11‏/03‏/2016

تفاصيل (3)~ آخر العهد بالشتاء



لقد نمتُ بالأمس مطمئنّةً لرحابة سريري وأنا أفكّرُ في إمكانيّةِ أن يصيرَ وطنًا لا تحكمُهُ الأفكارُ الفلسفيّةُ أو المبادئُ الاشتراكيّة، وأكون فيه السّلطة الوحيدة التي لا تُنتخَبُ أصلًا ولا تُقام ضدّها ثورة، وإذا كان التمرّدُ ضروريًّا فليكنْ أنا أيضًا، بشعرٍ "منكوش" ربّما وثوبٍ يبتعدُ عن ذوق القبيلة، ولتُحدثْ أحلامي صرخةَ الاعتراضِ الكُبرى..


 بقيتُ أعدُّ النجوم التي تخيّلتُها خارج هذا السّقفِ الأخضر حتّى أغمضتُ عينيّ وسقطتُ في الحفرة العميقة المليئة بالزّفت، وعندما فتحتهما كان الصّبحُ قد مدّ يدهُ الرّحيمة وانعكس على يدي كأنهُ يصافحني بالطّريقة المُثلى التي تتمنّاها أيّ أنثى تستيقظُ للتو.
كان سهلًا عليّ أن أرقص في هذا الاحتفالِ البهيج على صوت الرّيح التي تلعبُ بشجرة البرتقال وتقبّلُ الستارة دون شبع، وبعد دقائق تحوّلت الحياة في نظري إلى كوب قهوةٍ وسيجارة "Gitanes" الزرقاء، وصارت متيقّظة وحزينةً مثل كلّ الشوارع في بلادي، مثل كلّ الأطفال الذين يفتحون أعينهم على فقدان ألعابهم فيسكرون رغم كلّ شيءٍ ويرقصون، أمرٌ لطيفٌ حقًّا ومُسعِد أن تتحدّى خوفكَ وأنت تدركهُ تمامًا، أليس كذلك؟

فكّرتُ وأنا أنتظرُ الماء حتّى يغلي بارتداءِ قميصٍ أسود تكون ياقتهُ عاليةً ومنتصبةً، ووضع قرطٍ صغيرٍ جدَّا يلمعُ بحرًا ويضربُ شواطئ أذنيّ بالصوت الذي يُعينني على تحمُل الضّجيج، وتذكّرتُ أبي يوم كان يقول "هاتي قهوتكِ السيّئةَ وتعالي" فضحكتُ لا شعوريًّا، وتنحنحتُ كأنني أطردُ ما تبقّى من ابتسامتي نَفَسًا معقّدًا ومليئًا بالحنين

حاملةً كوبين من القهوة، اقتربتُ من غرفة أمّي التي كانت تطوي غطاءها وتنعكسُ الشّمس على غلاف رأسها الغزالي فحَييتُها بعيني وابتسمت لي في المقابل، وبعدها خضنا لقاءنا الصّحفي اليومي الذي ركّزتُ فيه على قدسيّة عيني أمّي ولونهما الزّيتوني
ابتَسَمَتْ حين كنتُ أجيبُ باقتضابٍ شديدٍ وأحرّكُ شعري بعد كلّ جواب، فوجّهتْ لي السّؤال العبثي "ما بكِ؟" وحين أتعرّضُ لحاجزٍ كهذا، أبتلعُ أيّ شيءٍ ثقيلٍ حولي وأغص، أحرّكُ عينيّ في كلّ الاتجاهات وأنا أقول "هيّا، لا بدّ أن يكون هناك شيء" وأخيرًا أرفعُ حاجبيّ وأعلّقُ على الطّقس.

نزلتُ إلى الشارع، أمشي على مهل، أصافحُ الشّتاء الرّفيقَ وأنعَمُ بصوته المبحوح، أمتنُّ لكلّ ورقةٍ يحملها برفقٍ ولكلّ شجرةٍ يحرّك ذراعيها ويقول لها "أنت حلوة"، وكانت أشجارُ الخوخ التي بدأت بالإزهار تستوقفني، خدودها البيضاء الرّقيقة التي تشبهُ كلّ اللحظات النّاجية من الحرب، وكلّ الوجوه التي استطاعت المقاومة دون أن تذبل، والسّماء؟ إنها مثل ذراعك يا صديقي، ينفرُ منها الغيمُ كما تثور أوردتك، ويُسْمَعُ منها صوتُ عصفورٍ كما يزقزقُ في ساعدك قلبك، كان النّاسُ يتوزّعون بعشوائيّةٍ، وكم كان سهلًا أن ألاحظَ العشاق الذين يعبّرون عن انتظاراتهم بلذّةٍ، ويحملونَ حقائب جنونهم على ظهورهم ويتجوّلون، لهمُ العالمُ ممتدًّا على قدر اتّساعِ خطواتهم وبراعتهم في الرّقص

حين وصلتُ، واكتشفتُ أنني تأخّرتُ عن عملي ربع ساعة، قلتُ في نفسي بعد أن وضعتُ يدي على الزجاج البارد "لم يكن وقتًا ضائعًا ما دمتُ قد استمتعت فيه"


على الهامش : هذه التفاصيل تعود إلى الخامس من آذار من هذا العام وقد كان آخر عهدنا بالشتاء!

قصة قصيرة: افتح يا حبيبي






منتظرين في السيارة، كنت أنفخ لها القفازات حتى تكاد تنفجر فتصير مثل قنفذ أو حيوان بحري، وهي تعبث بها قليلا ثم تنساها، ربما لأن شكلها لم يعجبها. دللتها كما أفعل في كل لقاء: دغدغتها لأسمع الهواء يجري متقطعا من رئتيها في ضحكة عذبة، قبلتها لأرى زعلها وهي تضع يدها على خدها وتمسح آثار فمي. الجو حار كما يجب أن يكون في بدايات مارس، وهناك عباءات تدخل ثم تخرج بآلية وبلا معنى جمالي.
ابتعدت في ذهني عنها، كانت تطوي جسدها الهزيل حول يديها وتردد أناشيدها الخاصة، تساءلت: كيف تفكر؟ إنها لا ترى الحياة والناس كما أراهما، فكيف يفسر دماغها الجميل كل هذه الحركات؟ لعلها تتفاعل مع الوجود كأية سمك ملونة أو أي قطة شيرازية؟ لكن لا. إنها تغني وترقص وتحتفظ بالصور والذكريات وتتعلم اللغة وتعد حتى المائة! لا يمكن أن تكون كائنا بدائية لمجرد صغر سنها، بل هي كائن ذكي.. أذكى.
وإذا كنا نحن الكبار صغارا أمام كل جديد، إذا كنا صغارا أمام المعتقدات الجديدة والفلسفات والاكتشافات والفنون، فهل تعمل هذه التلافيف اللزجة داخل جماجمنا كما تعمل تلافيف نسرينة داخل جمجمتها؟
التفتُّ إليها، كانت تحاول باجتهاد إنزال نافذة السيارة، ثم التفتُّ إلى أزرار التحكم على يساري فوجدت نافذتها مغلقة من عندي.
سألتها وقد تكوّنت فكرة ما في خيالي:
- نسرين، ما تريدين؟
نظرت إليَّ بارتياب كما ينظر الكبارُ جدا عندما يسألهم الأكبر منهم، نظرة أخافتني لما حملته من معاني الانقطاع عن الخلوة والولوج في حلقة تواصل مع موجود آخر، نظرة نافرة تشبه نظرة "بن كنغسلي" في فيلم Selfless قبل أن يصير ذا هوية أخرى في الآلة الغريبة. أو بتصوير أبلغ، كانت نظرتها وشعرها الفوضوي المعلق في الهواء أشبه برأس "ميدوزا" وعينيها المجوَّفتين في لوحة لكارافاجيو.
أجابت إجابة تبريرية -وهذا ما نفعله دائما عندما نحاول فعل شيء خفية ثم نُكشف-:
- أريد أن أرمي هذه القارورة من النافذة.
حركت أصابعي إلى أزرار التحكم بخفة، قلت لها:
- هيا ارميها.
- لكنها رفضت أن تفتح!
- حاولي.. بقوة.
انصرفت إلى النافذة وتركتني، ابتسمت حين تصوَّرت حسناء تمر بمشاكل اجتماعية تتحدث إلى قدِّيس في ذات النهار من 2016 ثم تنصرف مرتاحة البال، لكنها لا تلبث أن تعود كما فعلت نسرينة. قالت بعد أن جربت زر النافذة وزر الباب وفتشت في الأعلى وفي الأسفل:
- رفضت.
سوَّلت لي نفسي أن ألاعبها، أو لأكون راويا حريصا لأتلاعب بها. قلت لها:
- قولي له: افتح يا حبيبي.
نظرت في عيني متسائلة، ثم قالت له: "افتح يا حبيبي". ولقد اخترت لفظ المذكر لأزيد المشهد شذوذا ولاواقعية، فلم يكن معنا كائن مذكر آخر، ولم يكن طلب "افتح يا حبيبي" مما يوجه إلى النوافذ الإناث. شعرت وقتها بأن الفص الأيسر من دماغ نسرينة يتردد في تأليف أسطورة صغيرة.
قربت فمها من زر التحكم وهمست برقة:
- افتح يا حبيبي.
فنزلت النافذة إلى المنتصف. نظرت إلي بسرعة. رأيت في ملامحها ما أراه في ملامح المؤمنين الخاشعين عندما تتحقق دعواتهم. فرحت معها بصوت عالٍ:
- هييييي، لقد سمع صوتك.
ثم وضعت إصبعي على زر التحكم. رمت القارورة، ثم عادت إلى مقعدها وقالت بثقة:
- افتح يا حبيبي.
وكانت تقصد: "أقفل يا حبيبي". فارتفعت النافذة. أو فرفعَ لها مخلوقها العظيم النافذة ملبيا طلبها الصغير.
بعد عدة محاولات من الطلب والتلبية، اختارت أسطورتها أن تخونها، فعلت هذا لتستحث فيها المزيد من الضراعة والإخلاص. حدث هذا فعادت إلي شاكية:
- لم يفتح لي.
- لماذا؟
- لا أدري.
- قد يكون غاضبا منك؟
صمتت، قالت:
- غاضب؟
- ما رأيك أن تجربي إرضاءه؟
- كيف؟
طلبت منها أن تضع يدها على الزر بحنان، أن تهمس له: "افتح يا حبيبي، هيا لأجلي".
- واو، لقد فتح لي.
قالت مبتهجة، ثم عادت تضغط الزر وترفعه لتختبر رضاه عنها.


وكما في القصص الطويلة، قررت أن أدخل شخصية أخرى في أسطورتها. وبالتأكيد كان هذا الشخص أنا. حدث هذا تحقيقا لرغبتها في رؤية نافذتي تستجيب لي وتفتح. لا أدري لم عُرض في ذاكرتي تلك اللحظة شريط من الصور لرجال دين مسلمين يضطهدون مواطنين نصارى في مدينة عربية ما. قد يكون هذا تشبيها غير بلاغي، لكنه لم يكن تشبيها، بل كان ألبوما صعد من اللاوعي. لكن ألا يكون رجال الدين المسلمين هؤلاء يطالبون النصارى بما تطالبني به نسرينة؟
حنيت رأسي لزر نافذتي، وقلت له:
- افتح يا حبيبي.
لكنه تحجَّر ولم يفتح. فلم أجد بُدا من البحث عن وسيط بيني وبينه، وسيطا له تجارب عميقة معه وله كرامات. قلت لنسرينة:
- نسرين.. هيا اطلبي منه أن يفتح لي.
فهزت رأسها، وحركت جسدها حتى جلست على فخذي، وقالت له:
- افتح يا حبيبي.
لكنه لم يحترم جمالها فواصل التحجُّر، وتخيلته ينظر إلى أطفال غيرها. أنا شخصيا شعرت بالمنافسة، فكوني أنا المتحكِّم والحبيب والقديس والمرجو والراجي جعلني أعترف بأنني أعظم منه هو الذي لا يتجاوز أسطورة في ذهن طفلة في الرابعة، فدفعتني أنانيتي للتلاعب به، وكان تلاعبي به ينعكس على نسرينة فتيأس وتخجل من صوتها.
- افتح يا حبيبي. افتح يا حبيبي. افتح يا حبيبي.
وفي المرة الثالثة نزلت نافذتي. صحنا أنا وهي انتصارا. وصارت "المرة الثالثة" مرحلة مقدسة بالنسبة إلى نسرينة. فكانت في كل مرة تقاسي جفاء الأسطورة الحبيبة تكرر هذه الصلوات ثلاثا فتنفتح لها كل النوافذ. وحقا انفتحت كل نوافذ سيارتي عندما ضغطت على الأزرار الأربعة.
لكن هذه الأسطورة لم تكن تطربها صراخات الانتصار والسعادة. كانت تحب أن ترى طالبيها حزينين وخاشعين ومشغولين بها. فهي تحرمهم من إجابة الصلوات لأنها تريدهم قريبين منها، لأن أصواتهم المبحوحة الدامعة تلذ لها. أما إذا أرادت أن تقصي أحدا لأن صوته الخشن لا يبعث في نفسها الراحة فإنها تستجيب له لئلا يعود صوته يزعجها. وهذا ما حدث معي عندما استجابت لي ولم تستجب لنسرينة.
قالت نسرينة:
- لماذا لم يفتح لي؟ غاضب؟
فأجبتها عنه:
- نعم غاضب ولن يفتح لك مرة أخرى.
وكانت تراه ينعم علي بالإجابات، فيفتح نافذتي أو نافذتها أو النافذتين في الخلف. غضبت نسرينة وضربت النافذة بيديها، ثم عادت إلى مكانها تتنفس بسرعة، ثم عادت إلى النافذة وبصقت عليها.
شعرت بالسخرية منه، لكنني لم أكن أسخر إلا من نفسي. وسخرت من نسرينة أيضا. وهنا نبت الحسد في قلبها الرقيق، وصارت "قابليل" حاقدت يخطط لقتلي. ضربتني بيديها وبصقت علي. فافتعلت الغضب منها ونهرتها.
- لا تفعلي هذا مرة أخرى.
انتقلت إلى المقاعد الخلفية، وانكمشت في فراغ  يضع فيه الركاب أرجلهم. صمتُّ أتأمل كل هذه الأحداث التي تولدت من مجرد استجابة عشوائية لهذه العبارة العاطفية "افتح يا حبيبي". وفي الوقت نفسه لم أحتمل هجر طفلتي الرائعة، فصلَّيت للأسطورة أن ترضي قلبها عني.
نزلت النافذة بتلقائية بفعل مُحب مهجور في مكان ما بعيدٍ عن حبيبته، وهب هواء ساخن حرك شعر نسرينة، فالتقت عينانا الساخرتان من الأسطورة، وضحكنا.
بعد ربع ساعة من الانتظار، مددت جسدي متثائبا، ثم أحسست بقبلة على عضدي الأيمن.


* هذه المشاهد حقيقية، ونسرينة الجميلة هي طفلتي. 

08‏/03‏/2016

الكلام مع النفس: مرض نفسي؟




هل تتكلم مع نفسك؟ بالتأكيد نعم، كلنا نفعل هذا، أنا أتكلم مع نفسي بصوت مسموع طول اليوم، ربما أحتاج إلى مراجعة طبيب لأنني مريض؟ لا، بل هذا دليل على أنني منظَّم ومتفاعل مع نفسي ومهتم بها، بل يعني أنني سأجد ما أبحث عنه أسرع منك.. هذا إذا أصررت على الإجابة بـ "لا".
الكلام مع النفس سلوك شائع، وهو عملية معالجة لغوية للأفكار. قد نتكلم مع أنفسنا داخليا بدون النطق بالكلمات وهذا هو ما يسمى Inner speech، أو بنطق الكلمات Self talk.
كثيرا ما يرتبط مشهد رجل يتحدث إلى نفسه بالجنون أو المرض النفسي، وبرغم وجود هذا النوع من السلوكات عند بعض مرضى الفصام schizophrenia أو مرضى تعدد الشخصية multiple personality disorder، إلا أنه طبيعي وصحي. 

تقول عالمة النفس Linda Sapadin: "الكلام مع النفس لا يخفف الوحدة وحسب، بل يجعلك أذكى" [1]. وتذكرفي مقالتها أربعة أنواع للكلام مع النفس، هي: 
1- الكلام الإطرائي complimentary: بعد إنجاز مهمة صعبة، ربما ستقول لنفسك: "يا سلام، أنت رائع، أنا سعيد جدا لأجلك". إنك لن تنتظر الآخرين حتى يكلفوا أنفسهم الثناء على إنجازاتك الصغيرة. 
2- الكلام التحفيزي motivational: "هيا، لم تتبق إلا صفحات قليلة، سأكمل قراءة هذا الكتاب ثم سأذهب لأكافئ نفسي بوجبة عشاء". 
3- الحوار مع النفس outer-dialogue: تلقيت رسالة من صديق يخبرك بأن هناك عرضا للسفر إلى سويسرا بعد أسبوعين، من السهل أن تتوصل إلى قرار معقول إذا حاورت نفسك: "أنا أريد السفر إلى سويسرا، لكن... ليس معي مال كاف، ما رأيك في تأجيل هذا المشروع؟ لكن مدة العرض محدودة، إذا اقترضت مبلغ كذا من أبي هل سأستطيع السفر؟ يااااه".
4- التخطيط goal-setting: عندما نسمع الآخرين يقولون "برافووو" سنشعر بالرضى عن أعمالنا، لكن ماذا لو كنا في عالم مليء بالضجيج الفارغ؟ ماذا لو كان من حولنا لا يهتمون بأهدافنا؟ الكلام مع النفس، مثلا بهذه الطريقة "اسمع، لقد تبين لي أن التدخين يمكن أن يجعل حياتي أسوأ، وأنا أحب حياتي جدا، أحبك جدا، فهل ستساعدني على إيجاد حياة أفضل بعيدا عن السجائر؟" وطبعا هذا الكلام ليس موجها إلى صديقك المقرب، بل صديقك الأكثر قربا: أنت. 

غالبا ينطق الناس بصوت مسموع أسماء الأشياء التي يبحثون عنها. "أين هذا المفتاح؟ أوووه أين نسيته؟ أذكر أنني وضعته على المكتب.. لكنني..". الأطفال يتحدثون مع أنفسهم كثيرا [2] ويرددون الكلمات التي يسمعونها من الآخرين في مراحل تعلمهم الأولى [3]. تذكر إحدى الدراسات أن الحديث مع النفس يساعدنا على تنظيم أنفسنا، الاحتفاظ بالأشياء التي نبحث عنها في الذاكرة العاملة working memory، الوعي بذواتنا [3]. 
وفي دراسة أخرى، وجدوا أن سماع الشيء الذي نبحث عنه يجعلنا نجده في وقت أسرع. عند البحث عن الرقم 2 في هذه السلسلة 55555 الأشخاص الذين سمعوا "اثنان" أو "أهمِلْ الرقم خمسة" احتاجوا وقتا أقل لإيجاد الرقم اثنين. و السبب هو أننا عندما نسمع "كتاب" -مثلا- ننشط كل الصفات المتعلقة بهذا التصنيف ونبقيها حاضرة في ذهننا، ونهمل أي تصنيف غير متعلق، مثل "موبايل أو قلم"، وهذا يسرع عملية إيجاد الكتاب في غرفة غير مرتبة. 

لكن إذا كان الكلام مع النفس صحيا وجيدا، فقد يكون سيئا ومرضيا أحيانا. توجيه الكلمات السلبية والانتقاصية إلى النفس "أنت بشعة.. منظرك مقرف.. أنا مواهبي قليلة.. أنا لا أستحق الاهتمام" ستضعف طاقتنا وتقلل إنجازاتنا وقد تجعلنا كئيبين. من المهم أن نوجه الكلمات الجميلة إلى أنفسنا -وهذا شيء أفعله كل يوم- وعلينا ألا نقلق فالناس في الخارج مستعدون دائما لنقدنا. 


استمتعوا بسماع أصواتكم. 


المصادر: 
[1] psychcentral.com/blog/archives/2012/12/07/talking-to-yourself-a-sign-of-sanity
[2] sapir.psych.wisc.edu/papers/lupyan_swingley_2011.pdf
[3] www2.mtroyal.ab.ca/~amorin/ISentryv3.pdf

تفاصيل (2)~ فوضى الأصدقاء





الرابعة عصرًا!

أنهيتُ غدائي الشهي الذي لم أحرقهُ اليوم، وكنتُ مُرفّهةً بما يكفي لأحصل على كأس شاي بالزّنجبيل، وعلى كلماتٍ مليئةٍ بالعاطفة إذ تلقّيتُ رسالةً تقول: "قال لي facebook أن اليوم هو عيدُ المرأة العالمي وأنت كلّ النساء، فكلّ الأيام عيدك"، ابتسمتُ بهدوءٍ وأنا أحكُّ صدغي الأيمن وكعادتي تلعثمتُ قبل أن أردَّ بشكلٍ مُقتَضبٍ مُرفَق برسمٍ تعبيري.

أتّخذُ الآن -بعد أن خفَّ الضّجيج- وضعيّة اليوغا وأفكّرُ في احتمال أن يجلس أبي بجانبي حتّى نضحكَ قليلًا، وحتّى يُعيرني سيجارتهُ أو يبدو وجهه الأثير ضبابيًّا لا يفتح طريقهُ إلا لي.
أفكّرُ أن أغنّي أغنيةً رديئةً وأن أرقص بحركاتي اللا موزونة التي تسبّبُ لي السُّكْرَ وتضحكني، أعرفُ أن أرقص كما تتحرك "عصّارة البرتقال" وبإمكاني أن أخترع تموّجاتٍ تليقُ بأغنية "ياريت" الفيروزيّة.
لقد كنتُ أُحيي حفلاتٍ لا بأس بها في المدرسة حين كنّا نُهرِّبُ الكعك المليء "بكريما الفانيليا"ونشربُ كؤوسًا كثيرةً من "الكوكا كولا"، كانت صديقاتي بعد ذلك ينتخبن خصري سفيرًا للنوايا المراهِقة المجنونة.
كنا مجموعة من الفوضويّات اللواتي أخذن الحياة كما يُؤخَذُ الأطفال، ووضعن لها صندوقًا لتكتبَ مشاكلها ولم نكن نجدُ حلًّا أفضل من الرّقص
نرقصُ حين نجوع
حين توبّخنا المعلمة
حين يسألنا أستاذ الفلسفة حسين عن "إصبع الأنا"
حين يقولُ لنا بائع الخبز "يبعتلكن حمى"
حين نلعبُ "ثلج وحرارة"
وحين نرسبُ في مادّة الرياضيات لأنّ الآنسة ظلّت تدور حول الخطّ المستقيم دون أن تجعلنا نحدّثه مباشرة أو نضع عليه نقطه
نرقصُ حين نعرفُ أنّ لصديقتنا عاشقًا حقيقيًّا كتب لها رسالة وحشاها بالورد وعطّرها
وحين نستعيرُ الكتب بناءً على عناوينها ثمّ نُحكِمُ حلقةً ضيّقةً ونتناقشُ في أقصى تعابيرها بذاءة!
نرقصُ حين تسألنا المدرّبةُ عن أحذيتنا السوداء، وتغسلُ وجه فتاةٍ بالماء البارد لأنها وضعت القليل من الكحل
نرقصُ حين نهربُ من حصص اللغة الإنكليزية فنختبئُ في غرفةٍ مهجورةٍ ونقرأُ الأبراج ونتساءل "ماذا يعني المضارعُ البسيط؟"
فنقفزُ إحدانا وتقول "هو الآن الذي سيبقى حقيقة إلى الأبد"

على الهامش: مازلنا فوضويات 

07‏/03‏/2016

تفاصيل (1)~ الجدار السحري





الثامنة إلا دقيقة صباحا

يعمُّ الهدوء وأستطيعُ أخيرًا أن أسمعَ صوتَ أنفاسي ببطءٍ وبشكلٍ موحش، أشعرُ بالأسفِ حيالَ هذه الحياة السّاخرة، وتمرُّ الذّكرياتُ بقربي مبلّلةً وباردة، ومن ثَمَّ تصطدمُ بي وتبلّلني أيضًا، أبقى أراقبُ ارتفاعي وانخفاضي بوتيرةٍ شبهِ ثابتةٍ، وأعلّقُ عيني على الجدارِ المتقشّرِ بفعلِ الرّطوبة، وأتساءلُ السّؤال الأمنيّ البحت "ماذا لو كان له آذان؟" ثمّ يتّشحُ فمي بابتسامةٍ خفيفةٍ جدّاً أكادُ أجزمُ أنها كذبة
أمدُّ يدي نحو بشرة الجدار فتنتابني القشعريرة وأحسُّ أنّهُ يتحمّلُ جمودهُ وبرودتهُ أكثر منّي مع أنّهُ لا يثور ولا يمتلكُ فرصة أكل الشوكولا، حتى أنّهُ لم يعترض على خربشاتي وكوني قرّرتُ في فترةٍ سابقةٍ أن أصنع منهُ دفترًا وأودِعَهُ كتابتي الرّديئة، وتكراري لبعض الكلمات المهمّة، ومحاولاتي البائسة لرسمِ شبحكَ الذي لا يفتأ يزورني ويسرقُ خبزي،
أسندُ رأسي، بل جسدي كلّه على ذراعهِ الضخمة وأغمض عينيّ وأنا أقول "على الأقل، لن ينهار، لن يتأفف من وزني وغلاظة حزني ولن يعتدي عليّ بالتعبيراتِ الحمقاءِ بحجّةِ أنه يريدُ مساعدتي"

يرنّ هاتفي، ربما مرّةً ونصف، يتلقّى رسالةً نصيّة، وأسمعُ نحيبَ الأجواء إثر مرورِ رجلٍ جاء للتوّ ورحلَ أيضًا، يصرخُ جارنا على زوجته الثانية رغم أنها "أنجبت له ولدًا يحفظُ إرثَ العائلة ويحملُ اسمَ والدهِ العظيم!"، تضحكُ أنثى بمياعةٍ وهي تحرّكُ -كما أفترض- شعرها نحو الخلف، تتسرّبُ الحياةُ لا أدري من أين ويضيعُ الهدوءُ شيئًا فشيئًا.
أدركُ أن استمتاعي بالجمودِ قد توقّف الآن، فأتّصلُ بصديقتي لنفتح حديثًا آدميًّا ونتناقش حول آخر حفلةٍ نودُّ حضورها وكيف أنّ الفستان البلاتيني يليق بي ومن الممكن أن أعطيها أقراطي البيضاء إن كانت بحاجةٍ إليها، وينتهي حديثنا البسيط بسؤالي الدائم "نذهب إلى البحر؟"
فنضحك
نضحك
ويتحرّكُ الجدارُ أخيرًا..


على الهامش: هذه هي البداية.

06‏/03‏/2016

مأتمٌ جميل في غابة


اللوحة لـ Leonid Afremov  

في صباح أقل جمالا وأكثر حزنا
اندفعت قطرة ندى على سطح ورقة
لم تتعلق بطرفها المسنن في انتظار مصوِّر بارع
بل استقرت في المنتصف
وكانت أقرب إلى الطرف في حالة غير مستقرة
في هذا الصباح
تكوين الورقة لم يكن مهيئا لاحتمال ثقل القطرة
فبدأت تتمزق ببطء
وتنسلخ من الغصن الذي يبسط في الضباب أوراقا كثيرة.

غنَّى عصفور جذَلا بعشِّه الجديد
وهب نسيم غير دافئ
وماس كل غصن أخضر ريَّان آمنا في جذعه المتين
هدأ عصفور آخر يائسا 

لسبب تجهله دودة تتلحف بالتراب المبلل 
والمشوب بالملح والحشرات الصغيرة
والأوراق اليابسة
ولم تدرك الغابة ألم التمزُّق 

الذي يحدث بعيدا حتى عن قطرة الندى نفسها.

عندما ارتفعت الشمس 

وهزت العصافير الأغصان المتيقِّظة
سقطت أوراق بالغة الجمال والصِّغر
لكنها بعيدة عن المشاهدة
ولم تكن تصارع قطرة ندى
ولولت غصون أخرى
لكن لم يسمعها أحد.

التمزُّق يؤلم الأوعية الصغيرة المتفرعة
الورقة تنذبح
وتلهث حاملةً عبئها بقلق
يضربُ الغابة نسيم يهز الأعشاش 

وينعش العصافير الجديدة
لكنه لا يزيح قطرة ندى تقتل ورقة
في تلك اللحظة 

ارتاح الغصن حينما رد النسيم إليه جزءا منه
لكنه لم يلبث أن فقد المزيد.

الندى شديد على الورقة
 مثل كرة من الزئبق
متماسكة لا تنحل
تتحرك من المنتصف إلى الطرف ثم تعود
مُتسببة في انشداد مؤلم
لم يدركه إنسان هناك يتلذذ بسلام الطبيعة. 


وفي صمت الجذع المتين ذي اللون البني الداكن
الذي يطعن الأرض بجذوره القاسية
ويمتصها
تفككت آخر صلة لهذه الورقة بالغصن
وسقطت.

كان سقوطها مدوِّيا
وفجع الورقات الأخرى التي تشاركها الحياة
لكن
من كان سيُسمع الغابة كلها هذا البكاء؟
لولا أن الورقة سقطت على رأسي.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.