جينيفر جراي وباتريك سوايزي يرقصان على جذع شجرة، من فيلم dirty dancing |
"تبدأ حياتنا بتهويدة،
تنضج على وقع موسيقى الزفاف،
ثم تنتهي
بالموسيقى الجنائزية" Tianyan Wang, 2015
هل كان الانتخاب الطبيعي ثمِلا عندما طوَّر الموسيقى والرقص؟ نحن نؤمن
بأنه حكيم ويبحث دائما عن مصلحتنا الوجودية، فهل أصاب حينما انتخب الرقص والموسيقى
- هذه الأشياء الدنيوية الفانية؟ إذا كانت الموسيقى تكيُّفا، فما هي المشاكل
التطورية التي واجهها الإنسان والحيوانات الأخرى بعذوبة الموسيقى وحرارة الرقص؟
"الموسيقى موجودة دائما في تاريخ وثقافات الإنسان، ولديها القدرة
على استحثاث المكافآت rewards وإثارة العواطف emotions الإيجابية والسلبية"، "والموسيقى لا تكون وحدها أبدا، بل تكون مصحوبة بالرقص
والحركات المتناغمة الأخرى، ليس في الإنسان وحده، بل حتى في الحيوانات
الأخرى". "وإلى جانب الرقص، تتشارك الموسيقى الكثير من الصفات
والدوائر العصبية neural circuits مع
الكلام". لكن
برغم هذا يبقى وجود الموسيقى مُلغِزا وسرُّ نشوئها محيِّرا. "منذ داروين
(1871)، الكثير من العلماء اعتقدوا أن موسيقى الإنسان يجب أن تكون تكيُّفا adaptation" أي يجب أن يكون الإنسان واجه بعض المشكلات التطورية التي تطورت
الموسيقى لحلها. دراسات التوائم وعَمَهِ الموسيقى الفِطري congenital amusia (عدم القدرة على ملاحظة، تذكُّر، إدراك
الموسيقى منذ الولادة) أكدت أن للقدرات الموسيقية أسسًا وراثية. لكن السؤال هنا "ما
هي الضغوط التطورية المسؤولة عن نشوء الموسيقى والمشاعر الموسيقية؟".
هناك العديد من النظريات التي أجابت على هذا السؤال:
1- نظرية الانتخاب الجنسي sexual selection لداروين (1871): الموسيقى والرقص تطورا لفوائدهما في اجتذاب القرناء الجنسيين.
2- نظرية اتصال الأم بالطفل mother-baby connection لديسيناياكي (2000): احتياج الطفل إلى الاتصال بأمه يمكن أن يؤدي إلى تفاعُل مبني على الموسيقى [1].
3- نظرية التماسك الاجتماعي لبراون (2000) [1].
لكن في دراسة مثيرة (2015) [2] يقدِّم Tianyan Wangمن جامعة تسينغ-هوا الصينية فرضية أخرى لتفسير نشوء الموسيقى والرقص
والكلام من منظور أحيائي اجتماعي. وفقًا لتأثير دوبلر (نسبة إلى الرياضي الفيزيائي
النمساوي كريستيان دوبلر: هو تغيُّر التردد أو الطول الموجي بالنسبة لمُستمِعٍ
يتحرك نحو مصدر الصوت أو بعيدا عنه) [3] يرى Tianyan Wang أن الموسيقى والرقص يشكلان نوعا واحدا من الحركات (الحركات الإيقاعية rhythmic movements). ثم يفترض أن نظام المكافأة والشعور
المتعلِّقين بالحركات الإيقاعية RRRE)) الذي يدفعنا للبحث عن
الموسيقى والأحداث الإيقاعية نشأ لتكييف المتعضِّيات -الكائنات- مع بيئاتهم
الداخلية والخارجية. ويرى أن نظام RRRE يستدعي نوعا آخر من
المكافآت والمشاعر المتعلقة بالمجتمع تُدعى (SRRE).
ما هي علاقة الموسيقى والرقص ببقائنا؟
كما عرفنا، الموسيقى والرقص ينشطان نظام (RRRE) الذي بدوره يؤدي إلى تنشيط وظائف بيولوجية مثل الانتخاب الجنسي،
ووظائف اجتماعية مثل تقوية علاقة الأم والطفل، ويعزز التماسك الاجتماعي. وهنا تغدو
هذه الوظائف التي اعتُقِد أنها هي الضغوط التطورية التي جعلتنا نبحث ونستمتع بالموسيقى،
تغدو هذه الوظائف ضغوطا ثانوية للضغط الأولي البيولوجي الذي هو نظام RRRE المسؤول عن نشوء الموسيقى كتكيُّف مع الحركات والأحداث الإيقاعية
الداخلية والخارجية.
الحركات الإيقاعية موجودة بكثرة في البيئات المختلفة (الماء، الهواء،
الأشجار) وتنتج بسبب قوى الطبيعة (الرياح، المد والجزر) أو بفعل الحيوانات؛ لذا تكيَّفت
الكائنات المائية aquatic والبرية arboreal مع هذه الإيقاعات لمعايشة البيئات المرنة التي تحيط بها. الحيتان
المفترسة وأُسود البحر مثلا طوَّرت حركات سباحة مميزة للتوافق مع بيئة المحيطات
المتقلِّبة. من هنا يكون إدراك وإنتاج الحركات الإيقاعية وأيضا التناغم مع
الإيقاعات الخارجية والداخلية بالغ الأهمية لبقاء الكائن المتعضي وتكاثُره؛ لهذا السبب
طورنا نظام المكافأة RRRE من
أسلافنا المائيين والبريين.
سبب بيولوجي أولي؟
هذا
يعني أن الموسيقى تطورت لمواجهة ضغوط تطورية مهمة لبقائنا. وفي الواقع، تذكر دراسة
حديثة (Sescousse
et al., 2013) أن المكافآت المتحصلة من
الأحداث الإيقاعية هي مكافآت أولية، أي كتلك المتحصلة من الطعام والجنس. بل إن تناغم
الكائن المتعضِّي مع الأحداث الإيقاعية يمكن أن يكون أكثر أهمية لبقائنا من الطعام
والجنس!
إذن ببساطة، نحن نستمتع بالموسيقى ونتراقص معها لأننا نبحث عن إرضاء
أنفسنا وإشباع مشاعرنا، ما نبحث عنه يوفِّره لنا نظام تطور منذ القِدم لدى أسلافنا
السابحين ومتسلقي الأشجار؛ وهؤلاء الأسلاف أصلا طوَّروا هذا النظام (RRRE) ليتغلبوا على تقلبات البيئة الإيقاعية (المتكررة) مثل حركات المد
والجزر وهبوب الرياح.
هذه الدراسة معقدة ومتعددة الأهداف، فهي تبحث عن أصول الموسيقى والرقص
والكلام معا، ولكنها على كل حال تنوِّرنا بافتراضٍ جديد يمكن أن يكون هو الضغط التطوري
الذي أدى إلى تطويرنا هذا الشغف بالموسيقى والحركات الإيقاعية المصاحبة لها.
شكرا عزيزتي الطبيعة، تسقط التُّهمة!
الخلاصة هي أن الانتخاب الطبيعي لم يكن ثملا، بل عاقلا جدا وحكيما كما
نعرفه، إذ جمع بين الضرورة البقائية (التواؤم مع البيئة المتقلبة) والفوائد التكاثرية
(الانتخاب الجنسي وعلاقة الأم بالطفل) ولمَّ شمل المجتمع في النهاية.
المراجع:
[1] ir.lib.uwo.ca/cgi/viewcontent.cgi?article=1069&context=lme
[2] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4332322
[3] ar.wikipedia.org
0 التعليقات:
إرسال تعليق