ولّت المرأة وجهها نحو الجانب الآخر. بلعت ريقها ودمعها أيضًا، ثمّ عدّلت جلستها وابتسمت. قالت لي بينما يبرز همّ العالم من حلقها: "أنا بخير كثير. أنا حلوة وأنيقة. عندي ألوان وكتب، وأفكار وجوديّة عظيمة. لم أخسر أحدًا في الحرب اللعينة التي شهدتها، وهذا حكمٌ غير دقيق لأنني أشعر أحيانًا بأنني خسرتُ كل شيء، وفي أحيان أخرى تختلطُ عليّ المفاهيم فأتساءل عن حقيقة الحرب أولا. ما تعريفها؟ ما ملامحها؟ ما هي الشروط الواجب توفرها لنسمّي ما يحدث حربًا؟ أليست الدّنيا -كل الدنيا- في النهاية حربًا سيّئة وبشعة؟
اعتقلوني في الأسبوع الماضي ليوجّهوا لي أسئلة كثيرة. اسمي، بيتي، أصدقائي. أسئلة لا تخطر بالبال، وخيّل إليّ أنهم سيضعون أمامي ورقة مليئة بالمسائل المعقّدة التي من شأنها أن تستكشف كلّ تفاصيل حياتي مهما كانت محرجة وخاصة. خفتُ أن يعرف الرجل الذي يحدّق بي بجمود أن جوربي مثقوب من طرفه، وخفتُ أن يقول لي: "مثقوب؟ لأي جماعة ينتمي الثقب الذي في جوربك؟
حين خرجتُ بعد أن نلتُ كدمة على ذراعي بدا لي أنني أريكةٌ قديمةٌ جدًّا قد فضحتِ الشمس غبارها ولونها المبرِش. شعرتُ بالوحدة وبعزلة لم أبتغِها وتملكني شعور مناقض تمامًا وكأنني كنتُ عارية في سوق مزدحم يعدّ فيه الآخرون شامات رقبتي ويبصقون علي. للحظة، بدا السائق، وبائع الخضار، وأعقاب السجائر وحتّى السماء جوقة من المحققين. رحتُ أركض بسرعة لأتخلص مما علق بي. لأنفض كل الأوساخ، لكنّ هناك قذارةً ما تبقى عالقةً في روحك مهما حاولتِ إزالتها".
ارتشفتْ من القهوة الموضوعة على الطاولة. ابتعلت فمها لثوانٍ ثم ضحكت. كانت ضحكتها مشوبة بالألم الذي يتغذى حتّى على ابتسامات صاحبه. نظرت إليّ كأنها تبحث في وجهي عن شيء ما. النظرُ صار تحديقًا. التحديقُ صار حديثًا صامتًا. الحديثُ انفجر في النهاية حين قالت: "عيناكِ واسعتان مثل المرآة الخشبية الدافئة في غرفة جدّتي. بإمكانك أن تحاربي بهما البؤس كما تقول الأساطير المزعجة لكنّ هذا لن يدوم طويلًا إذ أن للجمال لعنة لا بدّ أن تنال صاحبها. حسنًا! هذا ليس أمرًا يمكن إثباته بالنقاش أو بالبحث العلمي لكنني لا أعرف نساء سعيدات بعينين واسعتين كعينيكِ". تشاركنا في الضحك العميق حتّى وضعتُ يدي على بطني، وتناولتُ حنجرتي في شهقة شديدةٍ ومتخرّشة. لا أعرف بالضبط لم انتابتني هذه القهقهة. ربّما لأنني ما حسبتُ أن تتنبّأ لي هذه المرأة التي تعتني بتفاصيل سترتها، وترتدي ساعة دقيقة جدّا بمستقبلي.
هدأت ثورتنا الصغيرة. ارتشفنا القهوة مجددا. في الحقيقة، شربنا ما تبقى منها مثلما يُشرَبُ قدحُ "العرق" الجبلي. دفعةً واحدة ومن دون تردد، ودون اقتراح نخبٍ ما. الجبليّون لا يقترحون أنخابهم، ولا يدقّون أقداحهم لأن هذا يضعف حماسهم، ويضيّع الفوضى، ويجعل من القدح حكرًا على أمنية واحدة بينما تكون وظيفته دعس العالم كلّه، وزجّه في القفص الصدريّ، وتحويله إلى غيمة.
قالت وهي تقلّب يديها: "هل عشت مثلي في وهم الأشياء العظيمة؟ وبنيتِ لنفسك التمثال القوي الذي توهّمت أن بإمكانك العيش على الأفكار المجردة فقط؟ وأن بإمكانك أن تختصري العالم حقّا دون حاجتك إلى أحد؟ أريد أن أعمل، أن أكتب مجلدًا ضخمًا عن حياتي الزاخرة بالإنجازات. أريد أن أُبعد كل الأشخاص الذين قد يحتلون رفوف قلبي، وأتهم كل الرجال الذين ينظرون إلى فستاني الأصفر بالتحرّش. خفتُ جدا أن أنظر إلى داخلي. عميقًا كما تعرفين! في تلك الزاوية التي قلّما أقضي فيها وقتًا أو أراعيها. ومنذ يومين، عندما كنتُ أداعب قطتي المتسخة، وأعبث برأسها. سرحتُ في المنظر الذي تكشفه النافذة. إنه مشهد كئيبٌ في كل الأحوال. عبارةٌ عن شارع أقرع، في نهايته شجرة قد تكومت تحتها أكياس القمامة على نحو لا يصدّق، تتراشقه المنازل وبعض الأطفال المشردين الذين لا يشتري منهم أحد. فكرتُ في طفولتي السحيقة، وفي التجارب المجنونة التي كان من الممكن أن أحياها مع الرجل الوحيد الذي كان مستعدا لوهبي قلبه. كان الأمر يبدو لي سخيفا جدا. أن يهبني أحدهم قلبه؟ لكنني الآن أعي جمال الأمر ونبله، وأفتقد كتفًا صادقة أضع عليها شعري. كيف تُطاق الحياة دون محبّة؟ حين سألت هذا السؤال أوجعتني الزاوية القصيّة، وشعرتُ بيتمٍ ما. لكنني بدل أن أرقص، أو أتصل بصديقتي، أو أصنع كرات الشوكولا مثلًا. بدل أن أقوم بأي شيء عادي ومبهج، أمسكتُ هاتفي ورحتُ أردّ على كل الذين لا يعرفونني تمامًا. الذين يقولون أنني عظيمة جدا وملهمة. لا يعرفون أنني إناء مكسور من طرفه. هذا لا يفقدني شكلي في نهاية الأمر، لكنه لا يجعلني كاملة في نفس الوقت ولا عظيمة على النحو الذي أرجوه بعد كل هذا العمر".
صمتَتْ. صار وقع الموسيقى المنبعثة من سيارة "الغاز" التي تمر بجانبنا أكثر وضوحًا. "إنها موسيقى سنة عن سنة؟" سألتني فقلت لها: "نعم، ستكون أسطوانة غاز كلاسيكية ومعقدة مثل فيروز"، وعدنا للضحك.
"هل نطلبُ المزيد من القهوة؟" أجابتني: "حلّ الليل وأنا أخشى الشوارع المظلمة والقهوة المتأخرة، وعليّ أن أعود".
تودعنا عند الباب. حدقت بي مجددا، بعيني، وهذه المرة عجزت عن القهقهة. قبلتُ بطاقة عليها رقم هاتفها الأنيق جدا الذي يحتوي على الكثير من الرقم خمسة. لوحت لي: "اتصلي"
لوحتُ لها: "سأفعل، وسوف تعرفين أن رقمي أكثر أناقة" غابت ضحكاتنا في المسافة التي تفصل بيننا وهذا أفضل بكثير من انفصال الأيادي وانقطاع السخرية في أي لقاء عادي آخر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق