05‏/02‏/2016

أنا مكتئب إذن أنا جيد في حل المشاكل: الاكتئاب تطوريا



بائع التفاح، للفنانة الأميريكية Barbara Stevenson
ببساطة منطق التطوُّر، كل عضو وكل شعور موجود في هذه اللحظة يجب أن يكون له سبب وجود في الماضي وضرورة في الحاضر أو تهديد بالاختفاء في المستقبل. عدد الأصابع، المشي على رجلين، موقع العينين.. أو الخوف، الحب، القلق. كل هذه الأشياء كانت لها مهمة في تيسير التكيُّف مع متغيرات الحياة النفسية والمادية، ولم تزل.
ماذا عن الأشياء التي لا يبدو أن لها ضرورة في أي زمن من الأزمان؟ 
الاكتئاب مثلا، ما هي المشكلة التطورية التي تطور الاكتئاب لحلها؟ 
وعموما، لماذا نصاب بالاكتئاب الذي هو مجموعة من "المزاج الكئيب، التفكير السلبي، عدم القدرة على الاستمتاع، الخمول"؟ 
هل يمكن أن تكون هذه الأعراض مفيدة بطريقة ما؟ 
مفارقة الاكتئاب هذه يمكن أن تُحل إذا افترضنا أن الاكتئاب يأتي نتيجة التقدم في السن. نحن كلما كبرنا قلت كفاءة أجهزتنا وأعضائنا، فتكثر الأمراض، والاكتئاب واحد منها. لكن إذا علمنا أن الناس أكثر عرضة للاكتئاب في سن المراهقة والبلوغ، لن يعود هذا التفسير مرضيا
قد نفترض أن الاكتئاب -مثل السمنة والتهاب الزائدة الدودية- واحد من أمراض التحضُّر، لكن هذا لن يكون مرضيا أيضا إذا كانت الدراسات تشير إلى وجود الاكتئاب في القبائل البدائية مثل الآشي Aché في الباراغواي وقبيلة الكنغ Kung في جنوب أفريقيا. فهذه قبائل بدائية لا تأكل ما نأكل ولا تعيش كما نعيش غالبا.
أحد الافتراضات التي قد تحل هذه المفارقة هي أن الاكتئاب في ذاته تكيُّف. لكن تكيف لحل أية مشكلة؟ هل مشاكل وأضرار الاكتئاب يمكن أن تقارن بفائدة أو فائدتين من فوائده التكيفية؟
دراسة بعنوان "الوجه المضيء للكآبة: الاكتئاب كتكيُّف لحل المشاكل المعقدة" نُشرت في 2009 تفترض كما يقول العنوان أن الاكتئاب هو تكيف تطوَّر -برغم تكاليفه الباهضة- لحل بعض المشكلات.
كيف يكون الاكتئاب تكيُّفا؟
السبب الأول لهذا الافتراض يأتي من الأبحاث التي أجريت على أحد جزيئات الدماغ، وهوالمستقبِل 5HT1A. يرتبط هذا المستقبِل بالسيروتونين Serotonin (ناقل عصبي أساسي في الاكتئاب وهدف للكثير من مضادات الاكتئاب، مثل أدوية SSRI). القوارض التي لا تملك هذا المستقبِل كانت أقل اكتئابا في مواجهة التوتر. عندما قام العلماء بمقارنة 5HT1A في القوارض وجدوه مشابها لجزيء الإنسان بنسبة 99%. وهذا قاد الباحثين إلى افتراض أن الانتخاب الطبيعي أبقى على هذا المستقبل -برغم ارتباطه بالاكتئاب- لما له من أهمية.
ما هي هذه المشكلات التي تطور الاكتئاب لحلها؟
يقول الباحثون في هذه الدراسة: "المكتئبون غالبا يفكرون بعمق في مشاكلهم، هذه الأفكار تسمى تأمُّلات ruminations، وهي أفكار مُلحَّة لا يستطيع المصابون بالاكتئاب التفكير في سواها. العديد من الدراسات وجدت أن هذا النوع من التفكير غالبا يكون تحليليا بشدة. المكتئبون يسهبون في التفكير في مشاكلهم، يحللونها إلى مشاكل أصغر..." إذن يبدو أننا أمام فائدة فكرية للاكتئاب: سنستطيع حل المشكلات المعقدة عندما نكون مكتئبين، لأن الاكتئاب يجعلنا نفكر بشكل تحليلي!
عندما نفكر في مسألة رياضية مثلا، شعورنا بالكآبة سيكون استجابة مفيدة تساعدنا على حلها. من المثير أن بعض الدراسات وجدت أن الناس الذين يكونون أكثر اكتئابا عندما يعملون على حل مسألة معقدة في اختبار ذكاء يحصلون على نتائج أعلى.
يحتاج التحليل الكثير من التفكير المتواصل، والاكتئاب يوفر هذه البيئة لنا لنحل مشاكلنا. المكتئب قد لا يستمتع ببعض النشاطات التي تخرجه من عزلته كالأكل والجنس (بسبب نقص السيروتونين)، فهي تعني أن يخرج من تفكيره العميق إلى موضوعات ومشاكل أخرى.
دعونا نفهم هذا بلغة الدماغ...
لاحظ منطقة VLPFC الملونة بالأخضر
لئلا تنقطع عملية التفكير، هناك منطقة من الدماغ يُطلَق عليها VLPFC يجب أن تواصل إطلاق الإشارات العصبية. لكن هذه العملية تتطلب طاقة عالية جدا. هذا بالإضافة إلى أن مواصلة التفكير قد تجعل الخلايا العصبية تنهار. تذكرُ دراسات على الفئران أن 5HT1A  (الجزيء الكئيب!) يغذي الخلايا العصبية بالطاقة ويحفظها من الانهيار.
لهذا السبب ترى هذه الدراسة أن الاكتئاب تكيُّف بامتياز.
لكن، إذا كانت هذه التأملات هي أحد أسباب وجود الاكتئاب، فهل إذا أعطينا جماعة من المكتئبين مهمة فكرية (الكتابة عن أنفسهم، مثلا) سيتحسنون؟ في الواقع، العديد من الدراسات تؤيد هذا.
السبب الثاني يأتي من نتائج الدراسات التي وجدت أن الناس يحلون مشكلاتهم الاجتماعية عندما يكونون في مزاج كئيب. عندما نواجه مثل هذه المشكلات (اكتشاف خيانة شريك، الفصل من العمل، الإقصاء من المجتمع) نصير كئيبين. قد نظن أن هذا الاكتئاب نتيجة معقولة لهذه المشكلات. لكنه في الحقيقة وسيلة لحلها. مشكلات من هذا النوع تبدو جديرة بأن يحافظ الانتخاب الطبيعي على بقاء الاكتئاب لمواجهتها.
 أخيرا، الاكتئاب واحد من أكثر الأمراض النفسية شيوعا وتدميرا لقيمة الحياة. 350 مليون إنسان حول العالم مصابون بالاكتئاب، منهم مليون ينتحرون سنويا أو 3000 ينتحرون يوميا. وهذه الافتراضات لا تعني أن مشكلة الاكتئاب لم تعد مهمة طالما تساعدنا على حل مشكلاتنا. لكنها تحاول -ولا أكثر من المحاولة- البحث عن جذور الاكتئاب في حياة الإنسان. على الأقل هذا يمنحنا شيئا من الرضى عندما نعتزل الناس ونتفكر في مشكلاتنا ثم نحللها. ويعلمنا ألا نستسلم للتفكير السلبي الحائر الذي يقود إلى المزيد من السلبية ثم المزيد من الشقاء (WHO, 2012).  

* هذه التدوينة  تلخيص لمقالة كتبها ناشرو الدراسة. هنا الرابط

4 التعليقات:

أنا مكتئب إذن أنا لا أدرك كنه ومغزى الحياة؟

سؤال لا أدعي أن إجابته سهلة (أو ممكنة). ابتعدت عن التدوينة وفحواها، أدرك ذلك ولكن "جذور" الاكتئاب ألا تعود ،وبنسق صعب التغاضي عنه، لهذا المفهوم؟ أليس واحدًا من الجذور على الأقل؟

طاب مساؤك هيثم، بصراحة لم أفهم السؤال جيدا. لكن يجب أن أوضح أن الاكتئاب لا يعني فقد القدرة على إدراك كنه أو مغزى الحياة، إنما يجعلنا نفقد التمتع ببعض لحظات الحياة، أو إدراك بعض مثيراتها وجمالياتها. لقد كانت الدراسة تتحدث عن الاكتئاب بأنواعه، ولم تتكلم عن الأنماط الأشد حدة وسوءا.

هناك أمر لم يتضح، هل شعور الاكتئاب يسبب تلك الحالة التأملية التحليلية؟ أم الحالة التأملية تسبب ذلك الشعور؟ أم أنهما وجهان لعملة واحدة؟

أهلا بك أحمد
عندما يشعر الشخص بالكآبة يلجأ إلى العُزلة وتجنب النشاطات الاجتماعية (الأكل، الجنس...). رأى الباحثون في هذه الدراسة أن هذا الميل إلى الوحدة يساعد على تدبُّر المشكلات والبحث الطويل المُركَّز عن حلول مناسبة. لذا فالشعور بالكآبة هو مقدمة الحالة التأملية، لا العكس.

يوما سعيدا لك ،

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.