ فإن صحتي جيدة لا يعيبها إلا بعض الأرق وانعدام شهوة الأكل. وليس هذا بالمقلق، فالحمد لله على الصحة.
أم تسألني عن حال قراءاتي وجولاتي الفنية؟ وهذا ما لن تحتاج إلى معرفته مني فقد أوشكت على إنهاء مجموعة من المجلدات حشوتها لك كتبا وصورا من رحلتي الأخيرة إلى بحيرة (ويندرمير) العجائبية، ستجد كل ما تحب معرفته عن حالي مع الفن.
أم تسألني كما يفعل الناس في هذه الأيام عن كل أحوالي مرة واحدة؟
أرجو أن تحدد في رسائلك الآتية بإذن الله ما تود السؤال عنه من أحوالي.
والآن سأروي لك كيف لا أكون بخير بعد كل هذا...
عندما كنت أراسلك للمرة الأولى -هل تذكر؟- قبل تسع سنوات، كان قد مضى على ذلك اليوم اثنان وعشرون عاما. أعني اليوم الذي لم أكن فيه غير طالب دراسات عليا يتنقل بين السعودية وبريطانيا ولا يعرف أكثر من هذا. كنت عاديا برغم الكتب التي قرأتها والأسفار التي قطعتها. ولم أكن أدري ما الكتابة وما الفن. كنت إذا حلمت تصورتُني أشغل كرسيا في جامعة محترمة وأدرس تلامذة مهندمين متفتحين طرائق البحث العلمي، أو تخيلت أن لي بيتا صغيرا هادئا يلهو فيه أطفال نظيفون أسمع ضجيجهم بينما أقرأ كتبي وأدون تعليقاتي راضيا بهذه الحياة مشوارا جميلا لا ينتهي، وإذا انتهى فيَّ فلن ينتهي في أطفالي وأطفالهم من بعدهم، أو بالغت في الحلم واستدعيت إلى البال رائحة الأنثى التي سأعشقها، فألقي عليها عشرات الأشباه من سمراوات الصحراء الصارمات اللائي يحترفن الشوق والصبر، ومن شقراوات الأفلام المائسات سريعات الاستجابة، ومن كل لون وطعم، مدفوعا بغريزة الحب وشهوة البقاء، وكنت بعد كل حلم أدرك حقيقة وحدتي وأستوحش الوجود ثم أعود إلى القراءة.
ولما كنت وقتها في السعودية، قررت أن أزور مسجد رسول الله كما أحب أن أفعل دائما، فاصطحبت أحد الأصدقاء وسافرنا إلى المدينة في أيام قيظ ولم نكن ننوي البقاء أكثر من يومين.
بعد أداء صلاة العصر في اليوم الأول، خرجنا من المسجد قاصدين الفندق، ولمَّا يجف ماء الوضوء في أذرعنا ووجوهنا، وأرواحنا جذلى بما غمرها من نسيم العهد الأول وخطى أبي القاسم عليه الصلاة والسلام وله الحب. استقبلت الساحة البيضاء، ماشيا بوقار إلى جانب صديقي، أتلو بعض الأوراد اليومية وأتأمل خشوع الخارجين والداخلين، وسحنات الباعة المتجولين والواقفين والقاعدين، لكنني ما إن تقدمت بضعة أمتار حتى استوقفتني حذَّاءةٌ تحصي المارَّة بملل وتحرك عينيها تجذبهم إليها بغير نداء.
طلب مني صديقي أن أتورَّع وأغض بصري، لكن لعمري أي نصح كان يجدي ساعتها وأنا قد صرت في عداد الصرعى؟!
توقفت كمن احتار أي طريق يسلك، أو كمن نسي كيف يمشي، وأعدت النظر إليها فما رأيت إلا أنثى حلوة -أحلى من أي حلو- تفترش الأرض بالقرب من أمها العجوز المُقعدة وترتب أزواج الأحذية بيدين كأنهما قطعتان من رخام أبيض معروقٍ بخطوط خُضْر.
عجِب صديقي من تنسُّكي وتقواي داخل المسجد ثم من طيشي وفسوقي خارجه. كان يمسك بيدي قائلا إنني قد تجاوزت "النظرة الأولى" بألف نظرة محرمة. فلم يكن يلمس إلا جلمدا تنخر فيه حشرات الموت، ولم يكن يخاطب إلا رجلا آخر غير الذي عرفه.
كنت يا صديقي ساعتها مخطوفًا من الزمن، ولا أتحرج الآن إن وصفت لك طائرين أبيضين خرجا من عينين سوداوين لامعتين وهربا بي بعيدا، حيث خلاخل الذهب تجلجل في سوقِ المدنيات الأمويات، و"ابن صيَّاد"* يحرك أوتاره ويتغنى بأبيات من شعر البعد والفراق.
دنوت منها، لا أنوي شراء حذاء جديد، بل أن أجرب كل بضاعتها لأبقى قريبا منها ما شاء الله. دنوت ودنا مع صديقي ظانًّا أنه بكلامه يستطيع أن يثنيني عما أنا مقبل عليه. وضعت يدي على حذاء وسألتها عن ثمنه، فأجابت، ثم وضعته على آخر وآخر وآخر.. أسأل وتجيب كأنني لا أسألها إلا عن لوعة الغرام التي تذيب عظامي، وكأنها لا تجيب إلا عن سوء حالها وقلة حيلتها.
عينان لذيذتان كأنهما كأسان زجاجيان مُلئا عسلا مصفَّى، ورموش مقوسة إلى الأعلى تهبط وتعلو بخفَر، ومن فُرجة البرقع لمع بياض أنفها وما تحت عينيها، وأنا ينبض بين أضلاعي قلب كأن به تنِّينا ثائرا يمجُّ ناره في وجه كل من يعترضه.
كان الناس يتحلقون حولهما ويشترون ثم يبتعدون، إلا أنا فكنت قد جثوت على ركبتيَّ وانفردت بها أسائلها عن ثمن هذا وهذا، وقد أجرؤ على سؤالها عن طريق الوصول إلى ما خطر ببالي من الأمكنة، فتارة تصف لي الطريق إلى البقيع، وتارة تعتذر عن جهلها بالطريق إلى مكتبة من المكتبات أو سوق من الأسواق، وسأحدِّثك -ولا حرج- عن ابتسامتها الناعمة عندما كانت تحتار في اختيار الكلمات، فأرى فمها يتحرك كأنه شمس تخترق الغيم، وأرى عينيها تنكمشان ثم تتفتحان بما فيهما من الحياة والنجاة.
كان نوع بضاعتها لا يقتضي أن أطيل في الاختيار أكثر مما فعلت، وظل صديقي يهددني بالمغادرة ويحذرني من نزغ الشيطان، ويا حَبَّ ويا عِشْقَذا الشيطان الذي يجمع بيني وبينها، لكن ما كان أهون عذاب الحريق عندي وأنا أتعذب بالإقصاء عن روعة روحها وحنان يديها اللتين تتحركان على أزواج الأحذية كفراشتين خالدتين تحومان حول نور أبدي.
لما طال جلوسي قبالتها وأحسست منها تحرجا تناولت حذاءين لي ولصديقي وأعطيتها ثمنهما، فتكلمت لحظة مع أمها ثم عادت إلينا طالبة أوراقا نقدية من فئة أقل من الخمسمائة. أدخل صديقي يده في جيبه فمنعته وقلت لها: "ليس معنا إلا هذه الورقة، لا بأس". ومن الجيد أنني لم أقل لها: "خذيها" فتشعر بأننا نتصدق عليها فتغضب. ساعتها يا صديقي في الفن لم يكن يهمني رضى إنسان يتنفس من رئتين إلاها. نهضتْ وقصدت بائعا مجاورا لهما تطلب منه فك ذلك المبلغ الذي ربما لم تكن تصل إليه مبيعاتهما في شهر.
مشت فازداد التنين الذي في قلبي شراسة وتدميرا لمبادئي وأفكاري، وبقي صديقي يغمض عينيه هاربا من جحيم الفتنة. وقد هُيِّء لي أنني لست الوحيد الذي أخذه جمالها وسحرها، لكنني فضلت ألا أعتقد بهذا لأن الحسرة كانت ستقتلني. كنت أنظر إليها تحمل ورقتي بين أصابعها وتسأل الباعة حتى عادت آسفة وقالت: "إذا كنت بحاجة إلى الحذاءين فخذهما وعد غدا"، ولن أطيل وصف فرحتي بهذا الموعد يا صديقي، بل ربما سأكتفي بوصفه موعدا لم يهمني أن أموت بعده.
خرجنا من بياض الساحة، وشمس الأصيل تنثر فوق رؤوسنا وعلى وجوهنا شعاعا ساخنا يتعرق منه الجبين. لن أنسى موعظة صديقي الطويلة وصمتي، وكنت أردد في بالي "هذا فراق بيني وبينك" لكنني لا أُسمعه ما أقول. كانت نافذة غرفتنا تشرف مباشرة على بوابة المسجد، ففتحتها ورحت أتابع حركاتها متى وقفت ومتى قعدت حتى أظلَّنا ظل المساء فلم أعد أراها. 


* ابن صيّاد: من أشهر المغنين في زمن الدولة الأموية. 

27‏/12‏/2015

لاءات مقدّسة





لا تحلف لي بخطوطِ الطول والعرض التي في جسدي، ولا بخطّ الاستواء الذي مرّ من جبينكَ يوم رأيتَني فتغيّر العالم وصار كلّ شيءٍ ورديًّا. لا تحلف لي بهجرةِ الطيورِ والحقائق العلميّة وفوائد التّفكير المنطقيّ ولا بإمكانيّة أن تحوّل الفلسفة كلّ مأساتنا وتصيّرها جنّة. لا تحلف لي بشَعر أينشتاين واجتهاد أديسون ولا تتغزّل بطموح ماري وتأخذني من يدي وكأنك تلمس اختراعًا جديدًا وتخاف أن ينالكَ منهُ تيّارٌ أو شحنةٌ سالبة!
لا تقل لي أنني جميلةٌ مثل صفحة كتابٍ اشتريتَهُ للتو، وأنّ في عينيّ سوادًا يشبهُ كلمةً مكتوبةً باللون الغامق ضمن معادلةٍ عظيمة. لا تقس المسافة التي بيننا بدقّةٍ وتُطلعَني _وأنا في قمّة انهياري_ على خطّتكَ المُتقَنة لتجاوزها. لا تحدّثني بأن حرارة حضنكَ ليست ضمن المستوى المطلوب لاحتوائي، وأنّك غير مؤهلٍ بعد لتستوعب طفولتي.
لا تشرح لي الأشياء بمنطق الكبار العارفين بكلّ شيء، الذين أرهقهم الماضي تمامًا فتجاهلوا الآن وبدؤوا بالفزعِ من تعبِ الغد. لا تقل لي "غدًا تتعلمين. غدًا نكون. غدًا أقبّلك". إن الحرب تنهشُني وأنا وطني خيمةٌ متنقّلةٌ وإنني لا أحيا إلا هذه اللحظة، فإما أن تكون حبيبي أو لا تكون، إذ لا وقت للتحليل و "لا وقت للغد"!


على الهامش: "والحاضر؟ مش حاضر محلّو"

26‏/12‏/2015

يحق لك أن تقتليني


Ricci Albenda، المصدر.

يحق لك أن تقتليني،
فأنا ضحية عشقي وأنت غير مسؤولة عني. 

يحق لك أن تقتليني، 
فيداك.. يداك ستجدداني 
وسيعلم الناس بهذا الحدث الجلل. 

يحق لك أن تقتليني،
فأنا أحب دموع عينيك وأنفاس فزعك
ولسوف أشتهي أن تقتليني لأجل هذا. 

يحق لك أن تقتليني،
فنواح ضميرك سيعلو في ليل غيابي
وسيبقى شاهدا على رثائك لي. 

يحق لك أن تقتليني،
يا شهية الرائحة، خنقا بين ذراعيك وأمام رقبتك
ولا زيادة. 

يحق لك أن تقتليني،
فأظافرك ستنحر جسدي الساخن
لكنها لن تبيد خيالي. 

يحق لك أن تقتليني،
فحُرقة قلبك ستشعلني
وسأتبخر
ثم أنتقل إلى جسد آخر
وأعود إليك لأزيد ارتعاشك. 

يحق لك أن تقتليني،
فأنا سأبقى في بالك أبدا
وإنه ليسعدني أن أكون قريبا منك
ولو في صورة إثم. 

يحق لك أن تقتليني، 
وأن تقولي لهم
إنك لم تقتلي سوى أديم الفكرة
وأما الفكرة فلا تطولها يد الموت. 

يحق لك أن تقتليني،
وأن تهربي مني 
فكل ما أريد هو أن نبقى معا. 

يحق لك أن تقتليني،
فأنا إنسان مقتول.. مقتول
ولن أحس بوخزة القتل مرة ثانية. 



23‏/12‏/2015

فريدريك نيتشه: مصاب بالزهري أم مخرِّف؟



فريدريك فلهيلم نيتشه، قبل الوفاة بعام واحد، 1899.
- هل كنت عليلا؟ هل شُفيت؟
من كان إذن طبيبي؟
ولكن، هل استطعت نسيان كل شيء؟
- الآن أعتقد أنك شفيت؛
لأن من ينسى سليم. 
نيتشه، العلم المرح [1]

حالة طبية عويصة: منذ العام التاسع عانى من صداع شديد يدوم لساعات (أحيانا لأيام) ويعيق نشاطاته اليومية، غالبا يتموقع هذا الصداع في الشق الأيمن فوق العين، ويرتبط بأعراض مَعِدية مَعَوية (غثيان، تقيؤ). لتخفيف هذا الألم، حاول أن يبقي عينيه مغلقتين (فوبيا الضوء photophobia) وتجنب العمل. عند العام الثاني عشر شكى من تعب في العينين وانزعاج من الضوء. العديد من أطباء العيون الذين فحصوه قالوا إن لديه قُرب نظر شديد myopia يترافق مع قصور في عضلات المستقيم (الجزء الأخير من القناة الهضمية). لاحظت أمه وأحد أطباء العيون أن أحد بؤبؤيه (الأيمن) أكبر من الآخر anisocoria. عند التاسعة والعشرين قال لأول مرة إنه عانى فجأة من ضعف في العينين ونقص شديد في الإبصار. عند الرابعة والثلاثين أجريت له اختبارات طبية وكانت النتائج مؤسفة جدا: تدهور مفاجئ للرؤية، ثم صار بعد ذلك أعمى تماما*.
عند الثامنة والثلاثين، بدت عليه علامات اكتئاب وأفكار انتحارية. هذه الأعراض حدثت في فترات متقطعة، ثم بعد خمس سنوات وصف حالته بـ "اكتئاب دائم". أثر هذا المزاج الاكتئابي على حياته، وفي عدة مناسبات عبَّر عن أفكار غريبة (توهُّمات delusions). في التاسعة والثلاثين وصف حالته بالجنون، وقال أكثر من مرة إنه يخشى على نفسه الجنون. بعدها بعام كان يرى الكثير جدا من الزهور الخيالية التي تلتفُّ حول بعضها، تنمو باستمرار وتتغير أشكالها وألوانها بغزارة غريبة! ساءت حالته النفسية، وعند الرابعة والأربعين حدث له انهيار عقلي مع توهُّمات وعجز عن الاعتناء بالنفس. وفي هذا الوقت أُدخل إلى المصحة النفسية*.
في الخامسة والأربعين أصيب بالخَرَف dementia بعد هبوطٍ مستمر في القدرات المعرفية.  ثم شُخِّص في العام نفسه بالشلل العام أو ما يدعى شلل المجنون العام general paresis of the insane. لاحقا في السادسة والأربعين نُقل إلى مصحة نفسية أخرى، حيث شُخِّص بنفس التشخيص. بعدها بعام تطورت حالته إلى: مشاكل شديدة في الذاكرة، عدم اكتراث apathy، هيجان، اضطرابات سلوكية، فقد التبصُّر insight، عدائية، تغيرات في الشخصية، عجز عن التحكم في النفس، نكوص regression (أفكار واهتمامات طفلية) وتوهُّمات متزايدة وفقدان لقدرة التعرف إلى الوجوه prospagnosia. اضطرابه العقلي كان متوافقا مع أعراض الخرَف ( وفقا لتوصيف .(*DSM-4
في السنين الأخيرة من حياته عانى من أعراض عصبية حادة neurological: اضطراب في الكلام ربما تطور إلى عدم قدرة على التكلم بطلاقة anarthria وشلل الوجه facial paresis . من المحتمل جدا أن سبب هذه الأعراض هو نوباتُ جلطة دماغية stroke. بعدها صار مُقعدا بسبب  الشلل النصفي*.
عند السادسة والخمسين مات من الالتهاب الرئوي*.
هذه طبعا ليست حالة مُتخيلة، بل حقيقية، وهي جزء مهم جدا من التاريخ الطبي للفيلسوف والشاعر الألماني نيتشه. هذه البيانات الدقيقة حول حقيقة ما عانى منه نيتشه لم تكن متوفرة في نهايات القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين كان –وما زال- يُظن أن نيتشه كان مصابا بالزُّهري العصبي* neuorosyphilis (عدوى الزُّهري التي تشمل الجهاز العصبي)، بغض النظر عن التشخيص العامي الأشهر "الجنون". لكن في أبريل 2008، نشر ثلاثة باحثين (د هيميلسويت من قسم الأعصاب، ك هيميلسويت، د ديفريسي من قسم الفنون والفلسفة، جامعة جينت/أو خينت الهولندية) ورقة علمية تقدم فرضية جديدة لمرض نيتشه (هي التي نقلتُ منها الحالة في الأعلى). ما يميز هذه الدراسة هو أنها تستند إلى مرجعين حاسمين: أولا، مراسلات نيتشه ووصف أقاربه وسجلاته الطبية. ثانيا: الدراسات الطبية الحديثة التي بلا شك تختلف في كثير من آلياتها عن المعلومات الطبية المتوفرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (حيث كان شائعا أن الزُّهري هو سبب الخرَف دون الحادّ لرجل في متوسط العمر*).

صورة MRI لحالة كاداسيل
ولأتجنب المزيد من الأعراض والمصطلحات الطبية، سأختصر فرضية كاداسيل التي أنتجتها هذه الدراسة. كاداسيل CADASIL هو اختصار للاسم الطويل لمرض وراثي سائد [2] يرى الباحثون أنه قد يكون المرض الذي عانى منه نيتشه. اقترح هذا التشخيص لأول مرة دايفوس ب. من قسم الفسيولوجيا العصبية (المعهد الفرنسي للصحة والبحث الطبي، باريس) [3]. ليمكن قبول تشخيص مريض ما بهذا المرض (كاداسيل) يجب أن يتصف بخمس صفات ضرورية: بداية الأعراض قبل سن الخمسين، وجود عَرَضين على الأقل من أعراض أربعة رئيسة (هي: الصداع النصفي، نوبات مشابهة للجلطة الدماغية، اضطرابات شديدة في المزاج، خَرَف)، ألا يكون مهددا بأي أخطار متعلقة بأمراض الأوعية الدموية، توفر الدليل على انتقال صفات وراثية سائدة، وجود دلائل على مادة بيضاء white matter غير طبيعية في صورة الرنين المغناطيسي MRI. يؤكد الباحثون بعد هذا أن تاريخ فريدريك نيتشه المرضي يتوافق مع أربع من هذه الصفات الخمس (لا توجد صور MRI للمادة البيضاء لدماغ نيتشه)، وبهذا قد يكون نيتشه هو أول حالة كاداسيل موثقة تاريخيا*.

* منقول بتصرف في الترجمة عن مقالة بعنوان "مرض فريدريك نيتشه العصبي"، على هذا الرابط             http://www.researchgate.net/publication/5279485
[1] العلم المرح ص 26، فريدريك نيتشه، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، طبعة أفريقيا الشرق.
[2] Cerebral Autosomal Dominant Arteriopathy with Subcortical Infarcts and Leukoencephalopathy، يجب التنويه أن العديد من أعضاء عائلة نيتشه عانوا من مشاكل عقلية ومعرفية، خصوصا والده الذي عانى من صداع نصفي، نوبات صرع، هبوط في القدرات المعرفية، ثم مات بسبب الجلطة الدماغية في السادسة والثلاثين. أخوه جوسيف أيضا مات في عامه الثاني بعد توعُّك عام general malaise ونوبات صرع. خاله ثيوبالد مات منتحرا*.
[3] http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/10210836

21‏/12‏/2015

يوفوريا: السعادة الضرورية


لـ laura fedora
تسمع الجميع يقولون: هذا ليس وقت النشوة
لكنك منتشٍ حقا
واحدا من بينهم قال: آه، كم أنت قلق!
إنه الوحيد الذي اكتشف الحقيقة 


لمَ نشعر بالسعادة أحيانا عندما نكون قلقين؟ 
دعونا نتأمل هذا السيناريو: إنها ليلة اختبار صعب، أحدكم يجلس على الأرض، وحوله كومة من الكتب والملاحظات، يتوقف فجأة عن القراءة ويشعر بالنشاط، بعد قليل سيدرك أن جسده غير مستقر، ينهض، يمشي في الغرفة... ثم تبدأ الأفكار الجميلة بالهطول على رأسه، يخطط للسفر إلى مدينة بعيدة أو إلى خلق حفلة باهرة، طبعا هذا ليس وقت التفكير خارج المقرر الدراسي، لكنه لا يقاوم الدم الدافئ السعيد الذي يحرِّكه. 

أستطيع أن أزعم أننا نعيش مثل هذه اللحظات في أوقات يمكن أن نصفها بالـ "غير مناسبة"، فليس من الحكمة أن نترك التحضير الجيد ونستهلك وقتا طويلا في رسم المشروعات أو مشاهدة الأفلام. لكن ما السبب؟ هل نحن من نختار الترويح عن أنفسنا؟ أم ثمة آلية تعمل في الخفاء؟ 
سأبدأ تحليل هذا السيناريو بحرية، غير مستند إلى مراجع علمية، وقد أضيف تدوينة أخرى إذا حصلت على معلومات جديدة. 

ظاهريا، يبدو هذا الطالب السعيد متناقضا وغير جاد، فالطبيعيُّ هو أن يكون قلقا (القلق استجابة طبيعية لمثل هذه الأحوال) ومركِّزا كل اهتمامه على موضوع الدراسة، لا أن يكون سعيدا جدا ومحلِّقا مع الخيالات. لكن هذا يبقى ظاهريا فحسب. في الأعماق قصة أخرى تديرها الهرمونات المسافرة بين نهايات الأعصاب. 

الجسم أثناء حالة القلق anxiety يكون تحت وطأة الجهاز العصبي السمبتاوي sympathetic nervous system الذي يدخلنا في حالة المواجهة أو الهروب fight -or- flight response، فنحن في موقف صعب، ونحتاج إلى البقاء يقظين ومتنبِّهين، وهذا ما سنفعله عندما يغمر أوعيتنا الدموية هرمون الأدرينالين (تطلقه الغدد فوق الكلوية). 
هذا الهرمون يوقظنا حقا، فهو يزيد نبضات القلب ومعدل التنفس، يوسع بؤبؤ العين، يشد العضلات، يقلل رغبة الأكل والنوم والجنس... إلخ. ومن الملاحَظ أننا عندما نكون قلقين (مغمورين بالأدرينالين!) نشعر بالانتباه الشديد، الحاجة إلى التبول، الدوار، الصداع، آلام العضلات، جفاف الفم.. وأيضا قد نعاني من إسهالٍ مفاجئ (عند إعلان النتائج). 
كل هذه التغيرات التي تحدث في أجسامنا لا تحدث عبثا، بل لها مغزى طبيعي وتطوري، فلولا هذه الثورة الهرمونية لما استطاع المقاتلون الانتصار، ولما اجتاز الطلاب الاختبار (أكره السجع!). 

دعونا الآن ننتقل بسرعة إلى الحالة المناقِضة. لماذا نشعر بالعكس تماما في وقت ما قبل الاختبار؟ 
يسهل أن نتبأ بتغيُّر هرموني يجعل القلق يصير سعادة. فبعد الأدرينالين يحلِّق الدوبامين داخل الأوعية الدموية نفسها، وكذا يفعل الإندورفين. لكنني أفضل أن نخرج من هذا التحليل الصيدلاني الآن.
إن ما نشعر به من السعادة في هذا الوقت -بغض النظر عن آليته العصبية- ضروري لتحفيزنا كما أن القلق ضروري لشدِّ انتباهنا وتركيزه. قد لا نستطيع مواصلة القراءة إن لم نعد أنفسنا بمشاهدة فيلم قبل النوم أو تناول العشاء خارج البيت. نتبادل أنا وأصدقائي الكثير من الخطط الرائعة أيام الاختبارات، لكننا عندما نتناول غداءنا بعد اختبار سيء كالعادة، نشعر بالكسل والحاجة إلى النوم وننسى ما كنا نفكر فيه. يبدو لي هذا كل مرة مخيِّبا وأشعر أن أعصابي حقيرة عندما تتعامل معي بهذه الطريقة.
هل نستطيع أن نطلق عليها "متلازمة ليلة الاختبار"؟ 

جهازنا العصبي يعمل بحكمة، فعندما يكون القلق مضرًّا ويستهلك الكثير من الوقود (السكَّر)، تعمل السعادة الشديدة euphoria على تحسين الأداء العصبي وتقليل الاستهلاك الطاقيّ. 
أيضا، لهذه السعادة آثار محمودة أخرى، فهي تجدد نشاطنا الجسدي، تمنحنا الثقة والإقبال، تحتال علينا لننهي واجباتنا! إنها أشبه بالأب الذي يعد أطفاله بجوائز النجاح (حتى لو لم يف بوعده) أو الأم التي تدللنا بالشاي والقهوة والحلوى. 
لكنها قد تسحبنا من الواقع إلى اللاواقع، فننسى ضرورة الدراسة ونتوجه بكل اهتمام إلى التخطيط والمشروعات. نكتشف هذا إذا بدا لنا السؤال الأول من خارج المنهج! 

ما رأيكم؟ 

19‏/12‏/2015

جنازةُ شتاء!




تمرُّ الطائرةُ الأولى، تتبعها جوقةٌ وقحةٌ من الطائرات التي تجلبُ البؤس أيًّا كانت وجهتها.
بالأمس مرّ رجلٌ مستلقٍ في صندوقٍ خشبيٍّ فقال البعضُ "لا رحمهُ الله" وفي نفس الوقتِ كان بجانبِ النّعشِ طفلةٌ تبكي.. لا شكّ أنها ابنته، وأخرى كانت تبحلقُ.. لا شكّ أنها زوجته، ربّما كانت تتساءل "لماذا عاد؟ والحربُ لم تنتهِ بعد؟".. وعلى بُعدِ رَجُلَيْنْ كان هناك شيخٌ أنيقٌ يضعُ على رأسه قبّعةً شتويّةً ويرتدي سترةً طويلةً من الجوخ الأسود، يرفعُ عينيه نحو الجموع ومن ثَمَّ يثبّتها عند نهاية الطّريق.. لا بدّ أنه والده.. ربما كان يقول "سيأتي ابني من هنا مرة أخرى حتّى ندخّن آخر سيجارة ونضحك على نكتةٍ بذيئة"..
وعلى طرف الصفّ الأول كانت تقفُ امرأةٌ جميلةٌ تضعُ على رأسها وشاحًا يظهرُ منه شعرٌ مموّجٌ بين الأشقر والأبيض.. تتأبّطُ حقيبةً صغيرةً وتنظرُ نحو الأسفل، لا شكّ أنها أمه.. ربما تقول "متى ينتهي المشي حتى نعود إلى البيت يا ولدي وأحضّر لك الملوخية؟" 
وقريبًا جدًّا يمرّ الرجل، يغرقُ صدرهُ بالدم.. على وجهه إشاراتٌ غريبةٌ ويدهُ مربوطة تجاه قلبه!
يصيرُ خفيفًا.. ومن دون أن يودّع أحدًا..من دون أن يلقي كلمةً أو يخبرنا بالحقيقة.. يعلو تاركًا هذا العالم السفليّ القذر الذي يطالبُ بعدم رحمته وينصّبُ نفسه إلهًا !



على الهامش : ما أخفّ الموت ! 

16‏/12‏/2015

رسالة إلى رجل عادي !




لقد ألهمتني رنّة الملعقة في كوب الشاي بأن أكتب لك هذه الرسالة. في الحقيقة لقد أعطتني الحجّة الكافية لأفتح معك حديثًا ولأقول لك بعد رشفتين ساخنتين أنني اشتقتُ إليك وأنّ هذا الرعب يتمكّنُ منّي وأنني لا أستطيع ردّه.
منذ دقيقة مرّت طائرةٌ فوق رأسي ومن دون أن أشعر غطّيت وجهي بيديّ ورحتُ أبكي كالأطفال الذين اكتشفوا أن ليس لديهم الوقت الكافي ليأكلوا الشوكولا.. رحتُ ألهثُ وراء صورك الكثيرة في ذاكرتي وأتشبّثٌ بها ورأيت الله في تلك اللحظة وهو يبتسمُ في وجهي دون أن يعاتبني على عدم اللجوء إليه! وبعد أن تعرقت ملامحي بما فيه الكفاية أزحت يديّ وأخذتُ نفسا عميقًا وكنتُ أحسبُ أنني صالحةٌ بما يكفي لأموت الآن وألتقي معك في الجنّة.. لكنني وقبل أن أفتح عينيّ سمعتُ جارنا يقول "يا ريم الحيوانه تعالي لهون!".. فعرفتُ أنني لم أبرح مكاني إذ ليس من العدل أن يلحقني جارنا حتى السماء وأن يموت في نفس اللحظة التي أموتُ فيها.. أليس كذلك؟!
أعرفُ أنك لن تجيب على سؤالي ولو قدِّر لك أن تتكلم لقلت لي "كفّي عن طرح أسئلتك التوكيدية الغبية" وسوف أضربك على رأسك قائلة "لن أفعل" وسوف نتجاكر حتّى يضيء الليل هذه الدرب الموحشة.. هل تخيّلت مرة ما معنى أن نكون نجمين وأن نكذّب العرافة المتخلفة التي قالت أن النجوم لا تلتقي في المدار؟ وأن الكواكب تدور ولكنها لا تتصادم؟ 
ما كان صوت ارتطامك بقلبي إذا؟ ماذا يجبُ أن أسمّي هذا الحدث الذي قلب حياتي وغير النظام الكونيّ الذي دفع أبي حياته ليزرعه في داخلي؟!
الآن ..
بعد أن هدأ الصوت وحلّ السكون.. صرتُ فارغةً تماما.. وحين أمشّط شعري لا تسقط من الفرشاة أية غيمة ولا يهرهر على يدي غبار سحري ملون.. لقد أخذتَ معك غواياتي.. طويتها كما تطوي أي ورقة عتيقة لا تحتاج إليها ومضيت!
إنني لا أتساءل إلى أين .. ولكنني كنتُ أطمع أن تقول لي "لماذا؟"! 


على الهامش : رشفة الشاي الأخيرة مٌرة جدّا مثل عينيك! 
وكم أحب _رغم كل شيء_ أن أتذوقها    

13‏/12‏/2015

خلدون (قصة قصيرة)



المصدر: berlin-artparasites
قطع عناقهما مبتسما وهو يقول: "مبارك عليكما، أرى أنكما خالدين بلا شك". وأردف: "آسف على الإزعاج". طأطأ رأسه مبتعدا ولم يتلفَّت. توقف، وأخذ يدوِّن في جهازه اللوحي، وكما توقع، شمَّ رائحة إنسان بدائي متعرق الجبين، قال الرجل: "نحن لم نقصد الإساءة، ونرجوا ألا تؤذينا"، وكان يبحث بعينيه عن شرطي. فقال: "لا تخافا مني". لكن الرجل لم يطمئن، ولحقت به الأنثى قائلة: "نحن سائحان، ما شأنك معنا؟". جال بعينيه البارزتين في وجهها الأبيض المحمر الذي يعكره بعض النمش، ثم قال بخشوع الكهنة: "لم أؤذكما إذ نجيتكما من الموت"، حينها التصقت الأنثى بالرجل وأحاطته بيديها، واصلَ: "أنتما لن تموتا أبدا"، وقاطعه أربعيني سمين مرَّ بالقرب: "أهلا يا سيد خلدون"، فهز رأسه.

ابتسم، رفع رجليه عن الأرض، نظرا بخوف إلى حشرة تائهة تعرج، رفع رأسه إليهما حزينا: "لم تتضرر، إصابة في الساق اليمنى، نجت من القتل الخطأ الذي ينهي حياة الآلاف كل يوم". سخرا منه وهمَّا بمغادرة المكان لولا نداؤه الصارخ. توقفا مذعورين، فقد ظنا أنه يوجه إلى جمجمتيهما مسدسا أو يضع إبهامه على رأس قنبلة. لكنه كان يمد يمينه قائلا بلطف: "هذا كل شيء".
تناول الرجل الجهاز اللوحي بحذر، قرأ: " لا بد أن يعلما أنهما لن يموتا..."، نظر إليه مندهشا، ثم أرخى ذراعه على كتفي الأنثى، وكانت الأنثى قد حركت يديها على الشاشة وعادت إلى أول سطر.

"إلى الأجيال القادمة، بعد قرابة عشرة آلاف سنة من الآن، نحن الآن في العام الهستيري 2016، وقد مضت أربعة قرون كاملة على بناء الجامع الأزرق. اسمي خلدون، والبعض ينعتني بخلدون العربي. أعيش في هذا الممر البارد بين المسجد والمتحف. قد لا يكون هذا الممر الجميل موجودا في زمنكم، قد لا تكون اسطنبول نفسها موجودة إلا في كتبكم، لكنني أؤكد لكم أنني لست بصدد كتابة أسطورة. أعيش هنا منذ عشر سنوات. لا أزيد على تتبع الناس والتفكير فيهم. إنني مقتنع بأن الحياة أقصر من أن نعيشها موزَّعين بين الأعمال الكثيرة. لذا فأنا أنام وآكل وأشرب النبيذ الأحمر الرقيق وأكتب. هذا يكفي. إنها مقدمتي المفضَّلة.

رأيتها تلتقط الصور، كانت أنثى يصعب تقدير عمرها، تعقص شعرها الأسود إلى الوراء ويتدلى من رقبتها شال سكَّري. اقتربتُ منها. قلت لها: "لا تظنيني مجنونا، إنني أريد أن أجعلك خالدة"، فقالت وكانت روحها اللغوية حلوة: "من أنت؟ أنا أحب المجانين". قلت: "أنا رجل شرقي". أغلقت عدسة الكاميرا متوجِّهة إليَّ باهتمام، واستطردت قليلا: "أهلا بك، أنا أيضا شرقية جئت من إيران، أنا حقا أريد أن أنال الخلود بأية طريقة". فرِحت عندما سمعتها تقول هذا ضاحكة وسألتها عن الطريقة التي تريد أن تخلد بها، قلت لها: "تخيلي أنك أميرة عابثة من أميرات ألف ليلة، ولديك خادم نحَّات بارع، وسألك أن تختاري شكلا تسافرين فيه عبر العصور، هل ستضحكين؟ أم ستبكين؟ هل سترتدين أحب فساتينك؟ أم ستتعرين؟ اختيارك هو الذي سيمليه الخادم البارع بلغة الرُّخام على كتب التاريخ وقلوب الناس القادمين". تأمَّلت وجهي برهبة، وقالت بلا تردد: "اقترب يا رجل الشرق المقدَّس.. سأخلد معك". وشبكت يسارها في يميني، ومشينا حتى اقتربنا من بوابة الجامع، اتجهنا يمينا، صامتين، ثم توقفنا عند جذع ضخم. سألتها: "هنا؟ أمام شواهد القبور؟" فلم تتكلم، وطوَّقتني بذراعيها الساخنتين، فتلذذت وكاد الجهاز اللوحي يتفتت بين أصابعي، وقلت لها متأوِّهًا: "يا حبيبتي.. يا شمسي.."، وقالت لي: "يا حبيبي.. يا لذيذي.. رائحتك موت.. أنا أشتهي الموت على شعر صدرك.. على رئتيك". وبقيت متمسكة بي وأنا في حالة بين الوعي وغياب الوعي، ساعة تبكي وساعة تغني بلغة لا أفهمها، ووجهها كان محمرًّا كأنه كدمة، وبينما هي تتسلقني وتشد ذراعيها حول رأسي، وجدتني أختنق وأعض شالها بأسناني، وهي تلهث وتلحس الجذع الجامد ورائي... ولا أدري كيف ارتخت وذبلت ثم تهاوت منتعشة وحرَّك النسيم فستانها المزهَّر عن فخذين كأنهما غيوم الصباح.
لمَّا هدأت أنفاسنا قالت بسعادة وكانت شفتاها تنزفان: "هكذا أريد أن أخلد، يرتعش جسدانا في أجساد ذريتنا بلا انتهاء"، والتقطت عشرات الصور لوجهي قائلة: "هذا وجهك الذي أحب أيها الشرقي، ملامح ملطخة بالخوف لأنها تدرك لذة الخلود وتخشى الضياع. لا تخف يا حبيبي، سأربِّيه على حب النساء". وانتبهتُ فإذ بتراب القبور يملأ أعصابي، وصوت الأذان يطردني إلى الجحيم.
الآن، ربما ينعم ولدنا في عامه التاسع، أو ربما تقاسي ابنتنا في مجتمع لا يحترم المرأة. منذ ذلك اليوم لم أدخل المسجد، ولم أجرؤ على الاقتراب منه، كأنما لُعنت ونزعت مني الروح. وكلما هممت بالعودة إلى بلادي، رسخت قدماي في عشب هذه الأرض القديمة. فقررت ألا أفارق هذا المكان، أستقبل سائحي الصيف وأحفظ رائحة عرقهم، وأستقبل سائحي الشتاء وأعرف ماذا يريدون. أنام أينما أحببت، وإذا بليت ملابسي أرسلت ذلك الرجل السمين ليشتري لي من البازار ما يشاء، فيوما يجلب لي قميصا مغربيا أبيض بقلنسوة، ويوما يختار جينزا وتيشيرتا دافئين سرعان ما أستبدلهما.
أيها البشر المتكبرون الموجودون بعد عشرة آلاف أو مائة ألف سنة، ثم عاهدت نفسي على تدوين كل مشهد حب تراه عيناي؛ لأنني آمنت بأن جسدي سيهلك وأن ذريتي هالكة لا محالة. فأنا إذن خالد في قصص العناق والدفء، أصوِّر لكم الأزواج المتعانقة المتأوِّهة همسًا، وأمنحهم ليلي ونهاري. وإنني منذ عرفت هذا المكان لم أعدم يوما مثيرا، فبشر هذا القرن لا يكلُّون من القبل والأنفاس، يتصافحون بشفاههم أكثر مما يتصافحون بأيديهم، يتعانقون خارجين من المسجد، ويتعانقون عائدين من المتحف.
أرى الآن رجلا طويلا أشقر الشعر صغير العينين يضمُّ أنثى، أظنهما يتحرجان مما يفعلان، إنهما ليسا صادقين، أكاد أجزم. ييمم هو شطر المتحف وتيمم هي شطر المسجد، آهٍ لو يعلمان أي حب ولد في هذا المكان! إنني لم أعد أستثار لرؤية هذه المشاهد، شأني كسائر الناس في بداية هذا القرن، نشتري بالأموال الكثيرة ما يشعل النار في جليدنا، ونطعن أعصابنا بالمسامير لتزورنا رعشة الجنس ثم تغادر بسرعة. أراهما ينشدَّان بقلق حول بعضهما، أسنانهما تتحرك كأحجار الرحى، يوشوشها بوعود الوفاء والالتزام، وتستجيب له وتحلم. أراهما حائرين لا يعرفان كيف يصلان إليكم. أراهما مسكينين يتنفسان الجراثيم ويكشطان الأرض بنعالهما الأنيقة. أراهما يتدفق الماء قريبا منهما ثم يخبو، فهو يشبه الدم الذي يملأ جسديهما فيحمرَّان ثم ينسحب فيبدوان شاحبين كشبحين. لا بد أن يعلما أنهما لن يموتا...".

رفعا رأسيهما، رأى فمين مضطربين ينفتحان ثم ينغلقان، ناوله الرجل الجهاز بصمتٍ متوتِّر، ودنت منه الأنثى ولعنته؛ لأنها ظنت أنه رجل من الجحيم.


09‏/12‏/2015

عوروبَّا (قصة قصيرة)


حقوق النشر: zgr_pro
 لم يكن بُعدا الزمان والمكان حاضرين في ذهنه عندما أرخى قبضته عن ذراع مقعده متنازلا عنه لشيخٍ ينحني بالقرب منه، ولأكون صادقا فحتى اسمه لم يكن حاضرا. كل ما يمكنكم التنبؤ به لو كنتم تنظرون إليه هو أنه سيكون آخر من يصرخ على السائق الذي يتوقف كل عشرة أمتار لراكب جديد برغم امتلاء الباص.
وقف خلف جسد فتاة، وثبت أنفه في شعرها مستثارا برائحة الشامبو الممتزجة بزيت فروة الرأس وولوَل على نساء بلده كما يفعل العرب دائما عندما يكونون في الخارج، إلا أنه لم يقل لها كما تتخيلون "كيف الحال؟" بلغة تركية سليمة.
وبينما هو ينتصب متوجِّسًا، توقف الباص، فنزلت يدان ودخلت يدٌ واحدة. فسَّر هو الأمر بهذه الطريقة: "يدٌ ناعمة تقترب متمسِّكة بالعمود الحديدي في الأعلى.. لا بل هي يد أنثوية تتسلق نحوي". لو رأيتموه وهو يمسِّح صدأ العمود براحة يده ليلمس يدها، أو لو نفذتم من جمجمته لتروا كم تتحرَّق أعصابه لركوب كل المشاة في شوارع أنطاكيا هذا الباص بالتحديد، لعرفتم أنه في تلك اللحظة فقط اكتسب زمانا وصار له مكان بين الرُّكاب وانطباعات.
في العشرين عاما ونيف التي عاشها في بلاده لم يستطع يوما أن ينظر إلى عيني امرأة أجنبية إلا صدفة، هذا الفعل الرومانسي الذي سمع عنه كثيرا لم يكن إلا أضغاث أحلام. ولكنه لما أفلتَ من أول نظرة، علقت بعينيه الحاجة إلى نظرات أخرى، كأنما كانت عيناه مشدودتين إلى عينيها بخيوط لزجة.
صاح في أبعد دهليز من عالمه الباطن: "الحمرة والزُرقة والتورُّد، هذا هو النعيم، يحيط بكل هذا شعرٌ بلون عنب الشاردونية". تزوَّد من النظرات وعاد يصيح: "إنها لا ترفض نظراتي.. لا تهددني بإبلاغ الشرطة، هل تراه طال بي الطريق حتى نمت؟". ثم نأى بوجهه لئلا يضايقها. وكلما توقف الباص ونزلت يدان، تضرَّع إليها في السر ألا تحرمه من اليد الوحيدة التي لمسها عامدا وتلذذ بإثمها.
كان يرهف سمعه ليحصي أنفاسها. بين شفتها العليا وأرنبة أنفها توسعت بعض المسامات وأفرزت حبَّات ندًى فما كان أشهاها إلى جسده وروحه، والشال العسلي الذي يطوف مراتٍ حول جيدها ما كان أحوجه إلى أن يلفَّه بقسوة حول رأسه ويغطي به وجهه ليشنق ألَمه. وبينما هو في غمرة اشتهائه، لمسته تلك الفتاة وناولته ليرتين ليسلمها إلى السائق.
أراد أن يقتحم هدوءها، ولكنه كطفلٍ هم بأن يمد يده إلى محفظة أبيه شعر بغصَّةٍ في الحلق وتراجع، فار في دمه بعدها جحيم من الحقد فأحرق جنات الهُيام التي نبتت بينه وبينها. بقي غيرَ مستقر، وشعر بإهمالها إذ لم تلبِّ نداء قلبه وتلصق صدرها بصدره. "أليس هذا حقي؟ أليست تشتهي أن تضمني؟ سأريها.. الجبانة" قال لنفسه. وما هو أن مدت يدها -التي كانت في حوزته- إلى السائق حتى أشار إليها بوجهه مع بضع كلمات إنجليزية مرتبكة فهمت منها أنه دفع ثمن التذكرة عنها.
التفت بعض القاعدين العابسين، وتعجَّبت هي قائلة: "شكرا"، ثم تأملت سُمرته ففُتنت بها. الأتراك لن يدفعوا عنها مهما أعجبوا بها، ولا الأوربيون الآخرون يبدؤون حياتهم معها بثمن تذكرة. أعادت النظر إليه مبتسمة، فبادلها الابتسام... ثم توقَّف الباص.
نزل معها مزهوًّا، متضخما، ليس لديه أدنى ريب في نجاح خططه، ولما سألته: "هل تسكن هنا؟" كانت هي الدخيلة وهو المسؤول والمنتظَر، فأجابها: "لا". لكنه بسرعةٍ رقَّ وانسابت الكلمات بلطف من فمه وهو يشرح لها أنه لا يعرف لم نزل، ثم أنهى كلامه باقتراح التمشِّي معه قليلا.
ترددت ثم غمرتها موجة ضحك متقطع وأنفاس مضطربة: "واو! هذا لطيف، لكنني متعجِّلة.. لكنن.. أوه، دعنا نتمشَّ قليلا". فرح هو لكنه فضَّل أن يبدو معتدلا، كطالب جبان بُشِّر بنجاحه المؤكد ففضَّل الابتسام وعدم المبالاة، أو كخليفة أموي "أتته الخلافةُ منقادة" فبكى.
ولما سألته عن بلده، تحركت عيناه، وطأطأ رأسه مجيبا: "بلدي الآن هذا الشارع"، وكان يتجنب أكثر ما يتجنب أن يوحي إليها بأنه يستطيع الكلام بالعربية؛ لأن العربية في رأيه ليست فيها مرادفات لكلمات مثل "واو! هذا لطيف، لكنني متعجِّلة.. لكنن.. أوه، دعنا نتمشَّ قليلا". 
بقي مأخوذا بفكرة وجوده جنبا إلى جنب مع أنثى، ارتعش جسده جذلا وخوفا، وأحس بالعظمة تنفخ صدره، ولم يدرِ لم انسلخ من جغرافيته وفضَّل الشارع المتثلج في ليلة من ليالي كانون على الصحراء الدافئة الآمنة والثمرات. فتَّش عن مقهى، لكن الوقت كان متأخرا وأبواب المقاهي الموصدة لا ترحم جسده المرتجف، ثم اقترح عليها أن يخرجا من الشارع الرئيسي إلى الشوارع الأضيق والأقل نورا. ارتعشا متماسكين ملتصقين بالجدران الخشنة الممتدة رجوعا
كانا يحدثها عن رحلته إلى "لواء إسكندرون"، ويصف لها كيف كان يطلب في كل مقهى مشروبا ليستمتع بـ "الأغاني التركية والأبيض المتوسط، ثم أمطرت، فدخنت بكثرة تحت أوراق النخل وفوق العشب النظيف، افترشتُ العشب وفكرت بصمت وأنا أدخن، لا أخفيك، إن الكثير من الكتب التي قرأتها تؤثر في تفكيري العملي... ذهبت بعدها إلى عرصوص...". سألته باندهاش: "عرصووووص؟!"، فأجاب: "نعم، كنت عائدا إلى حيث أسكن، لكن المطر ألجأني إلى الباصات المتجهة يمينا فركبت".
لم تستطع تصديقه أو تكذيبه، لكنها كانت مفتونة به، وهو بدوره لم يجد بُدا من الثرثرة إن صدقا وإن كذبا ليبقى ممسكا بيدها. لقد كان مثل أي إنسان يتكلم، وفي منتصف الكلام أدركته نشوة التفاصيل.. وما كان أرخص الوقت وأهون التعب في حضرة "الحمرة والزرقة والتورُّد".
"يمينا.. يمينا، سألت الراكب المجاوِر عن الوجهة فقال بملل إنها عرصوص، توقعتها طرسوس السورية، لكنني توقعت فحسب، ولم أهتم إن كانت عرصوص أو طرسوس ما دمت بعيدا عن المطر.. هل ترين؟ إنني لم أزل بملابسي التي سبحت ودخنت وتبللت فيها، إن رائحتي الآن ماء، نعم.. فلتضحكي، إنك أول أنثى في العالم تمشي مع رجل لم يغتسل جيدا، هل تدرين إلى أين انتهى بي اليمين؟". قالت: "أنت غريب! إلى أين؟"، فاستوقفها قائلا: "إلى منزل عجوز محدودبة الظهر لم تعرف الضحك منذ قرابة ألف سنة.. كان بيتها مليئا بعناقيد العنب الحقيقية".
توقفا تحت عمود إضاءة، حيث الشارع خاوٍ إلا من بعض المارة اللامبالين، أدرك بالفطرة أن نظرتها تلك كانت تعني الاستحسان، وأن أنفاسها القريبة كانت تهمهم بدعوته إليها. استعاد ملايين المشاهد التي ضم فيها رجل أنثى إلى صدره بدون أن تحاصره الشرطة، وأحاطها بذراعيه أولا كما يسلم الرجل على أخته في يوم العيد، ثم طوَّقها كما ينبغي، أو كما تصوَّر أنه ينبغي.
أحست بتلذذه بالعناق مع أنها لم تقصد أن تمارس معه نوعا من جنس الملامسة في الشارع، كانت تعبر عن صداقتها، ولكنه اعتقد أنها تقبل صِداقها ليرتين في ليلة شتاء بلا شهود. حاولت أن تنفلت منه، لكنه التصق بها وهذى: "كلما ضعت وجدت عناقيد عنب.. كلما ضعت وجدت عناقيد عنب".
أرخى ضمَّته عندما مر بالقرب منهما رجل، ثم عاود تطويقها طاعنا رقبتها "الدبقة" بأنفه، ومتمسكا بفكرة الثرثرة: "هذا الكتاب الذي كنت تقرئينه، اسمه "رقيقٌ هو الليل"؟ قرأته، نهايته لم تقنعني، لكن الراوي أتقن الدخول إلى موضوعه.. الشخصيات مثيرة بلا استثناء، أظن الكاتب بالغ قليلا في وصف البطل وأظهره إلى المشهد متأخرا.."، وبدون أن يسمح لها بمناقشته، راح يشد يمينه حول خصلات شعرها ويستطرد: "أنا أحبك.. أنا أعبدك.. أنا أريدك"، لكنها دفعته بقوة، وقالت له وهي تمسح ريقه من وجهها: "أرجوك، ما هذا؟".
اصفرَّ وجهه، وكان يلهث، حاول أن يهدئها، شعر بالنقص، أوحت إليه بأنه منفيٌّ إلى خارجها، توقع أنه لم يعجبها، لكنها قطعت الشك بيقين اعترافها: "اسمع يا عزيزي، لم أقصد أن.. أعني لقد انفعلتَ بشكل مخيف، هل أنت بحاجة إلى النوم؟ أعني فلتعذرني، غدا عندي عمل، أراك لاحقا".
هزَّ رأسه، بقي يرمقها وجسده يبرد كلما ابتعدت، ثم أدخل يده في جيبه يتحسس الليرات المعدنية مخاطبا نفسه: "لقد كان من حقي".



04‏/12‏/2015

دعوة لعدم الفهم




إنها لذة العصيان يا رفاق، هل تصدقون؟
شعور بالاسترخاء، يتبعه تحليق منتشٍ، ثم هبوط ملائكي ناعم.
تركيز معمَّق في المرئي والمسموع.. وحتى الملموس.
لا تحدثوني عما أفهم،
إن دمي يحمل كل ساعة جبلا من السكر يحترق كله داخل جمجمتي
وإنني أفهم كيف تعمل أداة التكييف، ولِمَ أغمض عيني عندما أنام
فلا تحدثوني عما أفهم.
بل حدثوني عما لا أفهم،
لكي أكون جديدا.. طفلا.. فضوليا.. وعنيدا!
اتركوا لي نافذة أتشمم منها ريح الاغتراب
أنا متوطِّن في كل ذرة غبار، فرُحماكم.. رُحماكم.

دعوني أدخل قاعة أوبرا
اتركوني وحيدا واسهروا في أي مكان
دعوني أكن دخيلا، ومنفعلا، ومبهما، وحريصا
دعوني أحصِ أنفاس السيدات الشقراوات
وأنحت في الذاكرة أشد الوجوه تشنجا وحماسا
دعوني أفسِّر ما أسمع كما أشتهي
دعوني أوجِّه الكلمات إلى من أحب
دعوني أحتسِ طبقة "السوبرانو" كاملة وأصفق في النهاية لحواسِّي وحدها
ثم افعلوا بحواسكم ما تشاؤون.

أوهٍ، ما أقسى فهم الأشياء
فهو يجعلني قطا كسولا وعابسا
لكن ما أقول لكم؟
إنني هكذا، وأنتم كذلك.
نفهم لئلا نسأل مرة أخرى
ونحفظ لئلا نضيع
وهذا هو دأبنا.

لكنني حينما أستمع الأوبرا
يدغدغ روحي شعور بالتفرُّد، والنشاط
تُبعث أنفي من مرقدها.. تغوص في عمق الرائحة
تنمو أصابعي.. تتحسس دفء مقدسا لا تعرفونه
يقف شعر ذراعيَّ إجلالا للحظة عظيمة
وأفسر كل الكلمات، الحركات، التنهيدات، الانحناءات.. أفسر كل شيء كما أشتهي
أعود إلى الفضول الأول
الذي سيجعلني أتقدمكم بخطوة إلى جنة العصيان.

أنا ذكي وسريع التلقي مثل سلك كهرباء عارٍ
وبإمكاني أن أتعلم الإيطالية في شهر واحد
وبإمكاني أن أشرح لكم بعدها ما يقال بالضبط
لكن، من يقول إن هذه هي اللذة؟
كلا.. كلا...
اللذة شيء آخر
وهي عندي ليست كما عندكم
فأنتم الفهَّامون، وأنتم المفسِّرون
أما أنا.. فيكفيني التلذذ المجرَّد.. انظروا إلي عندما أبكي
هل تذرفون دمعة واحدة؟
هذا لأن جماجمكم مشغولة كمدينة

جبل السُّكر سيذوب في فمي
ما أحلاه ذائبا في فمي.. وفي عينيّ وفي رئتيّ
فلتصوِّت أيها الخصيُّ ولتقل ما تشاء
فإنني لن أردد وراءك كما يفعلون
سأخلقك، وسأخلق كلماتك ومعانيك، وسأخلق فعل الغناء فيك
وسأتلذذ.


01‏/12‏/2015

اعترافات تحت تأثير فارينيللي





الآريا-1
عندما تشمين رائحة الشواء، أطلِّي من نافذتك، يا جارة. 
هذا دخان شهوتي المتصاعد ليلمس أرنبة أنفك الوادعة.
وأنت رائحتك تحيي الرضيع في داخلي.. الذي لا يشعر إلا بملمس ثيابك القطنية. 
وهذه هي كل إحساساته. 
فكم أنت كريمة، وستكونين. 
فلتنشري نظراتك القروية في أطراف النافذة.. 
فلتحلمي بأن آتي كل ليلة. 
وسأشوي لك حقل ذرة كلما حلمتِ. 

الآريا-2 
كنتِ واقفة تحت الشمس، أصابعك الزنبقية كانت تتمسك بذراع أبيك. 
وقبَّعة الخيزران على رأسك كانت تجعلني طائر دوري لا أكثر.
فتاةً كنتِ.. والآن أنت أم. 
وعنقك المتعرِّق في الضحى لم يتركني أكبر. 
فها أنتِ ذي كبيرة..
وها أنا ذا لم أزل طفلا جائعا. 
فما الذي حدث؟ 

الآريا-3
حبوتُ على ركبتيَّ ويدي هاتين.
وحملت لك في فمي كلمتين خطفتا الطمأنينة من وجهك.
"دعيني ألمسك".. قلتُها بشجاعة الصوفيين.. "دعيني ألمسك".
وكنت ساعتها خارجا من زنزانة جدي
الذي كان يتوضأ عندما يلمس جسد جدتي
حرص جدي على تعليمي هذا الحد بين الذكر والأنثى
ولكنني عندما لمستك، أشفقت على جدي.. وبدون أن أشعر توضأت بأنفاسك الغاضبة.

الآريا-4
وما الذي حدث؟
جاء أبوك ووجدني ألوِّن أظافر رجليك بطلاء أمي الأحمر.
صرخ: أيها الكلب.. فهربت. 
صرخ: أيها اللعين.. فلم أسمعه، لأنني كنت حينها أستلقي على سريري
وألعق أصابعي التي لمستك.
ضحك أبوك كما حكيتِ لي.. ووعدكِ بأن يحفظ هذا السر بينكما. 
الآن أن أقول لك، وأنت أمٌّ: إني أقدِّس أصابع رجليك
وإن كل الخصلات السوداء النائمة على أكتاف عذارى العالم لا تعنيني
وإن رائحة كل العطور تجعلني أتحسس وأعطس ما لم تكن من أنفاس بشرتك الزيتية.

الآريا-5
النسيم فكرة لذيذة.. ومن اللذيذ أنه يهبُّ النسيم.
فهو عندما يلامس جفاف وجهي، يخبرني بأنه جاء للتو من جسدك.
كم أن هذا رقيق.. النسيم يحرك ثيابك، فيضطرب قلبي.
تتأوَّهين من النسيم، فيضحك قلبي.
ثم قبل أن أنام هانئا كل ليلة أتحمم بالنسيم العائد منك.

الآريا-6
تتجسدين داخل جمجمتي
مثل حوائط كهف دافئ
أمزق ملابسي، ثم أحكُّ جسدي الميت في صخوره المسننة
تتدفق جروح عذبة.. أنتشي.. أسألك منديلا مسحتِ به وجهك ذات ظهيرة
ففي مناديلك عبق الحليب الدافئ
وأنا لم أزل جائعا. 

الآريا-7
سنتأرجح كفقاعتين، سيقلِّبنا النسيم طويلا، ثم سنلتصق.
وعندما نلتصق سوف تتغشَّى كل شعرة فيَّ موطن شعرة فيك.
وبعدها سيخبو هذا التنميل الثقيل
الذي ينتشر في أعصابي كقطيع من الماعز.
وما الذي سيحدث؟

الآريا-8
ننجب أولادا كأنهم الغيم.
وإن لم ننجب أولادا كأنهم الغيم، فسوف ننجب قصائد.
وسيَّان عندي الولد والقصيدة.
بل إن القصيدة ستحمل ذكرنا وتسافر بها إلى الأبد.
وإذا انفجرنا يوما لأن إصبع النسيم طعنتنا
فستبقى قصائدي وثيابك القطنية خالدة
تنبعث منها سخونة الحياة
وسنبقى دافئين، مسكننا تعاريج الأدمغة، وخفقات القلوب.


يتم التشغيل بواسطة Blogger.