19‏/09‏/2015

كيف يكتب باسكال كينيار؟


باسكال كينيار
قال أحد الصينيين القدامى (كونغ سوين لونغ): "ثمة أفكار تتفرع من أي مكان، ثمة تأملات من دون نتيجة". الكاتب الفرنسي باسكال كينيار Pascal Quignard يكتب في ظل هذين "الاقتراحين الحاسمين" لرجل لم يكن "ينتمي إلى أي مدرسة". ولكن من هو باسكال كينيار؟الباحث عن جزء من حياة هذا الكاتب لن يعثر على الكثير، إنه محاط بهالة غموض عجيبة، ومع أنني لا أحب تقديم الكاتب بسيرته الذاتية، أجدني مضطرا إلى ترجمة بعض النتف المكتوبة بالإنجليزية، والتي هي بلا شك شحيحة أيضا.ولد باسكال كينيار في الشمال الفرنسي بمدينة فرنوي سور آفر  Verneuil-sur-Avre عام 1948. هذا كل ما وجدته! أما أعماله الأدبية فكثيرة وتختلف أهميتها بالنسبة للقراء في كل مكان، فبينما يعد كتابه "كل الصباحات في العالم  Tous les matins du monde"الأكثر شعبية خارج الوطن العربي، يهتم القراء العرب بـ "الجنس والفزع  Le sexe et l'effori" أكثر من أي كتاب آخر له.
روايته "الظلال الهاربة Les Ombres errantes" حصلت في 2002 على جائزة الأدب الفرنسي (غونكور)، ومثلت في فيلم عام 1991 كتبه كينيار برفقة المخرج والكاتب الفرنسي ألان كورنو. 

الشكر للمترجمة السورية روز مخلوف: ترجمة خلابة!
اقترح علي أحد الأصدقاء قراءة هذا الكتاب، وأخبرني بحماس أنه تكلم عن الجنس في الإمبراطورية الرومانية، ويذكر أسماء مثل الإمبراطور المنحرف "تايبيريوس" والرسام السادي "بارازيوس" الذي كان يعذب الناس ويرسمهم وهم يتعذبون، و"نارسيس"، و"ميدوزا وبريسيوس"، بالإضافة إلى قراءة تاريخية تحليلية للحياة الجنسية الإغريقية والرومانية.
لم أكن أقرأ كتابا في تلك الفترة، فبدأت أقرأ هذا "الجنس والفزع"، وعندما انتهيت منه، لم أتذكر إلا ما يتذكره أحدنا بعد حلم شهي.
هذا هو شأن باسكال كينيار، فليس هو الكاتب الذي يعطيك (ما بعد التفكير: الواضح، المنمنم، الملون بعناية)،  بل يجذبك إلى (التفكير نفسه: المعقد، المتأرجح بين الوعي واللاوعي) ويشركك معه.
في هذا الكتاب، يغوص الكاتب الذي يجيد الفرنسية واللاتينية والصينية والإغريقية في جذور الكلمة اللاتينية fascinus التي تعني "قضيب"، وبحث تاريخها واشتقاقاتها: افتتان fascination، أو فاشية fascisme. بأسلوب غير مستقر أبدا. كما يبحث كلمات أخرى، ويؤرخ لها. ويربطها بالأحداث اللاأخلاقية والوحشية والأسطورية التي نحتفظ بها في أذهاننا بوصفها حضارة رومانية.
يطارد باسكال شبح الجنس، ويحقق في تحوله من ضياء على وجه أفروديت، إلى ثعابين تحيط بوجه ميدوزا.
قلت إنني لم أحتفظ بذكرى واضحة لما قرأت، لكنني أستطيع أن أعود إلى الكتاب وأقتبس منه سطورا ظللتها بالأخضر الغامق.
* "الإنسان هو نظرة تشتهي صورة أخرى وتبحث عنها خلف كل ما تراه".
* "اجتاح الضعفُ العجوز فبكى.
صاح به بارازيوس:
- لم يصبح أنينك بعدُ أنين رجل يلاحقه غضب جوبيتر.
بدأ العجوز يموت. وبصوت عال خائر قال العجوز الأولنثيُّ لرسام أثينا:
- بارازيوس، إني أموت.
- ابق كما أنت.
كل لوحة هي تلك اللحظة".
* "يرتبط الخوف الأول بالظلام والوحدة. الظلام هو غياب المرئي، والوحدة هي غياب الأم أو غياب الأشياء التي تنوب عنها. يعرف الإنسان مشاعر الخوف هذه: خوف من السقوط في هاوية الرحم السحيقة المظلمة والتي لا شكل لها، خوف من أن يعود جنينا، من أن يعود حيوانا، خوف من الغرق، من السقوط في الفراغ، من الالتحاق بالعالم غير البشري".
وهذا المقطع الأخير هو أجمل ما احتفظت به من هذا الكتاب العميق، ولا أدري لم شعرت عندما قرأته بأنه يفسرني بطريقة ما!
* "كل حلم هو غرق داخل النفس وسقوط في رحم الأم، نوم الوليد شبه المستمر هو استمرار للحياة داخل الرحم، والواقع بالنسبة له، مثل اليقظة، ليس سوى لحظة جوع وبرد ورغبة أليمة. الشيخوخة تفصل الجسد رويدا رويدا عن النوم (المرتبط بالحلم) وتخرجه من الرحم إلى الموت (النوم المجرد من الأحلام)".
أردت بهذه الاقتباسات أن أستعرض لغة الكاتب، لغته التي هي مزيج من صرخة الشعر، وطبيعة النثر المتعالية، واستنباط الفلاسفة، وغرور اللغات القديمة. باسكال كينيار -مرة أخرى- لا يعطيكم خلاصة تفكيره (ما بعد التفكير)، بل يشارككم التفكير. فهو يفكر "من كل مكان"، وغالبا "من دون نتيجة".

الشكر للكاتب الجزائري والمترجم محمد المزيودي:
ترجمة جيدة، 
أشعر بارتباكها قليلا
سأرتاح في الكتابة عن هذا الكتاب؛ لأنني انتهيت منه أمس، ولم أزل أحتفظ بروحه ومادته. الكتاب صغير جدا (112 صفحة)، ولكنه متاهة. لا أراهن دائما على فهم كتابات "كينيار" و"جيمس جويس"، فأنا أتلذذ بعدم فهمها. وبالمناسبة، "الاسم على طرف اللسان" يشبه "عوليس" في جمله القصيرة، وعدم الترابط بين الكلمة والتي بعدها، والصفات التي تحتاج إلى وقت لإسقاطها على الموصوف، والاقتباس الحر لكتاب كثيرين، وهذه "البحلقة" التي ستلازمكم حتى النهاية.
أستطيع أن أجازف بتلخيص الكتاب في وصف واحد، إنه يحاول عزل اللغة عن الوجود الإنساني. "طرف اللسان tip-of-the-tongue" هي ظاهرة نفسية معروفة، وهي حالة من فقدان الكلمة الأصلية التي تتوفر معظم ملامحها في اللحظة. نعم، لقد مررنا بهذه التجربة، أن نشعر بوجود الكلمة حول شفاهنا، على ألسننا، ونتذكر حرفها الأول، وربما وزنها الصرفي، لكننا لا نستطيع إخراجها. إنها حالة مرعبة، وهذا الرعب هو النوع المفضل لدى كينيار. يبدأ الكتاب بمشهد سريالي، السيد (بوليز) واقفٌ يطارد بوظة سقطت أرضا، ويحاول أن يقطعها بسكين! فهمت من المشهد أنه كينيار يحكي بدايات تفكيره في تأليف حكاية، لكنني لست واثقا من هذا الاستنتاج. أراد كينيار حكاية "العجز اللغوي هو مصدر الحركة فيها".
القصة الرئيسة في الكتاب لا تتجاوز 32 صفحة. وهي من أروع القصص الرمزية التي قرأتها، بطلاها: الخياط بجورن، والخياطة كولبورن. لكنني سأكتفي بهذا الآن، ولن أذكر المزيد من تفاصيل القصة الرائعة، وأنصحكم بقراءتها وحدها إن لم تحبوا قراءة الكتاب كاملا. إنها تقع بين الصفحة 15 و 47. أنصحكم بشدة.

كما أراد كينيار، فإن العجز اللغوي هو المحرك الأول لأحداث القصة. النهار والظلال والبحر والارتباك والحركة هي ما تفقد الإنسان قدرته على السيطرة، الاقتران هو الغريزة الدافعة لكل ما يجري، اللغة وراء الأرق والجوع والعذاب النفسي، الظلمة الشديدة هي دائما التوقيت المناسب لاسترجاع اسم ضائع مثل "هيديبيك دي هيل".

لغز "الموت" يرهق باسكال في الكتابين اللذين قرأتهما، ففي "الجنس والفزع" ثمة قرابة شعورية بين الموت والحلم ولحظة ما بعد رعشة الجماع وسحر الأسطورة الذابلة، وفي "الاسم على طرف اللسان" كل من يرى عيني الإلهة ميدوزا يصير "حجرا".
يبرهن الكاتب لي على سهولة كتابة رواية بالنسبة له، لكنه يصر على أسلوبه الذي يشبه تارة صوت "الإلياذة"، وتارة عين "عوليس"، وتارة دهاليز "سارتر".
لم أزل أشجع على هذا الأسلوب، أي الذي لا يعطي كل شيء دفعة واحدة وبكل وضوح، أي الذي يجذب أفكار القارئ إلى أفكار الكاتب ويترك "النتيجة" قابلة للتغيير.
أدركت ذهني يشرد ويهرب بعيدا عن الشاشة الكبيرة المضيئة في وجهي، يهرب ويفكر في أمور قد تكون بعيدة كل البعد عن موضوع الكتاب، أدركت هذا الإحساس اللذيذ بالتلاشي، أدركت نفس الشعور الذي أدركته قبل سنوات وأنا أنشغل بقراءة "آدم إيسون" وأحاول ممارسة التنويم المغناطيسي على نفسي!

لا أزعم أنني أفهم كل ما يكتبه كينيار، ولا بعضه، ولا حتى قليله، لكنني أفهم تماما ما يريد، هو يريد أن يشعل شمعة في اللاوعي ويصلي كما صلى بجورن وكولبورن صلاتهما الأخيرة: "ندعوك يا رب، اجعل هذه الشمعة المكرَّسة لذكرى اسمك تحترق دون أن تنطفئ، من أجل تبديد ظلام هذه الليلة". 
و"ظلام هذه الليلة" يمكن أن يفسر بالعجز اللغوي القاتل، أو بشبح الموت، أو بانعدام اليقين، أو ربما فسرته أنا بمشهد لاحق في الكتاب، عندما يصف طفل حالة أمه وهي تتذكر اسما:

"كانت مضطربة وقصية، وكانت تحاول والعينان مثبتتان على لا شيء وتقدحان شررا أن تحضر إلى ذهنها الكلمة التي كانت على طرف لسانها، كنا نحن بأنفسنا على ضفة شفتيها، كنا بالمرصاد مثلها، كنا نساعدها بصمتنا، بكل قوة صمتنا، كنا نعرف أنها ستسترجع الكلمة الضائعة، الكلمة التي تسبب يأسها، كانت تنادي من بعيد مهلوسةً، طاقتَها المترنحة في الهواء. تهلل وجهها، عثرت عليه، تتلفظ به كما يُتلفظ بالروائع، كانت إحدى الروائع. كل كلمة تستعاد هي إحدى الروائع".

هذه إذن هي الليلة المظلمة التي يريد كينيار أن يلبسها نهارا. واختياره للمتكلم طفلا أخرس يفسر العجز والظلام تفسيرا بليغا. الطفل الأخرس يكبر، ويتكلم من خلال كتبه، وهذا الجزء المستقل من الكتاب المسمى "رسالة صغيرة حول ميدوزا" هو صوت الخرس اللغوي، وانعدام طرف اللسان.. هو الخروج من الليلة المظلمة والعودة إلى تطريز ثوب الوجود.

الإلهة ميدوزا
يتكلم الأخرس.. يا سلام، حقا يتكلم الأخرس عندما يكتب، وهو في حالة الكتابة هذه يتكلم.  أما عن العلاقة بين القصة والإلهة ميدوزا فهي مبهمة، لكن كينيار يصرح بأن وجه ميدوزا (الثعابين حول وجهها، فمها المفتوح، ملامحها الجحيمية) يشبه وجه أحدنا وهو عاجز عن اللغة، يشبهني وأنا أكتب الآن، أو يشبهكم وأنتم تقرؤون، أو يشبه تلك الأم وهي تحترق في الذكرى. وجه ميدوزا هو الصراخ الإنساني في وجه الموت، وهو أيضا الذي يخيف "بريسيوس" فيجعله يصقل درعه ويتجنب النظر إلى عينيها قبل أن يقتلها... كي لا يصير حجرا.
لغة باسكال كينيار فريدة، وخاصة. فهو لا يبجل العرف اللغوي والموسيقى الإيقاعية للمفردات التي تتكرر في كل مكان، أحكم هنا على لغته المترجمة لا الأصلية التي كتب بها كتبه، وبلا شك سأبتعد قليلا عن الحقيقة.
يتجنب الكتاب العالميون التعبيرات غير المألوفة غالبا، فجمل مثل "الكلام بخرَس"، "الكلام ببكم"، "رصد الكلمة الناقصة"، تحتاج إلى وقت للتفكير فيها، ومعظم القراء لا يفضلون التفكير العميق في ما تحويه "الكلام ببكم" من توسع في التأمل. لذا ربما لا نجد الكثيرين من هواة القراءة له، بل لقد قرأت لبعضهم يعترض ويتهمه بالغموض. حقا هو غامض، ولكن ألا يكفي أن الكثيرين واضحون وملموسون؟!
لقد قرأت كتبا غامضة وتحتاج إلى تفكير عميق لكن غموضها كان تقصيرا لا عمقا، كتابات كينيار عميقة، وهذا لا يمكن أن يكون اعترافا معززا بدليل، بل هو شعور ألمسه لمسا، وهو ما يعينني على مواصلة القراءة.
الترجمة لباسكال كينيار مرهقة، وكذا القراءة له. سأحاول الآن أن أنهي تدوينتي بالاقتباس من "الاسم على طرف اللسان.


* "الاسم على طرف اللسان يذكرنا بأن اللغة ليست فعلا منعكسا في دواخلنا، وبأننا لسنا حيوانات تتحدث كما ترى".
* "وكنت أناديها موتِّي mutti. أصبتُ بالخرس. نجحت في الاعتزال في هذا الاسم الذي أعز من اسم أمي، والذي كان لسوء الحظ إيعازًا. لم يكن اسما على طرف لساني، ولكن كان اسما على طرف جسدي، وكان صمت جسدي هو الوحيد القادر على جعل الحرارة موجودة بالفعل".
* "لا أكتب عن رغبة، عن عادة، عن إرادة، عن مهنة. أنا أكتب كي أبقى على قيد الحياة".
* "التلذذ يتمنى النوم حيث يسقط، إنه يريد الليل، الذي هو دائما الليلة الأولى، والتي هي دائما الليلة الأخيرة".
* "في سنة 1899، كتب سيغموند فرويد فجأة في كتاب عن الحلم هذه الجملة التي تُسقط بشكل عنيف الفكرَ أرضا، والتي تملأ دفعة واحدة كل اللغة عارا: "الفكر ليس شيئا آخر غير بديل عن رغبة مهلوسة". من جهة، كل فكر من ناحية الأصل كاذب، ومن جهة ثانية، كل كلمة هي كذب".
* "شخصيا، أعترف أن ما أبحث عنه من خلال الكتابة هو العجز".

16‏/09‏/2015

انطباعات عن اسطنبول (2)



إلى جزر الأميرات
الجزيرة هي المكان الذي يفضله القادمون من الصحراء، بل هي في الواقع مكان مفضل لدى الجميع، إنها وطن تحتفظ به الذاكرة منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، وبكل بساطة تسهل ملاحظة بقعة من الخضرة يطوِّقها الماء، ويسهل التعلق بها. نفيت نفسي إلى الجزيرة الكبرى Büyükada بين تسع جزر تتراصُّ في بحر مرمرة. إنها منفى غير المستقرين، والباحثين عن الهدوء، الهاربين من الضجيج المدني. 
خططت لزيارة جزر الأميرات بعد الوصول مباشرة، لكنني أخطأت حين نويت زيارة أكثر من جزيرة، ثم التوقف في منطقة كاديكوي Kadıköy للسير بطمأنينة في شارع بغداد، وتناول عشاء آسيوي. استهلكت منا الجزيرة الكبرى كل الوقت، ولأن فينا غريزة قديمة أستطيع تسميتها "تفضيل الاستقرار" لم نفضِّل الانتقال إلى جزيرة أخرى عندما سمعنا صوت الباخرة وهي تغادر. أو لقد "خفنا" من كون الجزيرة القادمة سيئة الحال بما يكفي لإفساد المتعة التي منحتنا إياها مظاهر الجزيرة التي نحن فيها. 
خرجنا من الوجه الأوروبي لهذه المدينة الملهمة، متهيِّبين من التجربة الأولى، نستنشق هواء البسفور الذي هو مزيج من المآذن الرخامية العالية والمقاهي المتواضعة المنبسطة بحرية على ميناء كاباتاش، وأنفاس الناس المندفعين بلهفة نحو الصيف. 
وشيئا فشيئا، تابعت أفكاري وهي تتخذ شكلا آخر كلما بدت اسطنبول الأوروبية تصير أكثر غموضا. أدركت أنني منجذب إلى الوجهين كطفل خيرته شقيقتاه: أينا أجمل؟ وحدث أن تسرعت باختيار مقعد وضاع صديقي في الزحام فاختار مقعدا آخر خلفي، فاضطررت إلى اختراع جليس لي من ذاكرتي، وتصفحت هذه اللحظات التي أكتب فيها الآن... نعم، لقد رأيتني أكتب عن هذا الطريق المائي، وعن زبد البحر، والأمواج التي ترتفع قليلا لتكشف عن لون فيروزي يشبه في روعته لون الماء الذي يبلل أعصابي المرهفة حينها.


أول ما تمشي عليه العين: سرب من حمام غير مألوف
الوصول دائما عذب. إنه رغبتنا الأزلية التي نسافر لأجلها. في الطائرة فكرت: هل نحن البشر نسافر لنصل؟ قرأت أفكار الذين سافروا والذين نووا السفر فلم أجد حدثا أكثر قداسة من الوصول.
عبرنا الممر الهش بين الباخرة وأرض الميناء، ودع صديقي رفقة طيبة، وتشبثت بيد جليسي الذي يشبه الطيف، حتى إنني التزمت الصمت قليلا ونحن نجتاز البوابة الصغيرة، كنت وقتها مجموعة أَناسيّ: متحضِّر يخرج من مدينته إلى مدينة أخرى لمجرد التجول، وبدائي عشق صوت الماء، والأغصان المتمايلة، بالرغم من توجُّسه وتردده، وآخرون كثيرون كانوا يطلبون مني أن أحتفظ لأجلهم بالكثير من الصور. وهم الذين سرقوا مني ربع وقتي.
أول شعور انتشر في دمي عند الدخول كان غريبا، شعرت بالانتماء إلى المكان فجأة، فالتمثال الذي ينتصب أمامي بضخامة بنيتة منقوش في تلافيف دماغي، والبيوت الشاهقة خلفه هي جزء من تخيلات سابقة لم أعان في استذكارها، والناس هؤلاء هم أقاربي الذين تربطني بهم شهوة الاغتراب ذاتها. 



إطلالة على البحر من أعلى الجزيرة
سلكنا طريقا ضيقا، أرصفته مجموعة كبيرة من الناس والدكاكين، وهو يستطيل متفرعا وعاليا وهابطا بلا نهاية. إن المكان هنا أكثر حميمية من أي مكان يعج بالأبواق والغازات في العالم، القليل جدا من السيارات الرسمية تسير بطمأنينة، ويمر بك كل الوقت أناس منزوعوا الملامح يتمكنون من قيادة دراجاتهم في الزحام، والذين أغرموا من قبل بنمط الحياة الأكثر قدما ركبوا عربات تسير بها الخيول، ويوجهها حوذي سريع الغضب. أما نحن فمشينا، أردنا أن تتشبع أجسادنا بالطرقات، وأردنا أن نعبئ أعصابنا الجافة بهذه المدركات والمثيرات الحسية الكثيرة.

وارتفع داخل جمجمتي صوت رائع
في طريقنا إلى الداخل، كانت الشوارع تقل سعة، وتحتمل الأشخاص الذين يتمتعون بالهدوء، وكانت وجوه جديدة تظهر وتنبهنا إلى وجودها. إنها قوية الحضور لما تحمله من الأزلية والفن. واحد منها كان وجه رسام كاريكاتير، يمازح الجميع بلا تحديد، توقفت أتأمل تجاعيد ذراعيه، وارتفع داخل جمجمتي صوت رائع وغير مفسَّر. إنه يشبه شخصا مقربا: سيغموند فرويد.
تعمقنا في المشي، وتذوقنا البوظة، واستوقفتنا اللوحات الفنية المعلقة على عتبات بعض المحلات، تحسسنا القطع الخشبية والمعدنية برهافة، وجربنا القبعات المصنوعة يدويا، ولفتتنا روائح الأزقة الكثيرة كلما اقتربنا من وسط الجزيرة.

تساءلت: هل لو كنت ابن هذا المكان سأفتشه كما أفعل الآن؟ وأجبت مباشرة: كلا، فهنا أشكال لم تعرفها العين من قبل، وبداخلي إلحاح قوي، أشتهي رسم كل شيء في الذاكرة؛ وهذا جزء من شخصيتي كإنسان يعرف قيمة الوقت، إنني باختصار أود أن أتمكن من حفظ كل شيء هنا، لماذا؟ لأنني لا أريد العودة والاكتشاف، سأسافر إلى مكان آخر. 

الساحة الأولى والأخيرة
لا أدري كيف خرجت من إعصار الموسيقى ومحمود درويش، عندما افترشت العشب آمنا من الناموس والذباب، استنتجت أنني للتو كنت غارقا في "مديح الظل العالي" بينما أتجول بالدراجة الهوائية، وأطيل النظر في صناديق التوت البري. حقا عندما لامستُ العشب انتعشت ذاكرتي فطفقت أردد: "كم سنة.. كم سنة.. كم سنة".
الاستلقاء على العشب أسرنا أنا وصيديقي، فتنازلنا عن المضي إلى جزيرة أخرى، وتنازلنا عن عشاد كاديكوي، وتنازلنا حتى عن المزيد من التجول. هذه الساحة التي ينتصب فيها التمثال هي الساحة الأولى والأخيرة، وهي النقطة التي اتسعت، والتوسع الذي صار ضئيلا في الروح.
أنهينا بقاءنا هناك بالإسراف في التقاط الصور، كمن يعمِّق النفس النهائي من سيجارته الوحيدة في سجن أبدي، وركبنا أول باخرة إلى مينائنا كاباتاش... 

بكل لؤم، أسرعنا واخترنا المقاعد المشرفة على الماء. 

وجديدا كان الغروب في جسدي
أتابع ببطء كيف تغرب الشمس
أتكئ وحدي
أنا الآن وحدي وصديقي يلمس كتفي كل مرة
ليريني صورة ويسخر من صوري
لكنني كنت جديدا
وجديدا كان الغروب في جسدي
أرقب الجبال 
كيف تمسي ظلا؟
وأوزع اهتمامي بالأمواج

كيف تعود كقافلة خاسرة؟
وتشغلني فتاة حلوة الملامح
فأتذكر..
كيف كان النهار الدافئ؟
لكنني كنت جديدا
وجديدا كان كل شيء في جسدي
أتشمم الملح
وأترك أصوات الطيور الجائعة

أتركها تنطبع في روحي
لأنني مسافر
والمسافر يفعل كل شيء



14‏/09‏/2015

انطباعات عن اسطنبول (1)




سأصف في سلسلة تدوينات قصيرة انطباعاتي عن مدينة اسطنبول كمكان، لن أهتم بالتفاصيل التاريخية أو الأثرية، ما يهمني هو تجربتي النفسية التي أذكر منها الآن رذاذا من الذكريات الشعورية اللذيذة، والقاسية. 
كانت اسطنبول خيارا جيدا لي ولصديقي، وبالرغم من موعد الرحلة الذي كان غير مناسب، والعقبات التقنية التي واجهناها في مطاراتنا، وصلنا أخيرا، متأخرين بيوم واحد في 16 أغسطس هذا العام. 
هذه الصورة تشرح الارتياح الذي يمكن أن يشعر به مسافر ما وصل إلى مدينته التي انتمى إليها بطرق غامضة... الجبال ترتدي اللون العشبي وتتكئ على حواف الماء، أو الماء يتحرش بأطراف الجبال ويلمسها لمسا خفيفا. تشعرون أن دفتر الأفكار الذي تكون لديكم في الطائرة عن هذا المكان صار يرغب بتمزيق نفسه، وتكتشفون مشكلة من نوع ما، إنها هوس التصوير العالمي، فنحن في الواقع صرنا نفرض على أنفسنا التقاط المشهد قبل كل شيء. لكنني أظن أنني تغلبت على هذا التوق الشديد لالتقاط كل تحرُّك أو سكون، وفضلت تذوق الصورة ثم التقاطها؛ لذا عدت بصور أقل مما يجب! 
مقارنة بالمكان الذي سافرت منه، كانت اسطنبول أشبه بشريط لفيلم شاهدته مرارا لكنني حظيت بعد وقت بفرصة الدخول فيه وتمثيل أفكاري. قرأت كثيرا في منتديات السفر العربية (التي تذكر كل شيء عن أي شيء)، واستمعت إلى الموسيقى التركية، وتصفحت بعض روايات أورهان باموق، واحتفظت داخل جمجمتي (هذا تعبير قهري بالنسبة لي!) بمدينة رائعة كانت تنقصها الخيبة لتكتمل. إنني أعتقد أن كل مدينة في العالم تستطيع أن تخيِّب قاصديها بأسلوب تتعلمه عبر الحضارات. إنه ذلك الإحساس الذي يمحو كل توقعاتك ساعة الدخول، وينسيك انطباعاتك ساعة الخروج. وحقا، لم أزل في حالة يمكنكم أن تجدوا لها شبيها في فيلم Waking life من ناحية البعثرة والتماهي في مكانين متفاوتين كل التفاوت. 

أقلعنا من قطر إلى اسطنبول وفي بالنا وسواسان: الأول أننا سنواجه الكثير من النشَّالين، الثاني أن علينا أن نصل. ولكننا ما إن أوشكنا أن نهبط حتى بدأت إيقاعاتنا الداخلية تمسي أكثر ترتيبا، نعم، فها هو الواقع وها نحن. 

إن "خيبة" اسطنبول التي قدمتها لي ولصديقي هو انشقاقها إلى جانبين: آسيوي وأوروبي. وهذا هو ما شجعنا على تناول عشائنا الأول في مطعم صغير على مضيق البسفور.  

في الليل..
يهجع الضوء متوسِّدا هذه القوارب التي تتراقص
تغرق أنت في تفكير مستمر
ثم تخرج لتجفف أعصابك بالنسيان 
الذي تمنحه لك نسمات تهب لأجلك
وسفينة صاخبة تدور حول رأسك. 

إذا تعلق الأمر بالتفضيلات الشخصية، فإن المشي بعد منتصف الليل بالقرب من مضيق البسفور من أفضل ما يمكن أت تفعلوه هناك، يهبكم استقرارا تدركونه بسهولة، ويغذي أنفسكم بالشعر الحقيقي. قعدنا في مقهى فسيح، يمتد بحرية على البحر، وتضيئه مصابيح هادئة، ويقدم الشاي فيه نُدُل لا يعرفون الإنجليزية، ولا تستطيع -في حالتنا- أن تخاطبهم بالعربية، لكنهم سيرضونك بتجهُّم وعناية تركيين. لاحظت أن الأتراك بصفة عامة متحفظون، أقصد ليسوا مثلنا نحن السعوديين الذين نميل إلى اللغة الشعورية في الكلام. كما لاحظت أنهم يؤدون أعمالهم جيدا. 


لأن يوما كاملا فاتنا بسبب تأجيل رحلة طيران، قررنا أن نستمتع بأقل عدد من الأمكنة. فكانت وجهتنا صباح اليوم التالي جزر الأميرات... 



انتقادات بالجملة (1).



كان عليّ منذُ البدء. منذُ أن قتلتَ حبي عن طريق الخطأ كما تقولُ ولا تعتذر أن أتخلّى عن كلّ هذه الهزالةِ وأتحرّر ولكنني الآن وصلتُ إلى مرحلةٍ بائسةٍ فأنا أمٌّ لطفلين من رجلٍ لا أحبُّه!

مشكلتكِ أنك تُعزين جمال النّساء وأناقتهنّ لغرض الإيقاع بالرّجال. يا صديقتي، أن يقع الرجلُ في حبّ امرأةٍ ليس تعبيرًا دقيقًا.
لا بدّ أن يطير على أقلّ تقدير. وحتى تكون أنثى حقيقيّة لا يجب أن تخطط لكلّ هذا!


لقد قلتُ أمامك "آه" مراتٍ لا تُحصى. أعرفُ جيدًا أنك لا تملكُ تقنيةً ناجعةً لتخفف عني. ولكنني لم أكن أعتقدُ أنك بخيلٌ بما يكفي حتّى لا أسمع صداها في داخلك.


إنك تعيشُ في وهم الماضي الذي جمعنا يومًا على مقعدٍ خشبيٍ في حديقةٍ عامة. الماضي أصبحَ شاذًّا، المقعدُ لم يعد لنا والحديقة صارت لفقيري المأوى وليس للعشاق الذين يجدون الأوطان بسهولة. لذلك.. توقّف عن إهدائي الأغنيات الحزينة عبر الإذاعة وإرسال العبارات المُشبعة بالحنين. إنني أزهرتُ بطريقةٍ تمنعني من العودة نحو يباسكَ ولا بدّ أن تزهر أيضًا!


وعندما أرقصُ حولكَ فإنني لا أقصدُ إغراءك أو جرّكَ نحو قبلة. في الحقيقة إنني لا أراكَ أبدًا. أكونُ مشغولةً باكتشاف الفراغ المحيط بي وبتجديد ربيع الحبّ بيني وبيني. إنني لا أنتقصُ من رجولتك حتمًا لكنني أدعوكَ أن ترقص معي ذات مرة وألا تتخذ موضع المتفرّج الذي ينتظر فرصته العاطفية بسذاجه!


البحرُ الهائجُ والحظُّ العاثر كما تقول العجائزُ لا دخل لهما في غرق مركبنا يا عزيزي. إننا سؤولان عن كلّ هذا وعلينا الآن أن نتنفس تحت الماء وننجو، وعندما نصل إلى البرّ سوف نتجادل كثيرًا وسوف نقرر إن كنّا قادرين على الإبحار مرةً أخرى!


لم يكن مطلوبًا منك أن تحبّني كذبًا. كنتُ أفضّلُ ألا تُعيرني اهتمامك في تلك الليلة على أن تقدّم لي زهرة وتمنع عني الماء في المقابل وأنت تدرك أنني حزينةٌ وجافّة.


إن كنت تريدُ السّفر قبل أن نلتقي فأنا لستُ مستعدةً أن أتعرّف عليك في الغربه!

لا يهمّني أن أعرف تفاصيلك فإنّ شكلك العام لم يعجبني. إنك تتحرك بطريقة متكلّفة، ومن ثمَّ هل هناك طفلٌ مجنونٌ يأكل "الكُنافة" بالشوكة؟ هذا يعتبر دليلًاعلى أنك ستوبّخني إن لطّختُ وجهك بالشوكولا ذات مرة. وإن هذا لا يناسبني. وبالمناسبة إن العصير الذي طلبتَهُ لي لم يعجبني أيضًا.

لم يكن اختلافنا ليُسبّب مشكلةً لو أننا ناقشناه منذ البداية وأحببناه واشترينا له المثلجات. لكننا تركناه يتسوّل طويلًا في شوارع خطيرة. يبيعُ المناديل المعطّرة وينظف الأحذية ويختلط مع تجار المخدرات ويقبّل في الأزقة المظلمة ومن ثم ينكر لون الحمرة على شفاهه. إننا لم نؤمن بقدرته وبإمكانية أن يتحوّل إلى سبب مدهشٍ لنعشق بعضنا أكثر. لقد فسد الآن لدرجة عجزنا عن إصلاحه وصار عبئًا ثقيلًا، فلنتابع كيف ينقلب علينا ويقتلنا. وليمت حبّنا بصمت وهو راضٍ بالنار التي نستحقها عن جدارة. وأن نستحق النار عن جدارة فهذا بحدّ ذاته إنجاز!


وحين أرتدي الفستان الأسود أصبح جميلةً بطريقةٍ تعجزُ فيها عن إحاطة أنوثتي بالكامل. عندها أفضّلُ صمتنا الطويل واشتراكنا في أكل فطيرةٍ من الزّعتر ومتابعة نملةٍ صغيرةٍ تتمشى على ذراعك!


لم تكن بدايةً ولم تكن نهايةً أيضًا. وقفتَ في المتتصف ورحتَ تتفرجُ على حوادث ارتطامي المتكررة بجدارك. لا يقهرني ألمي ولكن يقهرني عجزُ سقوطي المستمر عن إحداث طاقةٍ للنور في داخلك!


لم تكن أم كلثوم التي لا أحبها كثيرًا مخطئةً حين سألتك بحزمٍ وهي تهزُّ بدنها ومنديلها " إنت عارف ئبل معنى الحب إيه؟" لكنني كنتُ أرجو أن تكون شجاعًا بما يكفي لتوجّه لها ذات السؤال!




يتم التشغيل بواسطة Blogger.