على ظهري حقيبةٌ كبيرةٌ جدًّا كنتُ قد ورثتُها من جدّي الذي أوصاني أن أموتَ في سبيلها ثم قال لي: "ستكونين شهيدة الحماقة"، بينما كان يجلسُ ويأكل البطيخ الأحمر ويتابعُ مقطعًا لنجوى فؤاد. عندما مرّ شريطٌ عاجلٌ قال بنزق: "اقرأيه". "انفجارُ عبوةٍ ناسفة في أحد المتاجر، الضحايا خمسة والفاعل مجهول". علّق باستهجان: "وهل يحتاجُ هذا الأمر إلى خبرٍ عاجل؟ لقد مات صديقي في الأمس القريب محترقًا ولم يعره أحدٌ انتباهه، ومات قطّي الأبيض متأثرًا بجراحه ولم يجد من يمجّدهُ. أليست هذه مأساة يا صغيرتي؟". كنتُ قد بلعتُ لساني حينها حتّى عجزتُ عن مجاراته، وتقيأتُ عقلي في الحقيبة حتى لم أجد وسيلةً لأستوعبَ فكرتهُ تمامًا، لكن قلبي كان يشعرُ بالأسى على الحزن أينما حلّ وكيفما كان شكله, مُمَجَّدًا كان أم منسيًّا، بسطًا أم معقّدًا. أعاد جدّي جلستهُ الهادئة وارتختْ أعصابهُ حتّى قال لي: "لا تقرأي لي الأخبار العاجلة حتى لو طلبتُ ذلك".
راح يحرّكُ رجليه كما يفعلُ طفلٌ صغيرٌ يركبُ أرجوحةً تفوقهُ في الحجم والضخامة، ويدندنُ موسيقى عذبة لم استطع تمييز فيما إذا كنتُ قد سمعتُها من قبل أم لا. الزّغبُ الأبيض على رأسه كان يكتسبُ وهجًا إضافيًّا من أشعة الشمس التي أحاطت به، وكان يتمثّلُ جدّتي كما أعتقد إذ كان بصره معلّقًا على أريكتها، ثمّ توقّف عن الدندنةِ وقال: "روحٌ مليئةٌ بالجمالِ قد عبَرتْ "!
_جدّي رجلٌ ضخمٌ جدًّا ويحبّ أن يقول للآخرين أنه كذلك، لكنه يوم وفاة جدتي راح يبكي بحرقة. ولم يكترث بتجفيف دموعه ولا إقامة أي اعتبار للرجال الذين كانوا يقفون مثل جداريّات سخيفة. قالت امرأة حمقاء أنه حزن لأن التي كانت تصنع له الحلويات قد ذهبت، وقالت أخرى أنه بكى لأنه لن يجد من تتحمّل نزقه كما كانت تفعل.
جدّي لم يبحث عن غيرها أصلًا، ولم يفكّر في الحلويات من بعدها. لأنه أدرك أن الفانيليا مضت أيضًا وأن هذا العالم صار مرتعًا للانتظار، لابتغاء الخلود لهما بطريقة أو بأخرى. وبهذا، خرج -هذا الرجل الجبل- مرة أخرى نحو الضوء، وضع قبّعته وارتدى ثوبه الرمادي وقال: "مرحبا"، ردّ عليه الجميع خوفًا من قسوة سلامه، وابتسمتُ مطوّلا في وجهه، وأنا ألحظ العصفور الصغير الذي قفز من عنقه واستحال بخارًا._
وبينما كنتُ أقول كل هذه الجملة المعترضة في بالي، أعاد جدّي جلسته اللا مبالية، توقف عن الغناء وقال: "ألا تسمعين؟ قلت لك اجلبي المزيد من البطيخ "!
0 التعليقات:
إرسال تعليق