22‏/07‏/2015

من منا مريض نفسي؟





من منا مريض نفسي؟
"بالنظر إلى الإصدار الجديد من كُتيِّب التشخيص النفسي المُعد للنشر العام القادم، قد تعتقد أن كل شيء تقريبا هو مرض نفسي" [Paula J. Caplan, Ph.D. 2011].
لعلنا جميعا نحمل هاجس "المرض النفسي" ونتساءل عن ماهيته ومن هو الذي يقرر أننا مرضى أو سليمين. سمعنا عن أشخاص تغير سلوكهم فجأة ووصفوا بالـ "مرضى"، ونحن أنفسنا نسمي المصحَّات النفسية "مستشفى المجانين". ما هو المرض النفسي عند علماء النفس والأطباء النفسانيين؟
الكتابان المعتمدان في التشخيص النفسي على المستوى العالمي DSM-5 و ICD-10 لا يجدان تعريفا محددا وواضحا للمرض النفسي. يركز الأول على الألم Distress و العجز Disability والأخطار المؤدية للموت أو الألم أو الإعاقة، أو فقد الحرية Loss of Freedom. بينما يهتم الثاني بالألم والتأثير على الوظائف الشخصية Personal Functions.
كما نلاحظ، التعريفات تختلف ولا تحدد بدقة ماهية المرض النفسي. وهذا هو ما أشعل ثورة الخمسينات والستينات Anti-psychiatry التي حاربت التصنيفات النفسية بوصفها غير مناسبة ومؤلمة. [Short Oxford Textbook Of Psychiatry, P: 23]. ولو أخضعنا أنفسنا للاختبارات المعدَّة للتأكد من وجود بعض الأمراض، لوجدنا أحيانا أن نتائجنا تشير إلى مرض أو مؤشرات مرض!



ومنذ ظهور علم النفس كعلم له مكانة وأهمية في المجتمع، ومن ثم ظهور تصنيفات كالفصام Schizophrenia والاضطراب الوسواسي القهري OCD والثنائية القطبية Bipolar، بدأ الناس يصنفون ويتعاملون مع بعضهم على أساس التشخيصات النفسية، هذا ما يسمى "الوصمة النفسية "Psychiatric Stigma.
نحن -في مجتمعنا- قد لا نعاني من هذه الوصمة؛ لسببين على الأقل: نحن لا نعطي علم النفس أهمية كبيرة ولا نعول عليه في تعاملاتنا، وديننا الإسلامي ينهانا عن جرح مشاعر الآخرين بنبزهم بالألقاب. وللسبب الأول جانب آخر سلبي على ثقافتنا، وهو واضح في المجتمعات التي ما زالت تداوي المصروعين والمكتئبين بالبخور والتمائم والمياه المقدسة.
إذن، أمامنا مشكلة تتمثل في التصنيف النفسي. إنه يضع خطوطا تحت أسماء المرضى النفسيين، ويصرف الأنظار عن قيمتهم الشخصية الاستثنائية، ويصمهم بالوحشية والخلل في التعامل والغموض... إلخ. هذه التبعات تدمِّر الشخص وتلغي الكثير من مصالحه. لكنه في الوقت نفسه ضروري لتمييزهم وإعطائهم الاهتمام والعلاج اللازمين. فهل نحن بصدد مشكلة لا حل لها؟ أم أن الحل ممكن؟
ما هي الحلول الممكنة؟ أهي في تغيير المصطلحات المتداولة في هذا العلم؟ أم في تضييق نطاق التعريفات الخاصة بالأمراض؟ أم في تعليم غير المتخصصين فن التعامل مع المريض النفسي؟ أم في الالتزام بالسرية حيال الاضطرابات التي لا يتوقع منها أن تكون مضرة بالآخرين؟
إنني أدرك ضيق اللغة عندما أود استعمال وصف دقيق غير "مرض". وأرى أن الرؤية المتشائمة لهذا المصطلح -خصوصا في علم النفس- تحتاج إلى تغيير. وإنني أنظر إلى البعيد وأرى الناس قد تصالحوا مع الأمراض النفسية كما فعلوا مع أمراض مثل السرطان Cancer والمتلازمات المختلفة Syndromes. فالطريق لم يزل طويلا أمام علم النفس؛ هذا العالم النامي بسرعة والمتطور بشكل ملفت للانتباه.
الذين يقررون وصفنا بالمرضى النفسيين هم الأطباء الذين يعتمدون على مصدرين رئيسين يضمان عددا من الأوصاف المختلفة ويكبران كل عام. فعدد الأمراض في DSM-4 بالتأكيد أقل من عدد الأمراض في الكتيب الإحصائي الحالي DSM-5. وسيكون الكتيب القادم أكبر بلا شك. وربما سنصل إلى نهاية مؤسفة إن لم تتغير بعض المعايير.

أفكار تطورية: أكل التوابل






ما الذي كان سيحدث لو لم يأكل أسلافنا التوابل؟
باختصار وبدون مبالغة، الأمر يتعلق بنا. وبالتحديد، بوجودنا. ربما لم نكن لنوجَد.
عندما نصاب بالعدوى، تشتعل أجسادنا بالحمَّى وتقل شهيتنا لبعض الأشياء كاللحم، بينما تزيد للوجبات الساخنة كالشوربة، والمتبَّلة خصوصا.
ربما لم نتساءل بعمق حول هذه التفضيلات في هذا الظرف. وهَرَعنا إلى بلع الأقراص المخففة لدرجة الحرارة والآلام، وبلا شك المضادات الحيوية أو الفيروسية.
يهتم علم النفس التطوري، الذي ثار ثورته الحقيقية بعد نشر تشارلز داروين لكتابه عن أصل الأنواع (1859)، بمثل هذه الأمور. فهو يدرس العمليات العقلية والسلوكية (شأنه شأن أي فرع من فروع علم النفس) وعلاقتها بالبقاء والارتقاء (أساس نظرية التطور).
وفيما يخص موضوعنا، توجد فرضية (ضد جرثومية Anti-microbial) لأكل التوابل. تزعم أن الأسلاف الأوائل من البشر طوَّروا رغبة في أكل التوابل لسبب مجهول، ثم قام الانتخاب الطبيعي باصطفاء هذه الرغبة وتعزيزها لما لها من فوائد تتعلق بالبقاء.
ماهي فوائد أكل التوابل؟
بالإضافة إلى نكهتها اللذيذة مع الأطعمة، تقتل التوابل العديد من أنواع البكتيريا، وتحد من حالات التسمم.
فالتوابل الأكثر شهرة: "البصل، الثوم، الفلفل الحلو قتلت كل أنواع البكتيريا الوحيدة التي اختبرت عليها في المختبر" (علم النفس التطوري، دافيد بوس، ترجمة مصطفى حجازي). وقد يجيب هذا على سؤال أي مبتدئ في الطبخ: لماذا نضع البصل والثوم والفلفل أولا!


لذا نحن نفضل التوابل. وبعضنا يفضلها بشكل مُستغرب عندما يصاب بالعدوى. فعندنا، يصنع الأهل الشوربة الساخنة المتبلة للمرضى بمجرد ارتفاع درجة حرارتهم واستلقائهم على السرير. وما إن نمرض حتى نشتهي بشدة الأطعمة والمشروبات الساخنة والمتبلة. ولهذا دافعٌ وجيه. إن التوابل والسواخن تساهم إسهاما عظيما في تخليص الجسم من الميكروبات.
الحمَّى نفسها هي استجابة الجسم الأولى والأقوى على تخليصه من الميكروبات. وقد اكتشف في بعض التجارب "أن الأطفال المصابين بجُدَري الماء والذين تم خفض حرارتهم بواسطة الأسيتامينوفين Acetamenophen [الأدول أو البانادول] استغرقوا يوما إضافيا تقريبا للشفاء مقارنةً بالأطفال الذين لم تخفض حرارتهم" (المرجع نفسه).
ربما يمكن تفسير هذا "اليوم الإضافي" بعوامل جينية أو آليات دفاع أخرى. لكن التجربة التالية قمينة بالاهتمام البالغ.
كان السفلس Syphilis يقتل 99% ممن يصابون به. وعندما لاحظ أحد الأطباء وهو جوليان فاغنر أن السفلس نادرا ما يعرف في الأماكن التي تنتشر فيها الملاريا Malaria، قام بحقن بعض المرضى بالملاريا عمدًا ولم يحقن البعض الآخر.
لقد كانت النتيجة مذهلة. 30% من المرضى الذين حُقنوا بالملاريا تخلصوا من السفلس، بينما لم ينجُ الآخرون.
كان التفسير الوحيد لهذا الشفاء هو أن الملاريا مرض يرفع درجة حرارة الجسم، الأمر الذي سهَّل قتل ميكروب السفلس. (المرجع نفسه).
لا أعلم -شخصيا- هل من الصحيح في بعض الحالات ترك المريض يغلي اعتمادا على كفاءة الحمى، أم إعطاؤه مخفضا للحرارة. لكن دور الحمى الرئيس هو قتل البكتيريا. بغض النظر عن آثارها الجانبية.
فلنتفرض الآن أن أجدادنا العتيقين لم يفضّلوا أكل التوابل. ما الذي كان سيحصل؟
ربما كانوا سيموتون بسبب أول وجبة دسمة من اللحم الملوّث، أو أول لقمة مسممة من نبات مجهول. وعلى سبيل الافتراض ليس إلا، لم نكن الآن موجودين نحاول أن نفسر الغرض التطوري من أكل التوابل!
ملحوظة: هناك قفزات عظيمة في تاريخنا الطبيعي تخبرنا بأن تكيُّفاتٍ جمَّة كانت وراء هذا الإنسان العاقل الحديث الذي ننحدر منه. وانتقاء الأغذية واحدة من هذه القفزات الأساسية التي عاش أسلافنا الأذكياء معظم حياتهم لإتقانها، ويبدو أنهم نجحوا. وما أكل التوابل إلا انتقاء بسيط من بين الانتقاءات الكثيرة الغامضة.


أندروميدا





أندروميدا
إنني متعبٌ بصلاة السفرْ.
كلما ابتلعت هِمّتي بلدةً لاح لي مسجدٌ وإله.
كلما قلتُ سوف أصلْ. قيل لي صلِّ حتى تصلْ..
فأنا الآن من تعبي غارقٌ في سراب الطريقْ
أشتهيكِ
كما يشتهي لمسَ وجه النبيِّ المطرْ.

أندروميدا
لا أخاف عليكْ. لا أخاف على حُبّي.
لا أخاف على ما تبقى من الصيف والكرزِ النائمين
على قنبلةْ.
وأخاف عليّ من الأسئلة.

أندروميدا
أنت ضوء المسافر. وأنا ليلُه.
فليسافرْ.
وأنا زاده
فليسافرْ.
وأنا ما يقولُ الظلام لأنجمه الميِّتة:
أشعليني مرةً قبل أن أنتهي.
كي
أسافرْ.

أندروميدا
يا نبيَّةَ قلبي فلتسعدي.
ما على ضفّتي فمك العذب أن تتسعا؟
اضحكي قبل أن يُرهق الياسمين الدعاءْ.
اضحكي بين كل اليتامى
بين آباءٍ يموتون قبل الموت
فالموت يخشى ضحكةَ الأنبياءْ.


21‏/07‏/2015

اكتشف الصغير بداخلك






"الحياةُ مع الصِّغار تذكِّرُنا بأننا لا نزال صِغارًا، لكن منزوعو البراءة!".
الاقتباس من سماوات جائعة، وسأتناول بعض الروابط العميقة بين طبيعتنا وطبيعة الأطفال في ثلاثة مواقف.
1- هوسُ التكرار:
من يلاعب منكم طفلا سيلاحظ أن الطرق إلى إضحاكه كثيرة، ولكنّ معظمها يتركّز في تكرار الحركات. كنت أمس ألاعب نسرينة (أخيّتي)، أطلب منها إغماض عينيها ثم أضع شيئا ما على رأسي، وعندما تفتح عينيها تقوم بالبحث عنه باهتمام. ثم عندما تيأس أحني رأسي فتسقط القطعة!
لاحظت أنها لم تلتفت إلى الجزء المضحك من اللعبة، فقط كانت تبحث باهتمام. ولكن لمراتٍ عديدة، كانت تضحك بروعة، وتطلب مني إغماض عينيّ بينما تضع القطعة على رأسها.
التكرار إذن هو ما يضحك، وليست الحركة. فأنت تستطيع أن تضحك أي طفل بمجرد إعادة نفس المشهد (مع بعض الأصوات التي توحي بالمفاجأة، هييييه).
ويركز ممثلون مثل (شارلي شابلن) على هذا الخيط المشترك بيننا والأطفال، لذا أفلامهم تضحكنا!
وفي النكت (الجمل المضحكة)، يعد التكرار والمفاجأة عنصرين رئيسين لنجاح النكتة. وأحيانا (الجنس أيضا).
وعندما نفعل شيئا معينا (نخرج إلى البحر رفقة صديق لطيف) ثم نعود لمشاهدة فيلم قديم فنشعر باللذة. نطمع في اليوم التالي في الاتصال بنفس الصديق والبحث عن فيلم مشابه جدا لفيلم الأمس.
فما نضحك به على الأطفال، من تكرار حركات عادية قد لا تسلّينا، هو نفسُه ما تضحك به علينا الطبيعة. إذ إن علّة الضحك واحدة، والذي يختلف هو المشهد والطريقة.
2- البكاء:
ثمّة ما يمكن أن نطلق عليه Stigma أي صفة مُلازمة في حياة الأطفال، مثل البكاء عندما لا يتوفر لهم ما يريدون.
والآن، تخيلوا معي رجلا راشدا يمشي في الشارع ويبكي لأن زوجته رفضت الخروج معه إلى السوق! أول تشخيص يمكن أن نفكر به هو أنه رجل مجنون. ولكن تعالوا وانظروا إليه وهو يبكي عند حدثٍ مؤلم. سيختلف التشخيص تماما، فهو حزين ويستحق المواساة.
إن الحدث المسبب للبكاء هو نفسه عند الراشد والطفل: الوقت الذي لا ينفع فيه إلا البكاء. ولذا فإن الطفل يبكي لأتفه الأمور (بالنسبة إلينا) فهو لا يملك أي أسلوب تعبيري لغوي أو انفعالي سوى البكاء. لكننا نملك اللغة والغضب والصمت. وهي الأساليب التي تفشل حين نبكي مغلوبين على أمرنا.
وها هي طبيعة البكاء مشتركة بيننا وبين صغارنا. إنه تنفيسٌ Catharsis ضروري عندما لا نفلح في الحصول على ما نريد.
3- نظرية العقل Theory of mind:
تعني القدرة على تقدير رغبات ومعتقدات وحاجات الآخرين والإيمان بأنها موجودة لديهم كما هي موجودة لدينا.
في المكتبة الطبية بجامعة جازان ستجد حقلك المناسب لرصد ملاحظات هذه النظرية! فبينما أنت تقرأ في هدوء، إذ بثلاثة من الطلاب يجلسون بالقرب منك ويتنقلون بين الموضوعات بكل حرية. قد تنزعج، ولكن الأفضل لك أن تبحث عن خلفية هذه التصرفات غير الحضارية.
ما الذي يدفعهم لفعل هذا؟ إنهم لا يريدون إزعاجك، فهم قد لا يعرفونك. ولكن نظرية العقل عندهم لم تنضج بعد. فهم يؤمنون بأن لهم الحق في أن يتكلموا ويضحكوا بصوت عال، ولكن يهملون حقك.
وهذا تماما ما يفعله الصغار، عندما يقفون أمام شاشة التلفزيون للبحث عن شيء، فهم لا يتنبهون إلى أنهم يشتتونك، لكنهم معذورين. فمراكز الحُكم والتمييز (نظرية العقل) لديهم ليست مكتملة تماما.
وفي نظري، هي لا تكتمل تماما إلا في حالات نادرة، عند الشخصيات التي تتجاوز الذات في الأنبياء والعلماء الصادقين. وهي فينا ناقصة، بل أحيانا تنقص بوضوح. وبلا شك أنك تذكر موقفك من موضوعٍ معين، الذي كنت فيه أنانيا جدا، وندمت عليه؛ لأنه تسبب في إزعاج الآخرين.
4- التجريب:
كلنا نعلم قصصا من عشق الأطفال لاكتشاف كل شيء.
عندما تعود من عملك ببعض الحلوى الجديدة، تجد الطفل مرحًا ومحتفلا بهذه المفاجأة، يطاردك ويبكي كأنه يقول لك (هيا، أعطني حلواي فأنت لم تعد تثيرني). ولدقائق، بينما ترتاح قليلا، تعود وتجد الحلوى منثورة في كل مكان. إنه لم يحبّها، ولكنه لا يفوّت الاندهاش كل مرة.
وللأسف، أشد ما يوقع الكبار في الخيبة والملل هو تبلُّد الشعور بالاندهاش لديهم. فهم لا يفرحون بالحلوى بقدر ما يفرحون بالسفر إلى فرنسا، وهم لا يستكثرون ريالين بقدر ما يستكثرون مليونين (هناك كبار تبلّدوا تماما).
فحب التجريب والاكتشاف هي الطبيعة التي لم تختف بمجرد أن اكتشفنا أننا كبرنا، بل ما تزال بنفس قوّتها في الجوانب الأنسب لنا في الحياة. ومسؤليتنا التي تناط بنا كراشدين هي ألا نفقد هذه الطبيعة ونتحجّر!
هذه فقط بعض الروابط، والمُلاحظة البسيطة قد تعطينا الكثير من أسرار عالم الأطفال وعالمنا. وهذه أمثلة متواضعة لا أظنها دقيقة علميا، وبإمكانكم البحث في نظرية العقل والصفة الملازمة، فهي موضوعات ممتعة في علم النفس التربوي والمعرفي.

يحيى وجون






كان كل الذين عاشوا في القرن الواحد والعشرين هما (جون) و (يحيى). كان أحدهما قارئا واسع الاطلاع وعالما محترما. والآخر كاتبا متواضعا يكتب المكتوب ويتخيّل المُتخيَّل.
وعندما كانا يلتقيان كل مساء، كان يحيى يقرأ على جون آخر ما كتبه، فمساءً يرتِّل قصيدته في وصف نهرٍ يتبختر بقدٍّ من الرُّخام الأبيض الطري، ومساءً يرصُّ له أحداث رواية تتحدث عن كائنات فضاءٍ تلتقي كل يوم في مقهًى أرضي مهجور.
ظلَّ جون يستمع ويعلق، وكان اللقاء ينتهي دائما عند جون قائلا ليحيى بسخرية: (هذا أجمل كلاسيكيات هذا العصر). ثم يفترقان.
وبعد زمن طويل، وقع المكروه.
انفجر أنبوب غاز في معمل جون، فأصيب بالعمى ولم يعد يستطيع القراءة. فيئس من الحياة، ولم يعد يجد لها غاية إلا أن تعذِّبه، فقرر إنهاءها. لكن يوم انتحاره كان هو أيضا يوم زيارة يحيى له بعد غياب مُرّ. ولسبب ما، جاء يحيى قبل أن يذهب جون.
تعانق الصديقان بلهفة، وانطلقت من صدر جون أنفاس حارقة باكية، لقد أدرك أنه سخر من صديقه الذي ما كان لييأس من الحياة لو غاب نور عينيه، فلديه نور خياله ولو كان كلاسيكيا.
وفي لحظة العناق الطويل، عندما همَّ يحيى بقول شيء، تلاشى جون فيه واتحد معه.
خشي يحيى أن يكون أصيب بمسٍّ شيطاني أو لعنة، لكن صوتا من السماء قال له (أنتما واحد، لا تتشابهان، لكن سيرا كعابر السبيل والظل).
لعل هذه محاولة سيئة لكتابة أسطورة، فالأسطورة تحتاج إلى زمنية طويلة وخيال أوسع. ولكن أعتقد أنني وفقت في عنصر الرمزية. ستدركون هذا إذا قسمتما كل من تعرفون إلى جون ويحيى. ولست أحاول أن أنصر يحيى وأغلب جون، ولكنني أحاول الدخول إلى موضوعي بطريقة مختلفة.
الكتابة بدأت مصلحة عامة، أمَّةً من المحاولات العظيمة وصلت في النهاية إلى حروف أوضح ومساحة أقل. فبدلا من شراء كتلة ضخمة كحجرِ (رشيد) لكتابة بعض المعلومات عن عدد المدفونين في المقبرة وكم من القمح في حوزتهم، استطاع الإنسان أن يكتب أكثر من هذا على ورق بردي أو جلد مدبوغ، وبإمكانه كتابة الكثير جدا في منشور واحد هذه الأيام، فقط لو يحاول أن يكون مفيدا.
وهذه المصلحة صارت أساسًا وضرورة، لم تعد المحاكاة (تقليد الأصوات المبهمة) تفي بأغراض الدماغ البشري الذي أخذ في الازدياد حجما، ولم تعد لغة الإشارة كافية.
ومن ثم، كأي شيء ضروري طرأَ على الحياة ولم يكن منها، صارت نافلةً ورفاهية. أقصد هنا الكتابة الأدبية التي تخصنا هنا.. التي تمثل يحيى.
فبعد الكم الهائل من الرسائل والأساطير والدروس والكتب المقدسة، اكتشف إنسان عصرنا أنه بحاجة إلى بعض التغيير. ولكنه لم يوفَّق. فهو من ناحية مضطرٌّ إلى تدوين تجاربه واستنتاجاته، وجهازُه المحمول عالي الدقة مضطر إلى التفاهم معه ومع غيره بلغة الكتابة. هل رسخت فينا الحاجة إلى الكلمات إلى هذا الحد؟ هذا طبيعي جدا، لأن الكلمات هي اللغة، واللغة راسخة فينا إلى حدود أبعد من هذا. حتى عندما نتحدث إلى أنفسنا بصمت فإننا نقرُّ بهذا بكل وضوح.. إنها نهاية جون.
ومن ناحية أخرى، هو متعطِّش لإعطاء حياته قيمة، ولفهم وجوده. وما من سبيل لفعل هذا بغير الكتابة، إذا تعمّقنا فهذا صحيح.
يقول لسان حالنا: إن ما قد كُتب كافٍ، وما سنكتبه هو مجرد تكرار له بطريقة أو بأخرى. ولكن خدعةً ما تتآمر بنا، إننا نفكر برياضيات سمجة، لذا نتحدث عن "كافٍ وغير كافٍ". لا يهم. فعلى مستوى اللغة الأدبية، ليس هناك سابقٌ ولاحق، هناك فقط إنسان يعيد اكتشاف الحياة التي يحياها.
وهذا الردُّ قد يبدو عاطفيًّا أو جدليا. لكنني لا أملك مبررا لأن أكتب قصة عن الفقر في حضرة (فيكتور هوجو)، ولا قصيدةً في الجمال الطبيعي إذا كان (ابن خفاجة) قال مرةً:
"في مَوقِدٍ،
قد رَقرَقَ الصّبحُ به ماءً
علَيْهِ من نُجُومٍ حَبَبُ"
وإذا اتفقنا على أن مساحة الكلمات أوسع من أن تكفي أو لا تكفي، فهذا يعيد الأمل إلى الكاتبِ الذي يظن أنه مولود في التوقيت الأكثر ظلما لمواهبه. وهذا "التوقيت" لا وجود له في الحقيقة، وما هو إلا تعبير مجازي صارَ حقيقيًا. إذ معنى أن أولدَ في توقيت أو توقيت آخر هو نفسه معنى أنني ولدتُ وانتهى الأمر. لأنني لم أختر هذا التوقيت بالذات، ومن المحال أن أختار توقيتا غيره.
يسرُّ البعض أن يعيد فلسفة الوجود والعدم والطبيعة وما بعد الطبيعة بنفسه. لكن هذا لا يسر العجرفة الفلسفية التي انتهى إليها إنسان العصر. فهو يؤكد، وما يفتؤ يؤكد على التأكيدات. لا أقصد أن على الجميع أن يفتتحوا أكاديمية كما فعل أفلاطون ويناقشوا ما إذا كانت الشمس آلهةً أو مجرد نار تشتعل. لكن السعيَ الشخصي لذيذ ومحبب إلى النفس، لأن المواصلة من حيث انتهى الآخرون نصيحةٌ ليست في صالح الأصالة الذاتية.
إذن، فما نقرؤه في تاريخ أدباء مثل جرير والفرزدق هو محض تاريخ شخصي، لا يخص إلا شاعرين متهاجئين كل الوقت، شاعرين يريد أحدهما أن يأتي بما لم يأت به الآخر. ولا يعني أن الخيال يمكن أن يقف ويقعد عن الطيران في فضاء طارَ فيه خيال أديبٍ قديم جدا.
وكما كانت الكتابة مصلحة عامة، فهي مصلحة خاصة. وتكون أكثر خصوصيةً في القرن الذي يعيش فيه يحيى وجون، أنا وأنت. فهي تعبير عن الوجود الحقيقي، ومعالجة جميلة للفكر الإنساني مهما كان. وإذا شئنا التجديد في كل شيء، فإن هذا لا معنى له. لأن التجديد كان فكرة محترمةً -ربما- قبل ألف سنة. أما بعد كل هذا الزبد الفكري فإن البحر قد أرهقته بَحْريته!
ولا فرق يذكر بين أن يقال "انكفأت نظرةٌ منه عليَّ" أو "نظر إليَّ طويلا".. هذه محض مزاجية انتقائية وعجينٌ لغوي. الفرق الذي يذكر هو بين أن نكتب ما يعنينا أو لا نكتب أبدا.
يبدو أن كلامي أطول من أسطورتي، وأرجو أن يبعث هذا الأمل فينا، لنرى الأمور انطلاقا من فرديَّتنا.


كم كانت شاشة حياتي صغيرة






أحيانا أشعر بالسخط العام، أقرأ مقدمات كتب مملة وباردة لسارتر وكولن ولسون، وأتسكع على سواد رواية حُرمت من الترجمة الحقيقية، أقوم بتحميل ثلة من كتب عبد الرحمن بدوي ولا أقرأ منها شيئا، فلتجرب قراءة الجزء الخاص بابن سينا في موسوعته الفلسفية!
أحاول التحدث إلى البعض فأجدهم أقل قيمة من كتاب (نظرية الفوضى لجيمس غليك)، فألجأ إلى الاختلاء بخيالي فأصطدم بتذبذه وعدم استقراره كما يحدث عندما تصطدم بأحداث (قصة الصبر لجوستاين غاردر).
أقرر النوم في النهاية، لأستيقظ بقائمة أحلام طويلة منسيّة التفاصيل.
يحدث أن نكون رتيبين وعديمي القيمة مثل بيل موراي في فيلم (يوم جراوند هوغ).
لكن كتابا مُحكما ورائع الترجمة قد يرضيك ويسافر بك إلى حيث تجد أن قوس المطر صار في جيبك. أتحدث خصوصا عن بدايات إسحق آسيموف (أو عظيموف كما قد يُترجم!).
يحتل هذا الكتاب (البدايات) رقم 278 في قائمة كتب المشروع القومي للترجمة تحت إشراف الدكتور جابر العصفور، وهو من ترجمات ظريف عبد الله.
إن كنت ممن يعشقون البدء في الأشياء [فقط] فأنصحك بقراءته، ثم أرجو منك الاستمرار في أعمالك.
في هذا الكتاب، يدهشك المؤلف بأنه عندما يقول "بدايات" فهو يقولها بكل جدية! إن عنوان الكتاب ليس دعايةً كما نقرأ هذه الأيام. فهو يتناول البدايات في أقسام أساسية في علومنا وحياتنا. مثل بداية التأريخ (التقويم) والحضارة، ثم يخوض في بدايات تطور الإنسان ويرحل معك (الظلّ بجوار الظل) حتى تصلا إلى بداية الحياة على الأرض، وبعد هذا تستأجران سفينة فضائيا للاطلاع على بداية المنظومة الشمسية والقمر.. انتهاءً ببداية الكون.
يقع مؤلفو كتبٍ من هذا النوع في خطأ الاختزال الذي يجعلك تضرب برأسك في أقرب جدار. أما هو فتجاوز هذا المستوى بكثير، إذ يبسط لك في كل بداية أسبابها وعواملها ونتائجها، ويؤرخ بدقة للتسلسل الزمني والتسلسل الفكري الخاصين بالموضوع الذي تناقشانه. بلغة علمية ممزوجة بأسلوب أدبي خلاب. وبعض الاستطرادات المملة أحيانا كما قد يُتوقع من كيميائي يحترف تأليف الخيال العلمي.
لغة الكتاب بسيطة، وخالية من تعقيدات عبد الرحمن بدوي وهو يترجم لسارتر، وفصوله تكاد العلاقة بينها تكون غير ذات قيمة. فإذا كنت مطلعا على تطور الأسماك -مثلا- واحتجت إلى القراءة في نظرية الحساء العضوي فلن تتجشم العودة إلى فصلٍ آخر. وهذا جيد بالنسبة للدارس الذي يهمه أن يعيد قراءته مرتين وثلاثا. لذا أقترح عليك قبل أي شيء أن تطبع الفصول في مجموعات، لتستمتع بقراءتها في ساعات الفراغ أثناء عملك أو في محاضرة لبروفيسور في جامعة جازان.
أنهيت نصف الكتاب على الشاطئ ليلا، فرّغتُ له عشر ساعات من ليل البحر وبدايات صباحه الأشهى من صبية ترقص. لم أتوقف إلا لمتابعة اختمار القمر ببعض السحب ثم إسفاره، وتتبُّع بطَّة رائعة تشق الماء بصدرها المتطاول والمنفوخ. من شاشة جوالي الصغيرة رقيتُ إلى مجرَّة أندروميدا وتسلقت سحابتي ماجلّان.. وعرفت كم كانت شاشة حياتي صغيرة ومتحيزة.
هناك كتب رائعة من هذا النوع، يطيب لي أن نتشاركها عندما أعود من البحر في المرة الآتية..

اللهُ: عندما يكون الفنَّ والوسيلةَ





عائدٌ للتو من لقاء. ليس لقاءً يستحق الذكر بالتفصيل في نظر بعضكم، لكنه يستحقه في نظري. فدعوني أروِ لكم بعض ما لامسني من الداخل، بعضه وليس كله، فالكلُّ طويل ومرهق. الأجانب المظلومون قد يثيرون قريحة الشاعر للبكاء عليهم، أو ينحتون تفاصيل رواية في ذهن الناثر فيخلِّد ألمهم من حيث هو. وهذا قد لا يحدث تغييرا كبيرا في سطح الماء الهادئ. ما أطمح إليه هو أن يلهمنا هؤلاء المظلومون دروسا في نواحٍ أخرى في الحياة، وأقصد الفن.
الفن وسيلة للعيش -بالمعنى البيولوجي العلمي- فلا يكفي أحدنا أن يكمل دورته الدموية بسلام وينجو من خطر الظلام والأعداء ليبقى. أحجامنا كبيرة ومفرطة في ملء الحيِّز الضيق الذي نعيش فيه، لسنا بحجم فأرة ولا نواةٍ ضائعة في الهواء على شكل فيروس. لذا يتعين علينا أن نتفنن في أسلوب حياتنا وإلا سنفنى. كما أن الفن يحرك المياه الهادئة ويوصل الموجات حثيثةً إلى الضفة المقابلة.
ما إن نسمع كلمة (فن) حتى تنحشر في ذاكرتنا ووعينا قائمة أسماء طويلة، كلها أحدثت نمطا نظريًّا أو عمليا للفن وطورت الكلمة والفعل ومعنى كل منهما. هذا هو ما يجمع الفنانين من مختلف الفروع بسِيَر حياتهم الكثيرة.
لكن ماذا عن الفنانين الذين لم يكتبوا شيئا؟
إنهم موجودون، وهناك.. حيث ضرورة البقاء تشحذ همتهم وتعذب وجودهم، فيستحيلون آباءً مربِّين وقانعين، أو سارقين مجرمين أو مثاليين إلى درجة لا نستطيع إدراكها.
لم أدرك من قبل ماذا تعني الفنون الدينية كالدعاء والرضى وإلى أين تؤدي. أمثالي ليسوا بعيدين جدا عن إنكار الإله في أية لحظة وعبادة آفاق الحس الضعيفة. لكن غيري -أولائك الذين ليس لهم بدٌّ من القوة على العيش والسعادة- لا يمكن أن يفقدوا تفسيرهم الأوحد لكل ما يحصل.
قد يجوع أحد الفلاسفة فيؤلف كتابا يدحض فيه مسألة فلسفية تدرُّ عليه مالا وشهرة ومقاعد أنيقة في مقدمات الموسوعات. قد تلعب بنا الحالة المزاجية وتورطنا مع فهم مزاجي للقدَر والمصير وأشياء أخرى. لكننا نسير في النهاية على خطى نرسمها نحن ونشذبها، وأعني بأسلوب الجمع هذا كل من يملك أن يعيش بطريقة يحددها هو!
نظن أن المضطرين ضعفاء، وأن الاضطرار ضعف. والحقيقة هي أنه لا يضطر إلا القوي الذي نبذ كل الطرق غير المؤدية إلى قناعته، أقول قناعته ولست أقول نشوته الفكرية وأساتذته. كلامي متناقض ظاهريا، تعمق قليلا من أجلي، واترك الباقي إن شئت.
الاضطرار هو ما اختاره صديقي الأجنبي الذي يمارس الصبر في هذا البلد. لم يكف طول نصف ساعة حدثته فيها عن كلمات لا تتجاوز "أخي" "دعاء" "الله". كنت شاردا لوقت طويل بينما يستطرد في حساب ديونه التي لم يدفعها المرتاحون والمتنعمون بعد.
أقول: إنه يجمع أساليب الحياة الرئيسة، التواصل بين الفرد والفرد عن طريق الأخوة، والتواصل بين نفس الفرد وجامع كل الأفراد (الله) عن طريق الدعاء.
ليس مضيعةً للوقت فحسب، أن نصنع الخواطر العشوائية، بل مهلكة لمعنى الوجود. وأعني بالخواطر العشوائية هي طرد المساكين من ساحة التفسيرات ومحاكمة الفهم المتعسف للخلاص والعدل.
لست بحاجة كبيرة إلى معرفة متى حدث الانفجار العظيم بقدر ما أنا محتاج لإحكام التوافق بين النظام الكوني المذهل والعشوائية المتجاوزة للحدود. لا نستطيع أن نكون مؤمنين إلى حد المنافقة وندعي أن كل شيء واضح وعادل ولا ظلم فيه، على الأقل بالنسبة إلى إدراكنا الذاتي. مهما يكن هذا عادلا وواضحا ورحيما بالنسبة إلى غيرنا. الذي يجب أن نتفق عليه هو أن ثمة ما يصبغ هذه العشوائية بالنظام والحكمة. فقط! لأن المسألة يجب أن تتخذ طريقا آخر، فبدل أن نخشع لأصوات النظريات المختلفة في نشأة الكون وبداية الزمان، علينا أن نصنع أصواتا أكثر صدقا في التوفيق بين كوننا المنظم وحالاتنا الاقتصادية المتفاوتة جدا (هذا من باب التشجيع على النظر إلى المساكين والأغنياء من حيث هم في كون منظم وعادل، وليس من حيث هم مساكين وأغنياء).
بهذا نستطيع استعمال حجة الشر التي تباهى بها فيلسوفٌ إغريقي ذات مساء (أبيقور) في مصلحة رؤية صديقي الأجنبي لأهمية الله والدعاء المؤدي إليه.
فالفن عند هؤلاء هو الاضطرار ومحدودية الاختيار، ولنسمح لذاكرتنا بإدرار المزيد من الأشخاص الذين اضطروا فحققوا ذواتهم، إذ لا يخفى على أحد منا أن الروايات العالمية -مثلا- التي تباع في الأسواق بأسعارها الباهظة كتبها فنانون كانوا يصارعون البقاء كآخر ديناصور في العصر الطباشيري. يسعدني أن أذكر الكاتب الروسي دوستويفسكي مثالا شامخا.
كونٌ مرتَّبٌ جدا
وربطات عنق غالية تناقش روعة ومنطق الوجود خارج الأرض
وعندما تستريح خيالاتهم على ساحة التنوعات المدهشة،
يقول أحدهم: لا يوجد إله، لماذا العذاب والفقراء؟
فيرد عليه آخر: يوجد إله، لماذا النظام الشمسي والمجرات؟
ينسون أنهم يضعون الإله في الماضي السحيق ويدفنونه في النظريات
ألا يغنِّي أحدهم قائلا: الكون والفقراء هما الحجة عليكم أيها المترفون،
كونٌ مرتب جدا
وفقراء وأغنياء وقتلى وقتلة
ماذا يعني هذا غير أن نظامنا ليس آليا، وثمة الكثير.. الكثير؟

ليس من أجل السعادة






أذكر تلك الليلة من رمضان، عندما رفعت صوتي بصمت قائلا: لن أثق بقطع تافهة من البلاستيك!
كنت ساعتها حزينا على ضياع ما يقارب ألف صورة ومقطع فيديو من جهازي بسبب توقف مفاجئ عن العمل انتهى بالفورمات.
الكثير من القصائد الأولى، اللحظات المؤقتة، والبسمات الخاطفة يجب حفظه، لكن أين؟ 
في حوزتي رصيد باهظ من الليالي الشتائية وما قبل الفجر من كلِّ أيلول.. صور للطحالب الخضراء التي تكسو قضيبا حديديا مُلقى على شاطئ متسخ، وأصوات شتى. عندما قررت حفظ كل هذا في مكان آمن، لم أفلح.
فمن أصغر مساحة تستطيع أن تفخر بها على شريحة اليو إس بي إلى أكبر غرفة فارغة يمكن أن يوفرها لك موقع تخزين مدفوع سنويا، تظل كثيرَ الذكريات.. كثيرها جدا.
أحيانا يتحول يومنا تماما بسبب تسلسُل ضحكة عاليةٍ استمعنا إليها بعد أن انتشرت في الهدوء. من يضمن لنا أن كل هذا القمحِ من اللحظات لن يفسد؟ من يعيننا على هذا الجوع المستمر؟ ومن يلومنا على غريزة الحفظ التي تمكنت منا منذ كنا ننقش عشاءاتنا المتواضعة بالمسامير قبل 3100 عام حتى أمسينا ندون كل صغيرة وأصغر منها؟
من السهل أن نواسي بعضنا بأن تلافيف أدمغتنا واسعة وكريمة، ولكن من الصعب الاحتفاظ حتى بهذه التلافيف.. ففي لحظة من الحلم تسقط كل الرفوف ويتوقف "طاحون الذكريات" عن كل شيء.
الإلكترونيات قادرة بامتياز على نقل وجهٍ بكامل تفاصيله وخُضرته من أقصى الأرض، ولكنها عاجزة بشكل مخيف عن حفظ رمشةِ عينٍ ناعمة كان يجب أن تُصوَّر وتحفظ طويلا.
أتخيل أن هناك مورِّثات تحمل لنا ذاكرة الأجداد، كما تحمل لنا كيف نضحك ونبكي ونجوع! نولد جميعا بكم هائل من الأيام. ما الذي فعله أحد النياندرتاليين الذين تحدّرنا منهم، وما هي الوجبة النموذجية لدى سمكة تيكتاليك كانت تجذف البحر بزعانف ستصير يوما ما يدي التي أكتب بها الآن؟
سيكون عبئا ثقيلا، وبردا شديدا على حس المتعة لدينا، ولذة محاولة الاسترجاع. ولكن.. ولكن ماذا؟ أظن أن ثلاث ساعات نقضيها آخر كل يوم لجمع وتصنيف وحفظ ذكرياتنا عملا صعبا.
أتصورني أدخل محل التصوير، وأناوله قرصا صلبا فيه ما يقارب عشرة آلاف صورة وأطلب منه جمعها في ألبومات في أسرع وقت. إن قدرتي على جمع الصور والأصوات تفوق قدرتي على الحفاظ عليها. أتصور أيضا أن هذا النوع من عذابات الوجود رافق الإنسان منذ بداياته. إن الكهوف تضج برسومات وتدوينات تفوح برائحة الحياة المحمومة وعشق الأبدية.
كل شيء له ذاكرة
وعندما تحاول حفظ ذكرياتك
تشعر برغبة عميقة في حفظ محاولتك أيضا
ترهقكك الحياة القصيرة
تعبث بك رياح الساعات المتأخرة من المساء
تعيدك إلى ألبوم حياتك
وتدفعك إلى كأس الخلود
أنت في النهاية:
تفعل كل شيء ليكون ذكرى
تسعى وراء السعادة، ليس لأجل السعادة
بل لأجل راحة التذكُّر
هذا العمل الدائم في مدينة رأسك
المُضاءة بالأعصاب..


رواية مايا (أسئلة لذيذة)






جوستين غاردر هو كاتب نرويجي، أستاذ فلسفة، وأديب من طراز ناجح. له روايات على مستوى عالمي من الشهرة المستحقة: عالم صوفي، فتاة البرتقال وسر الصبر.
لكن روايته (مــايــا) لها تساؤلاتها الخاصة ووقعها المنفرد في نفس القارئ. في الروايات الثلاث -وفي عالم صوفي بالذات- تجد أنه يلقِّنك درسا في الفلسفة، في النضج التفكيري، والجموح بعيدا عن الأحكام المتسرعة. لكن (مايا) تأخذك إلى أعمق من هذا، إنها وجبة دسمة جدا وتحتاج إلى حضورٍ مضاعف من قارئها، ومعرفة مبتدئة على الأقل بعلوم مهمة كالأحياء التطوُّرية ونظريات أساسية كالانفجار الكبير.
هذا بالإضافة إلى المتابعة الدقيقة للأحداث، فالكاتب بسيطٌ في كل شيء إلا في طريقة عرضه لمادته القصصية والعلمية. إنه يدخلك في قصة ثم في قصة أخرى ثم في قصص أخرى متشعبة مليئة بالأقزام والمشروبات الغامضة وورق اللعب، إلى أن تضح لك الخطوط الأساسية في آخر الصفحات. وهذا ممتع لمن لا يحب العرض التسلسلي الخطِّي.
أثناء قراءتي الرواية، التقيت بجمل مثيرة، جعلتُ أكررها وأقلبها في ذهني. وعلى سبيل إغرائكم بقراءتها، سأقتبس لكم بعض القصاصات التي قد تبدو غامضة بدون العودة إلى الكتاب.
- «أعطني أي كوكب حي آخر، وأنا على يقين تام بأنه سيخلق، عاجلا أو آجلا، ما نسميه الوعي»
- «... وأيضا بعض الزواحف بما فيها تلك التي ستصبح أسلافا لنوعنا نحن. لو كنا موجودين في ذلك الوسط لاعتبرنا بكل تأكيد أن ما نشهده شيء خارج على كل منطق. الآن فقط، وبنظرة منا إلى الوراء، يظهر معنى كل ذلك»
- «ولكن دعونا نعد أكثر إلى الوراء. فلنفترض أننا شهدنا خلق النظام الشمسي ذاته. أما كنا سنشعر ببعض الضيق عند مشاهدة ذلك الاستعراض الوحشي لقوة الطبيعة؟ من المؤكد أن معظمنا كان سيشعر أن الوصف الوحيد المناسب لما نراه هو أنه خالٍ من المعنى. أعتقد أن رد الفعل هذا فجٌّ وسابق لأوانه»
- «لا يمكن للسبب أن ينتمي إلى المستقبل إطلاقا!»
- «يخامرني شكٌّ عميق في تملك الشمبانزيات الأرقى لأدنى فكرة عن الانفجار الكبير، عن عدد السنوات الضوئية التي تفصلنا عن أقرب مجرة، أو حتى عما إذا كان العالم مستديرا»
- «لو كان الدماغ الإنساني أكبر بأي قدر مما هو الآن لما استطاعت النساء المشي بقامة منتصبة»
- «نظن أننا تسع أرواح حول الطاولة، ومصدر هذا الظن هو مايا. في الواقع نحن جميعا مظاهر روح واحدة، الروح ذاتها. إنما [وهم المايا] هو ما يجعلنا نظن الآخرين مختلفين عنا. لذلك إذن لا مبرر للخوف من الموت. لا شيء يموت. الشيء الوحيد الذي يتلاشى حين نموت هو طيف وجودنا المنفصل عن الدنيا وما فيها؛ تماما كما نتوهم أن أحلامنا منفصلة عن أرواحنا»


ذكاء غاردنر التاسع






ربما ارتبط الذكاء في حياتنا بالقدرة الاستثنائية على حل المعادلات وتحصيل الدرجات العالية. لذا، قلما نطلق صفة "ذكي" على أحدهم إذا لم يكن من المتفوقين أو أصحاب الجوائز الوطنية. في الحقيقة، الذكاء أعمق مما نتصور. إنه خلاصة ميزاتنا عن كل أصناف الحياة الموجودة في أي مكان. العقل والتفكير والفن تميزنا بشدة، ولكن الذكاء أوسع نطاقا.
كنت أجادل أحد الأصدقاء حول تفردنا بالتفكير، كان هو في صف الإنسان وكنت أنا عاطفيا أكثر مما ينبغي. لقد تذكرت عمل النمل، وتصميم العنكبوت، وغناء الدُّوري. لكنني فيما بعد غيرت من موقفي. فالفارق الذي لا يكاد يكون واضحا يكمن في سبب التفكير. ففي حين نبذل نحن جهدا فكريا لغاية غامضة لا ندركها غالبا، تبذل هذه الكائنات جهدا لأجل البقاء. فنحن يكفينا ربع دماغٍ لنبقى، بل يكفينا أن نصير دقيقين وبسيطي التركيب كالبكتيريا لنعيش ما يزيد على ملياري عام بكل ما في الحياة من شهوة.
سأحاول المرور سريعا على نظر الوسط العلمي للذكاء، محصورا في ثلاثة علماء بارزين. لقد آمن تشارلز سبيرمان Charles Spearman بالذكاء العام. كان يرى أن الذكاء العام (أو ما كان يطلق عليه g) هو أساس تصرفاتنا الذكية، من مهارة الملاحة في البحر إلى التفوق الدراسي.
العالمان الآخران لم يوافقا سبيرمان على نظرته إلى الذكاء. بل رأيا ما يُسمى الآن بنظرية الذكاء المتعدد. فَروبرت سترنبرج Robert Sternberg ذكر ثلاثة ذكاءات مختلفة: الذكاء التحليلي، الإبداعي، العملي. بينما ذكر هوارد غاردنر Howard Gardner ثمانية ذكاءات أكثر توسعا وإحاطة.
وجدت أن من الجيد أن تكون لدينا خلفية عما نقرأ.
إن ذكاءات غاردنر الثمانية تكاد تجعل كل واحد من الذين تصادفهم على الطريق أذكياء، ولعل هذا هو سبب شهرة نظريته. فكل الذين يمكن أن تتذكر أسماءهم من العلماء أو من الأشخاص العاديين هم في الواقع أذكياء بحسب غاردنر. من منا لا يتذكر الآن آلبرت آينشتاين (الذكاء الرياضي المنطقي) أو بيتهوفن (الذكاء الموسيقي) أو النبي محمد (الذكاء الاجتماعي) أو ليوناردو دافنشي (هنا نحن بصدد ذكاءات متعددة، منها: الذكاء الفراغي التصوُّري)... إلخ.
لكن ليس كل الناس يمكن أن يكونوا أذكياء موسيقيين أو فنيين أو اجتماعيين. هناك من يفتقر إلى حس الاندغام في الموسيقى، أو تذوق الفن، أو التفكير الرياضي. صحيح، لكن ذكاء غاردنر التاسع يمكن أن يوفر علينا عناء التصنيف.
المعروف أن غاردنر تردد كثيرا قبل أن يضيف (الذكاء الوجودي) بوصفه ذكاءً تاسعا في قائمة ذكاءاته المتعددة. الذكاء الوجودي (يشمل الذكاء الديني) هو التساؤل الدائم عن الوجود وأشكاله وعلله وماورائياته. وقد يخطر ببال بعضكم (الفلاسفة). وهذا صحيح، فسقراط، أفلاطون، أرسطو، ديكارت، سبينوزا... كل هؤلاء كانوا أذكياء جدا. بل هناك فلاسفة يقال لهم (قبل السقراطيين أو السفسطائيين) مازالوا يدهشون العلم الحديث بنظرياتهم حول الطبيعة. أذكر منهم الفيلسوف العبقري أنكسيماندر (صاحب فكرة تعدد الأكوان) وَديمقريطس (نظرية الذرة، المُثبتة علميا). وهذا كان منذ أكثر من ألفي عام من الآن.
بل هناك أكثر من (الفلاسفة)، إنه المجتمع البشري عموما، ذكيٌّ ذكاءً وجوديا عجيبا. وهذا إذا كانت له أهمية فهي أنه يثيرنا فنلتفت إلى هذه التعاريج التي تزن 1.3 كيلو داخل جماجمنا. أدمغتنا التي تسعى في كل أحوالها لتبرير وجودنا والتأمل في ذاتها: في النشاط اليومي اليقظ، وفي الحلم.
الوجود لغز لم يتكفل بحله نبيٌّ أو مُصلح ديني أو اجتماعي. الوجود هو الشعلة التي تنير لنا الطريق من دون أن تضيء، والماء الذي يروينا من دون أن يكون ماء. إنه الفاكهة التي تنغلق على بذور أسئلةٍ صاخبة تزعج الإنسان. وهو دافع كل شيء: دافع القلب للانصهار في عشقٍ لا محدود، ودافع العين للإغماض والتأمل في الظلام الداخلي، ودافع اللسان للشعر والغناء والتلاوة واختراع القواميس. الوجود هو ما لا يتميز به نيوتن عن أجهلنا في الفيزياء، ولا يترفع به السنباطي عن أجهلنا بالعزف، ولا يختص به جوردانو برونو عن أشدنا خوفا من الجرأة والاعتراض.
فمن لا نصيب له من ذكاء غاردنر التاسع فليغسل قميص عقله، وليرفع صوت قلبه. ليتأكد من الفرق بينه وبين الزواحف العادية التي انحدر منها.

كما يفعل الحنَّاء (5)




وسوف أغير من نظرتي للتغير
كما يفعل الخارجون على مذهبٍ ألفوه وصاروا ينادون باسمه.
هم اعترفوا بثبات المذاهب
هم اغترفوا من غرائزهم
هم اعترضوا 
هم انتبهوا
هم اكتشفوا أن طول الثبات يليق بسورٍ قديمٍ
بمئذنةٍ شادها الأمويّون ثم أعيد طلاؤها بحذر.. 
لئلا تخيب ظنون المؤرخ وهو يهدئ أوجاعه وحنينه.

كما يفعل الحناء (4)






وسوف أغير من نظرتي للتغير
وأنظر صوب الجنوب الرتيب كما ينظر الأنبياء إلى شغف القبلة الثانية.
سأرفع صوت أذاني الذي هو آخر ما خطه الكمبيوتر من شعري المتوجع من وجعي
المتكوّر بين يديّ 
البسيط الطويل الخفيف الكثير السخيف السؤاليّ والآلهاتيّ والمتبحّر في موجة 
وأوجه وجهي صوب الجنوب الأموميّ أكثر من أي شيءٍ.

لكلٍ جنوبٌ يصلّي إليه 
يا أبرهة
فلو كنت تملك شيئا من الشعر 
لو كنت شاعرًا
لما صرت أنت الفريسة والعصف 
ما لقي الطير فرصته للتوحّش والقذف 
ما كان ثمّ إمامٌ مراءٍ يرتّل جيشك واسمك في سورة الفيل.

يا أبرهة..
لو كنت تملك شيئا من الجغرافيا
لو كنت أنضج شيئا قليلا لفكرت قبل التهور مثلي
وقررت ألا تسافر بالفيلة
وتبطئ 

يا أبرهة.
ولو كنت تملك شيئا من الفيزياء
لكنت توقعت أن الأماكن نسبية والشمال الذي لم يرق لك كان جنوبا وشرقا وغربا.
ولكن نظرتك القاصرة
دعتك إلى كعبة الله 
كم أنت طفلٌ ضعيفُ الذكاء 

يا أبرهة..
ولو كنت تملك شيئا من البحر 
لو كنت تعرف أن المقدّس كالبحر في كل شيء 
وكالملح في كل كعبة
لكنت بنيت جنوبك بالناس والمنطق السهل والطير والغيب والأنبياء
وسوّرته بالصلاة وبالأفئدة
لما كنت أنت الوحيد الذي خاض حربا مع الطير 
وانتصر الطير

يا أبرهة
ولو كنت أسطورةً لكُتبت بماء العيون
وصرت إلها من الآلهة
إله الغباء 
وكل غبيٍّ سيسعد بالقرب منك على صفحة واحدة..
وفي فترة واحدة
وكانت حروف اسمك العربية تمنحك الأولوية في أبجدية الأوديسة الثانية.
وكنا سندرس تاريخ سيرتك التافهة
وسيرة تاريخك: نصفٌ غبيٌّ ونصفٌ يغني ويعصر خمرا لحورية البحر
ما كان أقرب بحر الجنوب

يا أبرهة
ولو كنت تملك أن تتغيّر مثل الأراك 
لكنت عشقت مكانك 
وكنت دفنت جذورك 
وكنت أطلت التفكر في صيغة البحر 
كنت مضغت ملابسك الهمجية
حتى يجرب رأسك طعم التأني 
فتنجو من المهزلة.

يا أبرهة
تخيل معي... هذه كعبة راسخة، لكنها صغيرة.
وفي رأسك المتفائل طيرٌ يفكر في كعبة أكبر.
لأن الطيور تكون سياسية عندما تجوع
لأنها ينالها كلما اتسعت رقعة القدسية خبزٌ أجلُّ وأشهى.
فهل كان محتملا أن يجشّمك الطير طول المسافة كي يأكلك؟

يا أبرهة
هناك عجائز ما زلن يؤمنّ بالقدريّة
وإني أفضل أن أستعين ببعض القدر لأنهي هذا النداء الطويل.
تفكر، ثم تسافر، ثم تصادف بعض الطيور وفي فمها حجر بمقاس جنودك. 
لأن نبيا سيولد في عامك 
لأنك إحدى قضايا النبي الجنين.
وإحدى صفاته.

كما يفعل الحنَّاء (3)






بما أن كل شيء يخاف التغير سوف أغير من نظرتي للتغير..
فأن يتصدى جدار وحيد لكل الظروف، ويبقى معافى من الغانغرينة والإديما.. 
وأن تعرف القطة المستمرة في طلب الجنس بين القذارة، فوق الطريق، وتحت الطريق فائدة الانعتاق من الخجل البشري.
وأن يقف المطر المستهام على قدميه بلا جاذبية.
وأن ينخر الماء جلد الصخور ويطعمها الملح والحشرات مقابل هذا الشعور الذي تمنحه.. شعور الملامسة الخاطفة، شعور اللزوجة، شعور التناسل بين التجمّد والحركة، لنولد نحن بليدين منحرفين نقدس أنفسنا والحياة ونصنع لله أعذاره.
فهذا هو الثابت الأزليّ
هو اللاتغيّر
هو الغيمة الجامدة
ونحن الصغار كثيري التحرك من نقطة واحدة.. إلى نقطة واحدة.

وسوف أغير من نظرتي للتغير
وأنظر للقاطف المنحني نظرة جانبية
وللفلسفات القديمة
للمبتلين بعشق الإطالة والأسبقية.
وللفلسفات الجديدة
للمبتلين بإشباع عصرهم الحجري الجديد بقتل التواريخ في صالح المتحف الوطني وتمويله
نظرة جانبية.
وأنظر للهاتفين بإلغاء سجن الجنون وطيّ المصحّات أو حرقها نظرة جانبية.
أقول لهم (أنا معكم)، فكونوا معي لنشخص هذا التدهور بالإيديولجيا البذيئة.. وأن تزاوج مجنونة بمريض بداء الفصام سينجب عصرا جديدا من اللا مبالاة.. عصرا كهذا الذي نحن فيه.
وأنظر للأقحوانة وهي تؤكد حسن الإله
وللمرض المستمر الذي ينتهي بالوفاة فيشكر بعض الهواة ذكاء الإله
وللأنثويّ المحيّر في كل شيء
من الرغبة الطاهرة
إلى النشوة العاهرة
وموقعه بين روعة هذا الإله وقسوته نظرة جانبية. 


كما يفعل الحنَّاء (2)




أخيّط وجهي 
أوجه خيطي نحو الجمادات، أغزلها مرة واحدة.
ولا فرق عندي بعد التفكّر في الحكمة الغائبة، من الانكشاف على الذات، بين السبيلين..
أخيط وجهي
أنا ههنا عنكبوت تموت من الشهوة القارصة..
تموت قبيل انتهاء الذكورة من وقعها الطاعن المتأنّي.
تموت ويبقى ضمير الطبيعة ميتا لإتمام شزط التطور من عنكبوت إلى عنكبوت.

أوجه خيطي
أنا ههنا بشر عرف الظل وامتحنه.
وآمن بالنظر المستديم إلى فأرة تتسلق بين الصخور، وتسرق حاجتها لمواصلة العيش والسرقة.
وأعمق من كل هذا، حقيقة أن الخيوط تظل خيوطا ولا شيء بعد.


كما يفعل الحنَّاء (1)



ألملمُ بعض السحاب الذي يوزّع نفسه،
أعدُّ الثمار التي سوف تسقط حين تنام العروق وتتعب أيدي الشجر.
أراقب جسم الجدار الكئيب،
"ستأكله عثّة الوقت" كنت أقول. 
"سيهدمه ثقل الصمت" كنت أقول. 
"ستشرب منه حبال الغسيل"
"سينزف فيه غبار جمادى الأخير"
"ستشنقه كومة النمل" كنت  أقول.. أقول.
ولكنه ظلّ مثل الإله، 
تحارَب من أجله الميّتون
وظلّ شهيدا على اللقطاء المساكين حين تغلفهم أمهات القضيب بمنشفة ورسالة.
وظل أمينا على جسد اللهفة المستحيلة حين تئنُّ، وتخلع بعض التجاعيد عن بطنها، تتعرّى لأجل النسيم، وتبلع خطوتها، لتشاكس ريق الظلال القريبة من بابها.
وظل حريصا على ذكريات المراهقة الأنثوية بين صدور الرجال التي ينبت السائل المنويّ عليها. 
"سيعرف هذا الجدار مصيره" كبرت قليلا وكنت أقول.
"ستعرفه قافلات الغيوم البطيئة 
والملائكة" أقول.
"ترى كيف نثبت أن الجدار وظل الجدار هما فكرة واحدة" تعلمت أن أستخف بسر الوجود، وجئت أقول.
فكيف إذن لم يعد بيدي أن أفكر.. كيف احترقت أخيرا بأسيجتي، واحترقت؟وكيف إذن لا يكون لدي زجاج لأكسره، بعد أن كبرت حاجتي للجدار؟
وكيف يحط بقلبي زمانٌ تحلّل منذ العصور الذبابية العفنة، ويسكنه المستحيلُ؟

نباتٌ يُشاهَد ولا يؤكل: بين المثالية والبدائية في الشعر.






وأنت تستمع إلى ألبوم (مش كاين هيك تكون - لفيروز)، ستجد أن العشر أغنيات التي تترتب فيه كما تترتب أوراق الغاردينيا، كلها جميلة ومؤثرة، مؤثرة من الناحية التي تخصنا، والتي ننظر إليها إلى الآن ببعض الغموض.
ما يهمنا منه -الألبوم- هو الأغنية التاسعة، والتي سمّي باسمها. واخترت أن أتناول القصيدة من الألبوم وليس من الديوان لسرّ الترابط اللذيذ بين القصيدة والأغنية في إطار موضوعنا، وللسبب الذي سنعرفه قبل أن ننهي القراءة.
لو شئنا أن ننظِّر، سنقول: على كل حال، لم يضطر الإنسان إلى قول الشعر إلا لسرٍّ فيه -أي الشعر- لا يتمتع به كلامه العادي. لأمكن أن نحظى ببعض القبول من الناحية المنطقية. فبينما نحن نستقرئ الواقع الذي يمتد حتى الأزمنة التي ما زال يحيط بها غموض (ما قبل التاريخ) سنجد أن الحياة كانت عادية، تدور حول بعض الحطب والطرق الأخيرة المبتكرة لإشعال النار [قراءة الجزء الأول من قصة الحضارة لوِلْ ديورانت ستؤكد هذه الرؤية]. إنسان ما قبل التاريخ لم يكن لديه الوقت ليقول. إنه يشبه الجنين الذي ما زال يسمّى في التصنيف المعرفي INFANT أي غير متكلم. فهو يفعل، ويستمتع بأفعاله. يتذوق بعض أنواع المشروم ويتسمم، ثم يكون مناعة (القرف والتوجس) ويصبها في خليج أجياله القادمين. بعد أن تمكن الإنسان من إدارة حياته، قرر أن يستريح بعض الوقت في ظل يومٍ صائف يهبُّ برائحة زهور الأرض التي قرر أيضا تصنيفها ضمن قائمة (نباتٌ يُشاهَد ولا يؤكل). كانت الكتابة قد أمست حضارة. ولكنها لم تزل تتردد بين أثمان الفجل والبقدونس، والبضاعة القادمة من كل مكان، وبعض الديون.
الكتابة جاءت لتصنع من الجلوس في الظل ظهرًا قصيدة. أو يمكن القول أن الجلوس هو الذي جاء بالكتابة. شعر الإنسان بالبهجة وهو يرى ظروفه ومشاكله وحاجاته تخرج في كلمات -ولو كانت كلمات بدائية وبسيطة- وتحظى بالحفظ لتُقرأ على ألسن الذرية.
زادت الرفاهية. فقادت نفس الإنسان المحترق بانعكاس الظل، إلى الرقي قليلا وممارسة كلامٍ ذي قيمة أكبر من قيمة الكلام الإنشائي البسيط والبدائي. اخترع الشعر ومن ثم جعل الموازين الموسيقية والموازين المفرداتية له. "ليست كل فكرة تُقال فتصبح قصيدة" هذا صوته الذي ما زلنا نردده.
يبدو أننا لم نضف الكثير إلى القصيدة. أعني القصيدة بعمومها. وتبدو محاولة كهذه صعبة. نعم لقد حاول الأسلاف المحترمون الكثير من المحاولات. لقد صنعوا شعرا غنائيا وأشبعوا الاحتفالات والمواسم ببذخهم اللغوي، وحشروا القصيدة في جوقة من الرموز الموسيقية التي يُعد الخروج عنها خزيا على الشاعر، ولكن هذا لم يكفهم فخرجوا حتى من بحورهم الشعرية واستعملوا الجَزء والشطر والنَّهك (أحوال مختلفة يقل فيها عدد تفعيلات البيت الشعري)، وتلذذوا بالموشحات وبالتفعيلة وبكل الألوان التي يمكن أن يلوّن بها فضاء الشعر اللزج.
كل الذي فات هو تعليق تخيُّلي حول النظرية التي بدأنا بها، وهي بلا شك نظرية تخيلية أيضا لتوضيح الفكرة. ماذا بعد؟ لقد عرفنا البداية والتطورات -ولو بطريقة سريعة جدا- ويجب الآن أن ندخل في الموضوع مباشرة!
ما هو الجانب الشاعري من هذه الكلمات؟
"كان غير شكل الزيتون
كان غير شكل الصابون".
أليس هذا هو ما بدأ به الإنسان البدائي على حد تصورنا عنه؟ هل العودة إلى البداية هي القرار الذي يتردد إنسان هذا القرن في اتخاذه؟ يبدو أننا لم نتغير كثيرا ذلك التغير الذي يجعلنا منفصلين بالمعنى الثقافي. كل شيء يتطور في المصانع ويصبح حديدا. ولكن هل ازدحام المفردات الشعرية في ديوان الإنسان يضطرنا اضطرارا إلى الانتكاس وإعادة النظر إلى انفعالات الأشياء وتفاعلنا معها كما نظر إليها شاعرُ الظل ذاك؟
الانتكاس صعب. ولكن ليس في حضرة الأداة العلمية التي أهدتنا إياها تجارب إنسانٍ لم يجلس تحت الشجرة ليتأمل، بل ليرصد حركة الأرض وموقعها بين الكواكب. بإمكاننا مثلا أن ننظر إلى جزيئات الماء بدل النظر إليه بعين العطشان في صحراء عربية يلهث خلف ناقته التي ضاعت.
"الزيتون والصابون" في شعر الأخوين رحباني لهما عذوبة خاصة. وأداء قصيدة كهذه في أغنية هو ما نحتاجه لندلل به على إمكانية صنع فنٍّ من التأملات البسيطة.
"كان غير شكل الزيتون كان غير شكل الصابون
و حتى إنتا يا حبيبي مش كاين هيك تكون".
هذه هي الملاحظة إذن. وهذا هو الانتكاس المحبب الذي قصده الأخوان رحباني. الانتكاس إلى الأشياء العادية التي ترفّع الشعر عنها في نشدان المثالية المفرطة.
في قصيدةٍ لهما (أحترف الحزن والانتظار) يقولان:
"أرتقب الآتي ولا يأتي
تبدّدت زنابق الوقتِ".
فيأخذانك معهما نحو دوّامة متسارعة الأنفاس في هذا الجو السُّريالي الذي قد تجده في لوحة من لوحات سلفادور دالي. إنه الجمع بين اللغة الآسرة (تبددت) والطبيعة التي ستنتظر أيضا وتضجر (زنابق) والعصرية التي ترتدي ساعة سويسرية (الوقت).
"إلى صقيع الشمس والبرد
لا أهل لي في خيمتي وحدي".
أظن هذا كافيا لإيضاح المدى الذي يصل إليه شاعرٌ يرى أن التكلف في الشعر هو أداةٌ لم تعد نافعة الآن.
ما هو التكلف الذي أقصد؟
هو أن يجد الشاعر حواجز لا يعرف من أين تنبثق بينه وبين أن يسمح لكلماته بالخروج منه بهدوء. إنه يعاني ويتعرّق حتى يكتب بيتا آليا وملطخا بالهزائم الذاتية، هزائمه في وجه "الأنا" المشتعل، وفي وجه القارئ الذي لن يألف بسهولة ورود كلمات مثل:
"كان غير شكل الليمون
كان غير شكل اليانسون" في قصيدته.
سيشعر القارئ بالسخف، ولكنه سيدرك في نهاية الأمر أن الشعر ليس هو الهروب من الطبيعة، بل النظر إليها بعمق ونقل الانطباعات عنها. الانطباعات التي لا يتوصل إليها أي أحد.
الدواوين ملأى بالمثالية الشعرية والأنوات -إذا صح أن تُجمع الأنا هكذا- الملونة. وبعض المثالية تثير التقزز والبرود. وكأننا توقفنا حائرين "ما بين ماضي ماهوش راضي،
ينسّيني و ينساني.
و بين حاضر ماهوش قادر،
يسلّيني في حرماني" كما يقول عبد المنعم السباعي.
لذا، سنعكس النظرية ونجعلها: "بعد كل شيء، يستطيع الإنسان العودة إلى كلماته العادية بعمق ليكون شاعرا".


يتم التشغيل بواسطة Blogger.