13‏/11‏/2015

لن أموت

تصويري: شاطئ مخيف جدا.
لم تبق إلا خيوط زهرية. 
ضوء عام. 
مع أن الشمس لم تعد مرئية.

هذا المشهد طبيعي، رقيق، سيسركم أن تلتقطوا فيه أكبر عدد من الصور، أو تخلعوا نعالكم وتركضوا لإنعاش شعبكم الهوائية. لكنه كان مخيفا ولا نهائيا، ولم يسرني.
اعتدت المجيء إلى هنا، وملاحقة مستعمرات الطحالب لتصويرها. ربما أفعل هذا محاولا الدخول في حالة الإيحاء الطبيعي، أو لصالح فيتامين د، أو لأتعرض لوابل من الشحنات السالبة المقوية للمناعة. وفي الوقت نفسه، أفعل هذا لأنه يمنحني الخوف.
هل تعرفون قيمة الخوف؟ أقصد الخوف غير المبرر، القلق النفسي، Angst.
تابعوا القراءة...

يطل علينا العلماء كل مرة باكتشاف غريب: رسومات رائعة في جوف كهف في أسبانيا، تصوير احترافي لليد البشرية بالفحم، خرائط وإشارات مربكة على قرن ماموث! ويعودون بالذاكرة إلى 40,000 سنة تارة حيث إنسان نياندرتال Neanderthal، و 30,000 سنة تارة أخرى حيث نوعنا الذي نتباهى به: الإنسان العاقل الحديث Homosapien.
نحن نصغي بأدب، ولا نتساءل ربما: إذا كان هذا حقيقيا، فلم يرسم الإنسان ويمارس الفن؟ 


في الظروف التي عشتها، كنت أشبه بأي فرد وحيد من الأسلاف، جلس في مكان محاطا بجذوع الشورى العتيقة، وأصوات اللقالق المختلطة، وتيار الماء الخاشع. وبالطبع، لم يكن الفارق الزمني بيني وبينه طويلا إلى حد كبير، ففعلت -ربما- كما كان يفضِّل أن يفعل. أقصد: التفتُّ إلى قلقي.
التقطت الكثير من الصور، الكثير.
صنعت من الطين بيوتا وأشكالا بسيطة.
قررت أن أكتب عن كل هذا!

من المعقول أن يكون الإنسان اخترع الفن ليحظى بالمكانة، أو يجتذب الأقران الجنسيين، أو يؤرِّخ. لكن أفعالنا التي لا تختلف عن أفعاله كثيرا توحي إلي بأنه مارس الفن ليسيطر على القلق الوجودي.
يرى جان بول سارتر أن هذا النوع من القلق يختلف عن القلق النفسي الباثولوجي، فإذا كان هذا الأخير يثبط العزيمة ويعطل الحركة، فإن القلق الوجودي يشعل العزيمة ويدفع إلى الحركة. إنه نتاج مسؤلية الفرد عن قراراته المحدودة في مواجهة العدم. (الوجودية مذهب إنساني، ص23).
إذن فهو هذا القلق، angst، الذي يحاصر الإنسان في كل وقت، ويجهز عليه ساعة العزلة، فيدعوه إلى فعل شيء. السؤال الأخطر هنا هو: لماذا؟ والإجابة الأكثر جرأة هي: لإلغاء فكرة الموت.



يدي، تسيطر على القلق.
في روايتي الثانية (لم أقرر نشرها بعد)، ناقشت هذه الآلية البدائية في الإنسان الحديث. شئت أن تتصرف البطلة كما لو أنها آمنت بأن الموت هو حالة غياب حزين مؤقت، وأن حياتها لا نهائية وممتدة. سيسألني أحدكم: ألن تموت؟ سأجيب: بلى. ولكن جسدها وحده سيموت.

افترضت محادثات كثيرة من هذا النوع، بإمكاني اقتباس شيء منها. 

((ما الذي يدفع إنسانا إلى أن يؤلف الأغاني ويخترع الآلات الموسيقية؟ ما الذي يبحث عنه عندما يرسم لوحة فنية؟ أو ينحت حجرا ليصنع تمثالا للملامح التي تسبح في أعصابه؟ أليس هذا ترفا؟ 

أجبتُها بخوف: 
- لا أدري يا أستاذتي، ربما ليوزع وقت الفراغ؟

- حقا إنه ترف إذا ما تعلق الأمر بالبقاء المادي وحده. فإنسان الصيد والجمع قديما كان يجد ما يأكله ويوزعه على عائلته وربما على الآخرين ومن ثم يبقى. لكنه ما إن اكتشف الزراعة حتى قلَّت ساعات عمله في البحث عن مقوِّمات البقاء. وأظنه راح يفكِّر ويتخيل مغامراته ويلمس فيها القيمة الفنية فيرويها للناس بطريقة بدائية؛ ربما يرسمها أو يعزفها... 

- ألا نحتاج إلى الفن لغرض البقاء؟ قد يكون الرسم سهّل على البدائيين حفظ الأماكن وخطط الرحلات. 

- إذن، لَما كنا عرفنا فنانين مثل بيكاسو وغويا. ما تفسير هذا يا منى؟ الفنُّ عند هؤلاء تجاوز القيمة البقائية المادية. صار شيئا آخر لا أدري ما هو.. إنه ينغِّص علي حياتي! 

- (صمت!) 

- ألا ترين أن عالمنا اليوم فنِّي أكثر مما هو صيَّاد أو مزارع أو محارب؟ قد تقولين لي إن الفن مصدر رزق للفنان أو المؤسسة التي تدعمه، وبهذا يكون مصدرا من مصادر البقاء. نعم، قولي هذا. لن ألومك. ولكن اشرحي لي بحق الله لم يستمر فنانون مغمورون ومفكرون كبار مثل باروخ سبينوزا (فيلسوف هولندي خالف الكنيسة وتعرض لمحاولات اغتيال) في التمسك بأفكارهم برغم بقائهم المهدد؟ كيف يمشي سيد قطب إلى حبل المشنقة مبتسما ومدافعا عن مبادئه؟)).

الآن، ربما لم نتبين الإجابة العلمية المباشرة، لكن بوسعنا افتراض أن الإنسان الأول -وكذا نحن من بعده- مارس الفن في جزء غير قليل من حياته ليبقى، إنه يبقى من خلال ميراثه الفني الجمالي كما يبقى من خلال نطفه المنوية. وقد يكون التطور يسَّر هذه العملية، فكبر حجم الدماغ البشري بشكل مفرط، وصارت اليد البشرية والأطراف عموما أسهل وأكثر مرونة، لهذا الغرض: البقاء غير المادي.

نرى في حياتنا اليومية الشواهد الكثيرة على هذه الفرضيات المتسرِّعة، نرى الناس مهووسين بالتقاط الصور، ونرى المسافرين يرسمون بالفحم والحجارة على جذوع الشجر والجدران القديمة. إن القلق الوجودي هو المحرك لكل هذا الفن. فالأكثر تفنُّنا هو الأقل موتا.


زوجان، 2015
نقشتها على جذع في لواء اسكندرون، تركيا.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.