مرتان في اليوم وأحيانا أكثر، أقطع ذلك الطريق الطويل الممتدّ كأنّ آخره العالم، وأحيانًا في -لحظات التّعب- يبدو بلا آخر. يهيّئ له "حزيران" في هذه الأيام تيّارات مليئة بالحرارة، وتلوّحه الشمس من كل الجوانب. لا مظلّة فيه ولا ظلا للاحتماء. فقط طريق ضيّق بعض الشيء على جانبيه رصيفان رماديان يحملان على كتفيهما عمارات ومنازل مهجورة. كان "محمّد" الصبي الذي اعتدتُ مقابلته كل يوم، يتسلّق جدارًا متوسّط العلوّ ليجلس على حافّته. في الأسفل كانت تقف "لارا" الفتاة التي ترافقه دومًا. خُيّل إلي أنه مشهد كلاسيكيّ جدًا من ذلك النوع الذي يستعرض فيه البطل مهارة معيّنة حتّى تصفق له الأنثى ويصير قلبها أشدّ احمرارًا. ابتسمتُ بهدوء وأنا أنظر إلى محمّد المزهوّ بنفسه كأنما وصل أعلى قمّة في العالم.
وأنا أمشّط الإسفلت الحارّ بقدميّ أحببتُ خطواتي وقدّستُها. وربما اكتسبتُ حبّ الرقص لكثرة ما مشيت في حياتي، واكتشفتُ كم من الممكن أن نحوّل أقدامنا إلى أوتار نابضة وخيوطا من الألوان، علّنا بذلك نبطئ من عدْوِ الخراب السريع، أو نجتذبه إلينا بحركة أو دوران مجنون. وفي لحظات كثيرة -في الصباح تحديدًا- عندما يكون الطريق خاليًا كنتُ أتفاعل مع الموسيقى المنبعثة من سماعات أذنيّ. أكثر من يعرف أسرار هذه اللحظات الخاصة هي الموسيقى الهنديّة التي كانت تستنبتُ لي جناحين وتجعل نبوءة صديقي -صاحب الشعر الخفيف الجميل والسترة المقدّسة- حقيقة إذ كان يقول دومًا: "أنت عصفورة، عصفورة قلبي".
على ذات الطريق أيضًا، شهدتُ المآسي. آخرها كان ذلك الحريق الهائل الذي شبّ في الدكان الوحيد الموجود فيه. كان دكانًا صغيرًا مليئًا بأكياس البطاطا وعلب البسكويت والسكاكر والفحم و "البينزين". ملاذ الأطفال الصغار الذين يقيمون في المنازل القريبة منه، وفي أحيان كثيرة كان ملاذ طفولتي أيضًا، عندما كنتُ أشتهي كأس الذرة المسلوقة مجيبة "بنعم" على سؤال الرجل الذي كان يقول: "ذرة بالزّبدة والملح؟". فاردةً يدي ومستعدّة للمتعة الكبرى.
لا زلتُ أذكر الصراخ الذي كان ينبعث في ذلك اليوم حادًّا وموجعًا. فكرتُ في البداية -بسبب الأوضاع السيئة عموما- أن هناك انفجار أو اعتقال أو مشكلة قائمة على اختلاف طائفي أو حتّى فكري. وكل هذه كانت أحداثًا مؤلمو طبعًا، لكن الصراخ حينها كان بسبب النار التي اندلعت في جسد طفل صغير علق داخل الدكان وتكوم على نفسه غير قادر على النهوض. رأيت الذي كان يبيعني البهجة خارجًا هو الآخر بكمية بائسة من الأذى. كان قد نجح في إنقاذ طفلين وعجز عن أنقاذ الثالث. حاولنا مساعدته لكن النار كانت جائعة جدّا بحيث ابتعلت كل شيء. لم تبقَ أي علامة على أنّ الألوان مرت من هنا يومًا ما، أو أن هذه البقعة الصغيرة -التي بدت سوداء على نحو لا يصدق- كانت نافذة للحياة والضحك. تلاشى كل شيء في لحظة واحدة. وكانت أم الطفل تبكي على الرصيف بل تنوح. تنوح معها الأحجار وأبواب المنازل الحديدية والماء الضعيف والسوائل السوداء التي كانت تجري آخذةً معها آخر ضحكة له وآخر سؤال. حتّى الآن، لم يزل المكان خرابًا، ولا يبدو أنّ أحدًا -بمن فيهم أنا- سوف يتصالح مع هذا الخراب أو ينسى تفاصيله بهذه السهولة. فالدكان لم يكن مجرّد مكان عادي. كان يمثّل شيئًا أعمق لكلّ الذين يعبرون الطريق كجزءٍ من حياتهم وشقائهم.
ذلك المنزل الأخضر على ضفة الطريق اليمنى يبدو أن بابه قد طلي للتو. كان علامة تغير لافتة وسط تكرار المشهد كل يوم. توضعت أمامه سيارة بلاتينية نظيفة جدا يبدو أنها غُسلت للتو أيضًا. لم يعد المنزل مهجورًا بعد الآن. صار على حافة جداره أصيص زهر وردديّ قاني -وهذا من ألواني المفضلة- يجاوره أصيص آخر تنام فيه عروق خضراء وتتشقق التربة البنية الرطبة دالة على عبور خيوط الماء فيها. فكرتْ "يال السعادة" وأنا ألتقط بعيني صورة سريعة لهذه الحياة الجديدة. ابتسمتُ بعمق شديد، ثم رددتُ تحية محمّد الذي اعتاد بعد العشرة التي لا بأس بها أن يناديني من الطرف الآخر "نوووور" مبتسمًا وفخورًا بصوته، غير مبالٍ بملابسه القديمة وحذائه الذي هرسته الخطوات ربّما. إذ كان يبدو جقيقيًّا جدا ومليئًا بالحياة، مستعدا أكثر من أي رجل ناضج وكبير أن يغني ويقول ل "لارا": "سوف أستمر في التسلّق من أجلك. هذا ليس شيئًا مؤقّتًا".
على الهامش: للطريق بقية
للطريق تفاصيل أخرى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق