صديقتي، قطعة السكّر التي ذابت أخيرًا.
هذه البقعة لا تضيءُ أبدًا. أشعرُ بالعطش وهناك كائناتٌ تتمشّى على جسدي. لا أعرف كيف أقول لك ما أودّ قوله، لكن يجبُ أن تدركي أن رحيلك لم يكن حدثًا عاديًا. لقد فجّر عندي البؤس والشكّ وهشاشة الحياة، وحين تهدّلت يدكِ فقدتُ القدرة على مصافحة العالم.
قبل يومين فكّرتُ في زيارتك. قطفتُ لك الورد من حديقة بيتنا. وردٌ عشوائيٌ جدًّا وملون. دخلتُ المقبرة وبحثتُ عنك طويلًا. أطول مما تظنين. ضعتُ بين الأشجار. وأخيرًا وجدتك تحت ظلال الزنزلخت.
وقفتُ محرجة تمامًا من انتصاب قامتي ولون بشرتي، وفمي، وملابسي. رحتُ أشدّ سترتي. أضغط بأصابعي على الحقيبة التفاحية. أسترعي انتباه العصافير حتّى تساعدني، وأحاول جاهدة استنبات مدىً يجمعنا. تنهدتُ بعدها لافظةً تعبي. جلستُ على حجرة عتيقة قرب رأسك على ما أظن. وزّعتُ الورد، رسمت به عصفورًا، وعدتُ إلى البحلقة من جديد. هناك شاهدةٌ بيضاء تختصر مجيئك وذهابك ببساطة. عروق من الريحان تركها حزينٌ قبلي. فركتُها بيدي، ولم أبكي. أنت تعرفين أنني بليدة، وقد أنشغل مثل الأطفال بطرح التساؤلات على كل شيء قائلة: "حقا؟ كيف حصل هذا؟". لكنّ طفولتي لم تدم طويلًا لأنني أذكر جيدًا كل تفاصيل اختفائك، وأعرف كما لا يعرف سواي أن هذه السنوات قليلة على شغفك بالرسم والنحت واختراع الفوضى. بسيّارة مفخخة إذًا؟ تبخرت كما تبخر الآخرون، لكنك حملت القليل من الأمل. حين أسعفوك إلى المشفى، قلتُ في نفسي: "هذه هي صديقتي القوية التي ستنتصر، ستقوم مجددا لنأكل الفوشار، ونصنع كرات الشوكولا، ونتابع فيلمًا مملا، ونقبل دعوات المعارض الفنية. ستقوم مجددا حتى نجتاز البحر ونخترع شكلًا للغيوم، ونبدّل أعيننا كل يوم". تغذيتُ على هذه الفكرة لأيام، وكنتُ أودّ أن تقومي حقا وتعطي الفكرة شكلًا. لكنك أغمضت قلبك أخيرًا، ونمت. دون أن يعرف أحدنا ما الذي كان يريد قوله. أغمضت قلبك آخذة معك الألوان، ورقعة الشطرنج، والمنزل الأزرق. وها أنا، أستوطن الجماد وأسمع صوت الحشرات وأنفض الحرّ عن جسدي. لا أبكي كما تعرفين، بل أغني من أجلك، إذ يمكن لأغنيتي أن تختصر الحكاية. أن تكون ناعمة مثل المشاوير العتيقة، وبطيئة مثل عصفور ثمل بالراحة والغناء. الأمر الذي يقولون أنه احتاج إلى تخطيط لا يعدو كونه ومضة من الرحيل والدمار والموت. حركة واحدة أرخيتِ فيها جدائلك فقصّها الكبار وباعوها. هذه الأغنية يمكنها أيضًا أن تنطق بالحزن الرقيق، والوداع الذي لم يتم، والصوت المبحوح أبدًا.
أنا مثلك يا صديقتي مركبّة من الفزع والفن وبعض السكاكر، لكن الفرق أنني لم أزل هنا -وهذا ليس شيئًا عظيمًا لو تعملمين- لكنني سوف أستغله حتى أحكي عنك. عن المنازل التي لم تُطلى، والأطفال الذين لم يكملوا "عروسة الزعتر".
في المرة القادمة سأجلب لك بعض الأصداف، والكثير من أحلام البحر بلقائك مجددا. فلترقدي في قلبي. في نافذته المفتوحة، في ثقبه الأسود، على رصيفه الرمادي المليء بالمنافي. في الغيمة التي نالها "الجبل البعيد"، في غصّة "اشتقنا ع المواعيد" وكلمة "ياريت" العقيمة.
3 التعليقات:
ليس نوع من التشدق أو ما شابه ولكن من عناوين التدوينات بدأت أكون إحساساً مسبقًا عن المحتوى. ظننت بأنه سيكون عن شيء سيء/سلبي ومن ضمن الاحتمالات: الموت، ولكن لم يخطر لي أن يكون عن وصف لزيارة مقبرة وبهذه الكيفية.
كمّ الذكريات بينهما + المشاريع المستقبلية المشتركة التي أجهضت؛ أمر محزن. الله لا يفجع أي أحد بفقد، أيًا كان كنه ذلك الفقد. آمين.
قكت بالبحث عن (اشتقنا ع المواعيد) واذتشفت أنها أغنية للرحابنة. أعرف مطلعها (ولحنها) فقط. كنت متوقعًا لبروز أغنية بنهاية التدوينة انسجامًا مع العنوان. لم أتوقع أن ذلك سيكون بشكل موارب بنوع ما.
عيد مبارك و.. سعيد على أي حال
* على أي حال = قصدت.. أي حال عاد به إلينا. يبقى عيدًا وأيامًا مباركة هتى بطل الحزن الشخصي / الجمعي على كوكبنا ومنطقتنا
أعتقد أن هذا ما يحدث عندما تقوم صديقة بزيارة قبر صديقتها المفضلة. سوف تفعل كل الأشياء التي تشاركتا فيها. ومن بينها الغناء والرسم والحديث الطويل.
لم أضع رابطا للأغنية. تركتها تغنّي بنفسها.
عيد سعيد طبعًا ما دمنا نحنفظ -رغم كل شيء- بالتفاصيل الصغيرة المبهجة.
( ولو إنها متأخرة).
نهارا طيبًا.
إرسال تعليق