29‏/08‏/2015

أخلاق للبيع


فيليب دي شامبين، Vanitas
إنه إنسان مسكين. حياته في غاية الرتابة. لا قيمة له لذاته، بل في كمية الأوراق التي يحملها كل صباح من مكتب المدير إلى مكتبه الصغير. يصح أن نطلق عليه اسم "نكرة" لولا أن اسمه الحقيقي هو "مسعود أبو السعود".وليس له من اسمه إلا حظ النداء.
يتعب مسعود من تملق الناس حوله، ويأوي إلى جذع شجرة ليحظى بوقت صادق يشعر فيه بوجوده وقيمته. وفي لحظة يأسه واعتراضه يلمح منزلا بعيدا، فيركض إليه وقد ظن لأسباب مجهولة أن حياته ستتغير.
"أخلاق للبيع" كتبت هذه العبارة فوق باب المنزل، فأوحت بأنه متجر لبيع شيء ما لا يهتم به الناس كثيرا. يدخل مسعود، ويلتقي بشيخ منشرح الوجه خاشع الخطوات، ثم يعرف منه أنه بائع "أخلاق"...

لطالما كانت قضية الأخلاق شاغلة الإنسان، وبالإضافة إلى مسائل الحياة والموت وما بعد الموت، تشكل الأخلاق عقدة لا تنفك تزداد تشابكا وتعقيدا إلى يومنا هذا. أما في يومنا هذا، فالإنسان بكل خوف يتناول هذه القضية متسائلا ومجيبا وصامتا لغاية يجهلها. لعله الغموض الذي يحيط بها، أو الخوف. فكأن الأخلاق مخلوق أسطوري متوحش سيكون لطيفا أن نصمت عن وصفه.
نعيش كل يوم ضياعا أخلاقيا في أكثر حالاتنا، بدءا بشريط أخبار التاسعة صباحا، إلى أصوات تفجيرات التاسعة ليلا. وعندما نأوي إلى غرف نومنا نسأل بكل جدية: لماذا لا ينتهي كل هذا؟! ولكن النعاس يغلبنا فننكفئ نائمين، ونترك مهمة الإجابة لباحثٍ ما سيفوز بجائزة عالمية على ورقة بحثية يستنتج فيها أن الإنسان بطبيعته مخلوق "لا أخلاقي". وبالمناسبة، هذه هي بداية ونهاية فيلم "أرض النفاق" الذي نحوم حوله. الفيلم الذي أخرجه فطين عبد الوهاب عام 1968 مستندا إلى رواية بنفس الاسم ليوسف السباعي.
في الفيلم، يقوم الممثل الرائع فؤاد المهندس بتمثيل دورنا نحن، عندما نعيش في مجتمع عبثي، ونحاول أن نشاركه عبثيته، بعد أن اكتشف هو أن المسكنة والطيبة لم تنفعه. وكما قد نفعل نحن، سأل مسعود ذلك الشيخ الوقور أن يبيعه أخلاقا دنيئة كالخسَّة والنذالة وقلة الأدب فأجابه بأنها نفدت. فما الذي بقي كاسدا؟ هذا السؤال الذي نطرحه مندهشين، فيجيب الشيخ بأن "الصبر" و"الكرم" و"الشجاعة" هي ما تبقى. يقرر مسعود أن يأخذ "حبوب الشجاعة" ويخرج.
في الحي، يتغير مسعود تماما، فيروح يضرب هنا وهناك من يعترض طريقه، وكذا في البيت، وكذا في المؤسسة التي يعمل بها. لكنه يكتشف بعد مدة أن الشجاعة لم تجلب له إلا كل الشر، فزوجته تخاف منه وتطلب الطلاق، وأهل الحي الذين ضربهم أوصلوه إلى السجن، ومديره يهدده بالطرد.
أحداث الفيلم تسير على هذا المنوال، كلما بلع مسعود "حبة أخلاق" وعطس فهذا يعني أن مفعولها قد بدأ، ويبقى لأيام يتخلَّق بالحبَّة التي بلعها، سواء أكانت "النفاق" أو "الصراحة"، وبعد أن ينتهي مفعول كل خُلُق يندم مسعود ويعود إلى الشيخ الذي يكون خيِّرا مرة وشريرا مرة أخرى. مسعود هو نحن، وهذا الشيخ هو ثقافتنا. إنها هي ما يملي علينا أخلاقنا، ثقافتنا بكل أشكالها الكثيرة والمختلفة.

هل الأخلاق صفات فطرية نولد بها؟ أم تعليمات نكتسبها من الحياة؟ أم هي شبح كما يرى بعض الفلاسفة؟ أم هي عبادة كما يرى المتدينون؟ ما هي بالضبط؟ لم تبور تجارة أخلاق كالكرم والصدق بينما تنفد بضاعة النفاق واللؤم؟
أدرك أن أسئلتي قديمة ومبتذلة، وأدرك أن الإجابة عليها مهما كانت أنيقة ومقنعة ستبقى محاولة نظرية باردة، وتبقى الحقيقة غائبة مغيَّبة.

كلنا ذلك المسعود الذي جرب أن يكون صريحا كما جرب أن يكون منافقا، فما الذي بوسعنا أن نقدمه لموضوع الأخلاق ولو كان نظريا باردا؟ ما الذي يمكن أن ندلي به في محاكمة الواقع الذي نعيشه؟ في مكان ما تنعم عائلة بكل الراحة والطمأنينة، وعلى بعد أمتار منها تقاسي عائلة أخرى كل ما نستطيع تخيله من العذاب والهوان؟ هل الأخلاق وراء كل هذا؟

إن مسعود نفسه يتناول -مثلنا- الأخلاق بلا أخلاقية، إنه يسرق حبات الأخلاق من الشيخ الذي يعلم كل شيء، إنه يريد أن تكون له أخلاق وهو يغوص في لا أخلاقيته. ونحن، عندما نفلسف الفقر إنما نفلسفه بعد وجبة غداء دسمة، ونتوق إلى شرب شيء دافئ يلهمنا لنكتب عن البرد والغربة. لكن من يلومنا؟

في النهاية، بعد أن ييأس مسعود أبو السعود من مجتمعه الذي اكتشف -بعد عجزه عن أن يكون مثله- أنه منافق، لمح في لحظة حاسمة كيسا قد دُسَّت فيه حبوب كثيرة وكتب عليه "خلاصة الأخلاق"، فسرقه ونثر ما فيه من أخلاق جميلة في مجرى النهر الذي يشرب منه كل الناس... وما هي إلا ساعات حتى صار مجتمع مسعود "يوتوبيا" أفلاطونية، يسير على الطرقات وادعا ونظيفا كمجتمع لا يمكن أن يكون إنسانيا. لاحظ مسعود والشيخ كل هذا، إلا أننا انفصلنا عنهم، فأين يمكن أن نلاحظ مجتمعا إنسانيا بهذه الصفات؟
ولكي يذكرنا يوسف السباعي بأن الأخلاق، وإن حلَّت في مجتمع ما، تغادر بسرعة، قدَّر أن ينتهي مفعول الحبوب بعد أن "عطس" الجميع وصاروا صالحين.
عاد الرجال في حي مسعود إلى العدوانية، وعادت زوجته إلى تسلُّطها، وعاد مسعود إلى محل بيع الأخلاق فوجده مغلقا، وقرأ بجانبه يافطة تقول: "مغلق لعدم وجود أخلاق".

أفلح يوسف السباعي في طرح القضية، ونوَّع فيها تنويعا يدركه مشاهدو الفيلم، لكنه كان متشائما إلى حد بعيد، نستطيع أن نرى هذا في النهاية بالتحديد. وأيضا، عنوان الرواية لا يجود بالكثير في توضيح محتواها، فلو كان "أخلاق للبيع" لكان أكثر تمردا وإغراء.

لكن السؤال الذي يبقى الأهم بعد كل هذا هو: هل حقا لا توجد أخلاق؟ وإذا أردنا أن نجيب فعلى ماذا نعتمد في إجابتنا؟ على كتبنا المقدسة والعلمية؟ أم على مشاهداتنا الواقعية؟ أم على الافتراض التي لا يقدم شيئا. وهبوا أننا حاولنا جاهدين أن نجيب على هذا السؤال، فما جدوى الإجابة؟ وما نفعها المباشر لإنسان هذا العصر؟

أظن أن اللوحة في الأعلى لدي شامبين تقدم وصفا صامتا لما كنا نخوض فيه، وهي تنتمي إلى مجموعة لوحات كثيرة أخرى اشتهرت في القرن السابع عشر في هولندا، حيث يصور الرسامون الجزء الجمادي والعبثي من الوجود، فترى جماجم بشرية في كل الأحوال داخلة في كل تفاصيل الحياة، وفي هذه اللوحة نرى جمجمة إنسان تتوسط ساعة رملية وزهرة لوتس، وبهذا تبدو هي الأبشع، فإلى جانب الوقت والجمال اللذين يكونان معظم تفاصيل حياتنا، ترمز الجمجمة إلى العبثية والرعب والبدائية.. ترمز إلى الحقيقة التي تنقشع بعد أن يموت هذا الكائن الجمالي؛ أنه كان يتكلف الرقة تكلفا، وأنه في جوهره وحشي ومخيف.




28‏/08‏/2015

الفن بلغة تطورية




واحد من أعظم ألغاز الفن هو لماذا الفن موجود؟ ومع أن رغبتنا لابتداع الفن والاستمتاع به شائعة جدا لدرجة أنها تبدو طبيعية كالأكل والتكاثر -الثقافات كلها تقريبا ترسم، وترقص، وتغني، وتؤلف الشعر، وتحكي القصص- إلا أن أصول الجماليات aesthetics لدى الإنسان غير محددة. الغريب في الأمر أننا إذا نظرنا إلى الفن أيا كان من ناحية بيولوجية فإنه لا يوفِّر أية مميزات تكيُّفية. ولماذا قد يودُّ أسلافنا قبل التاريخ أن ينفقوا وقتهم في الرسم والزخرفة بدلا من الصيد والجمع؟ ويبدو أن من غير المحتمل أن يكون الشعر قد ساعد أحدهم في أن يأكل أو يتكاثر. عقلنا يحتاج إلى ما يقارب 20% من طاقتنا الأيضية  metabolic energy و40% من سكر الدم، حتى مع أنه يشكل فقط 2% من وزننا. إنه عضو مكلف، فلماذا نضيعه في الاهتمامات الجانبية كالفن؟ 

من بين كل الفنون، تحظى الموسيقى بالاهتمام الأكبر عند علماء النفس التطوريين. والنظرية السائدة هي أن "الموسيقى" قد تكون اختيارا جنسيا. وبالطبع، كان داروين أول من أثار هذه الفكرة في كتابه "أصل الإنسان"، وقد عبر عنها قائلا: "عندما يثير الخطيب المتحمس أو الشاعر أو الموسيقيُّ بأنغامه المختلفة وإيقاعاته أقوى المشاعر في مستمعيه، يراودنا بعض الشك في أنه يستعمل ذات الوسائل التي استعملها أسلافه أنصاف البشر لإيقاظ العشق المتَّقد في بعضهم أثناء مغازلتهم ومنافستهم". 
لاحقا، في القرن العشرين، أيد علماء النفس التطوريين جزئيا هذه الطريقة في التفكير ومنهم جيوفري ميللر Geoffry Miller ودانيال ليفيتين Daniel Levitin. قالوا إن الموسيقى هي نوعا ما طريق للحصول على الأنثى. لكن علماء نفس آخرين مثل جاري ماركوز Gary Marcus شككوا في هذه الفكرة بأن أشاروا إلى مشاكل متعددة، منها أن الإناث بارعات في الموسيقى كما الذكور! يقول جاري ماركوز: بالإضافة إلى أن استثمار الموسيقى في نقل جيناتهم يبدو كرهان مرعب إذا التفتنا إلى معدل التفاوت بين الموسيقيين الفاشلين والناجحين. وإلى جانب هيندركس Hendrix (عازف روك أمريكي) و جاغر Jagger (شاعر وملحن إيطالي) وآخرين قليلين، الموسيقيون نادرا ما يحصلون على النجاح الكافي أو الاعتراف بأغانيهم لإعطائهم ميزة جنسية تُذكر. ويشير ماركوز إلى أن الأكثر أهمية هو أن الموسيقيين يبحثون عن الموسيقى لشغفهم بها، لا للتأثير في الآخرين. 

وهذا هو المُلغز في الموسيقى: إنها تضعنا في حالة مدهشة من الانسياب والخفَّة. وأكثر من ذلك، إنها تمنح الموسيقيَّ والمستمع المعنى والغاية والارتياح. وكما قال نيتشة إن الحياة بدون الموسيقى خطأ. بعد كل هذا، يبدو غريبا حقا أننا نحن البشر نحصل على الكثير من شيء ما تافهٍ بيولوجيا. وفي حين أن لذَّة فطيرة الجبن واضحة عندما نتكلم عن السافانا الأفريقية (حيث يصعب الحصول على السكر والدهن)، يصعب الحديث عن الموسيقى بلغة تطوُّرية.

هناك طريقة لحل هذا اللغز، أن نقول إن الموسيقى ليست هي المنتج المباشر لعملية التطور في المقام الأول، وبدلا من هذا، هي منتج ثانوي byproduct لقدرات معرفية أخرى كثيرة مثل اللغة والعاطفة. ومن ثم، فالموسيقى الجيدة تقوم بعمل جيد في إعطائنا درجة معينة من المتعة. هي "فطيرة جبن سمعية" بتعبير آخر. هذا الرأي أثير بواسطة ستيفين بينكر Steven Pinker في كتابه "كيف يعمل العقل؟". وكما قال بينكر: "الموسيقى هي هدية مُتقنة ابتُكرت لتداعب المناطق الحساسة لست من وحداتنا العقلية على الأقل".

أصول نشأة الأعمال الفنية المرئية قد تكون أوضح. وللحظة، عبر كل الثقافات، فضَّل البشر البيئات التي يحصلون فيها على ميزة الارتفاع، فهناك منطقة مفتوحة من السافانا وتجمعات للمياه، وأرض كهذه كانت مثالية لأسلافنا الذين عاشوا في السافانا الأفريقية. لذا فليس من المصادفة أننا نبدي تفضيلا قويا للوحات التي تصور مناظر طبيعية مفتوحة وواسعة، وتضم زهورا وأراض خصبة وتجمعات مائية من نقطة ارتفاع مُطلَّة. 


الخلاصة أننا لا نؤلف الموسيقى للخفافيش أو الدلافين، ولا نرسم اللوحات للخُلد ذي الأنف النجمي الأعمى star-nose mole. وفي الواقع، إنتاجنا الجمالي وتفضيلاتنا محدودة ببيولوجيتنا. الفنون بالفعل محدودة في هذا السياق. إحساسات الشم والتذوق لدينا متدنية إلى حد كبير عن الحيوانات الأخرى في المملكة الحيوانية. ونحن نرى فقط شريحة صغيرة من الطيف الكهرومغناطيسي. وبقدر ما يبدو الفن غير محدود، نستطيع أن ندرك ونعبر عن جزء طفيف من الواقع. اتجاهنا السمعي المرئي للعالم سوف يكون دائما محدودا. 

مع ذلك، يصر الفنانون على تحدي التوقعات، وخرق العادات. فعل هذا سترافنسكي Stravinsky في عمله "طقوس الربيع The Rite of Spring"، وبيكاسو Picasso في لوحاته التكعيبية Cubism، وجويس في "صحوة فينيجان Finnegans Wake". ما يميز هؤلاء الفنانين هو بحثهم الدؤوب عن التجديد. لقد أرادوا إبقاء جمهورهم في حالة من الانسياب. وهذا البحث -التوق إلى التفوُّق- قد يكون اللغز الأكبر. 
كيف تشرح ظاهرة جاكسون بولوك Jackson Pollock أو آندي وارهول Andy Warhol بلغة تطورية؟ 
إن من الغريب وجود الفن، والأغرب ربما هو أننا نستكشف باستمرار طرقا جديدة للتعبير عن هذا المنتج الثانوي غير المتوقع! 

* مترجم بتصرف. المقالة الأصلية بعنوان "تطور الجماليات: أصول الموسيقى والفن المرئي" للكاتب Sam mcnerney. 


27‏/08‏/2015

من أفكار أبي المأثورة (1) ~







لقد كنت محقاً يا أبي بشأن الرّبيع،إنه يأتي أكثر من مرة!
بالأمس مثلاً رفعتُ خصلات شعري وكشفتُ عن وجهي كاملاً فلاحظتُ مروجاً من العشبِ الأخضرِ تصفّقُ على رقبتي.
منذ أسبوعين ارتديتُ فستاناً أبيض بأكمامٍ من "الدّانتيل" ورحتُ أدورُ بزهوِّ الأطفالِ على أغنية "ضيّعْ ئلبي ورحتْ بلاش"
فتكوّنت أجماتٌ من الزّهورِ الملوّنة حول قدميّ وطار عصفورٌ صغيرٌ من يدي نحو خاصرةِ العالم البائسة. من شهرٍ ونصف،
بكيتُ بحرقةٍ لأنني لم أستطع تصوير السماء لحظة احتضانها "لنجمة المغرب" فانتبهتُ لنموّ أشجار التفاح وقدوم الكثير من الغرباء 
ليحتموا بفيئها جالبين معهم السّلال المعبّأة بالطعام والآلات الموسيقيّة، ومصطحبين قططهم الأليفة التي راحت تتشمّسُ على رجليّ وتموء بكلّ لطف ..
أخبرني يا أبي، كم مرةً يأتي الخريف؟


على الهامش: "نامي ولا تنامي يا صغيرة الرّبيع
نامي بالسّلامة، ئبل الدّنيا ما تضيع!"


26‏/08‏/2015

رسالة أولى..




صديقتي التي سافرت على متن قذيفة طائشة
لقد زرت أمك منذ أيام وكانت لا تزال تبكي بحرقة وهي تقول إنك مت عن طريق الخطأ.
لقد أدهشتني حقا، لكنني كنت رحيمة بما يكفي كي لا ألقي عليها محاضرة تفيد بأننا نموت في الوقت المناسب بالضبط وفي رواية أخرى وأكثر تعقيدا فإننا لا نموت أبدا.
جلست بجانبها وأنا أتفهم تماما حزنها الذي دفعها لتصور بائس كهذا، فأمسكت يدها وحاولت أن أحقنها بقليل من الدفء. حين أجهشت بالبكاء وشهقت عرفت أن الدفء قد وصلها وأنها الآن مرتاحة بما فيه الكفاية لتقبلك على مهل وتطلعك على كل شيء. ستقول لك إنك كنت مبتسمة وكان نعشك خفيفا لم يتعب أكتاف الحاملين ولا بد أن تصدقيها يا عزيزتي.
أنا نفسي رأيت العصفور الصغير الذي غط في وجهك ونام. رأيت جموعا من الزهور الصغيرة ترفع غطاء عينيك وتتسلل داخلهما. رأيت قطعا من السكر تذوب في شرايينك فيسيطر عليك اللون الأبيض وتصبحين شفافة ورقيقة كما لم تكوني يوما.
لكن أحدا منا لم يعرف إلى أين ذهبت بالضبط. وقفنا مدهوشين أمام عتبة منزلك الجديد نقيس المساحة التي ستضم جسدك. المساحة التي ستكفيك لتطبخي وتستحمي وتنامي وتنجبي أسماكا صغيرة تسبح في بحر آخر لا نفقه عنه شيئا، وحين بدؤوا بإغلاق الباب ليمنحوك بعض الخصوصية، خيل إلي أنك تغمزين لنا وتمسكين بيد لم نتبين ملامحها جيدا ولكنني أعتقد أنها كانت يد الله.  وما دامت كذلك فإنك لن تضيعي أبدا. الله رحيم وسوف يوفر لك حياة هادئة ومسالمة ليس فيها حروب واعتقالات على ما أرجو ولا يضمر الوقت فيها قذائف للأبرياء. لكن عليك أن تخبري والدتك بهذا في أقرب وقت ممكن كي تبتسم قليلا وترسل لنا طبقا من الحلويات كما كانت تفعل.

صديقتك من العالم الذي يأكل نفسه.


هامش1: تمنحني الحرب لذة الحياة كما لا يفعل أي شيء آخر وحين تسألني صديقتي بعد جولة من الاحتدام النفسي: "ألا تخافين الموت؟" لا أجد أي حاجز يمنعني من أن أعترف بأنني أخاف أن يموت أحبابي قبلي! 

هامش2: أحبك يا صديقتي لكن الله يحبك أكثر. 



على ذمتي!






لا تهتم فيروز كثيرا بالوقت الذي تأتي فيه وهذا أجمل ما فيها. على
عجل، تصير قربنا، ترضى بفنجان قهوة بارد وبحبة من العنب - إن أمكن. 
تشرح بطريقة غريبة ومجنونة عن آخر أخبارها العاطفية وتصف بلا خجل
ملامح الرجال الذين مروا عليها. لكنها حين تقول: "ئلي انطريني" تبتسم بهدوء وتعلق:
"وقد كانت هذه الجملة الوحيدة المشتركة بين كل الرجال".
تضحك فيروز بصوت مرتفع. تشق الليل الأسود بعود "علي الرنان" وترقص بغجرية من
اكتشفت جروحها للتو. لا تخفي أيا من ندباتها. يجيء الضوء  و يختفي ولا تتوقف.
تسلم عليه وتنام معه تحت الجسر وتقتله ولا تتوقف. توبخه، تستهزئ به وتجرده منها
ولا تتوقف.. تصف الشامة الدقيقة الموجودة في عنقه ولا تقبلها. تعرف أنه لن يأتي وتنتظره. 
يقولون: لأنها ساذجة، وأقول: لأنها "أم".. 


25‏/08‏/2015

الحياة مرة أخرى



تصويري
تغيم السماء، ثم يأخذ لونها يبهت، حتى تصفر، وإذا اصفرَّت فهي لم تعد سماء، بل ذرات غبار دقيقة عالقة قريبا من رؤوسنا، تتراكم الذرات حتى تتجمع وتتكتَّل وتقوى على السقوط، ويساعدها الهواء القوي على السقوط أكثر لتلامس وجوهنا الشاحبة وأعيننا الفارغة. لكن هذا لا يعني كل مرة أن نتَّسخ بدون أن نغتسل، إذ يحدث أحيانا أن تهدأ الغيوم فوقنا وتتهادى ممطرة نعومة الصحراء وأمانينا الساخطة. إننا في القرية الجزيرة، تحيط بها الصحراء من كل الجهات ونسير نحن ماءً ساخنا في طرقاتها، ماءً يتوق للحياة وللطبيعة. 
ثمة بعض المتفائلين من الشيوخ والصغار الذين يجلسون هادئين في انتظار المطر، وثمة بعض المتشائمين الذين يتمتعون بذاكرة قوية تحصي لهم عشرات المرات التي لم يشموا فيها رائحة قطرة واحدة بعد نهار عاصف، وثمة قليلون لم يهتموا بالأمر البتة، وأنا كنت منهم. 
كنت أتصفح الإنترنت باحثا عن كتاب مسموع قبل انطفاء الكهرباء الذي شعرت به شعورا لا يخطئ، الكتب المسموعة العربية قليلة، أعني الكتب الجيدة، لكن بعضها جيد ومرتَّب، و"حلم رجل مضحك" كان واحدا من البعض الجيد المرتب، أسرعت بنقله إلى وصلة USB وخرجت من البيت. 
أصرَّيت على الخروج في هذا الطقس الموارب، الذي لا هو بالمغبر ولا بالممطر، حالة متذبذبة من ذرات غبار تنهال على عيني، وحبات مطر صغيرة جدا تنقر رأسي. فجأة وجدتني مندفعا إلى زيارة محلات الحلويات لشراء حلوى "النوغا" العزيزة، ولم أعرف إن كان هذا الاندفاع اللاواعي لأجل النوغا، أم لأجل الخروج من وقت القراءة، أم لأجل مواصلة القراءة بطريقة أخرى، لكنني رششت الماء على زجاج سيارتي المتسخ، وخرجت بوعي ضبابي كأنني أوشك على السقوط نوما. 
بدأ اللون الكاكيُّ ينتشر في قماشة السماء ثم يتلاشى بالتدريج حتى رأيت بعد بضعة كيلومترات أنه اختفى تماما، وعمَّ الصفو اللذيذ، وأخذت رائحة الأراك تفترش الطرقات. الزجاج النظيف ينقل إلي صوت حبات مطر أكبر، ودوستويفسكي يروي لي قصة رجل مضحك يوصف بالمجنون، ويشعر بالصَّغار في كل أمره، ثم يفقد معنى الوجود، فيقرر الانتحار، يجمع قروشا ويشتري بها مسدسا أنيقا، ثم يخرج إلى الشارع مزمعا إنهاء هذه المهزلة التي يعيش فيها، وفي طريقه تصطدم به طفلة تبكي باحثة عن أمها، فيرفض مساعدتها ويطردها، لكنه يحزن بعدئذ على ما انتهى إليه من القسوة والجُبن، يعود إلى غرفته، يناقش قرار انتحاره، ثم يغط في نوم عميق...

قيادة السيارة في الأجواء الممطرة بسرعة عالية هي متعتي التي لا أجد لها فرصا كثيرة في هذه المدينة، السكة من تحتي مغسولة ومزبِدة، والسيارات تومض بالأحمر المتقطع، والرمل الصحراوي يكتسي ماء فيعبق بما يشبه رائحة الأوراق الصفراء القديمة، أو جدران الغرف المهجورة، رائحة خاصة لا تعني شيئا واحدا. 

أنا في حالة نصف واعية، جزء مني يسير مع أحداث القصة، وجزء يتمشى على التلال المبللة، وجزء يراجع مسألة، وجزء يفكر في كل هذا. أتناول جوالي وألتقط بعض الصور من خلف الزجاج البارد، ثم أنتبه إلى أنني أوشك على الاتصاق بسيارة تسير أمامي ببطء. 

أغيب قليلا في تفكير مشتت، ثم أعود إلى التشابك مع حلم الرجل المضحك، الذي صار -بكل تعقيد- حلمي، ومع تفاصيله التي تقمصتني واتحدت بي. يرى الراوي أنه "ميت!"، يشعر باهتزاز التابوت الذي يحمل فيه إلى القبر، ثم ينتقل إلى عالم آخر، يدرك كل شيء، يدرك الموت والقبر والعالم الآخر، وينقل إليَّ الفروق التي تتفاعل في ذهنه والتشابهات.

دوستويفسكي هو من الكتاب الذين كتبوا معاناتهم ورأوا أن على الناس أن يلتفتوا إلى جوهر الوجود، الذي هو الشر والعذاب والابتلاءات التي لا تنتهي، فهو قد صارع أبشع صور الحياة والموت والمرض، فقد ابتدأت أحداث حياته بفجيعة حكم الإعدام الذي كان لعبة سياسية لإرعابه وجماعة من الشباب المتمردين، ثم عايش الأعمال الشاقة والذل والكثير من الظروف التي نتكلم عنها بأسلوب نظري تجريدي ولا نعرف وقعها في النفس الإنسانية، وأصيب بنوبات الصرع التي لاحقته ونغصت عليه أفراحه. و"حلم رجل مضحك" هو قصة قصيرة يمرُّ فيها مرورا سريعا على بعض أشكال الوجود: الخير، الشر، الطمأنينة، القلق، البدائية، التطور، العلم، الحكمة في حبكة أخَّاذة. 

دخلت أكثر من محل حلوى ولم أخرج بعزيزتي "نوغا"، وكان المطر الذي بلل ملابسي أيضا يثير غرائزي الأولية ويحفزني على إشباعها، فقررت شراء الكباب. حاجة ما ساعدتني على مواصلة المشي إلى المطعم، كأنما هي حاجة إلى الأكل، أو إلى تجريب مذاق المشويات في عصر ممطر لأغراض تتعلق بالإلهام والكتابة. تساءلت بينما أنتظر: ألا يكون السيد فيودور بالغ في هذا الحلم؟ هل من الضروري أن يكون حلما لا هذيانا أو حالة نصف واعية؟ ما أعرفه أن الحلم لا يأتي بهذا الترتيب وهذه المنطقية، بل هو أشبه برفٍّ من الأحداث القديمة والجديدة يسقط فتتبعثر التفاصيل في كل مكان بلا أي ارتباط.. حقا إنه يبالغ، ولكن الأمر لا يتجاوز حدود القصة، فليبالغ كيف شاء. 

إن الرجل المضحك يستقر لبعض الوقت في عالم جديد، فيه أناس طيبون متآخون، وفيه كل معاني الوئام والحب والتعاضد والسلام، هو عالم أشبه بما نقرأه في الكتب المقدسة من وصف للحياة الأولى، أو ما تمنِّينا به هذه الكتب بما سوف نعيشه في الحياة الآخرة، لكنه -الرجل المضحك- سرعان ما يفسد عليهم حياتهم، فيعلمهم الشر، يلقنهم الكذب فيستعذبونه ويتعلمون فنونه، ويعلمهم الغش، والفخر، والأفعال التي نغوص فيها تماما... ثم يعود إلى ضميره "اليقظ!" فيلوم نفسه على هذا الإفساد، ويجعلني أتابع معه كيف اكتسب الإنسان هذه الصفات، ولماذا اكتشف العلوم والحكمة، ولماذا تعلم أن يقتنع بالمثاليات، ففضل معنى السعادة على السعادة، واخترع المذاهب والفلسفات التي تبرر له القعود والتلذذ بالتأمل والعذاب. وهو بهذا التسلسل كأنما يحكي قصة البشرية بسرعة لطفلة لا تود النوم، بأسلوب سهل وعميق، وهو بهذا التسلسل كأنما يظهر لك في نهار ما أو مساء ليعيدك إلى نفسك، ويعينك على ترتيب حياتك. 

استمتعت بأكل الكباب في المطر، كنت أقود سيارتي، وأضم سيخا بخبزة وآكل متابعا باهتمام حلم هذا الرجل الذي ضحك عليَّ، أهز رأسي أحيانا مؤيدا، وألويه أحيانا رافضا لبعض التفسيرات غير المتأنية، لكنني في نهاية القصة اعترفت بأن فيودور استحوذ على وعيي، وأعطاني فرصة للحلم. 

للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي أعمال شهيرة مثل "الجريمة والعقاب"، و"الأخوة كارامازوف".. وقد تميز في أعماله الأدبية بالاهتمام بالنفس الإنسانية، وما يعتمل فيها من النوايا المختلفة، والانفعالات التي يصفها بمهارة. 
لقد رافقني ساعة من آخر النهار الممطر، وشاركني الروائح الأقرب إلى نفسي. 

يستيقظ الرجل المضحك في وقت متأخر من الليل، ويكتشف أن كل ما عاشه كان حلما طويلا لا أكثر، لكنه يكتشف أيضا "الحقيقة" التي ينوي أن يحمل رسالتها ويبشر بها حتى يموت، وهي حقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الوجود، صحيح أنها تبدو حقيقة غائمة كعصر اليوم، لكنها ناسبته وراقت له، كما تناسب الكثيرين وتروق لهم...

أما الطفلة الصغيرة، فيقرر أن يبحث عنها بكل طاقته، كأنها كانت رمزا للـ "ضمير" أو "القيمة الجمالية" أو "الفن" في حياته. 



علو



By Sarah Jarrett  

أنا عاقلٌ عالٍ
كجذع صنوبر يغلي بداخله حنين التُّربة

متلهف للشمس
ملء مفاصلي كتبٌ
ويرتعُ فيَّ دودُ الرغبة

لم أفهم الأوطان..
حتى أنني حرَّفتها فاستوطنتني الغربة

لا رب لي إلا الخلود
ومن يعش فوق الممات فسوف يعرف ربه







افتراء





سأفرح جدا إن أسميتني عصفورة أيلول شريطة ألا تكون 
قد استمعت إلى نصري شمس الدين وهو ينسى "وردته" 
التي كانت عصفورة فيما مضى!


24‏/08‏/2015

شادي على الثلج



لا أحترم الفن الذي لا يعبر إلا عن زمنه، الأغنية التي انتهت مهمتها مع انتهاء تاريخ غنائها لا تستهويني ولا تستحق وقتي، الفن الحقيقي هو الذي يضمن مكانه في الخلود، وهو الذي يعبر عن زمنه وعن كل الأزمنة. نحن اليوم مع فنانين حقيقيين، لم يزالوا يطلون من نوافذنا كل الوقت، يشاركوننا ورق أيلول الأصفر، وبدايات نيسان، وسعة البحر والسماء، وينشدون معنا للإنسان وللأرض وللحياة. 
ربما جاز لي أحيانا أن أصف نفسي بالمتبلِّد، من أية ناحية؟ من ناحية الأحداث السياسية والحروب التي تطحن العالم، فلم أعد أهتم بمن غلب من، أو في الواقع لم أعد أدري، ولدي القدرة على إلصاق الحاضر بالماضي من دون أن يبدو شق بينهما في المنتصف، فأدركهما وحدةً متكاملة، كأن الحاضر هو اليوم، والماضي هو الأمس القريب. وأنا إذ أقرأ عن الحرب في كل العصور، وأشاهد رتابة العنف، والقدرة على ابتكار أساليب إيلام جديدة وفظيعة، تتكرر بالرغم من الحضارات والعلوم والرقي الفكري في الجانب الآخر من الحياة، لا أنتهي إلا إلى استنتاج واحد، وهو أن العدوانية أصيلة في هذا الإنسان، ولا مجال لإصلاحها. صحيح أن بعض مشاكل الإنسان تراجعت وباتت تراثا، لكنه بقي -هذا الإنسان- محاربا من أول يوم، وقد يبقى إلى آخر يوم له. وأنا إذ أنظر إلى عالمنا الحاضر، أرى "صغارا" أنانيين يتناحرون حول بئر نفط، أو قطعة أرض، أو حول مبدأ نظري هش، وهذه الرؤية مفرطة في البساطة والسطحية، لكنها تفسر الواقع، وهذا ما يهم. 

السيدة فيروز، والأخوان رحباني قدموا الكثير من الفن الحقيقي، الذي يرجِّع صوته في قلوبنا وصدورنا، ويتعمق في دقائقنا، وعندما نتكلم عن الحرب، نجد أنهم اهتموا بموضوعها اهتماما مرهِقا، وهذا -كما يبدو لي- هو جوهر رسالتهم الفنية: الإنسان ومشكلاته. وما من أحد منكم عرف الفن الرحباني ولم يعش أيام الحرب، بفراقها وغربتها وخسائرها وانتصاراتها وهزائمها وأناشيدها وأحاديثها وشهدائها... 


أغنية "شادي" هي واحدة من الأغنيات الجميلة والمهمة من زوايا مختلفة، ولن نكون مرتبين جدا لنفصل نقاط أهميتها، لكننا سنبعثر خواطرنا بين ذراعيها الوسيعتين. 
في البدء الجميل، تعلو الموسيقى بالتدريج حتى تستقر في الأعلى، ثم تبدأ الهبوط الخفيف كريشة خلَّفها طائر يصارع فريسة في الجو، لست متأكدا من اسم الآلة الموسيقية التي تنجز كل هذه المهمة، لكنني بعد محاولات لتمييزها، أتوقع أنها ذبذبة طويلة على أوتار كمان، مع ضرب لطيف على أصابع بيانو. يتكرر هذا العلو الفريد في أغاني السيدة، وهو تعبير موسيقي يلازم أغانيها الأكثر رقة والأشد حنينا وحسرة ورجاءً، بإمكانكم أن تعثروا عليه في "يا طير"
ستعلون جدا مع هذا القلق الصاعد، ثم ستهدأ أنفاسكم قليلا بينما يدنو من القاع ثم يستقر، لكن صوت السيدة لا يتأخر كثيرا، ويجيء مفعما بقضية مهمة تحاول أن تقدم لها بكل طفولة بـ "من زمان، أنا وصغيرة". وتظن هي أن هذا التقديم يكفي لشرح قضيتها التي تبدو شجيَّة بلا أدنى شك.
تتغير طبقة صوتها قليلا، كأنها تقفز من مدة زمنية إلى أخرى بعيدة، وهو القفز من تعبير الشجو والحنين إلى تعبير الحسرة "كان في صبي"، ولاحظوا كيف تنطق كلمة "كان" فتتكون في داخلنا صورة جد حزينة لهذه المدة الزمنية التي "كانت" حتى قبل أن نعرف ما الذي كان، ومن هو هذا الصبي. 

"كان في صبي
يجي من الاحراش
إلعب أنا وياه"
وتميل ميلًا مرهِقا في نهاية "وياه" فتشعرون بأنها تنكس رأسها وتوشك أن تبكي. إذن، هذه هي القضية؟ صبية تسترجع ذكريات صبي كان يخرج لها من بين الأغصان المتشابكة، ويلعب معها؟ كلا. بل ثمة قضية أهم من صغيرين يلعبان، إن هذا الصبي "كان اسمه شادي". وما الذي يزيده شادي أو ينقصه؟ إن اسمه شادي وانتهى الأمر. "شادي" هو أمة من الأطفال الذين شردتهم الحرب.. وهذا الصوت الحزين الذي يسترجع "شادي" في كل وقت هو أمة من الصبايا اللاتي اغتصبت أحلامهن الحرب أيضا. 
"كان اسمه شادي" ويوشك صوت فيروز أن ينطفئ عند نهاية هذا المقطع. 

ثم تختلج آلات موسيقية مختلفة، تشتبك ببعضها كخيوط كروموسومات تحت المجهر، تشتبك كعواطف قديمة هاجت فجأة بلا سبب، تشتبك كأفكار غير مرتبطة في ذهن أحدنا ثم تنتهي بفكرة واحدة غريبة. 
"أنا وشادي،
غنينا سوا
لعبنا على التلج
ركضنا بالهوا".
هذه هي مجموعة الذكريات المشتتة في ذاكرة امرأة كبرت في الحرب، "الغناء" مع طفل، و"اللعب على الثلج"، و"الركض" البريء في كل مكان. وأيضا:
"كتبنا ع الاحجار قصص صغار
ولوَّحنا الهوى".  
ولعلي أبالغ في التحليل عندما أزعم أن ترتيب الأحداث في الأغنية هو ترتيب دقيق للمراحل العمرية التي عاشها هذا الصوت مع شادي، فابتدآ يجربان قدرتهما على الغناء، ثم اللعب على الثلج، ثم الخطوات الأولى والركض، ثم الكتابة وتأليف القصص، ثم معاناة الحب (الهوى). فهذا الحنين هو حنين إلى حياة، لا إلى جزء صغير من تفاصيلها، وهو حنين إلى عمر، لا إلى سنة واحدة من سنواته. إلى أي حد بلغ هذان العاشقان البريئان من السعادة ونعيم القرب؟
لا تسمح  السيدة لأي فاصل موسيقي بين ذكرياتها الحسنة والأخرى السيئة، فتأخذ أنفاسها قليلا، وتواصل:
"ويوم من الإيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بهالدني
وصار القتال يقرِّب ع التلال
والدني دني".
فكأنها لا تشبع من سرد بقية القصة مع شادي. الذي يجعلني أبدو كالتمثال جامدا أمام لوحة مفاتيحي هو أن صوت السيدة بطفولته وبراءته يقنعكم بأنها صاحبة القصة، إنها حقا طاقة فنية مدهشة، تستمع إلى الأغنية التي لا تعرف فيها إلا علمًا واحدا هو "شادي"، فلا تكف عن تصوير العلَم الثاني في "فيروز"، ولا تستطيع المواصلة إلا بهذه القناعة القوية. 

تقص لنا المرأة (التي لم تزل طفلة) ما حدث، فتقول أن الدنيا "ولعت" أي احترقت، ثم -بكل أسى- تذكر الخصوم الذين هم "الناس" و"الناس"! وما حصل بينهم من قتال تعدى كل الحدود حتى وصل إلى التلال الهادئة حيث شادي والأطفال.. وتصف سبب حروبهم وكل مشاكلهم مشفقةً عليهم: "والدني دني"، تشرح لهم أن الدنيا التي يتحاربون من أجلها هي الدنيا التي لا تستحق.

ترتاح السيدة الآن، وتظهر الموسيقى التي تعبر عن التناوُش والكر والفر (لاحظوا هذا جيدا)، ثم تعود بصوت منهزم جريح:
"وعلقت ع اطراف الوادي
شادي ركض يتفرَّج" 
شادي البريء أراد أن يعرف ما الذي يحدث، إن عالمه مليء بالورود والأحلام والشتاء، لم يظن أن في الجانب الآخر من الوادي يعترك الناس الذين كانوا مثله يوما ما. لكن خوف الأنثى الفطري في هذه الأحوال نبهها إلى أن شادي قد لا يعود إليها، فخافت، وراحت تناديه "وينك رايح يا شادي؟". لكن هذا النداء عاد خائبا، فشادي كان قد ابتعد مشدوها بأصوات الرصاص والمدافع التي ربما ظنها ألعابا نارية. 

"إنده له ما يسمعني...
ويبعد، يبعد بالوادي". 
تخرجها السيدة فيروز بروعة، فالطريقة التي تغني بها هذا الحدث هي الطريقة الأنسب، عندما ترفع الصبية الصغيرة كتفيها متعجبة من عصيان صديقها الصبي الجريء، طريقة هي خليط من التعجُّب والضياع والحزن؛ لأن شادي كان يبتعد عنها أمام عينيها إلى حيث لن تجده مرة أخرى. 

"ومن يومتها،
ما عدت شفته
ضاع شادي".
وتفصل بين الجملة والأخرى بوقفة قصيرة، كأنها تسمح لبعض الأمل بأن يداعب خيالها بعودة حبيبها. "من يومتها"... "ما عدت شفته"... "ضاع شادي". تنهي القصة بالصياح الذي بدأ به صوت الكمان المتذبذب.

هذا ما فعلته الحرب بالأطفال الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والسوريين والمصريين، والأطفال من كل الأمكنة التي عششت فيها الحرب زمنا طويلا، هم التعب الذي لم يثمر، وأمنيات الليالي التي لم تكتمل، ونظرات الأمهات الناقصة إلى الحياة، وأصلاب الآباء الممزقة. الآن وأنا أكتب، أتصور طفلا "يبعد يبعد بالوادي"، وأتصور طفلة تنادي ولا يسمعها أحد. الحرب ألغت كل احتمالات الأمل فينا، فتبلُّدنا الذي شغلنها عن مناقشة الأخبار وعدد الوفيات لم يشغلنا عن هذه الصور المؤلمة جدا. 

ولم تزل الحرب تفرق الأحباب والأصدقاء:
"والتلج إجا
وراح التلج".
هذا الذي لعبوا به صغارا حالمين، صار يجيء ويعود في أجواء رتيبة وخائفة ومتوجِّسة ملأى بالدم والسواد.

"عشرين مرة
إجا وراح التلج".
 عشرون عاما عمر هذا الأسى الكامن في صدر الطفلة، وعشرون عاما عمر هذا الضياع الذي لمَّ شادي وأخفاه، وعشرون عاما عمر هذه القضية وأكثر. 

"وأنا صرت إكبر
وشادي بعدُه صغيَّر
عم يلعب ع التلج". 
مات شادي؟ لم يمت شادي. فشادي هو كل الأطفال الذين يذهبون كل يوم بوجودهم الأبيض، ويعودون ليذهبوا مبكِّرين إلى الثلج. 

هذا هو الفن الحقيقي الذي لا تقيده الظروف والحرب، الذي يصف لنا بلغة صادقة حجم الحنين في حياة طفلين افترقا بسبب جشع الكبار، الذي لا يهمه أن ينتمي إلى مدرسة أو يجدد مذهبا، بل يهمه أن ينقل الواقع الذي يبدو أنه يصرُّ على أن يكون واقعا خالدا في تاريخ الإنسان. 


يتم التشغيل بواسطة Blogger.