19‏/09‏/2015

كيف يكتب باسكال كينيار؟


باسكال كينيار
قال أحد الصينيين القدامى (كونغ سوين لونغ): "ثمة أفكار تتفرع من أي مكان، ثمة تأملات من دون نتيجة". الكاتب الفرنسي باسكال كينيار Pascal Quignard يكتب في ظل هذين "الاقتراحين الحاسمين" لرجل لم يكن "ينتمي إلى أي مدرسة". ولكن من هو باسكال كينيار؟الباحث عن جزء من حياة هذا الكاتب لن يعثر على الكثير، إنه محاط بهالة غموض عجيبة، ومع أنني لا أحب تقديم الكاتب بسيرته الذاتية، أجدني مضطرا إلى ترجمة بعض النتف المكتوبة بالإنجليزية، والتي هي بلا شك شحيحة أيضا.ولد باسكال كينيار في الشمال الفرنسي بمدينة فرنوي سور آفر  Verneuil-sur-Avre عام 1948. هذا كل ما وجدته! أما أعماله الأدبية فكثيرة وتختلف أهميتها بالنسبة للقراء في كل مكان، فبينما يعد كتابه "كل الصباحات في العالم  Tous les matins du monde"الأكثر شعبية خارج الوطن العربي، يهتم القراء العرب بـ "الجنس والفزع  Le sexe et l'effori" أكثر من أي كتاب آخر له.
روايته "الظلال الهاربة Les Ombres errantes" حصلت في 2002 على جائزة الأدب الفرنسي (غونكور)، ومثلت في فيلم عام 1991 كتبه كينيار برفقة المخرج والكاتب الفرنسي ألان كورنو. 

الشكر للمترجمة السورية روز مخلوف: ترجمة خلابة!
اقترح علي أحد الأصدقاء قراءة هذا الكتاب، وأخبرني بحماس أنه تكلم عن الجنس في الإمبراطورية الرومانية، ويذكر أسماء مثل الإمبراطور المنحرف "تايبيريوس" والرسام السادي "بارازيوس" الذي كان يعذب الناس ويرسمهم وهم يتعذبون، و"نارسيس"، و"ميدوزا وبريسيوس"، بالإضافة إلى قراءة تاريخية تحليلية للحياة الجنسية الإغريقية والرومانية.
لم أكن أقرأ كتابا في تلك الفترة، فبدأت أقرأ هذا "الجنس والفزع"، وعندما انتهيت منه، لم أتذكر إلا ما يتذكره أحدنا بعد حلم شهي.
هذا هو شأن باسكال كينيار، فليس هو الكاتب الذي يعطيك (ما بعد التفكير: الواضح، المنمنم، الملون بعناية)،  بل يجذبك إلى (التفكير نفسه: المعقد، المتأرجح بين الوعي واللاوعي) ويشركك معه.
في هذا الكتاب، يغوص الكاتب الذي يجيد الفرنسية واللاتينية والصينية والإغريقية في جذور الكلمة اللاتينية fascinus التي تعني "قضيب"، وبحث تاريخها واشتقاقاتها: افتتان fascination، أو فاشية fascisme. بأسلوب غير مستقر أبدا. كما يبحث كلمات أخرى، ويؤرخ لها. ويربطها بالأحداث اللاأخلاقية والوحشية والأسطورية التي نحتفظ بها في أذهاننا بوصفها حضارة رومانية.
يطارد باسكال شبح الجنس، ويحقق في تحوله من ضياء على وجه أفروديت، إلى ثعابين تحيط بوجه ميدوزا.
قلت إنني لم أحتفظ بذكرى واضحة لما قرأت، لكنني أستطيع أن أعود إلى الكتاب وأقتبس منه سطورا ظللتها بالأخضر الغامق.
* "الإنسان هو نظرة تشتهي صورة أخرى وتبحث عنها خلف كل ما تراه".
* "اجتاح الضعفُ العجوز فبكى.
صاح به بارازيوس:
- لم يصبح أنينك بعدُ أنين رجل يلاحقه غضب جوبيتر.
بدأ العجوز يموت. وبصوت عال خائر قال العجوز الأولنثيُّ لرسام أثينا:
- بارازيوس، إني أموت.
- ابق كما أنت.
كل لوحة هي تلك اللحظة".
* "يرتبط الخوف الأول بالظلام والوحدة. الظلام هو غياب المرئي، والوحدة هي غياب الأم أو غياب الأشياء التي تنوب عنها. يعرف الإنسان مشاعر الخوف هذه: خوف من السقوط في هاوية الرحم السحيقة المظلمة والتي لا شكل لها، خوف من أن يعود جنينا، من أن يعود حيوانا، خوف من الغرق، من السقوط في الفراغ، من الالتحاق بالعالم غير البشري".
وهذا المقطع الأخير هو أجمل ما احتفظت به من هذا الكتاب العميق، ولا أدري لم شعرت عندما قرأته بأنه يفسرني بطريقة ما!
* "كل حلم هو غرق داخل النفس وسقوط في رحم الأم، نوم الوليد شبه المستمر هو استمرار للحياة داخل الرحم، والواقع بالنسبة له، مثل اليقظة، ليس سوى لحظة جوع وبرد ورغبة أليمة. الشيخوخة تفصل الجسد رويدا رويدا عن النوم (المرتبط بالحلم) وتخرجه من الرحم إلى الموت (النوم المجرد من الأحلام)".
أردت بهذه الاقتباسات أن أستعرض لغة الكاتب، لغته التي هي مزيج من صرخة الشعر، وطبيعة النثر المتعالية، واستنباط الفلاسفة، وغرور اللغات القديمة. باسكال كينيار -مرة أخرى- لا يعطيكم خلاصة تفكيره (ما بعد التفكير)، بل يشارككم التفكير. فهو يفكر "من كل مكان"، وغالبا "من دون نتيجة".

الشكر للكاتب الجزائري والمترجم محمد المزيودي:
ترجمة جيدة، 
أشعر بارتباكها قليلا
سأرتاح في الكتابة عن هذا الكتاب؛ لأنني انتهيت منه أمس، ولم أزل أحتفظ بروحه ومادته. الكتاب صغير جدا (112 صفحة)، ولكنه متاهة. لا أراهن دائما على فهم كتابات "كينيار" و"جيمس جويس"، فأنا أتلذذ بعدم فهمها. وبالمناسبة، "الاسم على طرف اللسان" يشبه "عوليس" في جمله القصيرة، وعدم الترابط بين الكلمة والتي بعدها، والصفات التي تحتاج إلى وقت لإسقاطها على الموصوف، والاقتباس الحر لكتاب كثيرين، وهذه "البحلقة" التي ستلازمكم حتى النهاية.
أستطيع أن أجازف بتلخيص الكتاب في وصف واحد، إنه يحاول عزل اللغة عن الوجود الإنساني. "طرف اللسان tip-of-the-tongue" هي ظاهرة نفسية معروفة، وهي حالة من فقدان الكلمة الأصلية التي تتوفر معظم ملامحها في اللحظة. نعم، لقد مررنا بهذه التجربة، أن نشعر بوجود الكلمة حول شفاهنا، على ألسننا، ونتذكر حرفها الأول، وربما وزنها الصرفي، لكننا لا نستطيع إخراجها. إنها حالة مرعبة، وهذا الرعب هو النوع المفضل لدى كينيار. يبدأ الكتاب بمشهد سريالي، السيد (بوليز) واقفٌ يطارد بوظة سقطت أرضا، ويحاول أن يقطعها بسكين! فهمت من المشهد أنه كينيار يحكي بدايات تفكيره في تأليف حكاية، لكنني لست واثقا من هذا الاستنتاج. أراد كينيار حكاية "العجز اللغوي هو مصدر الحركة فيها".
القصة الرئيسة في الكتاب لا تتجاوز 32 صفحة. وهي من أروع القصص الرمزية التي قرأتها، بطلاها: الخياط بجورن، والخياطة كولبورن. لكنني سأكتفي بهذا الآن، ولن أذكر المزيد من تفاصيل القصة الرائعة، وأنصحكم بقراءتها وحدها إن لم تحبوا قراءة الكتاب كاملا. إنها تقع بين الصفحة 15 و 47. أنصحكم بشدة.

كما أراد كينيار، فإن العجز اللغوي هو المحرك الأول لأحداث القصة. النهار والظلال والبحر والارتباك والحركة هي ما تفقد الإنسان قدرته على السيطرة، الاقتران هو الغريزة الدافعة لكل ما يجري، اللغة وراء الأرق والجوع والعذاب النفسي، الظلمة الشديدة هي دائما التوقيت المناسب لاسترجاع اسم ضائع مثل "هيديبيك دي هيل".

لغز "الموت" يرهق باسكال في الكتابين اللذين قرأتهما، ففي "الجنس والفزع" ثمة قرابة شعورية بين الموت والحلم ولحظة ما بعد رعشة الجماع وسحر الأسطورة الذابلة، وفي "الاسم على طرف اللسان" كل من يرى عيني الإلهة ميدوزا يصير "حجرا".
يبرهن الكاتب لي على سهولة كتابة رواية بالنسبة له، لكنه يصر على أسلوبه الذي يشبه تارة صوت "الإلياذة"، وتارة عين "عوليس"، وتارة دهاليز "سارتر".
لم أزل أشجع على هذا الأسلوب، أي الذي لا يعطي كل شيء دفعة واحدة وبكل وضوح، أي الذي يجذب أفكار القارئ إلى أفكار الكاتب ويترك "النتيجة" قابلة للتغيير.
أدركت ذهني يشرد ويهرب بعيدا عن الشاشة الكبيرة المضيئة في وجهي، يهرب ويفكر في أمور قد تكون بعيدة كل البعد عن موضوع الكتاب، أدركت هذا الإحساس اللذيذ بالتلاشي، أدركت نفس الشعور الذي أدركته قبل سنوات وأنا أنشغل بقراءة "آدم إيسون" وأحاول ممارسة التنويم المغناطيسي على نفسي!

لا أزعم أنني أفهم كل ما يكتبه كينيار، ولا بعضه، ولا حتى قليله، لكنني أفهم تماما ما يريد، هو يريد أن يشعل شمعة في اللاوعي ويصلي كما صلى بجورن وكولبورن صلاتهما الأخيرة: "ندعوك يا رب، اجعل هذه الشمعة المكرَّسة لذكرى اسمك تحترق دون أن تنطفئ، من أجل تبديد ظلام هذه الليلة". 
و"ظلام هذه الليلة" يمكن أن يفسر بالعجز اللغوي القاتل، أو بشبح الموت، أو بانعدام اليقين، أو ربما فسرته أنا بمشهد لاحق في الكتاب، عندما يصف طفل حالة أمه وهي تتذكر اسما:

"كانت مضطربة وقصية، وكانت تحاول والعينان مثبتتان على لا شيء وتقدحان شررا أن تحضر إلى ذهنها الكلمة التي كانت على طرف لسانها، كنا نحن بأنفسنا على ضفة شفتيها، كنا بالمرصاد مثلها، كنا نساعدها بصمتنا، بكل قوة صمتنا، كنا نعرف أنها ستسترجع الكلمة الضائعة، الكلمة التي تسبب يأسها، كانت تنادي من بعيد مهلوسةً، طاقتَها المترنحة في الهواء. تهلل وجهها، عثرت عليه، تتلفظ به كما يُتلفظ بالروائع، كانت إحدى الروائع. كل كلمة تستعاد هي إحدى الروائع".

هذه إذن هي الليلة المظلمة التي يريد كينيار أن يلبسها نهارا. واختياره للمتكلم طفلا أخرس يفسر العجز والظلام تفسيرا بليغا. الطفل الأخرس يكبر، ويتكلم من خلال كتبه، وهذا الجزء المستقل من الكتاب المسمى "رسالة صغيرة حول ميدوزا" هو صوت الخرس اللغوي، وانعدام طرف اللسان.. هو الخروج من الليلة المظلمة والعودة إلى تطريز ثوب الوجود.

الإلهة ميدوزا
يتكلم الأخرس.. يا سلام، حقا يتكلم الأخرس عندما يكتب، وهو في حالة الكتابة هذه يتكلم.  أما عن العلاقة بين القصة والإلهة ميدوزا فهي مبهمة، لكن كينيار يصرح بأن وجه ميدوزا (الثعابين حول وجهها، فمها المفتوح، ملامحها الجحيمية) يشبه وجه أحدنا وهو عاجز عن اللغة، يشبهني وأنا أكتب الآن، أو يشبهكم وأنتم تقرؤون، أو يشبه تلك الأم وهي تحترق في الذكرى. وجه ميدوزا هو الصراخ الإنساني في وجه الموت، وهو أيضا الذي يخيف "بريسيوس" فيجعله يصقل درعه ويتجنب النظر إلى عينيها قبل أن يقتلها... كي لا يصير حجرا.
لغة باسكال كينيار فريدة، وخاصة. فهو لا يبجل العرف اللغوي والموسيقى الإيقاعية للمفردات التي تتكرر في كل مكان، أحكم هنا على لغته المترجمة لا الأصلية التي كتب بها كتبه، وبلا شك سأبتعد قليلا عن الحقيقة.
يتجنب الكتاب العالميون التعبيرات غير المألوفة غالبا، فجمل مثل "الكلام بخرَس"، "الكلام ببكم"، "رصد الكلمة الناقصة"، تحتاج إلى وقت للتفكير فيها، ومعظم القراء لا يفضلون التفكير العميق في ما تحويه "الكلام ببكم" من توسع في التأمل. لذا ربما لا نجد الكثيرين من هواة القراءة له، بل لقد قرأت لبعضهم يعترض ويتهمه بالغموض. حقا هو غامض، ولكن ألا يكفي أن الكثيرين واضحون وملموسون؟!
لقد قرأت كتبا غامضة وتحتاج إلى تفكير عميق لكن غموضها كان تقصيرا لا عمقا، كتابات كينيار عميقة، وهذا لا يمكن أن يكون اعترافا معززا بدليل، بل هو شعور ألمسه لمسا، وهو ما يعينني على مواصلة القراءة.
الترجمة لباسكال كينيار مرهقة، وكذا القراءة له. سأحاول الآن أن أنهي تدوينتي بالاقتباس من "الاسم على طرف اللسان.


* "الاسم على طرف اللسان يذكرنا بأن اللغة ليست فعلا منعكسا في دواخلنا، وبأننا لسنا حيوانات تتحدث كما ترى".
* "وكنت أناديها موتِّي mutti. أصبتُ بالخرس. نجحت في الاعتزال في هذا الاسم الذي أعز من اسم أمي، والذي كان لسوء الحظ إيعازًا. لم يكن اسما على طرف لساني، ولكن كان اسما على طرف جسدي، وكان صمت جسدي هو الوحيد القادر على جعل الحرارة موجودة بالفعل".
* "لا أكتب عن رغبة، عن عادة، عن إرادة، عن مهنة. أنا أكتب كي أبقى على قيد الحياة".
* "التلذذ يتمنى النوم حيث يسقط، إنه يريد الليل، الذي هو دائما الليلة الأولى، والتي هي دائما الليلة الأخيرة".
* "في سنة 1899، كتب سيغموند فرويد فجأة في كتاب عن الحلم هذه الجملة التي تُسقط بشكل عنيف الفكرَ أرضا، والتي تملأ دفعة واحدة كل اللغة عارا: "الفكر ليس شيئا آخر غير بديل عن رغبة مهلوسة". من جهة، كل فكر من ناحية الأصل كاذب، ومن جهة ثانية، كل كلمة هي كذب".
* "شخصيا، أعترف أن ما أبحث عنه من خلال الكتابة هو العجز".

2 التعليقات:

لم اقرأ له قبلاً؛ شكراً لكتابتك عنه

أعجبني هذا السطر: "...فإن العجز اللغوي هو المحرك الأول لأحداث القصة"

أهلا صديقي هيثم،
فقط عندما تكون مستعدا للـ "بحلقة" تفضل بالقراءة له.

أقترح عليك قراءة القصة من ص: 15-47.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.