24‏/06‏/2016

تفاصيل (11)







مرتان في اليوم وأحيانا أكثر، أقطع ذلك الطريق الطويل الممتدّ كأنّ آخره العالم، وأحيانًا في -لحظات التّعب- يبدو بلا آخر. يهيّئ له "حزيران" في هذه الأيام تيّارات مليئة بالحرارة، وتلوّحه الشمس من كل الجوانب. لا مظلّة فيه ولا ظلا للاحتماء. فقط طريق ضيّق بعض الشيء على جانبيه رصيفان رماديان يحملان على كتفيهما عمارات ومنازل مهجورة. كان "محمّد" الصبي الذي اعتدتُ مقابلته كل يوم، يتسلّق جدارًا متوسّط العلوّ ليجلس على حافّته. في الأسفل كانت تقف "لارا" الفتاة التي ترافقه دومًا. خُيّل إلي أنه مشهد كلاسيكيّ جدًا من ذلك النوع الذي يستعرض فيه البطل مهارة معيّنة حتّى تصفق له الأنثى ويصير قلبها أشدّ احمرارًا. ابتسمتُ بهدوء وأنا أنظر إلى محمّد المزهوّ بنفسه كأنما وصل أعلى قمّة في العالم.

وأنا أمشّط الإسفلت الحارّ بقدميّ  أحببتُ خطواتي وقدّستُها. وربما اكتسبتُ حبّ الرقص لكثرة ما مشيت في حياتي، واكتشفتُ كم من الممكن أن نحوّل أقدامنا إلى أوتار نابضة وخيوطا من الألوان، علّنا بذلك نبطئ من عدْوِ الخراب السريع، أو نجتذبه إلينا بحركة أو دوران مجنون. وفي لحظات كثيرة -في الصباح تحديدًا- عندما يكون الطريق خاليًا كنتُ أتفاعل مع الموسيقى المنبعثة من سماعات أذنيّ. أكثر من يعرف أسرار هذه اللحظات الخاصة هي الموسيقى الهنديّة التي كانت تستنبتُ لي جناحين وتجعل نبوءة صديقي -صاحب الشعر الخفيف الجميل والسترة المقدّسة- حقيقة إذ كان يقول دومًا: "أنت عصفورة، عصفورة قلبي".


على ذات الطريق أيضًا، شهدتُ المآسي. آخرها كان ذلك الحريق الهائل الذي شبّ في الدكان الوحيد الموجود فيه. كان دكانًا صغيرًا مليئًا بأكياس البطاطا وعلب البسكويت والسكاكر والفحم و "البينزين". ملاذ الأطفال الصغار الذين يقيمون في المنازل القريبة منه، وفي أحيان كثيرة كان ملاذ طفولتي أيضًا، عندما كنتُ أشتهي كأس الذرة المسلوقة مجيبة "بنعم" على سؤال الرجل الذي كان يقول: "ذرة بالزّبدة والملح؟". فاردةً يدي ومستعدّة للمتعة الكبرى.
لا زلتُ أذكر الصراخ الذي كان ينبعث في ذلك اليوم حادًّا وموجعًا. فكرتُ في البداية -بسبب الأوضاع السيئة عموما- أن هناك انفجار أو اعتقال أو مشكلة قائمة على اختلاف طائفي أو حتّى فكري. وكل هذه كانت أحداثًا مؤلمو طبعًا، لكن الصراخ حينها كان بسبب النار التي اندلعت في جسد طفل صغير علق داخل الدكان وتكوم على نفسه غير قادر على النهوض. رأيت الذي كان يبيعني البهجة خارجًا هو الآخر بكمية بائسة من الأذى. كان قد نجح في إنقاذ طفلين وعجز عن أنقاذ الثالث. حاولنا مساعدته لكن النار كانت جائعة جدّا بحيث ابتعلت كل شيء. لم تبقَ أي علامة على أنّ الألوان مرت من هنا يومًا ما، أو أن هذه البقعة الصغيرة -التي بدت سوداء على نحو لا يصدق- كانت نافذة للحياة والضحك. تلاشى كل شيء في لحظة واحدة. وكانت أم الطفل تبكي على الرصيف بل تنوح. تنوح معها الأحجار وأبواب المنازل الحديدية والماء الضعيف والسوائل السوداء التي كانت تجري آخذةً معها آخر ضحكة له وآخر سؤال. حتّى الآن، لم يزل المكان خرابًا، ولا يبدو أنّ أحدًا -بمن فيهم أنا- سوف يتصالح مع هذا الخراب أو ينسى تفاصيله بهذه السهولة. فالدكان لم يكن مجرّد مكان عادي. كان يمثّل شيئًا أعمق لكلّ الذين يعبرون الطريق كجزءٍ من حياتهم وشقائهم.

ذلك المنزل الأخضر على ضفة الطريق اليمنى يبدو أن بابه قد طلي للتو. كان علامة تغير لافتة وسط تكرار المشهد كل يوم. توضعت أمامه سيارة بلاتينية نظيفة جدا يبدو أنها غُسلت للتو أيضًا. لم يعد المنزل مهجورًا بعد الآن. صار على حافة جداره أصيص زهر وردديّ قاني -وهذا من ألواني المفضلة- يجاوره أصيص آخر تنام فيه عروق خضراء وتتشقق التربة البنية الرطبة دالة على عبور خيوط الماء فيها. فكرتْ "يال السعادة" وأنا ألتقط بعيني صورة سريعة لهذه الحياة الجديدة. ابتسمتُ بعمق شديد، ثم رددتُ تحية محمّد الذي اعتاد بعد العشرة التي لا بأس بها أن يناديني من الطرف الآخر "نوووور" مبتسمًا وفخورًا بصوته، غير مبالٍ بملابسه القديمة وحذائه الذي هرسته الخطوات ربّما. إذ كان يبدو جقيقيًّا جدا ومليئًا بالحياة، مستعدا أكثر من أي رجل ناضج وكبير أن يغني ويقول ل "لارا": "سوف أستمر في التسلّق من أجلك. هذا ليس شيئًا مؤقّتًا".

على الهامش: للطريق بقية
للطريق تفاصيل أخرى.

20‏/06‏/2016

أربعون ساعة من الاستيقاظ



كنتُ أودّ أن أطلعكَ على بعض الأشياء المهمة ولكنني نسيتها الآن. إنني أنسى كثيرًا في هذه الأيام وكلّما ازداد النسيان في حدّته أستمع إلى الموسيقى أو أسجّل مقطعًا صوتيًّا أغني فيه أغنية ناقصة محاولةً بذلك الاعتذار عن شطحاتي وسكوني لأيام طويلة. أودّ أن تعرف أنني أتهاوى كلّ يوم أكثر، ولا تقلق فهذا لا يمنعني من الابتسامة والتنزّه ولعن الحر الشديد وتحويل معاناتي اليومية إلى قصيدة. كما أنني أحاول الاحتفاظ بحسّ السخرية قدر المستطاع.

مضى وقتٌ طويلٌ على نومي الأخير. ما يزيد عن أربعين ساعة وإنني أحاول الآن أن أصل إلى هاتفي لأرى كيف باع "الدكتور فاوست" روحه إلى الشيطان. كان عندي صديقة بسيطة جدًّا تنتقد هذه التسمية لا لشيء إلا لأنها تفكر فيها بطريقة كلاسيكية. الشيطان في نظرها كان مخلوقًا غريبًا قادمًا من مكان سفليّ جدًّا ووضيع. له عينان غائرتان ويده سيفٌ من نار، وصوته فحيحُ أفعى. كانت تنفخُ على ملابسها عندما تتحدث عنه وتتلفظ بأشياء لا أفهمها. واليوم، أودّ أن ألتقي بها لأخبرها كم أنها مخطئة. "فالشيطان" يمشي بيننا. وقد تكون له بشرة ناعمة جدًّا وابتسامة هادئة. قد يكون فينا أيضًا. ما يكون استسلامنا إذًا؟ ما يكون هذا الكره الذي يسكننا؟ ما تكون هذه الفروع الخضراء التي نقصّها لنمنع شجرة من التعريش؟ ما يكون الأرق؟ الحزن؟ ليتني ألتقي بها لأخبرها أن الشيطان مجازٌ معقد جدا وغريب، وأنه في كلّ شيء يفرض سيطرته علينا ويدوس على وجوهنا مصرًّا على عقد صفقته مهما كان الثّمن.لقد أقسمتُ وأنا أصنع الرزّ الأبيض منذ أسبوع ألا أبيع روحي له أبدًا. لذلك فإنني أشاركك هذه التفاصيل وأصنع لنفسي فساتين ملونة وأمجّد الأشياء البسيطة وأربّت عليها، وأقول لعزيز -رجلي الصغير- وهو يلوح لي من بعيد أنني أحبّهُ جدًّا وأننا سوف نذهب معًا لشراء دفتر ألوان وسوف نستخدمُ حاسّة الموسيقى لعبور شارع مزدحم. لذلك فإنني أرسم بقلمٍ مكسور، وأدور حول متاهات الغبار، وأستدرج نوري لأمنح هذا الليل الرابض على صدري سببًا للرحيل. ما تفعل أنت حيال أرقك؟

منذ قليل، مرت طائرة فوق بيتنا، وهذا ليس خبرًا مميّزًا لكنها كانت قريبة جدا. أكاد أجزم أنه رآني وربّما قال: "لا، ليس الآن. مازال عندها دفتر يجب أن تملأه، وطبق من ورق العنب لا بدّ أن تأكله. سأعود في وقتٍ لاحق. سآخذها بكامل نضوجها وجمالها ولن يسأل أحد إلى أين تذهب".
أنا أيضًا لا أريد أن أموت الآن. مجرد حدث عابر ينتهي باستفاقتك دون أن تراني. هل كنت لتتساءلَ كيف عبرت؟ من أي خرم؟ من أيّ شقٍ صغير مددت نفسي وصرتُ خيطًا رفيعًا وانتهيت؟ يقول بعض الأشخاص أننا حين نموت نصير غبارًا ونتحد بالكواكب ثم نشعّ إلى الأبد. ولكن، ما هو الأبد يا صديقي؟
إن الأوهام تقتلني، ولا أدري كيف أشرح لك الأمر، وكيف أعبر لك عن مدى أسفي. لقد رأيت الحقيقة الهشّة أمامي قبل أسابيع. كانت تتوضح مع كل بقعة دم تنصبغ على ثوبي، وكان صراخ الرجال -الذين حسبتُ أنهم لا يصرخون- يشقّ روحي ويدلف إليها ثم يقتل مجموعة لا يستهان بها من العصافير. الجروح التي اكتسبتها في ذلك اليوم راحت تتعمق وتصير خنادق لعينة يجري فيها الدم ويصب في قلبي مانحًا إياي سببًا آخر للخوف. توجعت جدا. استعدتُ حياتي للحظات، ولكنني لم أكن قادرة على الحفاظ عليها رغم كل شيء. حاولتُ كما كان يحاول الجميع أن أقول أنني صامدة، وأن عيني التي اصطادت صديقتي وهي تموت لن تحتفظ بهذه الذكرى إلا قليلًا، وسوف تحوّلها إلى حدث سيء يُضاف إلى كومة المصائب لا أكثر. وأنّ الأب المسكين الذي كان يلطم وجهه سوف يجدُ في جثّة ولده الهامدة سببا ليقوم ويغني. كم قدمًا تلزمنا لنمشي مرة أخرى؟ كم روحًا نحتاجُ لنرقص؟ حجمُ الدمار كبير جدًّا، وليس خطأ كما كانت تقول حافلة محترقة أن نبكي. وليس خطأ كما تقول طائرة عابرة الآن أن ننتظر. هل تنتظرُ معي؟
لا تقلق. ليس ضروريًّا أن تقول نعم. فأنا أدرك اختلافنا، وأدرك ألا أحد مستعد لانتظار كهذا. حتى أنا لست مستعدة، وأشقّ أنفاسي من قلب الحديد البارد حتى أمنح هذه الأصابع التي تكتبُ الآن سببًا للاستمرار، وقدرة على المرور حول عينيك وصولًا إلى صدغك الأيسر الحبيب، ونزولا عند صدرك الضبابي الذي يشبه انعجان الصخور بشلال يهطلُ من الأعلى. الأعلى هو فمك المزموم على أحاديثه الطويلة والمعتمة.

دخلت أمي الغرفة. قالت لي: "تعالي نشربْ الشاي". الطاولة مستديرة وصغيرة. تتسع ليدينا فقط. ترمي أمي بضع قطع من الكعك الهش، ثم تحرك السكر بملعقة بيضاء وتضعها جانبًا بتأنٍ ملفت. ثمّ تُعيد جسدها نحو الخلف مستندةً على وسادة ذهبيّة مبرشّة. تحدثني عن مخاوفها وأفكارها بشأن تحسين ما يمكن إنقاذه. منذ زمن. عندما كان عندي ضفائر. كنتُ أعتقد أن الكبار لا يخافون، وأنّ لديهم كلّ الحلول مما يدفعهم لعدم البكاء والصراخ. لذلك -ربما- كنتُ أقول في نفسي: "متى أكبر؟ يالها من فكرة مدهشة!". والآن، وأمي تتحدث بهذا الرعب، وتنقر بيديها منفعلة وقد غشاها التعب. مستجلبة الوجوه من ذاكرتها، لاعنةً فيروز والكتب التي قرأتها، آسفة على ضياع دفتر رسوماتها ومعاتبة جدّي طويلًا. أكتشفُ أنني - الكبيرة الصغيرة- سأكون الحضن المتكفّل برعايتها وإخبارها بجدوى الرقص، وأنّ الكثير من الكتب التي نقرأها قد تتخلى عنا عند أول تجربة حقيقية وأن أمل فيروز رومانسي مخصوص بزمن سحيق وبعيد، ولا حقيقة في هذا الكون الذي يأكل نفسه سوى امتلاكنا لهذه اللحظة، وإحساسنا بسخونة الشاي على شفاهنا وبقايا الكعك على أصابعنا. وقد أحتضنها، وأقول لها بكلّ هدوء: "لا تقلقي، تحدث معي أشياء كهذه". متى احتضنتَ "حضنكَ" آخر مرة؟

أعود إلى غرفتي. الهواء ساخن جدًّا. حزيران يفرقعُ أصابعه عند الشباك ويدخّن سيجارته العاشرة ثم يسحب قطع الشوكولا من درجي القريب. يقشّرها ويبتلعها ثم يمضي تاركًا أثر لمساته المحمومة في هذا الجوّ الدبق. تدور أصوات الموسيقى مخمورة في كلّ شيء. في مشبك شعري الأزرق. في قميصي الأصفر المتروك على الكرسي. في حذائي الكهرماني المتعَب من العَدْوِ الأخير. في الغطاء البحريّ المائج بأزهاره كأنما حلّ به عشق أو أصابته قذيفة ملونة. في زجاجات العطر الفارغة وتلك الوحيدة الممتلئة حتّى منتصفها. ما يمكن أن تقولَه عن فتاة تستخدم عطرًا اسمه "هزار"؟ من المؤكّد أنك لم تسمع به من قبل. الجميلاتُ لا يحتجن إلى عطور معروفة، وربّما لا يحتجن العطر أبدًا. لكنه وفي مرحلة من مراحل الذكرى يغدو مهمًا بل جوهريًا ليكتمل نصابُ هذا الحفل الصاخب. ما اسم عطرك؟

أسمع جارنا وهو يصرخ. هو ذاته من رمى طفله من السيارة اليوم بطريقة همجيّة بعد أن امتنع عن النزول. أقول لك. لم أستطع امتلاك نفسي. قلت له: "هذا ضد الإنسانية تمامًا. ما تظن أنك تفعل؟" فقال بكلّ وقاحة: "أربّي إبني". تكفل جارنا الآخر بالنقاش بينما كان الطفل الصغير يبكي. أمسكت يده ومسحتُ وجهه وقلت له ما خطر ببالي حينها. ثم تمشينا قليلًا واشترينا السكاكر وأطعمنا دجاجة "إم مصطفى". أوصلته إلى منزلهم حيث فتحت لي أمه الهزيلة التي اعتبرتها مشاركة في هذا المسار التربوي الأحمق. إنه يصرخ الآن. مثل أي شيء سيّء يحصل هنا. مثل الموت والتفخيخ وصعوبة العيش والابتسامات الناقصة. متى شعرتَ بالرغبة في قتل أحدهم؟

استوى عقلي الآن. صار شديد الاحمرار ومحتقنًا. يبدو أنني استعدتُ ذاكرتي في النهاية...


على الهامش: Yanni - الصديق الوفي

19‏/06‏/2016

لغز الانتحار التطوري: متى قد تقتل نفسك؟





ليس هناك شيء أسوأ في الوجود من القتل، وليس هناك أفظع ولا أبشع من أن يقتل الإنسان نفسه. قد يقول البعض متحمسا: كيف لم يمنع الانتخاب الطبيعي الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية التي تدفع بالناس إلى الانتحار؟ كيف أؤمن بأن غاية التطور هي البقاء والتكاثر إذا كان مليون شخص حول العالم يموتون منتحرين كل سنة، أو إذا كان هناك شخص ينتحر كل أربعين ثانية؟ [1] .
لكن لا يجب أن نصوغ سؤالنا بهذه الطريقة قبل أن نعرف ما هي الفائدة التطورية من الانتحار؟ 

دعونا في البداية نعرف الأسباب [2] التي قد تجعل الإنسان يقتل نفسه. 
يزداد خطر الانتحار مع التقدم في العمر: 
الرجال الأكبر سنا معرضون لخطر أكبر. لكن ثمة استثناء، في سبعينات القرن الماضي (1970s) زاد معدل الانتحار بين الشباب، وخاصة الشباب الذكور، في البلدان ذات الدخل العالي. 

هناك أسباب بعيدة للانتحار (أقل ارتباطا)، مثل: 
- الحِمْل الوراثي Genetic loading (الحِمْل الجيني هو انخفاض في متوسِّط لياقة مجموعة من الناس بالنسبة إلى مجموعة مكونة من أشخاص مثاليين جينيا أو هو الفُرصة النسبية لموتِ أحد الأفراد في المجتمع قبل بلوغ سن التكاثر بسبب الجينات الضارة التي يحملها [3,4]). 
- نوع الشخصية (الاندفاعية، العدائية). 
- خلل نمو الجنين وظروف الولادة. 
- الأحداث المؤلمة المبكرة.
- الاضطرابات العصبية البيولوجية.

وهناك أسباب قريبة للانتحار (أكثر ارتباطا) مثل: 
- الاضطرابات والأزمات النفسية. 
الأمراض الجسدية. 
- وفْرة وسائل الانتحار. 
- مشاهدة نماذج الانتحار (عبر وسائل التواصل، مثلا).

سنستعرض في هذه التدوينة أهم الفرضيات التطورية التي ترى أن الانتحار تكيُّف بطريقة ما. ولكن قبل البدء، علينا أن نفهم "قاعدة هاملتون" جيدا. 
إذا أردنا الإجابة على سؤال: ما هي الفائدة التطورية للانتحار؟ فنحن في مأزق ما، وربما لن نملك إلا أن نزعم أن الانتحار تكيُّف. وبما أن المُنتحِر ينهي حياته، فلا بد أن يكون بهذا الفعل يمنح شخصا آخر أو مجموعة أشخاص آخرين بعض المنفعة، هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها فهم الانتحار بوصفِهِ تكيُّفا. وسنمر بقاعدة هاملتون لأنه هو عالم الأحياء التطوري الذي أثار القرن العشرين بتفسيره لسلوك الغيرية. 

رأى هاملتون William Donald "Bill" Hamilton في نظريته "اللياقة المتضمنة Inclusive fitness" أن سلوك الغيرية altruistic behavior بين الأشخاص الذين يتشاركون نسبة معيَّنة من الجينات سيسمح لهذه الجينات بأن تُمرَّر عبر الأجيال [5]. 
وقدَّم هاملتون حالة خاصة من اللياقة المتضمنة تُدعى "انتخاب الأقارب Kin selection" ومفهوم هذه النظرية هو أن الانتخاب الطبيعي سيفضِّل الجين المسؤول عن السلوك الغيري عندما تكون منفعة الأقارب الجينيين أكبر من كُلفة الشخص الغيري [2]. أي، بلغة الرياضيات، سيحدث سلوك الغيرية إذا كانت 


r × b > c 

حيث: r"" هي درجة القرابة relatedness degree الجينية، ""b هي المنفعة benefit التكاثرية لقريبٍ جيني، "c" هي الكُلفة cost التكاثرية على الشخص الغيري [6]. 

والآن من حقنا أن نسأل: ما هي المنفعة التي سيتلقاها أقاربنا البيولوجيون إذا انتحرنا؟ هذا إذا غضضنا النظر عن مأساتهم وحزنهم وتفشِّي سوء سمعتهم في المجتمع. 

سألخص الآن دراسة [2] حديثة (2013) نُشرت في المجلة العالمية للأبحاث البيئية والصحة العامة بعنوان "لغز الانتحار التطوُّري The Evolutionary Puzzle of Suicide". 

1- فرضية الانتحار الغيري The Altruistic Suicide Hypothesis: 
استعمل بروفيسور علم النفس والأعصاب والسلوك De Catanzaro نظرية "اللياقة المتضمنة" لتفسير لغز الانتحار تطوريا. اعتقد دي كاتانزارو أن الشخص سيُقدِم على الانتحار عندما تكون احتمالية نجاحِه التكاثري غير مشجعة، وعندما يدرك في نفس الوقت أن استمرار وجوده سيقلل اللياقة المتضمنة بتعارُضِهِ مع النجاح التكاثري لأقاربه الجينيين [7].

وُجِد سلوك تدمير النفس الغيري (الانتحار) في الكثير من الكائنات، من الكائنات وحيدة الخلية والطفيليات إلى الحشرات الاجتماعية social insects، ووجوده بين البشر مُختلفٌ فيه. تطور تدمير النفس في عدد من الحشرات الاجتماعية كاستجابة  دفاعية ضد الأعداء لأن له عواقب نافعة للياقة أفراد المستعمرة الناجحين تكاثريا (أي كأن الحشرة تعرض نفسها للخطر وهي تدرك أن الحشرات الناجحة تكاثريا في المستعمرة ستستمر في التكاثر، ومن ثم في نشر جيناتها). وتعرِّض الحشرات حياتها للخطر في حالات مختلفة: (1) حالة الدفاع اللحظي؛ عند وجود عدوٍّ ما. (2) حالة الدفاع الانتحاري الوقائي: أن يكون الموت هو نتيجة إصلاح أو إخفاء الوكْر (بيت الحشرات) لمجرد الوقاية قبل هجوم العدو. (3) تغادر الحشرات المريضة والمصابة بالعدوى الوكْرَ لئلا تُعدي الحشرات الأخرى، ومن ثم تتعرض لخطر الموت. 

ماذا عن البشر؟ وجدت الدراسات أن الفرد يكون ذا قيمة سلبية إذا كان عبئا على أقاربه (لسبب مرضي أو أسباب أخرى) أو كان ذا قدرة تكاثرية منخفضة. وارتبط الشعور بالعزلة والعبء على العائلة بالتفكير في الانتحار. بل إن بعض الأشخاص رأوا أن انتحارهم تضحية لمساعدة أقاربهم. وفي الماضي، كان شعب الإسكيمو يعُدُّ الانتحار سلوكا غيريا (تضحية لمصلحة شخص أو مجموعة أشخاص). البالغون الأكبر أو الأشد مرضا سيقتلون أنفسهم أو يُقْتَلون بطلبهم في أوقات المجاعة. 

باختصار، ترى هذه الفرضية أن الانتحار سلوكٌ تكيُّفي في حالات خاصة مثل "الشيخوخة، الأمراض النفسية، الأمراض الجسدية - خصوصا المزمنة منها، المثلية الجنسية". 

لكن إذا كان العبء على الأقارب تفسيرا معقولا للانتحار في كبار السن فإن من الصعب القبول بأن انتحار الشباب ذوي الصحة الجيدة سيحسِّن من لياقة الأقارب. وبدلا من هذا، من المحتمل أن يكون الانتحار في هذه الحالة (الشباب ذوي الصحة الجيدة) منتجا ثانويا غير تكيُّفي؛ أي ليس سلوكا أساسيا نتج من عملية تطورية مباشرة لأداء دور تكيفي.

2- فرضية المساومة The Bargaining Hypothesis:
دعنا نفترض أنك تعيش في منزل بين عشرة أفراد وتعاني باستمرار من إهمال والديك وصراعاتهم معك. في أسوأ الحالات قد تمثِّل مسرحية انتحار مضمونة النتائج لكنها غير قاتلة! 
ترى هذه الفرضية أن السلوكات الانتحارية قد تكون صرخات نجدة أو إشارة صادقة إلى الاحتياج يمارسها الأشخاص (المراهقون، مثلا) الذين وقعوا في مشاكل مع جماعاتهم الاجتماعية (العائلة، المجتمع...). 
في هذه الحالة ستكون محاولة الانتحار مغامرة؛ فقد تنجو وتحظى بما كنت تريده، أو قد تخسر حياتك. ومن وجهة نظر تطورية، ستتطور هذه الاستراتيجية عندما تكون فوائد الجينات المسؤولة عن "استراتيجية الإشعار" في المتوسط تفوق تكاليفها. ومن المهم في هذه الفرضية أن تكون معظم محاولات الانتحار غير قاتلة. 

3- فرضية التلاعب الطُّفيْلي The Parasite Manipulation Hypothesis: 
من المعروف أن الكائنات الطفيلية تستطيع التلاعب بسلوك المُضيف (الكائن الذي تعيش فيه الطفيليات). هذا التلاعب تكيُّف يعود على الطفيلي بالمنفعة، فهو يسهِّل له الانتقال من مُضيف إلى آخر. هناك طفيليات تعيش في أكثر من مُضيف، فهي تنتقل إلى مُضيف وسَطي (مؤقت) وتتغذى فيه، ثم تحاول الانتقال إلى مضيف نهائي لتستكمل دورة حياتها. 

من أشهر الأمثلة على هذا النوع من التلاعُب التكيُّفي هو ما يفعله طفيل توكسوبلازما غوندياي Toxoplasma gondii. يستطيع هذا الطفيل أن يعيش في الثدييات كمُضيف وسَطي له، لكن مضيفه النهائي هو السنُّوريات (كالقطط والأسود...)؛ لأنها الوحيدة التي تُخرج بُويْضات الطفيل مع فضلاتها. عندما يُصاب حيوان ثديي آخر (الفأر، مثلا) بعدوى توكسوبلازما غوندياي سعيش الطفيل في جهازه العصبي ويقوم بالتلاعب بسلوكه (يجعل الفئران أقل خوفا من القطط وأشد انجذابا لها) حتى يتمكن من الانتقال إلى مُضيفه النهائي وإكمال دورة حياته (يأكل القط الفأر الذي تعيش فيه هذه الطفيليات فتنتقل الطفيليات إلى القطط وتنضج). 

البشر أيضا يُصابون بعدوى توكسوبلازما غوندياي، بل إن بعض الدراسات ربطت بين العدوى الكامنة (ليست لها أعراض سريرية) والسلوكات الانتحارية في البشر. وإضافة إلى هذا، كانت السنُّوريات المفترسات الأولى للبشر في القرن العشرين، ومن المرجح أن هذه السنوريات الحديثة (بالإضافة إلى تلك التي عاشت في بيئات الأسلاف) كانت مفترسات خطرة للإنسان البدائي. لكن فرضية التلاعب الطفيلي (أن تتلاعب الطفيليات بالبشر لتستطيع الانتقال إلى مضيفها النهائي) لم تزل مُحاطة بالكثير من الجدل. 
ومن المُلفت في هذه الفرضية أن السلوك الانتحاري لا يعود بالمنفعة إلى المُنتحِر (الإنسان، مثلا) بل إلى الطفيلي. 

يستنتج الباحثون أن "خلفيتنا البيئية والثقافية قد تطورت جدا. ازداد تعاون الأفراد وقل اعتمادهم على الأقارب بخلاف ما كان يحدث في الماضي. نحن نعتقد أن الصلاح الاجتماعي المتطور في العديد من البلدان قد بدَّل قيمة الانتحار التكيُّفية، وصار يمكن فهم الانتحار بوصفه "غير مُلائِم" لبيئتنا الحديثة. ولأن بيئتنا تغيرت عما كانت عليه في زمن الأسلاف فلا توجد قيمة تكيفية للانتحار" – مترجم بتصرف. 

ملاحظات شخصية: 
- هذه الفرضيات التي قدمت لها في التدوينة لا تبرر الانتحار أو تشجع عليه، بل تحاول تفسير هذا السلوك الذي يبدو متعارضا مع المنهج التطوري الذي يعطي الحياة والتكاثر الأولوية على أي شيء آخر. 
- من الممكن تقليل نسبة الانتحار عالميا بمضاعفة الاهتمام بالفئات الأكثر عرضة للانتحار، ككبار السن والمرضى النفسيين وأصحاب الأمراض الجسدية المزمنة والمتشردين... ومضاعفة التوعية بالطرق المثلى لتحسين لياقة الأقارب، وهي: رعاية صغار الأقارب، والمساهمة في تحمل بعض الأعباء عنهم... إلخ. 




المراجع: 
[1] http://www.suicide.org/international-suicide-statistics.html
[2] http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3881146/
[3] http://www.els.net/WileyCDA/ElsArticle/refId-a0001787.html
[4] https://www.blackwellpublishing.com/ridley/a-z/Genetic_load.asp
[5] http://global.britannica.com/science/inclusive-fitness
[6] http://www.genetics.org/content/176/3/1375
[7] http://blogs.scientificamerican.com/bering-in-mind/is-killing-yourself-adaptive-that-depends-an-evolutionary-theory-about-suicide/

يتم التشغيل بواسطة Blogger.