03‏/05‏/2016

تفاصيل (10)~ السفر الذي لم يكتمل


"غافي على الطّريق، غافي حدّو الزمان"


لا شكّ أن السّفر بالسيّارة أكثر رفاهيةً من السّفر بالحافلة المليئة بالمعقّدين التي أكون أوّلهم غالبًا، وهذا لا يعني طبعًا أنني سافرتُ بسيّارة "شفرولييه" أو "كيا ريو". كانت سيّارةً كلاسيكيّةً وأقلّ من عادية. شبّاك المقعد الخلفيّ فيها لا يفتح. لكنني كنتُ أقولُ دومًا أن فخامة السيارة تكمنُ في موسيقاها وهذا كان متوفّرًا بدهشة. شيئًا جعل المقاعد وثيرةً، وجعل تعامل العجلات مع المطبّات الأمنية يشبهُ الطّفوَ على سريرٍ وسط البحر، ولم أكن أتوقّع أن يكون لمروان هذا التذوق الرهيب، بل لم أكن أتوقع أن يفتتح حفلتهُ بصوت "لينا شاماميان" وهي تغني السفر والبحر والقلبَ الموتور. وعندما عرفتُ كل هذا لم أستغرب منه حين فتح لي باب السيارة في البداية وقال بمنتهى الطّيبة والإحسان: "تفضّلي". كنتُ أعتقدُ أن عمري سوف يفنى قبل أن أكون بطلةً سينمائيّةً، أو طفلةً لا تعرفُ أن تدخل وحدها في طريقٍ صغيرٍ ومتعفّن.

كانت الساعة السابعة والنّصف قد نزلت على الشوارع وعتّقتها ببدايات المساء. بداياتُ المساء تعني القناديل البرتقاليّة، السماء الزرقاء المنسحبة بغيظٍ من مسرح الكون الهزلي، انتظار المفاجآت، والقدرة على رؤية أصابعكَ إذا ما وجهتَ يديك أمام عينيك وتأملت. هذه ليست أصابع بعد الآن! إن لها ظلًّا متمثّلًا في الأفق البعيد المخيف، وفيها خطوطٌ من التوتّر العالي، وفيها ريشةٌ مَخفيَّةٌ ومخبّاةٌ إلى ذات غضبٍ حين سيُطلَبُ منك أن تعرّف عن نفسكَ وتتشبّثَ بهويتكَ وتجيبَ عن أسئلةٍ سخيفةٍ ما كنت لتفكّر فيها قبل بضعةِ سنوات.

حلّ المساء وكان يفرقعُ نفسهُ تحت عجلات السيارة. يصدر صوتهُ المبحوح الذي اختلط بإسهاب الحياة في شرح نفسها وتعتيق المارين بسيلٍ من الاحتمالات التي كنا نعرف أنها لا تكون سعيدةً دومًا. راح مروان يخترق كل هذا بين الحين والآخر ليوجّه لي بعض الأسئلة، وأخبرني عن تجربته الجامعية، ثم قال بهدوء: "لقد درستُ العلوم الطبيعية وخرجتُ بنتيجة واحدة. أنا كائنٌ طُفيلي والدنيا -كل هذه الدنيا اللعينة- أكدت لي ذلك" ثم ضحك بصوتٍ مرتفع بدا في تلك اللحظة قادمًا من قاع روحه مختصرًا كل معاناته. "ما الذي منحكَ القوة إذًا؟" سألتهُ بجديّة، فأجابني: "الموسيقى، وأظن أنك تدركين هذا الآن. أليس كذلك؟" ثم تشاركنا في ضحكةٍ طويلةٍ كانت أشبه بحديثٍ مفصّلٍ وعميق.

لم أكفّ عن عدّ عيون الظلام، وتذكرتُ حماقتي حين حاولتُ أن أرسم له عينين وأغمضهما حتّى ينام، وتذكرتُ حماقة فيروز حين كانت ترجوه أن يغيبَ أيضًا. استحضرني حينها وجهُ أبي الرقيق، وتخيّلتُ أنه يضيءُ على كلّ المنافي ويفتّش على كل الحواجز، فيمنحُ لكل شخصٍ علبة سكاكر ثم يقول: "هذه هويتك"، وعندما يفرغ من عمله يمر السوق الشعبي ويشتري لي التفاح ثم يحدّثني عن أخباره، لكن أمي قطعت عليّ روايتي الفكرية حين قالت لي مشدّدة: "جبنةُ السهول يا نور. وضعتُ لك علبة. حين تأكلين أحكمي إغلاق الغطاء وإلا ستجفّ وتصير سيّئة. الفلفل الأخضر الحلو مفيد، ضعيه في طبق السّلطة. أنت تحبين الخسّ أيضًا والفراولة والليمون. لا تنسي أن تهتمي بنفسك. إنك تنسين كثيرًا في هذه الأيام وتقولين عن الأشياء القبيحة أنها بمنتهى الروعة. ما الذي دهاكِ؟ أخبريني حتّى نخفف وطأة الطريق." "الكلامُ يا أمي لا يخفف وطأة شيء. بإمكاننا أن نغني مثلًا. أن نمسك بأيدي بعضنا. أن نرقص ابتهاجًا بحسن النهاية" ضحكتْ أمي ثمّ علّقت كما يعلّقُ الجميع: "مجنونة". لكن شعورًا بالأسى خالطني حينئذٍ، وأحسستُ أن هناك نجمةً ما، قريبةً جدًّا -في وجهي ربّما- ستنطفئ.

أرجعتُ رأسي نحو الخلف وأغمضتُ عيني، ولن أقسم طبعًا حتى تصدقني. لقد رأيتكَ وأنت تجلسُ على طاولةٍ صغيرةٍ تتسع لك فقط، تضع كأسًا من الشوكولا ومنفضة السجائر التي اخترتها لكَ لكنني لم أستطع إرسالها يومًا. كنتَ تدخّنُ بشراهة شخصٍ يستمتعُ بهذا. لم تكن كئيبًا أو نزقًا في فعلك. كنت حافي القدمين ترتدي قميصًا بنصف كمّ يتأرجحُ لونه بين غوايات الأخضر الفتان. لنختصر الحديث دعني أقل أنك كنت تبدو جالسًا في مكان يمنحك الراحة والأمان، وتذكرتُ حينها أغنية "نم يا حبيبي الآن نم" لكنني كنتُ بلا صوت. هل تدركُ هذا؟ إننا حين نستهلكُ أنفسنا في هذا النوع الشقيّ من الحنين فإننا نسكبها كلها دفعةً واحدةً في خيالٍ صادقٍ وحيد، فلا يعود منّا سواه والكثير من الرّضا طبعًا الذي لا يلبثُ أن يتحول إلى غضبٍ مجددا. هكذا حتى ننطفئ تمامًا أو نصير وهجًا. ليس في الأمر احتمال وسطيٌّ أو طريقٌ آمن. قديمًا قال عمّي المغترب: "الحبّ المُبهَمُ بضخامته يقودنا دومًا نحو الجنون" قلتُ له: "الجنونُ حلوٌ يا عمي" فضحكَ ضحكتهُ الأشهى ثم قال: "let me say it is madness any way no matter it is sweet or not my deva" ثمّ عقّب: " الحياةُ لا تُطاقُ من دونه".

توقّفنا عند حاجزٍ أمني فقال لي الرجل: "أين تسكنين؟ لم تأتين إلى هنا؟ لو أنني سأقارنُ صورتك على البطاقة الشخصية بشكلك الآن لما صدقتُ أنها أنتِ". قال الجملة الأخيرة وقهقه بصوتٍ عالٍ بدا لي أشبه بانبعاث الشمس على طبقٍ من المثلجات وذوبانها تمامًا وفقدانها لكلّ خصائصها الشهية، وبعد أن أجبته -بعد أن أجبناه جميعًا- وجرت دورة التفتيش الاعتيادية عبرنا بسلامٍ نحو حاجز آخر لن يكون بعيدًا جدًّا.

كانت الدنيا قد اشتدّت بظلامها أكثر وصارت الأضواءُ أكثر ضبابية، وعلى مدّ النظر كان هناك حبلٌ منها يتراوح بين الأصفر والبرتقالي والأحمر. كانت تشبهُ سلسلةً مُحكَمةً من الألعاب النارية الأرضية، وفي الحقيقة كنتُ أراها مثل الزغب الذي تكوّن على ذقنكَ آخر مرة، ناعمةً وغائمةً في سمرة الليل وممعنةً في كونها حلمًا بهيجًا، أو زمنًا هاربًا من نفسه، وحين بدأت بالتفرّق صار ذقنك أكثر وضوحًا وصار بإمكاني أن أتجوّل عليه فينالني قسطٌ من هواء قلبك المنعش. الكونُ الآن -كل الكون- حين ينتهي الخوف مؤقتًا وتفوح رائحة البرتقال ويضيءُ رجلٌ كشكَ فاكهته على الطريق وتموج السيارةُ مع "رشا رزق" يشبهُ قلبك. وقلبك -لو تدري- أحلى بكثير.

وصلنا إلى وجهتنا أخيرًا، حيثُ كانت الشوارعُ مزدحمةً جدّا، وإنني أتفاءلُ حين تستقبلني رائحةُ المخابز. أحبها هذه الأبخرة المليئةُ بالفانيليا وأتخيلُ أنني معها حلوةٌ جدّا بل رائعة. قال لنا مروان أننا صرنا أمام المنزل الذي جئنا إليه، ووجدنا رجلًا لطيفًا في استقبالنا. نزل الجميعُ وبقيتُ وحدي أنتظر، فمدّ الرجل وجهه الكبير من النافذة. كان له بشرة سمراء وعيونا خضراء واسعة. تبدو ياقة قميصه الوردية وعلى فمه ابتسامة عريضة جدا. ألقى علي التحية وسألني عن اسمي وفتح معي حديثًا بسيطًا ومُريحًا، ثم غاب. أرجعتُ رأسي نحو الخلف وشعرتُ أن كل الأشخاص الذين يمشون خلف السيارة لا يتجنبونها بل يدخلون رأسي ويتحولون إلى أفكار مبهمةٍ وملونة، ورحتُ أبتسمُ بلا إرادة مني. ابتسمتُ مطولا لهذا الشعور وأحسستُ أنني أمّ هذا الكون المصغّرِ النّزق.

طرق الرجل زجاج النافذة ومدّ رأسه مجددا وقال: "هل أنت بخير؟" أرخيتُ رأسي نحو الأمام وهمهمتُ: "نعم" ثم مد يدهُ وأعطاني قطعة من الكعك وعقب: "تبدين متعبة". راح يحدثني عن عملي وعن رأيي في هذا الشارع المزدحم ويحكي لي عن دكانه الصغيرة وولعَ النساء بالتدخين،  وكيف أنه جاهد في الصيف الماضي لإنقاص وزنه دون فائدة مشيرًا إلى بطنه الذي لم يكن صغيرًا طبعًا، وكان يتوقف كل قليل ليضحك بعمقٍ تاركًا "غمازته" تظهر على خده الأيسر بسلاسة. علق على أغنية وردة التي كانت تنبعث من الراديو بشيء من الرقة وأخبرني أنه يحب اتخاذي كصديقة له، كإبنة إذا لم يكن عندي مانع وأسهب في الحديث عن والدي ثم غاب مجددا، وكان هذا غيابه الأخير الذي لم يعد بعده، وربما كانت هذه هي "الأبوة المعاصرة" التي تبدأ وتنتهي لحظة الحديث عنها.

تجولنا قليلًا بعد ذلك، اشتريتُ فستانًا، وقطعة أخرى من الكعك. صمتنا لفترة لا بأس بها كأننا استوحشنا الضجة وشعرنا أنها لا تنبئ بشيء جيد، وهذا الشعور كان جماعيّا وحقيقيّا وبشعًا مثل نيسان.

01‏/05‏/2016

قصور الانتباه وفرط الحركة: بقايا مجتمعات الصيد؟



ألبرت آينشتاين وغاليلو ودافينشي وغراهام بل وموزار والكثير من العلماء والمشاهير شخصوا بقصور الانتباه وفرط الحركة أو كانت لديهم الكثير من أعراض هذا الاضطراب [1]. 
التعريف [2]: قصور الانتباه وفرط الحركة (Attention Deficit Hyperactivity Disorder) هو اضطراب عقلي يتميز بنمط مستمر من قصور (نقص) الانتباه inattention و/أو فرط الحركة والاندفاعية hyperactivity-impulsivity ويؤثر سلبا في النمو والأداء.
لكن ليس كل نقص انتباه أو فرط في الحركة يُعد مرضا. هناك تعريفات محددة لكل جزء من هذا التعريف. 
قصور الانتباه يعني أن الشخص يعاني من الشرود (التشتت) أثناء أداء الأعمال، ومن صعوبة التركيز، وعدم الثبات، واللا انتظام، بشرط ألا تكون هذه المشكلات نتيجة عدم الفهم (أي يكون فهم الشخص سليما للمهمة التي يؤديها). 
فرط الحركة يعني أن الشخص يتحرك باستمرار حتى عندما لا تكون الحركة مناسبة أو ضرورية، ويتململ، يتنصَّت أو يتكلم بإفراط. وفي البالغين، قد يكون الشخص غير مستقر ويُتعب الآخرين بنشاطه. 
الاندفاعية تعني أن الشخص يُقدم على أفعال طائشة بلا تفكير، ولديه رغبة في الإيذاء أو رغبة في المكافأة المباشرة أو عدم القدرة على تأجيل المُتع. الشخص المندفع قد يكون فضوليا ومتطفلا، وقد يقاطع الآخرين ليُدلي بقرارات متسرعة بدون احتساب عواقبها.

انتشار ADHD حول العالم بالتفصيل، الحد الأعلى في
أميركا الجنوبية تقريبا 12%، والحد الأدنى في الشرق الأوسط تقريبا 3%
والسبب في رأيي أن دراسات الشرق الأوسط قليلة. 
الإحصائيات [2]:
عالميا، الأطفال 5.29%، المراهقون 7.1%، البالغون 3.4% (2007).
كان يُظن أنه مرض مرتبط بالطفولة، لكن هناك دراسات أثبتت استمراره إلى سن البلوغ في أكثر من نصف المرضى (50-66%).
الشيوع بين الذكور غالبا أكثر من الإناث.
في السعودية [3,4,5,6]: 
الرياض: ازداد معدل الانتشار من 12.6% (1996) إلى 25.5% (2003).
الدمام: 16.4% (2008).
جدة: 11.6% (2013) . 
جازان: 13.5% (2013).

انتشار ADHD في بعض الدول،
حيث يصل إلى 5.2% في أميركا وإلى 1.2% في أسبانيا
الأعراض والعلامات [7,8]:
أهم أعراض هذا الاضطراب هي نقص الانتباه (صعوبة الإصغاء، سهولة المقاطعة، إصدار أخطاء تدل على اللامبالاة، النسيان، إضاعة الأشيا...) وفرط الحركة (يصعب على الشخص أن يبقى هادئا، يتململ دائما، الأطفال يتحركون في كل مكان، يقفزون على الأثاث...) والاندفاعية (يكون الشخص عجولا ومنطلقا ويجد صعوبة في انتظار دوره...). بعض الأشخاص قد يعانون من أحد هذه الأعراض، بينما قد يعاني بعضهم منها كلها combined ADHD.
لكن للحظة قد تسأل: ألسنا كلنا نمر بحالات من نقص الانتباه وكثرة الحركة والاندفاعية؟
نعم، لكن في هذا الاضطراب، تكون الأعراض أشد وأكثر تكرارا، وتتعارض مع أداء المصابين في أعمالهم وحياتهم الاجتماعية. لذا، يتطلب تشخيص أحدهم بهذا الاضطراب أن تكون الأعراض مزمنة (تبقى لمدة طويلة)، وأن تعيق أداءه وتؤخره عن النمو الطبيعي المتوافق مع سنه.
تبدأ الأعراض من العام الثالث إلى السادس، وقد تستمر إلى المراهقة والبلوغ.
تتغير أشكال الأعراض مع التقدم في السن، ففي الطفولة المبكرة يغلب أن يكون المصابون مفرطين في الحركة hyperactive، ثم بعد دخول المدرسة يبدأ قصور الانتباه في السيطرة على السلوك العام، وهكذا حتى أن فرط الحركة يقل عند الوصول إلى سن المراهقة، ويُعبر عنه بالتملمُل وعدم الاستقرار.

عوامل الإصابة [7,8]:  لا يوجد سبب محدد لاضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، لكن هناك بعض العوامل التي ارتبطت به في العديد من الدراسات، منها:
1- الوراثة
2- التدخين، شرب الكحول، المخدرات أثناء فترة الحمل
3- التعرض للسموم البيئية (الرصاص، مثلا) في سن مبكرة
4-  الوزن المنخفض، أو نقص الأكسجين عند الولادة
5- إصابات الدماغ
6- بعض الأطعمة مثل: المأكولات ذات الألوان الصناعية والمواد الحافظة

العلاج [7,8]: اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة من الاضطرابات النفسية العقلية المزمنة، لكن هناك مجموعة من العلاجات النفسية والأدوية وأساليب التعليم ومهارات السيطرة على القلق قد تخفف من الأعراض وتحسن جودة الحياة.
في الحالات الخفيفة mild أو المتوسطة moderate قد يكون العلاج النفسي والتعليمي كافيا. هذا يعتمد على شدة الاضطراب وتأثيره في حياة الطفل والعائلة، ويعتمد أيضا على الجزء الغالب من الاضطراب؛ بعض الأطفال يكونون مفرطي الحركة في الغالب، وبعضهم يكونون ناقصي انتباه في الغالب. 
في الحالات الشديدة، وعندما يخفق العلاج النفسي والتعليمي أو يكون غير كاف يفضل البدء بالعلاج الدوائي. الأدوية الأشهر هي التي تندرج تحت مجموعة "المنشِّطات stimulants".
قد يبدو من غير المنطقي أن يُعالج هذا المرض الذي يتميز بفرط الحركة بالمنشطات، لكن هذه الأدوية تحسن التركيز والتفكير عن طريق زيادة مستويات الدوبامين dopamine والنورإبينفرين norepinephrine. أكثر الأدوية استعمالا هو Methylphenidate. وقد تستعمل أدوية من مجموعة أخرى غير المنشطات، مثل atomoxetine. بعض الأطباء قد يصف مضادات الاكتئاب antidepressants.

فتاة من قبيلة الآريال Ariaal في كينيا - ناشونال جيوغرافيك
الأصل التطوري:
لعل انتباهي المشتت يا أيها المنتبهون قليلو الحركة.. لعلي أستطيع أن أوزعه على أكثر من شأن. أرصد مؤشرات الماء والطعام وأراقب قطيعي وألتفت كثيرا فأكتشف المعتدي على أملاكي.
كثير الحركة أنا؛ لأنني أريد أن أبقى. طبيعة حياتي يا أصدقائي تفرض علي أن أجد كل شيء في وقت وجيز. أما أنتم فطبيعة حياتكم الساكنة تجعلكم تلجؤون إلى التحديق في شيء وحيد وتافه أكثر مما ينبغي، وهذه ليست إساءة! 
لدى اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة ADHD قابلية توريث heritability تصل إلى 70%. هذه النسبة العالية ترجح أن يكون للجينات (المورِّثات) دور مهم في سببيته، ومن هنا يكون دور الانتخاب الطبيعي.
في البداية، سنتساءل: لماذا احتفظ الانتخاب الطبيعي بالجينات المسببة لهذا الاضطراب ولم يتخلص منها؟
للإجابة، علينا أن نهتم بالمحيط الاجتماعي والظروف الاقتصادية والبيئة المحتملة التي عاش فيها أسلافنا.
في 2008 نشرت دراسة [9] من جامعة Northwestern تحت عنوان "The Evolution of ADHD: social context matters" تضع فرضية للإجابة على هذا السؤال.
ببساطة، الانتخاب الطبيعي لم يتخلص من جينات ADHD لأنها كانت نافعة يوما ما. متى كان هذا؟
يجب ألا ننسى أننا نعيش الآن في بيئة تختلف كثيرا عن تلك التي عاش فيها الأسلاف. المدارس الرسمية حول العالم والتعليم الرسمي هي اختراع مئات السنين القليلة الماضية. قبل عشرة آلاف عام كنا جماعات من الصيَّادين الرُحَّل hunter-gatherers بلا مزارع أو حيوانات داجنة. أسلافنا الذين عاشوا في هذه البيئة كانوا بحاجة إلى أن يكونوا عموميين generalists، أي أن يحصلوا على كمية كبيرة من مصادر الرزق ويمارسوا الكثير من المهارات.
كثرة الحركة، الدافعية للعمل والنشاط، قصور الانتباه المركَّز على مسألة أو مهمة واحدة هي إذن مميزات فريدة لهذا النوع من المجتمعات؛ مجتمعات الصيد. وهذا في الواقع ما حاول الدارسون بحثه.
فحص الدارسون مجموعتين من قبيلة الآريال Ariaal في كينيا: إحداهما بقيت مترحِّلة بينما استوطنت الأخرى القرى، واستطاعوا تحديد المصابين منهم بـ ADHD عن طريق اكتشاف جين DRD4 7R المتعلق بهذا الاضطراب. 
وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يحملون جين ADHD من القبيلة الأولى -الصيادين الرُّحَّل- كانت لديهم تغذية أفضل (وزن أكبر) من غير الحاملين، وعلى العكس كان الحاملون من القبيلة الثانية أقل وزنا (ربما لأنهم في البيئة الخطأ) من غير الحاملين. ووجدوا أن الأشخاص المصابين من القبيلة الثانية -الذين استوطنوا القرى- واجهوا مصاعب أكثر في التعلم (واحدة من أكبر مشكلات ADHD).
هنا نستطيع ملاحظة فارق السياق، حيث يكون ADHD ميزة في مجتمع وعيبا في مجتمع آخر.
يُشخَّص الأطفال عادة بهذا الاضطراب عندما لا يستطيعون التركيز بشكل مناسب في المدرسة، ويكون ضعف التركيز مشكلة عند البالغين الذين تتطلب وظائفهم أو طرق حياتهم تركيزا أقوى. فالمشكلة ليست في طبيعة الاضطراب، بل في السياق.
يقول قائد البحث البروفيسور Dan Eisenberg: "الأطفال والبالغون المصابون باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة دائما يعتقدون أن مرضهم إعاقة بدلا من أن يدركوا أنه قد يكون ميزة فيهم".
هذا لا يعني أن ADHD ليس مشكلة. الأطفال ذوو التركيز المشتت والحركات المفرطة في قاعة الدراسة بلا شك سيقل مستوى تحصيلهم، والموظفون قد يخسرون أعمالهم أو علاقاتهم الاجتماعية.
فما هو إذن السياق الأمثل لهؤلاء الأشخاص؟
إنه البيئة التي لا تحتاج إلى البقاء لست ساعات في الفصل كل يوم! أي خارج المدرسة. لكن هذا لا يعني أن على كل الأطفال المصابين بـ ADHD ترك المدرسة والتسكع في الشوارع.
يرى عالم النفس Peter Gray أن الأطفال إذا كانت لهم حرية توجيه تعليمهم وحياتهم فلن يحتاجوا إلى الأدوية، وسيستطيعون توظيف سلوكاتهم لصالحهم، وسيكونون قادرين على الإبداع وعيش حياة صحية. هذا في الوقت نفسه لا يقلل من قيمة العلاج الدوائي، بل سيكون من المستحسن أن يُستخدم الدواء لا كوسيلة للشفاء، بل كوسيلة لسد الثغرات لمساعدتهم على التأقلم مع متطلبات مجتمعهم.
الآن، سيكون مثيرا أن نعلم أن البالغين أقل بنسبة 50% من الأطفال في الإصابة بـ ADHD. فالبالغون لديهم حرية أكثر من الأطفال في اختيار أدوارهم التي تتوافق مع قدراتهم وفي استعمال الأدوية بانتظام.


المراجع: 
[1] psychcentral.com

27‏/04‏/2016

تصبيحةٌ ساهرة






يتلوّنُ الوقتُ بألوان وجهكَ التي لا أحصي عددها، وإذ أبدأ بهذا التعبير تلومني ستارتي السكرية التي كانت تقفُ على الأرض قبل أن تعود للطيران بفعل الهواء الذي هبّ جزيلًا قبل قليل. أخبرتُها ألا تقلق، فقد اجتزنا -أنت وأنا كمجنونين رائعين حقًّا- سخافة التفسيرات الحرفية والمعاني الموروثة. الآن لون الوقت يشبهُ لون عينيك قبل أن تغفو بخمس دقائق بعد نعاسٍ مفرطٍ وطويل. ألمحُ الخيط الأحمر الرفيع الذي يتدلّى من ساعة الحائط البيضاء، وأرى أن هناك الكثير من العلامات الموسيقيّة التي تتجمعُ عليهِ لتشكّل تهويدةً لطيفةً تمامًا، تعملُ عملَ "الكريم المطرّي" الذي يخفف آثار التعب، ويعطي الجلد الرقيق رائحة عودٍ عريضٍ من الفانيليا. هل تدركُ كم أنّ الوقتَ إنسانيٌّ الآن؟ ويكاد يحلمُ أيضًا؟ لولا أنّ عصفورًا يقفُ على النافذة ويحكي ويقولُ لي: "يا نونو" كما يفعلُ دومًا. لكنني لستُ قادرةً الآن على منحه كتفي، ولستُ قادرةً أن أدلّهُ على الشمس أو أعيد يقينهُ بالغابة البعيدة، أو أقول لهُ أن الجبل يحمي. نحنُ مكشوفون جدًّا ونكادُ نكون عراة حفاةً جائعين، ولا بأس في ذلك لو أنّ شوارع العالم لم تكن معبّدة بالحصى الناتئ، ولو أنّ خير الزاويا الصغيرة لا يُنهَبُ أيضًا. يصرّ العصفور: "يا نونو!" ويخفقُ بجناحيه. يمدّهما ويضمّهما بطريقة شهيّة، ثم يقفزُ بخفةٍ جيئةً وذهابًا على رصيف النافذة الضيق. أشربُ القهوةَ كمن يحاولُ أن يغرق في سوادٍ يكفيه شرّ هذا الوهجِ المتحرّك، لكنه يصر -يصرّ كثيرًا-، وحين أقومُ من مكاني، أجرّ نفسي ببطء شديدٍ وأستحضرُ روحي بكلّ ما فيها من حكمةٍ غليظة. أقولُ له: "مابك؟ لا غابة أيها الأحمق. لا سماء أيضًا". يضحكُ العصفور: "لا أريدُ أيًّا من هذا!"
"إذًا؟" أرفعُ حاجبي الأيمن الذي اكتسبَ لونهُ من أشعة الشمس المنعكسة بضآلة. يرفرف: "خبّيني عندِكْ خبّيني، دخلك يا نونو"!


على الهامش: لا تتأخر عن الغناء أيها المصابُ بعيارٍ ناري.







23‏/04‏/2016

لماذا نصاب بمرض ثنائية القطب؟




ستقرر زيارة الطبيب النفسي عندما تلاحظ أن مزاجك بدأ يتخذ شكلين يتناوبان بطريقة مزعجة، عندما تمر بك أيام تكون فيها كئيبا قليل الكلام كثير النوم مثل دبٍّ يقضي إجازة مملة في بياتٍ شتوي، ثم تصير طبيعيا ومعتدلا قبل أن تكتشف أنك صرت كثير الحركة وقال لك من حولك أنك كثير الكلام وقليل الأدب وأنهم أحيانا لا يفهمون ما تقصد، عندما تتحول إلى فأرٍ دؤوب كثير المشروعات وتشعر بالتهور والشبق الجنسي، وتقول لنفسك أكثر من مرة: إنني أفضل شخص في العالم، إنني عظيم.. عظيم جدا.. عظيم جدا.
سيرتبك الكثير من الأطباء أمامك، وقد يشخصونك خطأً بالفصام أو الاكتئاب. لكن طبيبا جيدا سوف يخبرك بأن لديك اضطراب غير شائع جدا يُدعى الاضطراب ثنائي القطب bipolar disorder.

سنتفق من الآن على تسميته بـ "ثنائية القطب" لئلا نردد كل لحظة هذا الاسم غير الرنَّان "الاضطراب ثنائي القطب". ثنائية القطب هو مرض مزاجي نفسي يتميز بالتناوب بين حالات الهَوَس (النشاط والمرح) mania وحالات الكآبة depression؛ لذا يسمى أيضا manic-depressive illness (MDI) [1].

يتميز اضطراب ثنائية القطب بتقلبات شديدة في المزاج، بين الكآبة والهوس*.
أعراض الهوس [1]:
(1) المزاج العالي بلا سبب، (2) الطاقة العالية جدا، (3) الاهتياج، الغضب، (4) اليقظة، (5) الاستثارة، (6) الثقة بالنفس، (7) الطموح، (8) الاندفاع، (9) المخاطرة، (10)التمرد (مثل الإفراط في الممارسات الجنسية، إدمان المخدرات والكحول)، (11) القيام بأفعال غريبة، (12) ازدياد الأفعال الهادفة (التسوق، مثلا)، (13) الإسراف، (14) التهيج الجسدي (حركات لا إرادية، مثلا)، (15) التفكير في أشياء كثيرة في وقت واحد، (16) التشتت، (17) التحدث بسرعة، (18) التفكير في أمور غير واقعية، (19) الاستغناء عن النوم. وقد تنتهي هذه النوبة بالهذيان  delirium وجنون الشك paranoia.

أعراض الكآبة [1]:
(1) الحزن الدائم، (2) القلق، (3) اليأس، (4) انقطاع الأمل، (5) الشعور بالذنب، (6) الشعور باللاأهمية، (7) الشعور بالعجز، (8) الغضب والاهتياج، (9) فقد الشهية أو الأكل كثيرا، (10) نقص أو زيادة الوزن، (11) صعوبة النوم أو النوم بكثرة، (12) الكسل،(13) البلادة، (14) صعوبة التفكير والتركيز، (15) أفكار عن الموت ومحاولة الانتحار، (16) آلام مزمنة.

الأنواع [1]:
النوع الأول BP-1: حالات متكررة من الكآبة والهوس الشديد (depression + mania).
النوع الثاني BP-2: حالات متكررة من الكآبة والهوس الخفيف (depression + hypomania).
النوع الثالث (الاضطرابُ سريعُ التقلُّب rapid cycling): حدوث 4 نوبات أو أكثر في السنة.

الأسباب وعوامل الخطر [1]: وجود قريب مباشر من الدرجة الأولى (أب، أخ...) مصابٍ بالاضطراب ثنائي القطب، العوامل الجينية، التأثير البيئي (المجتمع، العائلة...)، أحداث مؤلمة في الطفولة (عنف أسري، فقد أحد الأبوين...)، أحداث الحياة (نهاية علاقة عاطفية، فراق شخص عزيز). 

مصير (مستقبل) المرض [1]: كأي حالة طبية، مستقبل المرض قد يكون جيدا مع العلاج المناسب، وقبل هذا، التشخيص الصحيح مهم جدا لأن بعض الأطباء يخلط بين ثنائية القطب واضطرابات نفسية أخرى مشابهة. ثنائية القطب مرض مزمن يتطلب عناية طبية طول الحياة، ولأنه لا يوجد علاج نهائي له يجب على المريض الالتزام بتناول علاجاته الدوائية باستمرار حتى في غياب الأعراض. بعض المرضى يستجيبون بشكل جيد للأدوية ويتحسنون، وبعضهم بشكل متوسط، وبعضهم لا يستجيبون أبدا. العلاج المناسب يقلل من تكرار وشدة النوبات. 

العلاج [1]: الغاية من العلاج هي تخفيف تقلبات المزاج والأعراض الأخرى ليستطيع المريض عيش حياة منتِجة وفعالة. ليس هناك شفاء تام، لذا يحتاج المرضى إلى تلقي العلاج طول العمر. العلاج الأكثر فعالية هو الذي يجمع بين الأدوية والعلاج النفسي psychotherapy (العلاج بالكلام مع الطبيب النفسي).

الأدوية [1,2]:
مثبتات المزاج: الليثيوم (Lithobid®)، حمض الفالبرويك (Depakene®)، ديازيبينس (Tegretol®, Equetro®)، لاموتريجين (Lamictal®).
مضادات الاكتئاب: كلوزابين (Clozaril)، أولانزابين (Zyprexa)...
مضادات الصرع: حمض الفالبرويك (Depakote®)، توبيراميت (Topamax®)...
العلاج بالصعق الكهربائي: لحالات الذُّهان الشديد psychosis (الانفصال عن الواقع) ومحاولات الانتحار في الأشخاص الذين لم ينتفعوا من الأدوية أو العلاج النفسي. 
نبتة سانت جونز St. John's wort: وصفة عشبية لها تأثير مضادات الاكتئاب.
الحمض الدهني أوميغا-3: كعلاج إضافي إلى مضادات الاكتئاب.

الإحصائيات [3]:
في دراسة حديثة (2011) أجريت على 61,392 شخصا من أحد عشر بلدا من الأمريكتين وأوروبا وآسيا قُدِّر انتشار ثنائية القطب بـ 1%، وكان النوع الأول BP-1 أكثر انتشارا (0.6%) من النوع الثاني BP-2 (0.4%).  
نسبة الانتشار الأعلى كانت في أميركا (4.4%) والنسبة الأقل في الهند (0.1%). الذكور أكثر عرضة للإصابة بالنوع الأول والإناث أكثر عرضة للإصابة بالنوع الثاني.
ثلاثة أرباع المصابين كانت لديهم أمراض نفسية أخرى comorbidity قد تصل إلى ثلاثة أمراض أو أكثر في أكثر من نصفهم. أمراض القلق هي الأكثر شيوعا (خصوصا نوبات الخوف panic attacks) تليها الأمراض السلوكية وأمراض استعمال الأدوية drug abuse.
واحد بين كل أربعة مصابين بالثنائية القطبية النوع الألو وبين كل خمسة من النوع الثاني حاولوا الانتحار في الاثني عشر شهرا السابقة للدراسة. 

الممثلة البريطانية الكلاسيكية (فيفيان لي) بطلة فيلم "ذهب مع الريح"
شُخِّصت بثنائية القطب في أواخر حياتها (ويكيبيديا)
الأصول التطورية للاضطراب ثنائي القطب EOBD: 
مرضى الفُصام (A)
مرضى ثنائية القطب (C)
دراسة حديثة (2012) [4,5] تستفيد من أبحاث طبيب النفس الألماني إرنست كريشنر (1970) التي نشرها في كتابه "البنية الجسدية والشخصية Physique & Character". راجَعَ كريشنر الأبحاث حول علاقة الجسد بالمزاج الصحي منذ القدم واستنتج أن الإنسان يندرج تحت نوعين وصفيين. لاحظ كريشنر أن المصابين بثنائية القطب يميلون إلى أن يكونوا غِلاظ البنية pyknic (سِمان ولهم أطراف قصيرة ورؤوس ضخمة ولا يتميزون بأعناق طويلة)، أما المصابون بالفصام فيميلون إلى أن يكونوا ضِعاف البنية leptosomic (طوال ضعاف البنية).  

وصفُ كريشنر للبنية الغليظة يقابل وصف البنية الجسدية التي تكيَّفت مع البرد cold adapted، وبالرغم من أن "تكيُّف البرد" لم يكن جزءا من فرضيته، يشير الترابط بين ثنائية القطب والبنية الغليظة إلى أن الأسلاف الذين عاشوا في المناطق الشمالية المعتدلة -المنطقة الافتراضية التي يكون فيها الشتاء طويلا وقاسيا والصيف قصيرا جدا في تلك الفترة- طوَّروا سلوكاتٍ ثنائية القطب (اكتئاب + هوَس) كاستجابة للحالات المناخية شديدة البرودة في عصر البليستوسين (قبل أكثر من مليوني سنة). فإذا كنا في نوبة الهوَس (نشطين جدا ومرِحين ونتمتع بطاقة عالية) طول الربيع والصيف سنكون قد أنجزنا الكثير من الأشياء بحيث يمكننا أن نهدأ ونميل إلى الكسل والنوم (نوبة الاكتئاب) طول الشتاء (ساعدتني هذه المقالة [6] على فهم هذا الجزء).

السيناريو بسيط وقابل للفهم:
عندما يأتي الربيع تشرقُ الأرض بنورٍ وحيوية ويخرج الأسلاف نشطين مدفوعين برغبة الحياة وشهوة الجنس، إنهم لم يتكلموا منذ فترة طويلة فبلا شك سيثرثرون بلا توقف، وستهطل الأفكار والمشروعات على رؤوسهم كالغيث، يُهرعون إلى الصيد ويجمعون ما يستطيعون من المؤن لأجل شتاءٍ لن يتميّز بالشفقة، هم يعلمون أن هذا النور لن يدوم وأن هذا الدفء ستأتي بعده ليالٍ موحِشة، فلا حاجة إلى النوم إذن، لا حاجة إلى الأكل كثيرا، لا حاجة إلى الكسل... وعلى كل واحد منهم أن يثق في نفسه وأن يغامر ويضحِّي ليبقى.
ثم يذبل قنديلُ الصيف فتبدأ الأرض بالتيبُّس ويصير الهواء ثقيلا باردا، لو لم يكونوا نشطين في الفصلين السابقين لأهلكهم الشتاء، لكنهم الآن مطمئنون، لديهم ما يكفي من القوت، ونساؤهم حبالى، فمن الأفضل أن يناموا طويلا، ويأكلوا كثيرا، ويعتزلوا النساء، ويتلذذوا بالقعود والكسل في بياتٍ شتوي طويل.

ولأن هناك أدلة علمية على وجود جينات مشتركة بيننا وبين النياندرتال، تقترح هذه الدراسة أن ثنائية القطب لها أصل نياندرتالي. يعزز هذا الافتراض أن نسبة شيوع ثنائية القطب بين الأشخاص من أصل أفريقي (ليست لديهم جينات نياندرتالية) أقل بكثير من نسبة الشيوع بين الأشخاص من أصل غير أفريقي.

كما سبق، إذا كانت نوبات الهوَس mania تبلغ ذروتها في فصلي الربيع والصيف حيث الضوء والدفء، فمن المفترض أن تخف هذه النوبات بعد العلاج بالضوء phototherapy، وكذا نوبات الكآبة من المفترض أن تزيد في أوقات العتمة light deprivation وهذا ما أثبتته بعض التجارب (راجع القسم الخامس من الدراسة).

أيضا، هذه الاستنتاجات متوافقة مع آلية اضطراب ثنائية القطب، حيث تحدث معظم نوبات الكآبة ليلا ونوبات الهوس نهارا. سيكون هذا الافتراض مفهوما أكثر إذا علمت أن نوبات الهوس بلغت ذروتها في فصلي الربيع والصيف في 12 دراسة من 15 دراسة أجريت في فترات مختلفة من عام 1920 إلى 1995 في أكثر من عشر دول.

ذروة نوبات الهَوَس حدثت في الربيع spring والصيف summer
عبارة "no peak" تعني أن ذروة الهوس لم يمكن تحديدها أو أنها لم تكن موجودة

في نهاية الدراسة تقول الباحثة Julia A. Sherman: "لا توجد حقائق معلومة تعارض هذه الفرضية، لكنها تحتاج إلى المزيد من التجارب والاختبارات. متانة هذه الفرضية تكمن في قوتها التفسيرية وتوافقها مع الحقائق المعلومة". 

المراجع:
* تُترجم كلمة mania كثيرا إلى الجنون، لكنني لا أحب هذه الترجمة لأنها تتضمن معنى وصميًّا stigmatizing، وبعض المراجع تترجمها إلى الابتهاج وهي كلمة غير دقيقة، ومع أن كلمة كلمة "هَوَس" تبدو غامضة إلا أنها تعطي انطباعا واضحا عن السلوك الذي يميز هذه الحالة، وهو الابتهاج المفرط المصحوب بالنشاط المفرط.
[1] www.rightdiagnosis.com/b/bipolar/misdiag.htm
[2] www.mayoclinic.org/diseases-conditions/bipolar-disorder/basics/treatment/con-20027544
[3]www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3486639/pdf/nihms410850.pdf
[4] www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/22036090
[5] www.cogsci.ecs.soton.ac.uk/cgi/psyc/newpsy?12.028
[6] evolutionarypsychiatry.blogspot.com/2011/11/evolutionary-psychiatry-and-bipolar.html

14‏/04‏/2016

أرق




أشعرُ بالغيظ يا أمّي. نامت كل عصافير الدّوري وأنا لم أزل مستيقظة، ومع هذا فإنني لا أغرّد. أشعرُ بألمٍ في جبهتي سببهُ فكرةٌ عارضةٌ في وقت فائت من هذا اليوم. هل تدركين كميّة الهشاشة؟ أدور حولي كي أسقط لكنّني لا أفعل، رقصتُ على عشر أغنيات، شربتُ مشروبًا غازيًّا بعد أن غطّستُ فيه شرائح الليمون، حفظتُ بيتًا من الشّعر لا أتذكرهُ وأنا أسردُ في هذه اللحظة، وأعجبتُ بعبارة "طعم عتّقهُ الوقت"، والتي أراها الآن مقزّزة ونمطيّة، كما رتّبتُ خزانتي بطريقة المصابين بهوس الألوان، إنها يا أمّي مرتبةٌ على نحوِ مزعجِ جدًّا. غيّرتُ أقراطي مرتين وانتهيت دونهما لأنني شعرتُ فجأة بثقلهما وشعرتُ أن جحيمًا ينبتُ في أذني ويعوي دون توقّف.

كتبتُ رسالةً طويلةً إلى صديقي أفصحتُ فيها عن اشتياقي الشديد كأنثى لا تشتاق في العادة، واعترفتُ بأسرار فساتيني، وتحدّثتُ بحماقةٍ عن أقلامي الملوّنة وكم شعرتُ بالفزع حين باغتتني قطّة سوداء في الأسبوع الماضي، وعن إحساسي الغامر بالاسترخاء حين عرّضتُ شعري للهواء الساخن، وقلتُ له كم مرة استحضرتهُ وما هي المطاعمُ الشعبيّةُ التي ذهبنا إليها،  كيف أكلنا بنهمٍ ودقّينا كؤوس الشاي وشربنا نخب الصّحوة، وكيف ركضنا في ذلك الشّارع الخلفي دون أن نخاف من عتمة الحرب، ثم أحصينا النّملَ الذي كان يتمشّى على جدار الفجر، وكيف غرقنا في صمتنا أمام قاربِ يموجُ ولا يبحر.
قرأتُ الرسالة ثم مزّقتها، وبعد ذلك كتبتُ رسالةً أخرى إلى صديقتي أسماء أطلعتها فيها على ازدرائي الشّديد لذكرياتنا السّخيفة، وكم وداعًا تبِعَ تلويح يدينا، وكم أغنية ذاع صيتها وهي تحكي قصّة الانقطاع بعد الوصل، وقصّة التلاشي، ثم أخبرتُها عن رغبتي في تناول طبق فاخر من "البيتزا"، وحاجتي إلى الحصول على مكتبةٍ جديدة.

تفقّدتُ وجهي، مررتُ أصابعي على الحفرة الصغيرة المتوضعة تحت عيني اليمنى وكانت معبّأة بالقهوة. شعرتُ بالانتماء إلى عمقها وأنني أخيرًا قادرة على البكاء الشديد والحاد لأسباب غير مفهومة، وقادرة أن أتعلّم وأصير أقوى. يا أمي نحنُ -أنت وأنا- جميلتان جدًّا وطفلتان، يكادُ شعرنا يصيرُ شمسًا، وتكادُ أيدينا تحوّلُ الجدار إلى ربيع، والأطفال حين يحزنون يقلقون ويصرخون طوال الليل، ولا تنفعُ معهم علاجاتُ البالغين أبدًا. إنهم ينهمرون من الداخل ولا يملكون اللغة الكافية ليعبروا عن أسبابهم، فردّي الباب الخشبيّ اللعين، وأغلقي النافذة وأسدلي الستارة العسليّة. أنا نور نفسي، وقررت أن أسهر مع خوفي، مع فيروز، مع كتابٍ قديم، وساعة ضبطتُها على نقاش طويل وحاد، وقد أصفعهُ -ذلك الظلّ المغرور الذي يظهرُ في كلّ الأوقات-، هذه معركتي وسوف أنهيها الآن.

سوف أرقصُ حتّى يذوب جسدي على الأرض ويصير بخارًا، أو رملًا ملوّنًا، أو كلمةً عالقةً في حنجرة خصري الذي عجز عن ترجمتها كما هو مُنتظَر، وما هو الانتظار؟ أعتقدُ أنه خيالٌ نتغذّى عليه حتّى نُلقي ببعض الحمل على الآخرين، لكننا بعد كلّ سقطةٍ نتعلّمُ ألا نؤجّل شيئًا إلى يومٍ آخر وألا نذوب في شخصٍ سوانا. إن مسألة الذوبان في سوانا أمرٌ موجِعٌ حقًّا وعبثي لأنه لن يعطف علينا كما نفعل وسوف يكون قاسيًا وماضيًا في قسوته دون توقّف، ولن ننجو يا أمي. صدّقيني لن نفعل. هل نجوتِ أنت بعد موت أبي؟ هل تعترفين الآن بفرحةٍ كاملة؟ وهل يجرّدكِ فستانٌ جديدٌ وملونٌ من بؤسك؟ وهل تستعيدين بهجة الأشياء الصغيرة التي تركع تحت قدميك، وتبجّلين الأصدقاء المخلصين الذين يهتمون بعودة ابتسامتك، وتستمتعين بما أورثتهُ لك نفسك من روحٍ هائمة وخفيفةٍ يحلفُ بها الطيرُ ويغشاها الجمال؟ لقد فقدتِ كل هذا، وإنك في داخلك غير راضيةٍ عن الابتعاد حتّى وإن قلتِ أنه "قدر". لقد رحلتِ أيضًا بطريقةٍ أو بأخرى. لأننا حين نفقدُ من نحب بهذه الطريقة القاهرة نصيرُ أعداء أنفسنا أولا، ويأخذنا الغرور بحيث لا نعود بسطاء كما كنّا، وهذا ما أقسمتُ ألا أفعلهُ منذ أن ماتت جدتي قبل خمس سنوات.

إنني أشكرُ أبي الرقيق الذي علّمني ألا أخاف الموت/ موته أيضًا، وألا أشعر أنه ندٌّ لي. اصطحبني في مشوارٍ طويل إلى البساتين حيث راقبنا الطيور وغياب الشمس، وتحسسنا العشب النديّ وقطفنا شقائق النعمان، وخضنا في الأحاديث العادية، وكان يستمع لي باهتمام شديد ويتعامل مع هزائمي السخيفة على أنها هزائمه هو، ثمّ غطّ في صمته الطويل وقال: "هل تؤمنين بفلسفة الرسائل؟ لقد أنهيتُ رسالتي يا حلوتي، بطريقةٍ ما، لم يعد عندي ما أقوله أو أفعله، ولقد سعدتُ جدا بآخر رحلةٍ قمتُ بها برفقة أحبابي، لقد كانت رقصةً مدهشة، تلويحةً صادقة جدا، وأشعر الآن أن أعصابي تدخلُ مرحلة استرخائها واختلالها، ولن يضرّني أن يضيع مني الزمن أو يهبط صدري لأنني حظيتُ الآن بتلويحة أخرى، وصادقتُكِ بحيث تبقين "أنت أنت"، و "أنا أنا"، لذا أنا أثق بشوقك وأعرف أنك سوف تشتاقين إلي، وليس لنفسكِ التي تركتِها في داخلي".

قال ذلك وضغط على يدي، ثم قمنا نحو الطريق الواسع وخطونا بكل مرح، كان وجهه أشبه برغيف خبزٍ تناولته في قرية جبلية، كبيرًا ونقيًّا وشهيًّا، وكان قميصهُ العسليّ المقطع يشبهُ طبقًا من الحلويات الفاخرة التي منعتها الحرب عنا لكنه كان ثريًّا بها دوما. رحل بعد عشرة أيام على سريرٍ أبيض وعبر إغماضة طويلة، وحين كان المنزل يفرغُ من المحاضرات الفظيعة كنتُ ألجأ إلى الحديقة فأجلسُ قرب شجرة الغاردينيا وأغني، وحين كنتُ أغني كنتُ أتفاعل مع نفسي كثيرًا ويغشاني شعورٌ بالفرح إذ كان بمقدوري أن استرجع أبي وأتنبأ بشكله الآن، وقد كان يبدو لي هادئًا وهو يجلسُ على أرضيةٍ زرقاء تحت نافذةٍ مفتوحة، يدخن سيجارته ويشربُ قهوته، وهو يكتبُ مسرحيةً جديدة، أو يصوغ قصيدة بحريةً يهديها لأمي في عيد ميلادها بعد مئة عام. كان مشغولًا كما أعتقد، إن بكاءهم وأسئلتهم الحمقاء لم تؤثر على مجرى يومه أبدًا ولم تجلعه يرفع رأسه حتى يرى ما يحصل حوله، فلقد وجد رسالة أخرى، رحلة مختلفة يقطعها في داخلي كوجودٍ مستقل، ونكون نحن -هو و أنا- جبلًا يلتقي بشاطئ بحر، بكلّ ما في ذلك من الهيبة والقداسة والتفريق.


على الهامش: تفوّهت فيروز بأنقى عباراتها حين قالت "أنا مش سوده بس الليل، سوّدني بجناحو" وطربتُ لذلك حتى أضأتُ بالكامل واحترقت، نظر لي جدّي الذي كان يكرهُ فيروز وقال بشماتة: "هاد يلي بيسمع كلامها"، ضحك عصفور نابتٌ من جلدي ولم أرى الجنة ولم أرى الجحيم أيضًا، إنه شارعٌ خلفي ويدي مبسوطة حتّى آخرها!

12‏/04‏/2016

مسرحية من جزء وحيد: الآباء والأمهات (الأجزاء الأخيرة)





المشهد الرابع: الضُّباط في كل مكان
أوسا، العجوز، الكلب

قعدت أوسا مقابلةً ثيودور. ثيودور يحك أنفه بإفراط ويعطس. ثم يسألها:
-         هل تظنينني طبيبا؟
-           لا.
-         لكني طبيب.
-         هذا إنساني ومُلهم.
-         لِمَ أشعر بأنك تتجنبينني؟
-         أنا لا أتجنبك.
يخرج قطعتي حلوى، يعطيها واحدة:
-         نعم، فأنت التي لحقتِ بي في النهاية.
أوسا تفرك قطعة الحلوى:
-         لقد فكرت في كلامك. (ثيودور صامتا). أعني كلامك عن الوالدين. لا أدري لم أعدت التفكير فيه برغم قسوته وبعده عن الصواب. أخبرتني أم الولد بأن أباه مُصاب بالصرع منذ الطفولة.
-         مورِّثات صالحة وأخرى فاسدة.
-         إذن، فلنتفق على أن هناك وجها مظلما للآباء والأمهات. لكن أليس هذا معقولا؟ إنهم بشر ولا حول لهم ولا قوة.
-         أنا لا أهتم بشفقتك عليهم. إنهم أوغاد.. أوغاد تماما. أجساد شبقة محمومة بالجنس والخوف. تتلذذ ليلا بالظلام العاطفي الدافئ وتخطط نهارا لما يمكن أن تكونه نُطفها التي لم تزل تتذبذب.
-         ما الذي يزعجك في هذا يا ثيو؟
-         أن هذه النطف ستواجه طول حياتها أسوأ المصائر وأوقح الظروف.
-         وهل للوالدين ذنب واضح هنا؟
-         نعم. فنحن لا نشعر بالاستقلال إلا بعد ربع قرن من مشهد التربية الطويل جدا.
يقاطعهما الشرطي:
-         من الجميل أن تتصالحا. أشكرك أيها الغريب. في أي جامعة درست الطب؟
ثيودور يتعمد تمثيل وجه مشمئز:
-         في مدينة لا تعرفها من مدن الشرق الأوسط.
-         هل أنت شرقي؟؟ لا أدري لم توقعت هذا.
ثيودور يهمل سؤاله. يبتسم:
-         شكرا لك. أنت تعمل بنشاط.
الشرطي يربت على كتف ثيودور:
-         أنا فخور بالحديث معك يا بني، ولتعذرني على كثرة الكلام.
أوسا تكتم ضحكة. ثيودور يهز رأسه. الشرطي يغادر ببطء.
ثيودور بلا ملامح:
-         هل ضحكتك دائما حلوة؟
أوسا تتخلص من ضحكتها:
-         أنت لئيم.
يرغب في القرب منها. يدرك أن ضحك الأنثى بعد الغضب يعني العطاء والتمكين. ينظر سريعا إلى ساقيها القمحيتين الناعمتين. إلى سروال الجينز الأسود القصير المشدود إلى وسطها بحزام رقيق أبيض. لقد أحدثت خُرمين إضافيين لنحول خصرها وهشاشته. وحول جذعها وصدرها يلتف قميص زهري يوحي بأن التي ترتديه تصلح أن تكون ضحية. في كل مكان منه مِزَقٌ مفتعلة وهو لا يمانع أن يكشف عن لون الصدرية الصغيرة المتكورة خلفه. يعود ثيودور إلى نقطته:
-         خلال ربع قرن سنخضع لأبشع أنواع التعذيب: التجنيد الوالدي. كلا الأبوين يختلفان فيما بينهما ومعنا حول ما يجب أن نكونه، يفرضان علينا أنواعا من القوانين والمُثل والطقوس التي قد لا تعنينا في شيء إلا أنها تعطي الآخرين الصورة التي يحبونها: ضُبَّاط غلاظ يحكمهم المجتمع فيفرغون غضبهم وخوفهم على الجنود المساكين.
-         لكن أليس الضباط أشد حكمة وأكثر تجربة من الجنود؟
-         سأوافقك لو أن أمك علمتك في يوم ما كيف تفتنين شابا أو كيف تحصلين على أصدقاء كثر.
-         كلا لم تفعل.
ثيودور يعزز انتصاره:
-         ولن تفعل. لو كان دافعهم هو إعطاؤنا حكمهم وتجاربهم لكانوا منصفين. لكنهم... (يتوقف عن الكلام). انظري إلى هذا الكلب الأبيض يلحس ساقي مُربيته الجافتين. لقد جاء إلى الوجود حاملا من والديه غريزة اللحس. إنهم يريدوننا أن نلحس الساق التي يخشون أن تركلهم. إن اللحس في هذه الحالة يعني لوالدينا عملا أخلاقيا فيه كل الصلح والتواضح والطاعة.
تتابع أوسا لسان الكلب المتورِّد وهو يلحس ساقي العجوز. لقد أسَرَها ثيودور بقدرته على التشبيه لكنها حاولت ألا تقتنع ببلاغته. قالت بذكاء:
-         فلماذا يربينا والدونا على أشياء ويأمروننا بتجنب أشياء أخرى؟
-         لأن هذه الأشياء نفعتهم وجلبت لهم الحظ والسعادة والأمن. إن الأب الذي يبيع المخدرات سيكون حلمه أن يرى أبناءه تجارا لهم مكانة وصيت في السوق.
أوسا تضع قطعة الحلوى على لسانها الصغير وتمصها مُصْدِرةً صوتا مقرفا:
-         لكن الأبناء ليسوا كما تتخيل: كلابا مطيعة دائما. إنهم يعصون ويختارون ما يريدون.
-         يفعلون هذا خارج البيت. عندها سيكونون منبوذين مطرودين.
-         يبدو لي هذا مقبولا. فلا يمكن أن يجتمع الأضداد في بيت واحد. لا يمكن أن يتناول المتدين إفطاره مع غير المتدين. العائلة هي مجتمع خاص له قوانينه وإمكاناته.
-         لا أتحدث عن العائلة.
-         حديثنا عن الوالدين سيقودنا إلى الحديث عن العائلة. بعد ربع القرن يا ثيو سوف يكون صعبا أن تنسى كل شيء. هل تنسى أن الوالدين هما من منحاك الأمان والسعادة حتى كبرت؟ إنك طبيب وتعرف أكثر مني أهمية وجود الأبوين لنمو الأطفال وحمايتهم من الأمراض واضطرابات العاطفة.
-         أنا لا أدعو إلى إعدام كل آباء العالم يا أوسا. أنا أعترض على هذه القداسة التي تشجعهم ليتحكموا فينا.
أوسا تنظر إلى ساعة جوالها:
-         بعد ساعتين ونصف سنفترق.
-         سنبقى معا ساعتين ونصف! لا تهتمي.
تتنفس بنعومة وتتأمل الشعر الأشقر الخفيف على معصمها.
صمت. لا أحد يكثر الكلام غير أوسا وثيودور. ينظر ثيودور إلى وجهه في المرآة. تلاحظ أوسا أنه عندما يفعل هذا يكون منزعجا. تحاول أن تبدو له عميقة التفكير بعد أن تبين لها أنه يحب هذا النوع من الرفقاء:
-         نحن لا نشعر بالكمال دائما أمام المرآة.
ثيودور بدون تحريك رأسه:
-         نعم. أحيانا أظن المرآة نوعا من الوهم البصري. السراب. الأوجه المجوّفة.
-         أنت تخيفني.
-         لا أتعمد إخافتك. هناك الكثير من الأشياء أواجه صعوبة في عدم التفكير فيها.
أوسا تتهرب من الفكرة:
-         لكن الناس، الجوالات، عدسات الكاميرا... كلها تقول لنا ما تقوله المرايا!
ثيودور يرفع رأسه فيرى عينين سوداوين متوهجتين. يبتسم:
-         كل الناس أيضا يرون السراب.
ثم ينظر إليها صامتا. لقد اكتشف أن لديها ترقوتين هشتين. نحولها الجسدي يغريه بضغطها بين ذراعيه. إنه يشتهيها. تركيبها الطفلي ينفي عنها كل عيوب وآفات البالغين. يتكلم بصوت أعلى ليقاطع صوته الداخلي:
-         حتى لو صرنا وصارت الأشياء حولنا أطول بأربعين مرة لن يلاحظ أحد هذا.
أوسا ضاحكة:
-         أنت حقا عجيب. أحبك.
ثيودور:
-         هل تعلمين؟ إنني أكره صورتي في المرآة. لذا أحاول تغيير العالم لأمحو وجهي. هاتان العينان وهذا الفم (يتكلم بينما ينظر إلى وجهه) وهاتان الأذنان السخيفتان وهذه الأنف الغبية.. إنها نسخ شابة من صفات أبي. (يحرك إصبعه على شاشة الجوال، يريها صورة). هل ترين هذا الواقف بكل ثقة؟ إنه أبي. أعني الإله الذي خلقني على صورته. إنه الضابط الذي يجعلني آكل الزجاج إن عصيته.
تناوله أوسا الجوال. تقول بارتباك:
-         ثيودور .. إنك منفعل. دعنا نتكلم عن شيء آخر.
-         لن نفعل. أقصد إذا أحببت أن تفعلي فافعلي أنت. أما أنا فهذا هو موضوعي المفضل.
-         هل كان أبوك قاسيا معك؟
-         لا.
-         أمك؟
-         لا.
-         إنك حقا تشبه أباك تماما. كأنكما توأم. لكن تبقى هناك فروق كبيرة.
-         مثل ماذا؟ الأفكار؟ (يضحك) إنها من توريث الأب الأكبر. حضرة اللواء "المجتمع". يا صغيرتي (تلتفت إليه باهتمام) نحن في هذه الحياة أبناء لآباء دائمين.. الضباط في كل مكان. لو كنت رساما لصورت هذا في لوحة: ضُبَّاط يمتلكون لحى طويلة ويشدون حول أجسادهم ملابس ثقيلة، يشهرون المسدسات في وجوه بعضهم، ويركلون الجنود الصغار الذين يستلقون على الأرض ويلمعون أحذيتهم.
شعرت أوسا بشهوة البكاء. لم تعرف كيف فتنها هذا الكلام القاسي.

المشهد الخامس: حلم
ثيودور وحيدا

يتحرك القطار بسرعة لطيفة. تتدلى جمجمة ثيودور ويرفعها كلما سقطت من على كتفه. وفي كل مرة يغلق فمه قبل أن يبلل الريق معطفه النظيف. رجال في الخمسين يحدقون في ساعات أيديهم متوجسين من التأخر عن مواعيدهم. مراهقون يستعدون لفعل كل الأشياء وخرق كل القوانين في مدينة أحلامهم. شاب يوهم الناظرين بأنه يقرأ كتابا بينما يخبئ يمينه تحت ملابس رفيقته التي تكبره كثيرا. أطفال يصرخون معلقين على صدور أمهاتهم. ثيودور يلعب بدمية على هيئة طفلة شقراء. النار تملؤ المكان. رؤوس اللهب الحامية تقترب من ساقيه. هدوء. لا أحد هنا ليصرخ أو يفعل شيئا. ثم يتحرك ثيودور الصغير ويركض نحو جدار عال، ممسكا الدمية بيد ويضرب بالأخرى باكيا. افتحوا لي. افتحو لي. الجماجم الغاضبة تقترب. تدنو من أصابعه المستطيلة الرقيقة ولا تمسها. يشعر ثيودور بالدفء. يتفحص الظلام المحيط به. يسمع نداء رجل من خلف الجدار، صارخا بصوت حنون:
-         فؤاااااد. تعال بسرعة إلى هنا. تسلق الجدار.
يوجه رأسه الضخم يمينا ويسارا وإلى الخلف:
-         لااا.
-         ستحترق إن لم تفعل. هيا يا حبيبي.
-         قلت لا. هذه النار لن تحرقني.
ينخفض الصوت قليلا. ينوح. يتهدج:
-         ما هذه المصيبة التي حلت بنا؟ ثيودور، أرجوك اتبعني ولن أضربك.
-         لن أتبعك بعد اليوم.
-         لم لا تصدقني يا ثيودور؟
-         لأنك لا تقول الحقيقة. النار لا تؤلمني كما تؤلمك.
-         يا بُني النار تحرق كل شيء. هيا تسلق.
يغطي ثيودور أذنيه بيدي الدمية. ويردد بصوت مبحوح:
-         النار لا تحرق شيئا. يا صغيرتي. إنها تحرق الكبار. فابقي معي ولن تحترقي. ولا تعصيني يا صغيرتي.
يسكت الصوت ولا يبقى إلا سكون الظلام وصوت النار. ينتعش ثيودور. يلين نائما.
-         فؤااااد. آه فؤااااد. إنني أحترق.
يستيقظ ثيودور. يرى والده يقاوم جماجم اللهب وهي تنطح جمجمته المذعورة. يحاول الاقتراب منه لكن الدمية تلتصق بساقه:
-         لا تقتل نفسك يا ثيودور. إذا لمست جسده ستحترق.
يحاول ثيودور أن يركض لكن الدمية تعيقه. يحاول تمزيقها لكنها فجأة صارت قوية كأنما صنعت من حديد. يتحرك ثيودور في مكانه باكيا خائفا ويتخيل والده يذوب في النار كما يذوب الشمع.

المشهد السادس: الموت
ثيودور، أوسا، العجوز، جميع الركاب

-         ثيو.. ثيو لا تخف أنت هنا.
يفتح عينيه ببطء فيرى وجه أوسا.
-         ما هذا؟ هل كنت أحلم؟
-         ربما. كنت تعاني من صعوبة التنفس. لا عليك. استيقظ الآن واهدأ.
يزيح رأسه بعيدا عنها. يفرك عينيه:
-         لقد كان حلما مؤلما. احترق أبي.
-         أبوك؟
-         نعم أبي. ربما هو ليس أبي لكنه كان رجلا ضخما.  
تعطيه قارورة ماء قائلة:    
-         هل ستقصه علي؟
يشرب، يستطعم الماء في فمه، ينظر إليها:
-         لا أذكر شيئا. متى سيصل هذا القطار الكريه؟
كانت أوسا تمسد شعره بأصابعها التي تنتهي بأظافر طويلة شاحبة، غرست أظافرها في أعماق شعره فارتاح جسده وهدأ. وفي تلك اللحظة سُمِعت شهقة خفيفة تبعتها سقطة تلك العجوز الثقيلة، ونبح الكلب مذعورا.
قفز ثيودور وأحاط معصم العجوز بأصابعه فلم يجد نبضا. نظر حوله فلم ير سوى أوسا تحيط فمها بيديها جاحظة العينين. انهمر الركاب وتجمعوا حول العجوز وكلبها الذي لم يتوقف عن النباح وأقبل الشرطي يتفحص الموقع بعيني محقق. أعلن ثيودور كعادته:
-         فلتنصرفوا أرجوكم، نحتاج إلى هواء نقي.
ثم حاول إنعاش العجوز ولم يكن لديه حتى الدافع لإنقاذها. ألصق سببابته اليسرى بإبهامه حول فمها، وضع فمه بحذر ونفخ بسرعة. ثم انتقل إلى صدرها وهزه عدة مرات. ثم عاد إلى فمها. كرر هذا مرارا ثم بدا عليه اليأس وهو يرفع وجهه إلى الجميع ويعلن وفاتها. صمت الركاب وأمسكوا ببعضهم، وصرخت أوسا صرخة انتهت بسقوطها فاقدة الوعي.
نهض ثيودور وأهرق بعض الماء على وجهها المصفر فأفاقت ببطء، وسألت:
-         أين أمي؟
رد ثيودور مندهشا:
-         هل هي أمك؟ لا تقلقي لقد ماتت.
-         لا، غير معقول.
-         لماذا؟ لقد ماتت.
صمتت أوسا قليلا ثم قالت ناظرة إلى أمها ذات الجسد السمين الممدد على أرض القطار:
-         غير معقول يا ثيودور .. غير معقول يا ناس. لقد كانت في طريقها للموت في فرنسا وطن آبائها وأجدادها!
ثيودور ساخرا:
-         ولكن من كان يدري أنها ستموت قبل أن يصل هذا القطار اللعين؟
أوسا شاردة العينين:
-         ثيو.. حبيبي إنها أمي.
ثيودور معتذرا:
-         أعلم هذا، لكن يجب أن تتأكدي من أننا سنسعى لتجهيز جنازتها في فرنسا، لا تقلقي أوسا.
دنت عجوز أخرى وضمت أوسا الباكية. انصرف الركاب حزينين إلى مقاعدهم بعد أن أمرهم الشرطي. غطى ثيودور العجوز بمعطفه الكاكي النظيف وكان ذهنه مشغولا بصورة مخيفة: إن الرجل الذي يتحكم بالقطار هو الوحيد الذي لا يجب عليه التعاطف مع هذا الحدث؛ فهو ربما يشرب البيرة أو يغازل صديقته في العمل، وبدا هذا مثمرا بالنسبة لطريقة تفكيره العجيبة.

المشهد الأخير: الحياة
ثيودور وأوسا في محطة القطار

نزل ثيودور حاملا حقيبة صغيرة لا تتسع لأكثر من بذلتين ولابتوب وأدوات استحمام، نزل مسرورا وأشبع رئتيه بأول موجة هواء غمرته في محطة Gare-De-Lyon وقد كانت مطعَّمة برائحة التبغ والمنتظرين وبملامح الشاب الذي منحه فرصة الكلام بالعربية:
-         حمدا لله على سلامتك، عربي؟
-         نعم يا سيدي، ناقة أحد أجدادي العظماء أحبت مراعي شبه الجزيرة العربية كما أتوقع.
ضحك الشاب الذي كان ينطق حرف السين بطريقة مستفزة وبرز تقويم أسنانه ذو اللون الأحمر:
-         أود سؤالك عن الطقس في جنيف.
-         مناسب للـ... لم أنت مسافر؟
-         لمجرد تغيير الجو.
-         هل أبوك يعلم؟
-         أبي؟
سأل الشاب مستنكرا:
-         لماذا؟
ثيودور باسما بحماقة:
-         آسف، كنت أسأل نفسي. لن تجد الكثير من الفروق، لا أحد يغير جوا أوروبيا بآخر أوروبي، الأجواء الأوروبية تشترك في نفس درجة الرتابة ودبق الزحام في هذه الأيام، بصراحة؟ أنت تسأل الرجل الخطأ، فلتسأل أشخاصا ذاهبين، لا رجلا عائدا وفي انتظار جنازة.
الشاب يفتعل التعاطف:
-         جنازة؟ عظم الله أجركم، هل تحتاج مساعدة؟
-         لا لا.. لا أعرف صاحبة الجنازة إلا بكلبها الأبيض الذي يلحس ساقيها المقرفتين دائما. لقد كانت أم رفيقتي في السفر.
-         وكيف حال رفيقتك الآن؟
-         سعيدة جدا.
-         يا رجل، إنك تربكني. كيف تكون سعيدة وقد فقدت أمها اليوم؟
 يطلب منه ثيودور التنحي جانبا، يجلسان، يجيب ثيودور بلا تفكير:
-         رأيتها سعيدة. لا أحد يعلم كم أن وفاة أحد الوالدين أو كليهما تبعث السعادة، طبعا يجب أن نكون بالغين وقادرين على التناسل عندما يموت والدونا شر ميتة، فسنكون ساعتها قد انتظرنا موتهم طويلا.
-         أكره أفكارك.
-         طبيعي جدا. فأنت ممثل بارع. ها انظر، إنك تكبت رغبتك في ضربي.
دنا منه الشاب وصفعه صفعة أدمت خدَّه الأيمن. كان شابا رياضي الجسد وسريع الغضب كما تنبأ ثيودور. لكن الذي أدهش الشاب وأدهش الناس الذين تجمعوا أن ثيودورا لم ينفعل. كأن الأمر عاديا جدا كإلقاء تحية أو التلويح بيد للوداع بطريقة مؤلمة. أحس ثيودور بدوار طفيف ورنين في أذنه وتوجه إلى باب القطار ليتلقى أوسا الحزينة.  
قال لها وهو يلتفت إلى الوراء ويلمح الشاب المؤلم يبتعد عنه:
-         كيف حالك الآن؟
أوسا مبتسمة:
-         أشعر بالانتصار عليك.
-         تقصدين الصفعة؟ اعتدت عليها يا أوسا، أبي كان ينهي كل مجالسه الوعظية معي بصفعة تكون أخف بالنسبة لي كل ليلة.. هذا الشاب اللعين أعاد لي صورته الكريهة، لكنني سعيد لأن وجهه الذي يشبه وجهي قد توجَّع.. أستطيع أن أواسي نفسي وأقول إنه صفع أبي الذي يتمرد في وجهي.
-         أفكارك ليست سعيدة دائما. لكن هل تعلم؟ اكتشفت أن ما قلته عن الآباء والأمهات صحيح. قبل قليل كنت أنظر إلى وجه أمي، لمسته، وجدته جافا كجدار قديم، كرهته، كانت أمي تجبرنا أنا وأخي الأكبر على أكل البيض المسلوق كل صباح، وعندما نعترض كانت تحشو أفواهنا به.. كبرنا فصارت تحشو أفواهنا بالكلمات التي يجب أن نقولها لمن هم أكبر منا، والصلوات التي يجب أن نرتلها كل أحد.. لكن أبي شيء آخر، إنه ملاك خطفه الموت قبل أن أراه، قيل لي إنه كان طبيبا.. مثلك يا ثيو وقد مات في أحد المختبرات عندما تيبَّست رئتاه من محلول الفورمالين، وجدوه ميتا بلا وصية ولا تركة، وقرؤوا آخر كلمة كتبها في تقرير عن حالة عنف أسري كان ضحيتها طفل في الثالثة جيء به ميتا إلى المستشفى بأصابع محروقة.
دنت منه وناولته اسمها المكتوب على عقدها الذهبي، قالت:
-          تزوجني.
نظر إلى وجهها طويلا ثم قال وهو يتراجع إلى الوراء:
-         لن أعيش بقية عمري ضابطا قاسيا مع جميلة حمقاء مثلك!
هزت رأسها وكانت تشعر بالسعادة لأنه كان يختفي من وجودها. ثم خطرت لها فكرة أرعبتها وجعلتها تحرك رجليها بسرعة نحوه. عندما توقفت بالقرب منه كان يأمرها بالعودة. التقطت أنفاسها وسألته باكية:
-         لكن.. هذه الروح التي تسكنني.. كيف ستنال الخلود إذا مت وحيدة بلا ذرية؟
أجابها بدون أن يتوقف:
-         كوني فنانة ولن تموتي. لكن لا تكتبي على الزجاج لأن اسمك سينمحي!
أوسا تبكي بصوت عال وتركض بعيدا عن القطار الذي تتجمد فيه أمها العجوز مسجَّاةً بمعطف كاكيٍّ نظيف. يغيب صوت أوسا حتى يختفي وتعلو أصوات باريس التي لا ينقطع دبيب الحياة فيها.  يخرج الشرطي ويبحث عنهما لكنه يعود إلى بعض الركاب الذين اضطروا للانتظار مجاملةً ومواساة لأوسا. رفع سماعته ونادى نداء سريعا، ثم قال غيرَ ملتفتٍ إلى أحد:
-         هؤلاء الأطفال لا يحترفون الحياة، لقد لوثهم العلم تماما. 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.