23‏/09‏/2015

انطباعات عن اسطنبول (3)





إحدى النيات التي دخلت اسطنبول محتفظا بها هي زيارة مسجد يختزل العمارة الإسلامية العثمانية. اسطنبول من أول المدن التي قد تفكرون في زيارتها إذا كنتم مثلي عشاقا للمساجد القديمة.
مسجد السلطان أحمد كان هو الوجهة المناسبة بعد نصف يوم شاعري في الجزيرة الكبرى. إنه واحد من المساجد التي بقيت مساجد خالصة إلى اليوم، الكثير من المباني الجميلة حولت إلى كنائس أو مساجد. حين وقفت قبالة تمثال الأسد، برزت في ذهني ثلاث مآذن عالية شعرت بدفئها يحيط بي. منذ 400 عام تبرز من هذا المسجد ست مآذن شامخة. لمستها بأصابعي من مكاني وتأملت مع صديقي طول المدة بيننا وبينها.
إنني واحد من كثيرين تخيفهم الذكرى، يضطربون ولا يهدؤون عندما يدخلون مكانا يعون تاريخه، يتصورون في لحظات وجوها تخرج من الغربة الأبدية، تتحرك ملامحها بحياة، وتسيل نظراتها على القاع. وفي حالتي، كانت وجوها عثمانية تعلوها عمائم طويلة، وترتسم فيها شوارب كثة.




فجأة، تزدحم الفراغات بأنفاس النظارة، ويصفق هنا وهناك رجال ونساء لا عهد لكم بهم، يولدون لأجل اكتمال المشهد، وتُعرض مسرحية لأول مرة في البال. استوقفتنا هذه المدرجات المرتبة التي تشبه مسرحا يونانيا قرأنا عنه لكننا لم نره قط. في مثل هذه المساحات من العالم يجد الإنسان فرصة لتلوين اللوحات التي تتكدس في ذاكرته وتنتظر بعض الوضوح.
وددت لو أقعد في بضعة سنتيميترات على هذه الصفوف الخشبيىة، وأشاهد راقصة باليه تركية، أو أغرق في متابعة طرف ثوب أحد الصوفيين الذين يؤدون رقصة في حلقة ذكر على الطريقة المولوية.
لهذا السبب أيضا نسافر؛ لنملأ الفراغ الذي تتركه تجاربنا الحسية ساعة العجز، ولنحتفظ بفراغات أخرى نملؤها في مكان ما.. نحن نسافر لنكتفي، لئلا نعود إلى مكان مرتين، ولئلا نشعر بعجزنا الحسي. 




ألوذ بالتفكر كلما اقتربنا وازداد عدد الزوار المفترشين الساحة الكبيرة حول المسجد. يلتقط صديقي صورا كثيرة ويراجعها قبل الاحتفاظ بها. أرسل أنا عيني، وأكبِّر كل قطاع من الأرض يمكن أن أحصل فيه على لذة خيالية، أرى شخوص قصة جديدة تمر بسرعة وتختفي.
عبور الأبواب دخولا هي أمنية قديمة، إنها هي التي تغرينا بالوقوف عند كل باب نمر به. نحن بشر بدائيون يتوقعون غنيمة أو فرصة اقتران خلف كل باب. الأبواب دائما تجمد أعيننا، وتختبر قدرتنا على التوقع، وتخبئ لذة ما. لعل عشقنا للأبواب هو عشقنا للملابس.. إنه حنين إلى العري والوضوح!
إن مجرد ارتياح القدمين على قطع كبيرة من الرخام لم يهتم الذين رصُّوها بإبقائها متوازية، يوقظ نسيما حلوا وعتيقا في الروح. أتوقف ممسكا بالكاميرا، ألتقط صورا لكل شيء، وأحيانا أكتشف وعيني تنظر من خلال العدسة هذه الكثرة من القبب الصغيرة التي تكبر علوًّا حتى تتحد بالقبة الكبرى. هذا التدرج في الجحم يعطيني انطباعا عن مراحل الصلاة الإسلامية التي تسعى دائما إلى التوحُّد في حركة واحدة، أو رفع إصبع واحد، أو النظر إلى وجهة واحدة.
في هذه الساحة الجليلة تتداخل الموجات الصوتية التي يطلقها القادمون من كل مكان. تسمعون ما يشبه هديل الحمام. رجال ونساء يتكلمون كثيرا. أفترض أن معظم كلامهم وصفي، مفعم بألفاظ التعجب، ومحشو بتساؤلات كثيرة مشتتة.
ثمة لحظة يمكن وصفها بالمقدسة. إنها لحظة الوقوف وخلع النعلين عند باب المسجد. ترون جموعا من رجال الأمن ينادون بالإنجليزية بلطف: لا كاميرات، لا ملابس غير لائقة. وينتقون بدقة الذين يمكنهم الدخول والذين سينتظرون متسائلين، معترضين بصمت.




عند عبور الباب خروجا، لا يسع المحتار والخاشع إلا أن يأوي إلى رحمة الماء. نافورات أنيقة تمد الجو باللطف، وتهدي الوجوه القريبة قبلا من الرذاذ فتجذبها إليها. لاحظ صديقي أن النوافير تعمل وتتوقف بانتظام، فراح يحسب الوقت وينتظر لحظة انفجار الماء لالتقاطه. ولاحضت أنا أن الحوض الرخامي محاط كله بمستطيلات تضم رسومات ملفتة. هي بطريقة ما عبارة عن تصوير للحياة اليومية في الدولة العثمانية. شاب يحمل على رأسه خبزا، مبان قديمة، أولاد يصطادون السمك، فتيات... والذي سيدهشكم أنه كلها مرسومة بقطع صغيرة  مربعة من السيراميك. للأسف، لم أنقل الصور إلى الكمبيوتر، ولعلي سأفعل لاحقا.


يتم التشغيل بواسطة Blogger.