24‏/05‏/2016

أنا وريتّا وتبًّا للبندقية





أنا راقصةٌ مبتدئةٌ وهذه الموسيقى تشرحُ كيف أخطو بارتباك. كيف أتعثّرُ بالفراغ، بوهمِ أن تكون هنا. ملاصقًا للعرق النابت على جبهتي. هذه الموسيقى تلخّصُ استعدادي للصراخ. كيفَ أنني زرّرتُ فستان "الجينز" المنقّط وكيف ارتديتُ الصّندلَ المقصّب، وكيف رفعتُ شعري كي لا تناله العصافير المتوحشة التي تخرجُ من حنجرتي وكي لا ينزل على وجهي ويمنعني من رؤية كل هذا الدمار الذي سأرقص فوقه وأدفنه تحت قدميّ دون صلاةٍ ودون رحمة. هذه الموسيقى تنقرُ على كلّ حقائبي المقفلة التي جهّزتها للسفر مرات عديدة ثم اكتشفتُ ألا أحد كان لاستقبالي وألا أحد كان مستعدًّا ليأخذني "بقلبه وأصابعه وكفّيه". تفتح الموسيقى الحقائب فتنزلُ أحلامي وتتمشى، وتفيضُ بعض الديدان أيضًا وتصطفّ على السرير.

أمدّ يدي ويمسك بها صوته إذ يقول: "بين ريتّا وعيوني بندقيّة". تكسرني هذه الشفافيّة المفرطة فأنحني وأصلّي لإله في العيون العسليّة لأنني أعرفُ ريتّا جيّدا وأعرف شجرة الزيتون التي نالت تحتها أول قبلةٍ، وأحمل صورة ذراعه الممشوقة المغطّاة بضفيرة قمحيّة.  أموجُ مثل بحرنا الصيفي حين يقول: "وأنا أذكرُ ريتَا مثلما يذكرُ عصفورٌ غديره"، ثمّ تصيرُ الأجنحةُ حطامًا. يغضبُ البحر أكثر. يصيرُ زبدهُ واضحًا مثل ازدحام الفانيليا فوق قطعة كعك.
هكذا إذًا؟ تتحركُ عيناي بسرعة. بخفة من يفكرُ بمخرجٍ وهو يرى الموجة الضخمة تقتربُ منه. برجاء العالق في منطقتين من الموت حاملًا بذرة الحياة الوحيدة وهو يتحمل مسؤولية استمرار نسل الأسماك والأشجار. هكذا إذًا؟ كلّ ما بيننا. "مليون عصفور وصورة؟"، كلّ "المواعيد الكثيرة"؟ تذهبُ دخانًا حين " تطلق نارًا عليها بندقية؟" وتنفجر موجةٌ على صخرة عنيدة. تتشظّى ويتطايرُ دمها الأبيض عاليًا. يصيرُ ذراتٍ خفيفة ومنعشة يتلقّفها وجهي بكل اشتياق ويحس بطعمها المالح.
المجد، كلّ المجد للدماء المالحة التي لا تنسى ولا يستطيعُ الطغاة ابتلاعها أو التحكم بخلودها. المجد، كل المجد لجسد ريتّا المرسوم باللهفة على كلّ الحدود الملغّمة. المعجون بكل هذه الأسلاك الشائكة دون أن يتجرّح. المجد، كل المجد "لعرس جسدها المقيم في دمه"، لهذا الضياع الذي اختصر الوصول "بسنتين". المجدُ للعهد المعتّق بالنبيذ الذي يحكي قصة الاحتراق بين شفتين أطبقتا على العالم بقبلة. القبلةُ تجعل من رقصي أكثر ألمًا. يفرّ من معصمي غرابٌ صغيرٌ ويقطرُ النحاس من رأسي مشكّلًا طريقًا أملسًا كنتُ قد هيأته لتتزحلق عليه وتضحك. هل تدرك ما معنى أن أشذّب أدغال عقلي المتعب لألتقيك فوق سطح هذه النعومة المعتّقة؟ إنك لا تعرف، ولا تدرك دورتي البطيئة على هذه الموسيقى التي تتبع العهد. ولا ترى بهجة بساطته وكم أن من الجميل أن "نولد مرتين".

"آآآه ريتّا" تصرخُ أصابعي في الهواء. تصيرُ حبالًا منتصبةً وقابلةً للكسر، ويتحرك رأسي جيئةً وذهابًا بفضول من يريد أن يرى ماذا يوجد خلف الضباب الكثيف. يصيرُ جسدي رهن التساؤلات العبثية ويتحول إلى علامة استفهام زرقاء مستنكرة: "سوى إغماءتين وغيوم عسليّة؟" حقا؟ آه ريتّا، هذا أصغر من أن يفرقنا. أصغر بكثير. لا يساوي في عمر شوقنا شيئًا، ولا يهم حتى عصفور الدوري الذي يقفز من يدي الغيمة إلى قلبكِ السماء.

يتحرر جسدي أخيرًا. تسترد أصابعي ليونتها. يفتح لون فستاني حتى يصير أزرقا شفافا. ألفّ مرتين وأقف على رؤوس حنيني. ثم أتركُ شعري. يلفّ معي مشدّدا: "كان يا مكان" فتردّ كل الأشياء من حوله: "ماذا كان؟". يضربُ خصلاته مثل الأطفال: "قمري هاجر في الصبح وحيدًا في الغيوم العسلية" وضحكُ وهو يدري أن "قمره" دائم الوجود في أصابع الشوكولا التي تركها على أوراق قصائده، وأن المدينة التي "تكنّس المغنين" لا تستطيع أن توقفهم عن النموّ في مكان آخر. العالم واسعٌ جدا، ألا ترى؟ وبإمكان ريتّا أن تحيا أينما تريد وهي اختارت أن تحيا فيك وتمسك بذراعك مجددا أمام البندقية. البندقيّة ليست "بينكما" إنها وهم يا عزيزي. ليس أكثر!

يلوي خصري عدة مرات ثم أبتسم. تصفّق لي الديدان الصغيرة وتتحول إلى قطار.

في لحظاتٍ عاطفيّةٍ متفرقة (3)






*صاح عزيز: "تعالي" ورفرف بيديه. من يومها وأنا أحبّ العصافير وعندما يموتُ عصفورٌ أحزن بشدّة لأنّ العالم يكون قد فقد حينها رجلًا حقيقيًّا.

*يستفيقُ العالمُ كلّ يومٍ على الكثير من المصائب. لقد تصالحتُ مع الانفجارات والسّيول والانهيارات الثلجيّة والجرائم الساديّة لكنني لم أعتد على غياب ابتسامتك بعد.

*تحيطُ بي غابةٌ بنيّةٌ داكنة. أنا القهوة والشوكولا والوحلُ الذي يخلّفهُ المطر. أنا التّمر الذي يغمّسهُ الأطفال بالحليب، وأنا الخشبُ المطليّ للتو ليصير كرسيّ قراءةٍ أو جسرًا جديدًا.أنا معطفٌ من الرّمل الذي يختار غروره ودفئه وأنا كستناءُ الشتاء المدللة التي تطيبُ كلّما احترقت. أنا البنيّ عندما يختلطُ بجوع الألوان فيصيرُ عالمًا وبدايات.

*بنيتَ لي بيتًا صغيرًا بنوافذ حمراء، واعتنيتَ بأصُص الورد والممر الخلفي، ووضعتَ في الصالة لوحةً لعريشة عنبٍ في أسفلها جرة نحاسيّة، ثمّ قلتَ لي: "أكسرُ رجلكِ إن دخلتٍ. آه كم أحبّك حين لا تأتين".

*كلّ "المثقّفين" الذين أعرفهم يحبّون "Frida" الفريدة، و "Van Gogh" الأب الروحي للسماءِ المتاهة، ويمجدون "محمود درويش" ويلعنون "نزار قباني"، ويستخدمون أسماء أنهار غريبة ومدن نائية. ويصورون عقربًا راقصًا بهاتف الجوال، ويضيفون رغبتهم العميقة في إنجاز فيلم قصير، ونيل قسط كافٍ للرسم وتحليل الأفلام وتعلّم اللغة اليابانية. أما أنا فأحبّ فقط طائر "الفلامنجو" وأرى أن فساتيني لوحات عظيمة جدًّا وملهمة.

* منذ أن عرفتُ أن هناك انفجارًا عظيمًا وأنا أعاتبُ السماء. طال عتبي جدًّا حتّى صرتُ نجمة.

*ليس عاديًّا أبدًا أن ينشأ الإنسانُ في بيتٍ فيه شجرة غاردينيا وياسمين وأصيص فلٍّ مزدحمٍ، وعريشةُ عنبٍ وزهر فتنةٍ وبعض الأعشاب التي تداوي الخوف والكثير من التراب المتعطّش للمزيد. ليس عاديًّا أبدًا. إنّ في هذا لعنةً وجمالًا يؤذي صاحبهُ أولًا، فالعالمُ خارج هذه الحديقة مزروع بالشوك. وسيكون شاقًّا جدًّا على زهرة غاردينيا حسّاسة أن تنمو في أي مكان.

*لن نتقاسم الكعكَ مرةً أخرى، ولن نتعارك بالموسيقى. لن يكون لنا مقهى مشتركًا وأصدقاء مشتركين، ولن أحكي لك كيفَ حرقتُ أصابعي وأنا أقلي السمك أو كيفَ تزحلقتُ في الممر وأنا أنظف الأرض بالماء والصابون، ولن أطلعك على فكرتي الجهنمية بتغيير العالم عن طريق الألوان والفساتين. لن ألوي ذراع حنيني أو أضحي بزهرة من المخمل من أجل انتظاركَ مرة أخرى.

*وجهكَ مثل الجراد. طويلٌ جدًّا وكثيف، ويؤمن بفاعليّة الغزوات الجماعية. لكنّ له مبيدًا ناجعًا وهو الرقص. كلما رقصتُ أكثر، كلما التهمك الحريق وأنهاك. إنني أدفنكَ بكلّ ما أوتيتُ من ميلان، وأواريك في حنايا خصري ثمّ أشدّ ما تبقّى منك بذراعيّ وأجعلك تغرق في الجزء الأيمن من رقبتي. تغرقُ تمامًا.

*أيّار المسكين الذي يأتي كلّ سنةٍ بمصيبة. يلصقون به اسم الغراب ثم يضيفونه إلى قائمة الأشياء التي تجلبُ النّحس. لا عليك يا أيار! سأحبك أنا، فإنني أفهم ما معنى أن يعيّركَ الآخرون لأنك فقدتَ ابتسامتكَ إثر حادث أليم.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.