26‏/11‏/2015

شرحٌ بسيط





شعركِ بنيُّ وأنت لا تدركين معنى هذا؟
هذا يعني انزلاق سيّارتي على طريقٍ مثلجٍ ونجاتي في اللحظة الأخيرة، عودةَ عصفورٍ واحدٍ نحو نافذتي بعد أن قررت كلّ العصافير أن تهاجر، تحول الكون إلى قطعةٍ كبيرةٍ من الحلوى الهشّة المليئة بالسائل الكريميّ الأبيض، تغير طقسي الداخلي نحو أن يكون معتدلًا ومفعمًا بفرص الاستمتاع، ضحكات الأطفال الصغار وهم يلعبون كرة القدم في حارة ٍعتيقة، نجاح طفلٍ في نطق كلمة "بابا"، حزن النعوش الصادق على الأبرياء، الشوارع التي عتّقها المطر حتّى كشف لونها الحقيقي، سترتي البرتقالية التي تذكرني بك يوم كنا في آخر إجازةٍ عندما أمسكتِ ذراعي وأصرّيتِ قائلةً "هذه تليق عليك"ورحتِ تضحكين..
تضحكين ولا تدركين معنى هذا؟
هذا يعني انفلات الأمن في لحظة ثورة، تخيّل هتاف السيّدات المتمرّدات اللواتي يطالبْنَ بحصّةٍ عظيمةٍ من الشوكولا، جوقةُ العصافير الجائعةِ التي لا تشبعُ أبدًا، صوتُ تشرين وهو ينظّف البيتَ ليستقبلَ كانون ويمارس معهُ الحبّ قبل أن يفترقا ويلعنا بعضهما، القلمُ الأحمرُ الذي يشطبُ كلّ أحزاني ويعوّضني مطرًا، الرّحيلُ الملوّحُ ببياض، الطّاولة الخشبيّةُ التي جمعتنا آخر مرةٍ حين طلبنا صحنًا من شرائح الدّجاج وتقاسمناها بشكلٍ غير عادل ومن ثَمَّ صالحتِني بقبله..
لقد قبّلتِني .. ألا تدركين معنى هذا؟
هذا يعني أنّني علوتُ وهبطت، علوتُ وهبطتُ حتى ارتطمتُ بغيمةٍ منخفضةٍ وصرتُ مطرًا، صرتُ صحوًا، صرتُ إلهًا، صرتُ رحمة. صرتُ الف غصنٍ ميّالٍ نحو الشمس والنور والوجود..


على الهامش: لا أمانع في شرح أكثر دقّة..

24‏/11‏/2015

حكايات من جازان: الفاضلة



تنُّور الطبخ محاطًا بجدران من الطين، المصدر.
كانت الحكايات لغة عبَّر بها الإنسان عن رؤاه وانفعالاته مع الواقع الذي عاشه، وهي لم تزل كذلك. وظنِّي أن الحكاية الشعبية هي جزء ثمين من كل ثقافة في العالم لأسباب، منها (1) قوَّتها وقدرتها على إعطاء صورة مقرَّبة لطريقة تفكير الناس المنتمين إلى هذه الثقافة، (2) وإشاراتها الفنية التي توحي إلى دارسيها بنمط الحياة الفنية لهؤلاء الناس، (3) وأخيرا صلتها بنفسية المجتمع بحيث يسهل على الدارس أن يستنبط منها الضرورات والأحوال النفسية والمؤثرات التي شكَّلت التصوُّر العام لمشكلة ما في قالب خيالي تتوارثه الأجيال وتضيف إليه. 
وفي الحقيقة، لقد استلهمت هذا السبب الأخير من قراءتي للدكتور مصطفى حجازي في كتابه "التخلُّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص90". فاسترجعت إلى الذاكرة الكثير من الحكايات التي رُويَت لي منذ الطفولة إلى اليوم، عن طريق أبي وأمي وجدَّاتي، ووجدت فيها حسًّا أدبيا، والتصاقا بالروح الفكرية العامة، ومناقشة للأخلاقيات والأحوال الإنسانية المختلفة، فقررت دراستها في عدة تدوينات، وسأتجنب الإسهاب ما استطعت.

(كانت فتاةً جميلة، ماتت أمها، فتزوج أبوها من امرأة أخرى، لكن زوجة أبيها كانت عقيما، فاشتعلت بينهما المشكلات كل يوم، وحاولت زوجة الأب أن تتخلص منها وتملك البيت وحدها، فبدأت تحرِّض زوجها على طرد ابنته، ولكنها فشلت، بسبب حبه العميق لابنته الوحيدة.
وفي محاولة لتغيير رأي الأب في ابنته المدللة، قررت زوجة الأب أن تسعى لاتهام الفتاة في شرفها، فانتظرت حتى هبط الليل، وسكن البيت، ونام الأب وابنته، ثم قتلت فأرةً، ودخلت غرفة الفتاة، ووضعتها بين فخذيها!
صباحا، عندما استيقظ الأب ليبكِّر إلى حقوله برفقة ابنته كعادته، فاجأته الزوجة بزعمها أن الفتاة خرجت ليلا أثناء نومه مع عشيق لها، فغضب الأب، وأسرع إلى غرفة ابنته يضربها ويأمرها بالاعتراف، فلما وقفت سقطت الفأرة من بين فخذيها، فقالت زوجة الأب بمكرٍ: أرأيت ما جنيته من حب ابنتك؟ 
ازداد الأب غضبا وتهوُّرا، فأمر ابنته باللحاق به، ناويا ذبحها.
لمَّا خرجا قاصدين مكانا بعيدا عن أعين الناس، أمطرت السماء مطرا شديدا، فلم يستطيعا مواصلة السير، عندها حمل الأب ابنته واستقرا تحت شجرة منتظرين توقف المطر. 
بالقرب من الشجرة مرَّ رجل وابنه، فسألا الأب عن وجهته، فقال لهما إنه أراد ذبح ابنته التي لطخت شرفه بفاحشتها، ولكن لأن جمال الفتاة فتن الابن، قرر أن يتزوجها ليعتقها من الموت. 
عندما عادت الفتاة متزوِّجة إلى بيت أبيها، اشتد حقد زوجة أبيها عليها، فقررت أن تبغِّضها إلى عريسها.. وفي الليل، تبرَّزت وأخذت البراز ولطخت به سريرها... فلما استيقظ الزوج وجد عروسه نائمة على الذهب.
تأكد الأب من براءة ابنته، وقال لزوجته الحقودة: أرأيت؟ إن ابنتي فاضلة، وها هو بُرازك صار ذهبا تحتها).

من الجيد في البداية أن نفكِّك هذه الحكاية القصيرة إلى عناصر محددة. إن معظم الحكايات التي سمعتها لها هدف مشترك، وهو حلُّ المشكلات بالمعجزات. فأيًّا كان نوع المشكلة: أخلاقية، أسرية، جنسية، دينية، فإن الحل المثالي دائما لا يأتي في نطاق القدرة البشرية (أن يتحوَّل "البُراز" إلى ذهب، مثلا)، بل يكون معجزا وغامضا. لذا فإن الحكاية الشعبية بلجوئها إلى الحلول الخارقة تقودنا إلى استنتاج أن (1) المشكلة التي صيغت الحكاية لحلِّها هي مشكلة أساسية في مجتمع الحكاية، وأن (2) هذا المجتمع عاجزعن التوصل إلى حل معقول لهذه المشكلة الأساسية.
في كثير من الحكايات الشعبية حول العالم، غالبا تكون العناصر متشابهة: أعضاء العائلة، البيت، الناس، الأرض، السماء، جانب الشر، جانب الخير.. والمنقذ. يسعى خالقوا هذه الحكاية إلى تشخيص مشاكلهم وتدبُّر الحلول لها، وبغض النظر عن إمكانية هذه الحلول، يجدون أنفسهم مدفوعين إلى نقل مشاكلهم إلى الذرية، ومن ذرية إلى ذرية تتضخَّم الحكاية وتتعقد وتسعى لاستخلاص حلٍّ معقول في كل جيل.. فكأنها تسعى لأن تُحل بواسطة أجيال متنوعة في كل شيء، خصوصا في طريقة وأدوات التفكير.

في حكاية "الفاضلة"، نلمس واقعا قديما جدا كبَّد المجتمعات العربية دائما خسائر باهضة، بدءا بتدهور اللغة التي تُفهم بها الأمور وانتهاء بجرائم الشرف وعُقَد النقص والعار (أرجو مراجعة كتاب د. مصطفى حجازي).
كما رأيتم، ثمة تعظيم واضح للذكر، وفي المقابل تهميش واضح للأنثى. فالأنثى هي المُتَّهمة وهي المنقادة وهي المحكوم عليها.. أي هي الضحية. والرجل هو الحاكم وهو المفكِّر وهو المجرم والمخلِّص في آن. أي هو كل شيء.
بالتركيز على مشكلة الحكاية، وهي الشرف، نلاحظ أن من السهل تلفيق تهمة شرف، ولن يغيب عنا أن هذه الحكاية لم تأت إلى الوجود مرة واحدة في صيغتها هذه، بل تراكمت عبر الأجيال، فالذين صاغوها كانوا يدركون جيدا أن الرجل مهما كان قويا ومسيطِرا يبقى قاصرا ومنقوصا. فأي إنسان عاقل يقبل أن يلد إنسان فأرة؟ وأي حمل هذا الذي يحدث في ليلة واحدة؟ وأي جنين هذا الذي يسقط هكذا ميِّتا متخشِّبا؟ كل هذه علامات تعجب يضعها الناس ويصبغونها بصبغة الحكاية الشعبية التي تنتهي غالبا نهاية ساخرة لتخفيف أثر الصدمة.
الأنثى -كما في معظم السياقات القصصية الشعبية- هي مفتاح الشرور والمصائب. سواء أكانت زوجة أو ابنة أو غريبة. وهنا لا يسعني أن أحلل سيكولوجية نبذ الأنثى في السياق العالمي عموما، وخصوصا في السياق العربي، إلا أنني سأشير إلى رأي الدكتور مصطفى حجازي في نفس الكتاب، إذ يعزو بعض هذا النبذ إلى ما دعاه فرويد "قلق الخصاء castration anxiety"، وقلق الخصاء هو باختصار أن يشتبك الطفل مع أبيه حول أمه، عندما يشعر بأن أباه يشكل عائقا له دون الوصول الجنسي إلى أمه، فيحتفظ بصورة الأب القاسي والعدائي والمتحكِّم، والأم الناقصة المقهورة المحكومة، الأم (والأنثى) الناقصة لأنها لا تملك عضوا ذكريا كما يملك الطفل! فالدكتور مصطفى إذن يرى أن تهميش الأنثى وتعظيم الرجل في المجتمعات العربية هما نتيجة هذا النوع من القلق الذي بقي ورسخ في اللاوعي البدائي الطفلي في حياة الرجل، فهو يخشى كل أشكال السُّلطة، والسيطرة، ويخشى الناس، إذ يستعيد في كل هؤلاء صورة أبيه، وهو يسيطر ويطغى على الأنثى محاكيا أباه ومنتقلا من ذلة الماسوشية إلى سطوة السادية.
الناس أيضا يشكلون مصدر خوف ومراقبة لسلوك الرجل، فهو يدرك أنهم أيضا رجال (آباء)، ويتصرف انطلاقا من خوفه منهم ورجائه إياهم. هذه التحليلات ليست للعالم العربي وحسب، بل للإنسان في كل أحواله الثقافية والعنصرية.

ثم ماذا بعد؟ تنتهي الحكاية برجلين!
يخلِّص الرجلُ الرجلَ كما يخلص المرأة، ويكون الزواج حلا عاقلا بديلا لـ "الذبح"، ويأتي دور المعجزة.
المعجزة هي خلاصة عجز الناس الذين عانوا من هذا الواقع، وهي نصر للبريء، ولعنة للحاسد، وإبراز لدور القوة العليا الخيِّرة الغامضة. فأحيانا تكون هذه القوة إلهية، وأحيانا تكون بشرية، ولكنها غالبا تكون غامضة ومفاجئة. 

أرى أنني أركز على وجه واحد من أوجه الحكاية وهوالتحليل النفسي، مع أن علم النفس التطوري يستطيع أن ينتج أفكارا جديدة فيما يخص أسباب حقد زوجة الأب الثانية على ذريته من الزوجة الأولى، وأسباب توجه الأب إلى حل جذري ينهي مشكلة تطورية جوهرية (اللعب في الأنساب) عن طريق التخلص من حياة المذنبة أو إيجاد مستثمرٍ ملتزم يتزوجها.

أو إن شئنا إعطاء القصة رمزية دينية، فهي تشبه في بعض صورها موقف الأب المضطر إلى التضحية بابنه. الأب هو النبي إبراهيم، والابن المغلوب على أمره هو إسماعيل. أو الأنثى المبرَّأة بطريقة إعجازية في قصة مريم العذراء وقصة السيدة عائشة زوج النبي محمد. كل هذه الصور بلا شك كانت مألوفة لدى مؤلفي هذه الحكاية، والحقيقة أن تأثيرها واضح في عناصرها.

في الختام، لست مع من ينظر إلى الحكايات الشعبية أو الأساطير بترفُّع ويتخذها مثالا على سخافة الشعوب وعشقها للخرافة. بل بعكس هؤلاء، أرى أن الفنون الشعبية، وعلى رأسها الفنون القصصية، هي ثروة الباحث والمحلل الجاد، له فيها منفذ إلى عقول الناس، ومنفذ إلى مشكلاتهم، ومنفذ إلى طبيعة حياتهم.

ألتقيكم في الحكاية التالية... 


يتم التشغيل بواسطة Blogger.