25‏/08‏/2015

الحياة مرة أخرى



تصويري
تغيم السماء، ثم يأخذ لونها يبهت، حتى تصفر، وإذا اصفرَّت فهي لم تعد سماء، بل ذرات غبار دقيقة عالقة قريبا من رؤوسنا، تتراكم الذرات حتى تتجمع وتتكتَّل وتقوى على السقوط، ويساعدها الهواء القوي على السقوط أكثر لتلامس وجوهنا الشاحبة وأعيننا الفارغة. لكن هذا لا يعني كل مرة أن نتَّسخ بدون أن نغتسل، إذ يحدث أحيانا أن تهدأ الغيوم فوقنا وتتهادى ممطرة نعومة الصحراء وأمانينا الساخطة. إننا في القرية الجزيرة، تحيط بها الصحراء من كل الجهات ونسير نحن ماءً ساخنا في طرقاتها، ماءً يتوق للحياة وللطبيعة. 
ثمة بعض المتفائلين من الشيوخ والصغار الذين يجلسون هادئين في انتظار المطر، وثمة بعض المتشائمين الذين يتمتعون بذاكرة قوية تحصي لهم عشرات المرات التي لم يشموا فيها رائحة قطرة واحدة بعد نهار عاصف، وثمة قليلون لم يهتموا بالأمر البتة، وأنا كنت منهم. 
كنت أتصفح الإنترنت باحثا عن كتاب مسموع قبل انطفاء الكهرباء الذي شعرت به شعورا لا يخطئ، الكتب المسموعة العربية قليلة، أعني الكتب الجيدة، لكن بعضها جيد ومرتَّب، و"حلم رجل مضحك" كان واحدا من البعض الجيد المرتب، أسرعت بنقله إلى وصلة USB وخرجت من البيت. 
أصرَّيت على الخروج في هذا الطقس الموارب، الذي لا هو بالمغبر ولا بالممطر، حالة متذبذبة من ذرات غبار تنهال على عيني، وحبات مطر صغيرة جدا تنقر رأسي. فجأة وجدتني مندفعا إلى زيارة محلات الحلويات لشراء حلوى "النوغا" العزيزة، ولم أعرف إن كان هذا الاندفاع اللاواعي لأجل النوغا، أم لأجل الخروج من وقت القراءة، أم لأجل مواصلة القراءة بطريقة أخرى، لكنني رششت الماء على زجاج سيارتي المتسخ، وخرجت بوعي ضبابي كأنني أوشك على السقوط نوما. 
بدأ اللون الكاكيُّ ينتشر في قماشة السماء ثم يتلاشى بالتدريج حتى رأيت بعد بضعة كيلومترات أنه اختفى تماما، وعمَّ الصفو اللذيذ، وأخذت رائحة الأراك تفترش الطرقات. الزجاج النظيف ينقل إلي صوت حبات مطر أكبر، ودوستويفسكي يروي لي قصة رجل مضحك يوصف بالمجنون، ويشعر بالصَّغار في كل أمره، ثم يفقد معنى الوجود، فيقرر الانتحار، يجمع قروشا ويشتري بها مسدسا أنيقا، ثم يخرج إلى الشارع مزمعا إنهاء هذه المهزلة التي يعيش فيها، وفي طريقه تصطدم به طفلة تبكي باحثة عن أمها، فيرفض مساعدتها ويطردها، لكنه يحزن بعدئذ على ما انتهى إليه من القسوة والجُبن، يعود إلى غرفته، يناقش قرار انتحاره، ثم يغط في نوم عميق...

قيادة السيارة في الأجواء الممطرة بسرعة عالية هي متعتي التي لا أجد لها فرصا كثيرة في هذه المدينة، السكة من تحتي مغسولة ومزبِدة، والسيارات تومض بالأحمر المتقطع، والرمل الصحراوي يكتسي ماء فيعبق بما يشبه رائحة الأوراق الصفراء القديمة، أو جدران الغرف المهجورة، رائحة خاصة لا تعني شيئا واحدا. 

أنا في حالة نصف واعية، جزء مني يسير مع أحداث القصة، وجزء يتمشى على التلال المبللة، وجزء يراجع مسألة، وجزء يفكر في كل هذا. أتناول جوالي وألتقط بعض الصور من خلف الزجاج البارد، ثم أنتبه إلى أنني أوشك على الاتصاق بسيارة تسير أمامي ببطء. 

أغيب قليلا في تفكير مشتت، ثم أعود إلى التشابك مع حلم الرجل المضحك، الذي صار -بكل تعقيد- حلمي، ومع تفاصيله التي تقمصتني واتحدت بي. يرى الراوي أنه "ميت!"، يشعر باهتزاز التابوت الذي يحمل فيه إلى القبر، ثم ينتقل إلى عالم آخر، يدرك كل شيء، يدرك الموت والقبر والعالم الآخر، وينقل إليَّ الفروق التي تتفاعل في ذهنه والتشابهات.

دوستويفسكي هو من الكتاب الذين كتبوا معاناتهم ورأوا أن على الناس أن يلتفتوا إلى جوهر الوجود، الذي هو الشر والعذاب والابتلاءات التي لا تنتهي، فهو قد صارع أبشع صور الحياة والموت والمرض، فقد ابتدأت أحداث حياته بفجيعة حكم الإعدام الذي كان لعبة سياسية لإرعابه وجماعة من الشباب المتمردين، ثم عايش الأعمال الشاقة والذل والكثير من الظروف التي نتكلم عنها بأسلوب نظري تجريدي ولا نعرف وقعها في النفس الإنسانية، وأصيب بنوبات الصرع التي لاحقته ونغصت عليه أفراحه. و"حلم رجل مضحك" هو قصة قصيرة يمرُّ فيها مرورا سريعا على بعض أشكال الوجود: الخير، الشر، الطمأنينة، القلق، البدائية، التطور، العلم، الحكمة في حبكة أخَّاذة. 

دخلت أكثر من محل حلوى ولم أخرج بعزيزتي "نوغا"، وكان المطر الذي بلل ملابسي أيضا يثير غرائزي الأولية ويحفزني على إشباعها، فقررت شراء الكباب. حاجة ما ساعدتني على مواصلة المشي إلى المطعم، كأنما هي حاجة إلى الأكل، أو إلى تجريب مذاق المشويات في عصر ممطر لأغراض تتعلق بالإلهام والكتابة. تساءلت بينما أنتظر: ألا يكون السيد فيودور بالغ في هذا الحلم؟ هل من الضروري أن يكون حلما لا هذيانا أو حالة نصف واعية؟ ما أعرفه أن الحلم لا يأتي بهذا الترتيب وهذه المنطقية، بل هو أشبه برفٍّ من الأحداث القديمة والجديدة يسقط فتتبعثر التفاصيل في كل مكان بلا أي ارتباط.. حقا إنه يبالغ، ولكن الأمر لا يتجاوز حدود القصة، فليبالغ كيف شاء. 

إن الرجل المضحك يستقر لبعض الوقت في عالم جديد، فيه أناس طيبون متآخون، وفيه كل معاني الوئام والحب والتعاضد والسلام، هو عالم أشبه بما نقرأه في الكتب المقدسة من وصف للحياة الأولى، أو ما تمنِّينا به هذه الكتب بما سوف نعيشه في الحياة الآخرة، لكنه -الرجل المضحك- سرعان ما يفسد عليهم حياتهم، فيعلمهم الشر، يلقنهم الكذب فيستعذبونه ويتعلمون فنونه، ويعلمهم الغش، والفخر، والأفعال التي نغوص فيها تماما... ثم يعود إلى ضميره "اليقظ!" فيلوم نفسه على هذا الإفساد، ويجعلني أتابع معه كيف اكتسب الإنسان هذه الصفات، ولماذا اكتشف العلوم والحكمة، ولماذا تعلم أن يقتنع بالمثاليات، ففضل معنى السعادة على السعادة، واخترع المذاهب والفلسفات التي تبرر له القعود والتلذذ بالتأمل والعذاب. وهو بهذا التسلسل كأنما يحكي قصة البشرية بسرعة لطفلة لا تود النوم، بأسلوب سهل وعميق، وهو بهذا التسلسل كأنما يظهر لك في نهار ما أو مساء ليعيدك إلى نفسك، ويعينك على ترتيب حياتك. 

استمتعت بأكل الكباب في المطر، كنت أقود سيارتي، وأضم سيخا بخبزة وآكل متابعا باهتمام حلم هذا الرجل الذي ضحك عليَّ، أهز رأسي أحيانا مؤيدا، وألويه أحيانا رافضا لبعض التفسيرات غير المتأنية، لكنني في نهاية القصة اعترفت بأن فيودور استحوذ على وعيي، وأعطاني فرصة للحلم. 

للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي أعمال شهيرة مثل "الجريمة والعقاب"، و"الأخوة كارامازوف".. وقد تميز في أعماله الأدبية بالاهتمام بالنفس الإنسانية، وما يعتمل فيها من النوايا المختلفة، والانفعالات التي يصفها بمهارة. 
لقد رافقني ساعة من آخر النهار الممطر، وشاركني الروائح الأقرب إلى نفسي. 

يستيقظ الرجل المضحك في وقت متأخر من الليل، ويكتشف أن كل ما عاشه كان حلما طويلا لا أكثر، لكنه يكتشف أيضا "الحقيقة" التي ينوي أن يحمل رسالتها ويبشر بها حتى يموت، وهي حقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الوجود، صحيح أنها تبدو حقيقة غائمة كعصر اليوم، لكنها ناسبته وراقت له، كما تناسب الكثيرين وتروق لهم...

أما الطفلة الصغيرة، فيقرر أن يبحث عنها بكل طاقته، كأنها كانت رمزا للـ "ضمير" أو "القيمة الجمالية" أو "الفن" في حياته. 



2 التعليقات:

بالفعل اعجبتني وراقت لي كلماتك هذه رغم أنني عثرت عليك بالصدفة بعد ان القتني امواج محيط جوجل متلاطم الامواج على ضفة نهرك ، لقد شدتني سطورك منذ البداية ، ففي عالم اليوم عالم التكاثر والتكدس في كل شئ مع الشعور بضيق ونفاد الوقت بسرعة لا يمكن لنا ان نقرأ كل شي ولا ان نطيق قراءة اي شي ولا بد من الانقاء السريع والانتقاء وسط هذه الاكداس المتراكمة من الكتابات والخربشات والصرخات والصيحات ليس بالأمر السهل ! ، البعض يختار الطريق الاسهل وهو الانتقاء في القراءة عن طريق الاسماء الشهيرة والمعروفة ، والبعض مثلي طور حاسة أدبية وذوقية سادسة تتشمم رائحة الابداع في الادب والفكر عن بعد ، انا شخصيا تكفيني قراءة عدة سطور من اي كتاب او اية مقالة لأعرف مع أي نوع من الكتبة اتعامل ! ، مزيدا من العطاء والتألق وتقبل خالص تحياتي

مرحبا بك أيها الآتي من أمواج المحيط
شكرا لك على تعبيرك عن إعجابك بهذا الجمال والعمق، وأرجو أن تكون صديقا دائما للمدونة.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.