13‏/03‏/2017

الشعر العربي: من الصولو إلى الجوقة


لعلكم قرأتم في كتب الأدب عن تميُّز الشعر العربي قديما بوحدة الوزن والقافية والموضوع أحيانا. كان الشعراء العرب مرهفي الآذان والأذهان فيما يتعلق بموسيقى الشعر. فأنتم تقرأون القصيدة من الشعر التي قد تزيد على مائة بيت ولا تشذ عن قالبها الموسيقي. جاء الخليل الفراهيدي لاحقا وحاول جمع الأوزان العربية الشعرية في قانون موحَّد لا يتجاوزه إلا شاذُّ الشعر وركيكه. كان الخليل كما يبدو مهووسا بالموسوعات وشخصا شموليا وبعيد النظر. لكنه كأي شمولي حاول فرض قوانين صارمة بقيت عبئا على الشعراء وما زالت إلى اليوم. يُقال أن الخليل حصر الموسيقى الشعرية العربية في 15 وزنا أسماها بحور الشعر، وهي تبدأ بالطويل وتنتهي بالمتقارِب في خمسِ دوائر عجيبة تشبه في تعقيدها وذكاء تصميمها تقاويم الوقت التي صنعها البشر الأوائل. لهذا السبب تميزت القصيدة العربية لقرونٍ بنمط واحد بارد هو وحدة الوزن والقافية. ومع اختلاط الحضارات وتوسع الثقافة العربية والانفتاح على آداب الأمم الأخرى، بدأت القصيدة تتحرر من قيد الوزن الواحد وتتنوع موسيقيا. فظهرت الموشحات والقصائد التي تتركب من أكثر من وزن شعري، وهذا أعطى الشعراء فسحة أكبر في التعبير عن مشاعرهم وقضاياهم بدون قيود. إحدى القصائد البسيطة التي تخرج على نمط الوزن الواحد هي قصيدة الأخوين رحباني (قصة الورد). القصيدة من البحر المُتدارَك الذي تجاهله الخليل لعدم وفرة نماذجه من الشعر الجاهلي ثم تدارَكه تلميذه الأخفش كما يُروى. لكن في منتصف القصيدة يموج بحر جديد وهو المُتقارِب، يطلُّ سريعا ثم يختفي ويترك فرصة للمتدارك ليستكمل مسيره. يتركب المتدارَك أساسا من تفعيلة (فاعلن) أي من سبب خفيف (فا) ووتد مجموع (علن). ويتركب المتقارِب من تفعيلة (فعولن) أي من وتد مجموع (فعو) وسبب خفيف (لن). ولو لاحظتم العلاقة بين البحرين ستجدون أن كل واحد منهما عكس الآخر. فلو مثلناهما بالأرقام سيكون المتدارك (2+3) والمتقارب (3+2). هذه العلاقة العكسية بين البحرين تؤدي دورها تماما في القصيدة. فتعدد البحور في قصيدة (قصة الورد) ليس الغرض منه استعراض المهارات الشعرية، بل تبديل الأدوار. يتميز وزن المتدارَك بالبطء خصوصا عندما تكون تفعيلاته سليمة (فاعلن). وقد يناسب تعبير السرعة والعَجلة عندما يصيبه زَحاف الخبن (حذف الحرف الثاني الساكن) فتتحول تفعيلاته إلى شكل آخر (فعِلُن) وقد يسميه بعضهم (الخبب) تشبيها بعدوِ الفرس (تت تك، تت تك...). لكن الوزن الذي بُنيَت عليه القصيدة هو الوزن السليم وهو الذي يفيد تعبير البطء ويناسب مشاعر الحزن ويشبه عزفا منفردا على آلة الكمان أو الأكورديون. أما وزن المتقارب فيتميز بالسرعة بعكس المتدارك. ومن ثم فهو يصلح أكثر للمشاهد السريعة في مسرحية أو المشاعر المضطربة ويشبه عزفا جماعيا على أكثر من آلة. تبدأ القصيدة باندفاعٍ مثقل بالحنين إلى الماضي والذكرى: (ذاكرٌ يا تُرى، سورَنا الأخضرَ)، وتسير بخُطًى متثاقلة كأنها مُرغمة على السير إرغاما. ثم تنفرط الذكريات واحدة تلو الأخرى في جو شديد الكآبة فتكادون تسمعون زقزقة (الطيور) المتعَبة العائدة إلى أوطانها المكللة بـ (لحن الزهور). ويلوح مظهر (الشعر الأشقر) و(الشريط) الذي يعقده و(شال الحرير) الذي يرتاح على كتفي فتاة سعيدة بحبها الوادع وهداياها البسيطة. كل هذا يؤديه عازف ناي واحد يزن آلته على تفعيلة وحدة هي (فاعلن). ثم فجأة تحتدم الذكريات ويستعر الألم الذي يمارس صوت فيروز عليه كبتًا رهيبا. يظهر وزن المتقارب لوهلة ليطرح موضوعا آخر ويمثل نوعا آخر من المشاعر: الغيرة والغضب اللذين تحملهما كلمة (الصبايا). فبالنسبة للفتاة الحزينة ذات الشعر الأشقر، لم يعد السور (سورهم الأخضر) بل صار مثقلا بحديث الفتيات الأخريات، لهذا السبب ترفع فيروز صوتها قليلا في اعتراض. استعمل الأخوان رحباني جملة (أثقل روضي الثَّمَرْ) للتعبير عن الوحدة والضياع. فالروض المثمر كان مكانا رائعا عندما كانت تلك الفتاة تقتسم مع حبيبها ثمار الحب. أما وقد هجرها ونأى عنها فقد تحول الثمر إلى عبء لا يُحتمل وصار يثير المتطفلين من كل مكان. هكذا يحتد الموقف وتنطلق جوقة كاملة بآلاتها المختلفة لتجسده أدق تجسيد. ومن هنا، تأتي ضرورة استعمال وزن آخر وإقحامه في جو القصيدة لأن لون العاطفة المراد رسمه لا يتوفر في الوزن السائد وهو المتدارَك. عموما، ظاهرة تعدد الأوزان ليست نادرة في الشعر المعاصر، وبالأخص في الشعر الرحباني، هذا لأنه شعر غنائي في الأساس ومسرحي غالبا، وسيكون مملا وباردا إذا تقيد بوزن واحد حتى النهاية. الشعر لغة رفيعة ومميزة وهو يختلف عن التعبير البسيط عن المشاعر. فالشاعر يعلن عن مشاعره ويغنيها في نفس الوقت. والشاعر كالرسام، يفضل أحيانا أن يلون لوحته بلون واحد ويختار أحيانا أن يلونها بكل ما لديه من ألوان. فينبغي على الشعراء في هذا الوقت من الزمان أن يرتاحوا وهم يكتبون قصائدهم ويتخلصوا من عُقدة الخليل. ففي عصرنا الحالي ثمة مشاعر لم يكن الناس في عصر الخليل يعرفونها. وإذا كان كل هم الشاعر الأول هو أن يصف مسرح الأطلال بنفسٍ طويل، فإن شاعر هذا العصر لديه ما هو أعمق من الأطلال وهو مصاب بقصر النفس في معظم الأحيان. فلتخوضوا في بحور الشعر وبحوركم فكلها من ملح اللغة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.