28‏/08‏/2015

الفن بلغة تطورية




واحد من أعظم ألغاز الفن هو لماذا الفن موجود؟ ومع أن رغبتنا لابتداع الفن والاستمتاع به شائعة جدا لدرجة أنها تبدو طبيعية كالأكل والتكاثر -الثقافات كلها تقريبا ترسم، وترقص، وتغني، وتؤلف الشعر، وتحكي القصص- إلا أن أصول الجماليات aesthetics لدى الإنسان غير محددة. الغريب في الأمر أننا إذا نظرنا إلى الفن أيا كان من ناحية بيولوجية فإنه لا يوفِّر أية مميزات تكيُّفية. ولماذا قد يودُّ أسلافنا قبل التاريخ أن ينفقوا وقتهم في الرسم والزخرفة بدلا من الصيد والجمع؟ ويبدو أن من غير المحتمل أن يكون الشعر قد ساعد أحدهم في أن يأكل أو يتكاثر. عقلنا يحتاج إلى ما يقارب 20% من طاقتنا الأيضية  metabolic energy و40% من سكر الدم، حتى مع أنه يشكل فقط 2% من وزننا. إنه عضو مكلف، فلماذا نضيعه في الاهتمامات الجانبية كالفن؟ 

من بين كل الفنون، تحظى الموسيقى بالاهتمام الأكبر عند علماء النفس التطوريين. والنظرية السائدة هي أن "الموسيقى" قد تكون اختيارا جنسيا. وبالطبع، كان داروين أول من أثار هذه الفكرة في كتابه "أصل الإنسان"، وقد عبر عنها قائلا: "عندما يثير الخطيب المتحمس أو الشاعر أو الموسيقيُّ بأنغامه المختلفة وإيقاعاته أقوى المشاعر في مستمعيه، يراودنا بعض الشك في أنه يستعمل ذات الوسائل التي استعملها أسلافه أنصاف البشر لإيقاظ العشق المتَّقد في بعضهم أثناء مغازلتهم ومنافستهم". 
لاحقا، في القرن العشرين، أيد علماء النفس التطوريين جزئيا هذه الطريقة في التفكير ومنهم جيوفري ميللر Geoffry Miller ودانيال ليفيتين Daniel Levitin. قالوا إن الموسيقى هي نوعا ما طريق للحصول على الأنثى. لكن علماء نفس آخرين مثل جاري ماركوز Gary Marcus شككوا في هذه الفكرة بأن أشاروا إلى مشاكل متعددة، منها أن الإناث بارعات في الموسيقى كما الذكور! يقول جاري ماركوز: بالإضافة إلى أن استثمار الموسيقى في نقل جيناتهم يبدو كرهان مرعب إذا التفتنا إلى معدل التفاوت بين الموسيقيين الفاشلين والناجحين. وإلى جانب هيندركس Hendrix (عازف روك أمريكي) و جاغر Jagger (شاعر وملحن إيطالي) وآخرين قليلين، الموسيقيون نادرا ما يحصلون على النجاح الكافي أو الاعتراف بأغانيهم لإعطائهم ميزة جنسية تُذكر. ويشير ماركوز إلى أن الأكثر أهمية هو أن الموسيقيين يبحثون عن الموسيقى لشغفهم بها، لا للتأثير في الآخرين. 

وهذا هو المُلغز في الموسيقى: إنها تضعنا في حالة مدهشة من الانسياب والخفَّة. وأكثر من ذلك، إنها تمنح الموسيقيَّ والمستمع المعنى والغاية والارتياح. وكما قال نيتشة إن الحياة بدون الموسيقى خطأ. بعد كل هذا، يبدو غريبا حقا أننا نحن البشر نحصل على الكثير من شيء ما تافهٍ بيولوجيا. وفي حين أن لذَّة فطيرة الجبن واضحة عندما نتكلم عن السافانا الأفريقية (حيث يصعب الحصول على السكر والدهن)، يصعب الحديث عن الموسيقى بلغة تطوُّرية.

هناك طريقة لحل هذا اللغز، أن نقول إن الموسيقى ليست هي المنتج المباشر لعملية التطور في المقام الأول، وبدلا من هذا، هي منتج ثانوي byproduct لقدرات معرفية أخرى كثيرة مثل اللغة والعاطفة. ومن ثم، فالموسيقى الجيدة تقوم بعمل جيد في إعطائنا درجة معينة من المتعة. هي "فطيرة جبن سمعية" بتعبير آخر. هذا الرأي أثير بواسطة ستيفين بينكر Steven Pinker في كتابه "كيف يعمل العقل؟". وكما قال بينكر: "الموسيقى هي هدية مُتقنة ابتُكرت لتداعب المناطق الحساسة لست من وحداتنا العقلية على الأقل".

أصول نشأة الأعمال الفنية المرئية قد تكون أوضح. وللحظة، عبر كل الثقافات، فضَّل البشر البيئات التي يحصلون فيها على ميزة الارتفاع، فهناك منطقة مفتوحة من السافانا وتجمعات للمياه، وأرض كهذه كانت مثالية لأسلافنا الذين عاشوا في السافانا الأفريقية. لذا فليس من المصادفة أننا نبدي تفضيلا قويا للوحات التي تصور مناظر طبيعية مفتوحة وواسعة، وتضم زهورا وأراض خصبة وتجمعات مائية من نقطة ارتفاع مُطلَّة. 


الخلاصة أننا لا نؤلف الموسيقى للخفافيش أو الدلافين، ولا نرسم اللوحات للخُلد ذي الأنف النجمي الأعمى star-nose mole. وفي الواقع، إنتاجنا الجمالي وتفضيلاتنا محدودة ببيولوجيتنا. الفنون بالفعل محدودة في هذا السياق. إحساسات الشم والتذوق لدينا متدنية إلى حد كبير عن الحيوانات الأخرى في المملكة الحيوانية. ونحن نرى فقط شريحة صغيرة من الطيف الكهرومغناطيسي. وبقدر ما يبدو الفن غير محدود، نستطيع أن ندرك ونعبر عن جزء طفيف من الواقع. اتجاهنا السمعي المرئي للعالم سوف يكون دائما محدودا. 

مع ذلك، يصر الفنانون على تحدي التوقعات، وخرق العادات. فعل هذا سترافنسكي Stravinsky في عمله "طقوس الربيع The Rite of Spring"، وبيكاسو Picasso في لوحاته التكعيبية Cubism، وجويس في "صحوة فينيجان Finnegans Wake". ما يميز هؤلاء الفنانين هو بحثهم الدؤوب عن التجديد. لقد أرادوا إبقاء جمهورهم في حالة من الانسياب. وهذا البحث -التوق إلى التفوُّق- قد يكون اللغز الأكبر. 
كيف تشرح ظاهرة جاكسون بولوك Jackson Pollock أو آندي وارهول Andy Warhol بلغة تطورية؟ 
إن من الغريب وجود الفن، والأغرب ربما هو أننا نستكشف باستمرار طرقا جديدة للتعبير عن هذا المنتج الثانوي غير المتوقع! 

* مترجم بتصرف. المقالة الأصلية بعنوان "تطور الجماليات: أصول الموسيقى والفن المرئي" للكاتب Sam mcnerney. 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.