30‏/06‏/2016

إلى الرجل الخشبي



صفوان داحول

مرحبًا، من بلاد الشمس والعزلة، من هذه الزاوية التي وصلتُ إليها أخيرًا، بعيدًا عن الجميع.
اخترعتُ حصانًا من قطع الخردة ، وهيأتُ أوراقي لأرسم فستانًا جديدًا حتّى أهبهُ لفتاة صغيرة وأقول لها: "موتي في سبيل الألوان". اقتنصتُ الوقت -الضيق جدًّا- حتى أطعم الحمام مع جارنا. جارنا النحيلُ الذي يريد أن يصير رسّامًا والذي يؤجّل هذا دومًا لأن يده مستنزفة من العمل. قلتُ له: "لا تعمل" فضحك كأنما أغمى عليه من البكاء. أخبرني أنني سأكبر يومًا وأعرف كم أن الحياة موحشة وبشعة. لكنني أصرّيت، لم أجد ما يمنع شخصًا من اللحاق بشغفه. وأصرّ هو أيضًا ولم يجد ما يدفعني إلى العناد.
مرحبًا، من البلاد التي تمطر ياسمينًا، وأحذيةً، وأشلاء.
من هذا السرير المحموم بالأرق الذي سيصير نهرًا مقدّسًا من الأفكار والغضب.
أنا غاضبة جدا، منك، من نفسي، من هذا الجدار اللعين الذي لا يتحرك. من قطعة الدانتيل الصغيرة التي لا تكفي لتصير زنّارًا لشعري. من طبق الشوكولا الفارغ الذي ابتلعه الحزن عني ولم يجعلني سعيدة. غاضبة من أمّي التي قررت الصمت دون أن تترك قرب يديها فلّتين. ليتها و-نحن نقف على أعتاب هذه المأساة- تقوم من تحت الردم وتعيد بناء المنزل معي. أنا أعرف أن منازلنا في النهاية لا تعدو كونها وهمًا. لكنني أريد أن أسترجع اللحظة الأخيرة التي سبقت هذا الانهيار، لأقول لهم: "وجهوا البندقية إلى صدري، لا تعافوا فيه أيّ عصفور، لا تتركوا لحماقته أثرًا، أنا أموت في سبيل المحافظة على اللون الأخير في هذه اللوحة، ولا أصير رمادّا أو مادة إخبارية بسهولة".
غاضبةٌ من الليل، والأسرار، ومن صوت "هدى حداد" الذي سلّمني إلى الحلم و"ضوّ القمر" وأقنعني أنّ أحدًا سوف "يوصلني إلى المنزل" ويقول "منبع الضوء أنت".
مرحبًا، من البلاد التي تشقى بالقسوة مثل أي أنثى رقيقة تتهاوى رويدًا رويدًا. من هذه الزاوية التي وصلت إليها أخيرًا. اخترعتك ، وهيأت أوراقي لأكتب رسالة .

فمرحبًا أيها الرجل الخشبي.
سأحكي لك ما حدث منذ أيام.


أوقفنا الجدار الضخم قائلُا: "أين الهوية؟". أنت تعلم أنني مواطنة صالحة جدًّا وعادية. لذلك، أخرجتُ صكّ براءتي من جيب سترتي ثم قلتُ بثقة: "هذه هويتي". انتابتني بعدها رغبة عارمة بالضحك، لكنني لم أضحك طبعًا، لأنني مواطنة صالحة، عادية، و"خائفة". حدّق بها، قلّبها، حدّق بها مجددا. لم ألمْه، فهذه الفتاة التي يبحلق في صورتها تختلف كثيرًا عن الفتاة التي تقف أمامه، فقد صرتُ أحلى. ونحنُ -هنا- كلّما ازددنا جمالًا تبعتنا لعنة البؤس والمذلّة. راح يضربُ الهوية على كفّه. كنتُ أعرف أنه يريدُ إرهابي فصمدتُ أكثر. صمودي النفسي كان يقول: "اكسرها إن شئت، لا يهمني". نطق: "بإمكانك أن تذهبي".
وأثناء تمريرها إلي، ظلّ يحدّق بي. شعرتُ أنه نفذ إلى داخلي ورأى العصفور المختبئ المرعوب، ولذلك -ربما- ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة. قلتُ وأنا أضع يدي على حقيبتي: "هكذا يا نور، هزيمة أخرى يحققها رجل عابر".
مضيتُ بسلام إذًأ، لكنّ هذا لم يحدث مع الجميع. اقتِيد أكثر من سبع شبّان نحو المجهول، ونجح واحد فقط في الاختباء. كان المنظر مروّعًا، وصوت الرصاص الذي اخترق الهواء قادر على أن يصيبك بالهلع. الهلعُ المتكرر الذي تحظى به هنا والذي يصيرُ شيئًا عاديًّا. أعني أنك بمرور الوقت لا تتعامل معه بالهرب، بل تقف متسمّرًا وأنت تنظر في عينيه، ثم تتفقد ذراعك ووجهك وكلّك قائلًا ببهجة: "أنا حي". هذه البهجة سرعان ما تتحول إلى حزن بالغ ومعقد لأنك تتذكر أن الآخرين ماتوا أمامك للتو.

وهكذا تسمّرنا جميعًا. التقطنا كل شيء لنحوله إلى موسيقى حين نعود إلى منازلنا. لا لشيء، فقط لأن الموسيقى تُعين التعساء على تحضير العشاء، والرقص، ومتابعة القمر المنقوص، والتهيؤ لممارسة الحب على ضوء شمعة.

وأنا أجلسُ على الرصيف شعرتُ أنه بيتي، وأن أحجاره ما هي إلا غرفي المتعددة التي يمكن أن أملأها باللوحات والمصابيح الزرقاء وحفنة لا بأس بها من القبل. لم ينبع هذا من كوني مشرّدة، لكنني أويت إليه حين عزّ عليّ إكمال الطريق وخارت قواي عن رؤية العمود الذي ينتصب جانب بيتنا المطليّ بالأبيض، في ذلك الشارع الطويل الذي تفوح منه رائحة الطماطم وتتقاذفه السيارات كاتمةً أنفاسه الطبيعية، ومُحوّلةً إياه إلى سترة ضيقة جدا يريد أن يرتديها الجميع.
فكرت: "ما رأيك أن تجلس معي، وتكتشف العتمة الملساء التي يمكن أن نسبح فيها؟ وتجرب الرعب المتمخّض عن تبرير نفسك؟ وتعطيني رأيك بالفستان الذي ابتعته قبل أن يحدث كل هذا؟ أجده شيئًا حقيقا، عليه بومة ملونة تختصر تاريخ حياتي.
انظر؟ أنا مستعدة لعد أصابعك الآن وهي تمتد نحوي. إنها كثيرة وجذابة لكنها عاجزة رغم كل شيء".


مرحبًا من هذه الزاوية
سوف أكشف الغطاء وأصير قطة. ألف نفسي حول نفسي وأسمح لهواء الساعة الرابعة فجرًا أن يحرك كتفي الطري ولن أستجدي أحدا. فقد اكتشفت أنني قوية. عدتُ من الموت للتو وعمري في حسبان الحياة صرخة واحدة فقط.

نظرية العقل: كيف نفهم اختلاف الآخرين عنا؟



مقالي في السعودي العلمي عن تعريف نظرية العقل، ومراحل تطورها منذ الولادة إلى سن البلوغ، وفهمها في علم الأعصاب. 
لقراءة المقال: http://www.scientificsaudi.com/ss/10328

28‏/06‏/2016

مع جدّي قبل السّفر








على ظهري حقيبةٌ كبيرةٌ جدًّا كنتُ قد ورثتُها من جدّي الذي أوصاني أن أموتَ في سبيلها ثم قال لي: "ستكونين شهيدة الحماقة"، بينما كان يجلسُ ويأكل البطيخ الأحمر ويتابعُ مقطعًا لنجوى فؤاد. عندما مرّ شريطٌ عاجلٌ قال بنزق: "اقرأيه". "انفجارُ عبوةٍ ناسفة في أحد المتاجر، الضحايا خمسة والفاعل مجهول". علّق باستهجان: "وهل يحتاجُ هذا الأمر إلى خبرٍ عاجل؟ لقد مات صديقي في الأمس القريب محترقًا ولم يعره أحدٌ انتباهه، ومات قطّي الأبيض متأثرًا بجراحه ولم يجد من يمجّدهُ. أليست هذه مأساة يا صغيرتي؟". كنتُ قد بلعتُ لساني حينها حتّى عجزتُ عن مجاراته، وتقيأتُ عقلي في الحقيبة حتى لم أجد وسيلةً لأستوعبَ فكرتهُ تمامًا، لكن قلبي كان يشعرُ بالأسى على الحزن أينما حلّ وكيفما كان شكله, مُمَجَّدًا كان أم منسيًّا، بسطًا أم معقّدًا. أعاد جدّي جلستهُ الهادئة وارتختْ أعصابهُ حتّى قال لي: "لا تقرأي لي الأخبار العاجلة حتى لو طلبتُ ذلك".
راح يحرّكُ رجليه كما يفعلُ طفلٌ صغيرٌ يركبُ أرجوحةً تفوقهُ في الحجم والضخامة، ويدندنُ موسيقى عذبة لم استطع تمييز فيما إذا كنتُ قد سمعتُها من قبل أم لا. الزّغبُ الأبيض على رأسه كان يكتسبُ وهجًا إضافيًّا من أشعة الشمس التي أحاطت به، وكان يتمثّلُ جدّتي كما أعتقد إذ كان بصره معلّقًا على أريكتها، ثمّ توقّف عن الدندنةِ وقال: "روحٌ مليئةٌ بالجمالِ قد عبَرتْ "!



_جدّي رجلٌ ضخمٌ جدًّا ويحبّ أن يقول للآخرين أنه كذلك، لكنه يوم وفاة جدتي راح يبكي بحرقة. ولم يكترث بتجفيف دموعه ولا إقامة أي اعتبار للرجال الذين كانوا يقفون مثل جداريّات سخيفة. قالت امرأة حمقاء أنه حزن لأن التي كانت تصنع له الحلويات قد ذهبت، وقالت أخرى أنه بكى لأنه لن يجد من تتحمّل نزقه كما كانت تفعل.
جدّي لم يبحث عن غيرها أصلًا، ولم يفكّر في الحلويات من بعدها. لأنه أدرك أن الفانيليا مضت أيضًا وأن هذا العالم صار مرتعًا للانتظار، لابتغاء الخلود لهما بطريقة أو بأخرى. وبهذا، خرج -هذا الرجل الجبل- مرة أخرى نحو الضوء، وضع قبّعته وارتدى ثوبه الرمادي وقال: "مرحبا"، ردّ عليه الجميع خوفًا من قسوة سلامه، وابتسمتُ مطوّلا في وجهه، وأنا ألحظ العصفور الصغير الذي قفز من عنقه واستحال بخارًا._

وبينما كنتُ أقول كل هذه الجملة المعترضة في بالي، أعاد جدّي جلسته اللا مبالية، توقف عن الغناء وقال: "ألا تسمعين؟ قلت لك اجلبي المزيد من البطيخ "!   

26‏/06‏/2016

رسائل منّي إلي (1) ~ حتّى لا أنسى


اللوحة للفنان السوري، صفوان داحول
نور العزيزة جدًّا. الأغلى على الإطلاق:

لن تصيري سمكة مهما تدهّنت بالماء وسبحتِ. لن تصيري عصفورًا مهما تسلّقت شجرة التين في الفناء الخلفي لبيت جدّك، ولن تحترقي مهما قلت أن ضلوعك من خشب. لن تتحوّلي إلى دالية عنب مهما قالوا أنّ جمالكِ مُسكرٌ، وأن عينيك خمّارتان ماجنتان غارقتان في الليل والوحدة. لن تُرجعي الأشياء من العدم مهما قرأتِ من نظريات وخضتِ في نقاشات وأشعلتِ آخر فتيل في رأسك. لن تعيدي اللحظة التي سبقتْ افتراق يدك عن يد والدك في ذلك البهو المريض المليء برائحة الرزّ المطبوخ بالخضار مختلطًا مع القليل من المعقّمات ومصحوبًا بضربات الفتاة التي كانت تنظّف جدارًا قريبًا، مُمسكة جمود العالم في ملامحها ومبتسمةَ في آن.
لن تنتصب أعواد روحك المكسورة مهما تحدّثتِ عن الأمل والعودة والحنين، ومهما أضأت الشموع وصليتِ، ومهما هشّمت اللوح الزجاجيّ ودستِ عليه. لن يصير فستانك الورديّ أسود مهما جرتِ عليه وحاولتِ تجاهلَ فجرهِ ولهيبه. لن يقول لك أنه آسف، فالأسف أمر معقد للغاية ينبعُ من مفهوم الخطأ الذي يكون بدوره نسبيّ وضبابي. لن يعود ذلك الخيال من الماضي ليقول لك : "خذيني، اصطفيني" لأنّ الأخيلةَ لا تعود، ولا تصير حقيقة بعد كلّ هذا الوقت من النّأي، ونكران القلب، واجترار الأسى. لن تفهم أمك لماذا بكيت حين فقدت مشبك شعرك البنفجسي لأنها ستعتبر أن شعرك طويل جدا وأن الدنيا مليئة بالمشابك الأكثر جمالًا وألوانًا. لن تتحرك ستارة نافذتك في حزيران بفعل النسيم بل سوف تتعرق وتتقبل انحناء الشمس في دورة مهمة لا تبدي خلالها أي انزعاج.

أنت في قوقعتكِ الملتفّة، المشبوكة. مثل أية بلهاء تحدق في جدار وهي تنتظر أن تخرج الصراصير من شقوقه وتعتذر عن سوادها. ماذا عن الفراشات التي تحلق حولك؟ ماذا عن النور النابع الذي ينعكس على الشقوق ويعقّم عفنها؟ ماذا عن الماضي الذي يستقيم ويمارس صفته من ناحية المضيّ والسكون؟ ماذا عن الآن الذي ينظر إليك بعين واسعة جدا آخذًا جمالك بعين الاعتبار وكاسيًا كتفك الأيمن بشالٍ من "الدّانتيل الأخضر"؟

يتم التشغيل بواسطة Blogger.