19‏/06‏/2016

لغز الانتحار التطوري: متى قد تقتل نفسك؟





ليس هناك شيء أسوأ في الوجود من القتل، وليس هناك أفظع ولا أبشع من أن يقتل الإنسان نفسه. قد يقول البعض متحمسا: كيف لم يمنع الانتخاب الطبيعي الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية التي تدفع بالناس إلى الانتحار؟ كيف أؤمن بأن غاية التطور هي البقاء والتكاثر إذا كان مليون شخص حول العالم يموتون منتحرين كل سنة، أو إذا كان هناك شخص ينتحر كل أربعين ثانية؟ [1] .
لكن لا يجب أن نصوغ سؤالنا بهذه الطريقة قبل أن نعرف ما هي الفائدة التطورية من الانتحار؟ 

دعونا في البداية نعرف الأسباب [2] التي قد تجعل الإنسان يقتل نفسه. 
يزداد خطر الانتحار مع التقدم في العمر: 
الرجال الأكبر سنا معرضون لخطر أكبر. لكن ثمة استثناء، في سبعينات القرن الماضي (1970s) زاد معدل الانتحار بين الشباب، وخاصة الشباب الذكور، في البلدان ذات الدخل العالي. 

هناك أسباب بعيدة للانتحار (أقل ارتباطا)، مثل: 
- الحِمْل الوراثي Genetic loading (الحِمْل الجيني هو انخفاض في متوسِّط لياقة مجموعة من الناس بالنسبة إلى مجموعة مكونة من أشخاص مثاليين جينيا أو هو الفُرصة النسبية لموتِ أحد الأفراد في المجتمع قبل بلوغ سن التكاثر بسبب الجينات الضارة التي يحملها [3,4]). 
- نوع الشخصية (الاندفاعية، العدائية). 
- خلل نمو الجنين وظروف الولادة. 
- الأحداث المؤلمة المبكرة.
- الاضطرابات العصبية البيولوجية.

وهناك أسباب قريبة للانتحار (أكثر ارتباطا) مثل: 
- الاضطرابات والأزمات النفسية. 
الأمراض الجسدية. 
- وفْرة وسائل الانتحار. 
- مشاهدة نماذج الانتحار (عبر وسائل التواصل، مثلا).

سنستعرض في هذه التدوينة أهم الفرضيات التطورية التي ترى أن الانتحار تكيُّف بطريقة ما. ولكن قبل البدء، علينا أن نفهم "قاعدة هاملتون" جيدا. 
إذا أردنا الإجابة على سؤال: ما هي الفائدة التطورية للانتحار؟ فنحن في مأزق ما، وربما لن نملك إلا أن نزعم أن الانتحار تكيُّف. وبما أن المُنتحِر ينهي حياته، فلا بد أن يكون بهذا الفعل يمنح شخصا آخر أو مجموعة أشخاص آخرين بعض المنفعة، هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها فهم الانتحار بوصفِهِ تكيُّفا. وسنمر بقاعدة هاملتون لأنه هو عالم الأحياء التطوري الذي أثار القرن العشرين بتفسيره لسلوك الغيرية. 

رأى هاملتون William Donald "Bill" Hamilton في نظريته "اللياقة المتضمنة Inclusive fitness" أن سلوك الغيرية altruistic behavior بين الأشخاص الذين يتشاركون نسبة معيَّنة من الجينات سيسمح لهذه الجينات بأن تُمرَّر عبر الأجيال [5]. 
وقدَّم هاملتون حالة خاصة من اللياقة المتضمنة تُدعى "انتخاب الأقارب Kin selection" ومفهوم هذه النظرية هو أن الانتخاب الطبيعي سيفضِّل الجين المسؤول عن السلوك الغيري عندما تكون منفعة الأقارب الجينيين أكبر من كُلفة الشخص الغيري [2]. أي، بلغة الرياضيات، سيحدث سلوك الغيرية إذا كانت 


r × b > c 

حيث: r"" هي درجة القرابة relatedness degree الجينية، ""b هي المنفعة benefit التكاثرية لقريبٍ جيني، "c" هي الكُلفة cost التكاثرية على الشخص الغيري [6]. 

والآن من حقنا أن نسأل: ما هي المنفعة التي سيتلقاها أقاربنا البيولوجيون إذا انتحرنا؟ هذا إذا غضضنا النظر عن مأساتهم وحزنهم وتفشِّي سوء سمعتهم في المجتمع. 

سألخص الآن دراسة [2] حديثة (2013) نُشرت في المجلة العالمية للأبحاث البيئية والصحة العامة بعنوان "لغز الانتحار التطوُّري The Evolutionary Puzzle of Suicide". 

1- فرضية الانتحار الغيري The Altruistic Suicide Hypothesis: 
استعمل بروفيسور علم النفس والأعصاب والسلوك De Catanzaro نظرية "اللياقة المتضمنة" لتفسير لغز الانتحار تطوريا. اعتقد دي كاتانزارو أن الشخص سيُقدِم على الانتحار عندما تكون احتمالية نجاحِه التكاثري غير مشجعة، وعندما يدرك في نفس الوقت أن استمرار وجوده سيقلل اللياقة المتضمنة بتعارُضِهِ مع النجاح التكاثري لأقاربه الجينيين [7].

وُجِد سلوك تدمير النفس الغيري (الانتحار) في الكثير من الكائنات، من الكائنات وحيدة الخلية والطفيليات إلى الحشرات الاجتماعية social insects، ووجوده بين البشر مُختلفٌ فيه. تطور تدمير النفس في عدد من الحشرات الاجتماعية كاستجابة  دفاعية ضد الأعداء لأن له عواقب نافعة للياقة أفراد المستعمرة الناجحين تكاثريا (أي كأن الحشرة تعرض نفسها للخطر وهي تدرك أن الحشرات الناجحة تكاثريا في المستعمرة ستستمر في التكاثر، ومن ثم في نشر جيناتها). وتعرِّض الحشرات حياتها للخطر في حالات مختلفة: (1) حالة الدفاع اللحظي؛ عند وجود عدوٍّ ما. (2) حالة الدفاع الانتحاري الوقائي: أن يكون الموت هو نتيجة إصلاح أو إخفاء الوكْر (بيت الحشرات) لمجرد الوقاية قبل هجوم العدو. (3) تغادر الحشرات المريضة والمصابة بالعدوى الوكْرَ لئلا تُعدي الحشرات الأخرى، ومن ثم تتعرض لخطر الموت. 

ماذا عن البشر؟ وجدت الدراسات أن الفرد يكون ذا قيمة سلبية إذا كان عبئا على أقاربه (لسبب مرضي أو أسباب أخرى) أو كان ذا قدرة تكاثرية منخفضة. وارتبط الشعور بالعزلة والعبء على العائلة بالتفكير في الانتحار. بل إن بعض الأشخاص رأوا أن انتحارهم تضحية لمساعدة أقاربهم. وفي الماضي، كان شعب الإسكيمو يعُدُّ الانتحار سلوكا غيريا (تضحية لمصلحة شخص أو مجموعة أشخاص). البالغون الأكبر أو الأشد مرضا سيقتلون أنفسهم أو يُقْتَلون بطلبهم في أوقات المجاعة. 

باختصار، ترى هذه الفرضية أن الانتحار سلوكٌ تكيُّفي في حالات خاصة مثل "الشيخوخة، الأمراض النفسية، الأمراض الجسدية - خصوصا المزمنة منها، المثلية الجنسية". 

لكن إذا كان العبء على الأقارب تفسيرا معقولا للانتحار في كبار السن فإن من الصعب القبول بأن انتحار الشباب ذوي الصحة الجيدة سيحسِّن من لياقة الأقارب. وبدلا من هذا، من المحتمل أن يكون الانتحار في هذه الحالة (الشباب ذوي الصحة الجيدة) منتجا ثانويا غير تكيُّفي؛ أي ليس سلوكا أساسيا نتج من عملية تطورية مباشرة لأداء دور تكيفي.

2- فرضية المساومة The Bargaining Hypothesis:
دعنا نفترض أنك تعيش في منزل بين عشرة أفراد وتعاني باستمرار من إهمال والديك وصراعاتهم معك. في أسوأ الحالات قد تمثِّل مسرحية انتحار مضمونة النتائج لكنها غير قاتلة! 
ترى هذه الفرضية أن السلوكات الانتحارية قد تكون صرخات نجدة أو إشارة صادقة إلى الاحتياج يمارسها الأشخاص (المراهقون، مثلا) الذين وقعوا في مشاكل مع جماعاتهم الاجتماعية (العائلة، المجتمع...). 
في هذه الحالة ستكون محاولة الانتحار مغامرة؛ فقد تنجو وتحظى بما كنت تريده، أو قد تخسر حياتك. ومن وجهة نظر تطورية، ستتطور هذه الاستراتيجية عندما تكون فوائد الجينات المسؤولة عن "استراتيجية الإشعار" في المتوسط تفوق تكاليفها. ومن المهم في هذه الفرضية أن تكون معظم محاولات الانتحار غير قاتلة. 

3- فرضية التلاعب الطُّفيْلي The Parasite Manipulation Hypothesis: 
من المعروف أن الكائنات الطفيلية تستطيع التلاعب بسلوك المُضيف (الكائن الذي تعيش فيه الطفيليات). هذا التلاعب تكيُّف يعود على الطفيلي بالمنفعة، فهو يسهِّل له الانتقال من مُضيف إلى آخر. هناك طفيليات تعيش في أكثر من مُضيف، فهي تنتقل إلى مُضيف وسَطي (مؤقت) وتتغذى فيه، ثم تحاول الانتقال إلى مضيف نهائي لتستكمل دورة حياتها. 

من أشهر الأمثلة على هذا النوع من التلاعُب التكيُّفي هو ما يفعله طفيل توكسوبلازما غوندياي Toxoplasma gondii. يستطيع هذا الطفيل أن يعيش في الثدييات كمُضيف وسَطي له، لكن مضيفه النهائي هو السنُّوريات (كالقطط والأسود...)؛ لأنها الوحيدة التي تُخرج بُويْضات الطفيل مع فضلاتها. عندما يُصاب حيوان ثديي آخر (الفأر، مثلا) بعدوى توكسوبلازما غوندياي سعيش الطفيل في جهازه العصبي ويقوم بالتلاعب بسلوكه (يجعل الفئران أقل خوفا من القطط وأشد انجذابا لها) حتى يتمكن من الانتقال إلى مُضيفه النهائي وإكمال دورة حياته (يأكل القط الفأر الذي تعيش فيه هذه الطفيليات فتنتقل الطفيليات إلى القطط وتنضج). 

البشر أيضا يُصابون بعدوى توكسوبلازما غوندياي، بل إن بعض الدراسات ربطت بين العدوى الكامنة (ليست لها أعراض سريرية) والسلوكات الانتحارية في البشر. وإضافة إلى هذا، كانت السنُّوريات المفترسات الأولى للبشر في القرن العشرين، ومن المرجح أن هذه السنوريات الحديثة (بالإضافة إلى تلك التي عاشت في بيئات الأسلاف) كانت مفترسات خطرة للإنسان البدائي. لكن فرضية التلاعب الطفيلي (أن تتلاعب الطفيليات بالبشر لتستطيع الانتقال إلى مضيفها النهائي) لم تزل مُحاطة بالكثير من الجدل. 
ومن المُلفت في هذه الفرضية أن السلوك الانتحاري لا يعود بالمنفعة إلى المُنتحِر (الإنسان، مثلا) بل إلى الطفيلي. 

يستنتج الباحثون أن "خلفيتنا البيئية والثقافية قد تطورت جدا. ازداد تعاون الأفراد وقل اعتمادهم على الأقارب بخلاف ما كان يحدث في الماضي. نحن نعتقد أن الصلاح الاجتماعي المتطور في العديد من البلدان قد بدَّل قيمة الانتحار التكيُّفية، وصار يمكن فهم الانتحار بوصفه "غير مُلائِم" لبيئتنا الحديثة. ولأن بيئتنا تغيرت عما كانت عليه في زمن الأسلاف فلا توجد قيمة تكيفية للانتحار" – مترجم بتصرف. 

ملاحظات شخصية: 
- هذه الفرضيات التي قدمت لها في التدوينة لا تبرر الانتحار أو تشجع عليه، بل تحاول تفسير هذا السلوك الذي يبدو متعارضا مع المنهج التطوري الذي يعطي الحياة والتكاثر الأولوية على أي شيء آخر. 
- من الممكن تقليل نسبة الانتحار عالميا بمضاعفة الاهتمام بالفئات الأكثر عرضة للانتحار، ككبار السن والمرضى النفسيين وأصحاب الأمراض الجسدية المزمنة والمتشردين... ومضاعفة التوعية بالطرق المثلى لتحسين لياقة الأقارب، وهي: رعاية صغار الأقارب، والمساهمة في تحمل بعض الأعباء عنهم... إلخ. 




المراجع: 
[1] http://www.suicide.org/international-suicide-statistics.html
[2] http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3881146/
[3] http://www.els.net/WileyCDA/ElsArticle/refId-a0001787.html
[4] https://www.blackwellpublishing.com/ridley/a-z/Genetic_load.asp
[5] http://global.britannica.com/science/inclusive-fitness
[6] http://www.genetics.org/content/176/3/1375
[7] http://blogs.scientificamerican.com/bering-in-mind/is-killing-yourself-adaptive-that-depends-an-evolutionary-theory-about-suicide/

3 التعليقات:

قراءة صعبة يا صديقي، صعبة!
لا أقدر على عدم الاعتراض (كقارئ ليس إلا) على تفسير السلوك الإنساني (؟) هذا بمسبّب جينيّ.
البدء بنقطة أن الانتحار مرده (ولو بارتباط ثانوي) بجينات محددة لصفات يبدو كنمط من ال
self fulfilling prophecy
أظن أي سلوك نقوم به، مهما كان، له أثر يمكن تتبعه لوجود صفات نقدر أن نصفها بأنها
enabler/s
لتلك السلوكيات

الشخصية العدائية (كمثال) = = = نعم قد تؤدي لزيادة احتمالات قيام شخص بالانتحار ولكن هل (ترقى) لتصير سببًا؟ لا أدري ولكن أجد معضلة (مرة أخرى، كقارئ لا أكثر) في العلاقة السببية والفرضية الاستباقية (نوعًا ما) هنا

**** يتحتم أن أقرأ بعضًا من المراجع التي أوردت ولكن متأكد أنها ستكون قراءة صعبة إن لم تك أصعب؛محتوى + تقبلًّا!

عملية التطور لا تتميز بأي طيبة قلب أو أخلاق، فلا تعجب أن يقود الانتخاب الطبيعي (آلية الحياة والتكاثر) الأشخاص غير الأكفاء إلى حتفهم.
لكن في حالة الانتحار، قد يكون من الصعب أن يقتل الإنسان نفسه عبثا، لكن ربما لو وجد أن موته سيساهم في القدرة التكاثرية لأقاربه فقد يفعل.
هناك طبعا حالات محيرة، كالذي ينتحر وهو بعيد عن أهله، المنتحرون الفدائيون، المنتحرون الشباب الأصحاء الذين لا يعانون من أية مشاكل تكاثرية..
وما هذه الفرضيات إلا بداية لحل هذا اللغز الصعب.

شكرا لك

رائع، شكرا على مجهودك. بقدر ألاقي ترجمات للمراجع؟

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.