16‏/09‏/2015

انطباعات عن اسطنبول (2)



إلى جزر الأميرات
الجزيرة هي المكان الذي يفضله القادمون من الصحراء، بل هي في الواقع مكان مفضل لدى الجميع، إنها وطن تحتفظ به الذاكرة منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، وبكل بساطة تسهل ملاحظة بقعة من الخضرة يطوِّقها الماء، ويسهل التعلق بها. نفيت نفسي إلى الجزيرة الكبرى Büyükada بين تسع جزر تتراصُّ في بحر مرمرة. إنها منفى غير المستقرين، والباحثين عن الهدوء، الهاربين من الضجيج المدني. 
خططت لزيارة جزر الأميرات بعد الوصول مباشرة، لكنني أخطأت حين نويت زيارة أكثر من جزيرة، ثم التوقف في منطقة كاديكوي Kadıköy للسير بطمأنينة في شارع بغداد، وتناول عشاء آسيوي. استهلكت منا الجزيرة الكبرى كل الوقت، ولأن فينا غريزة قديمة أستطيع تسميتها "تفضيل الاستقرار" لم نفضِّل الانتقال إلى جزيرة أخرى عندما سمعنا صوت الباخرة وهي تغادر. أو لقد "خفنا" من كون الجزيرة القادمة سيئة الحال بما يكفي لإفساد المتعة التي منحتنا إياها مظاهر الجزيرة التي نحن فيها. 
خرجنا من الوجه الأوروبي لهذه المدينة الملهمة، متهيِّبين من التجربة الأولى، نستنشق هواء البسفور الذي هو مزيج من المآذن الرخامية العالية والمقاهي المتواضعة المنبسطة بحرية على ميناء كاباتاش، وأنفاس الناس المندفعين بلهفة نحو الصيف. 
وشيئا فشيئا، تابعت أفكاري وهي تتخذ شكلا آخر كلما بدت اسطنبول الأوروبية تصير أكثر غموضا. أدركت أنني منجذب إلى الوجهين كطفل خيرته شقيقتاه: أينا أجمل؟ وحدث أن تسرعت باختيار مقعد وضاع صديقي في الزحام فاختار مقعدا آخر خلفي، فاضطررت إلى اختراع جليس لي من ذاكرتي، وتصفحت هذه اللحظات التي أكتب فيها الآن... نعم، لقد رأيتني أكتب عن هذا الطريق المائي، وعن زبد البحر، والأمواج التي ترتفع قليلا لتكشف عن لون فيروزي يشبه في روعته لون الماء الذي يبلل أعصابي المرهفة حينها.


أول ما تمشي عليه العين: سرب من حمام غير مألوف
الوصول دائما عذب. إنه رغبتنا الأزلية التي نسافر لأجلها. في الطائرة فكرت: هل نحن البشر نسافر لنصل؟ قرأت أفكار الذين سافروا والذين نووا السفر فلم أجد حدثا أكثر قداسة من الوصول.
عبرنا الممر الهش بين الباخرة وأرض الميناء، ودع صديقي رفقة طيبة، وتشبثت بيد جليسي الذي يشبه الطيف، حتى إنني التزمت الصمت قليلا ونحن نجتاز البوابة الصغيرة، كنت وقتها مجموعة أَناسيّ: متحضِّر يخرج من مدينته إلى مدينة أخرى لمجرد التجول، وبدائي عشق صوت الماء، والأغصان المتمايلة، بالرغم من توجُّسه وتردده، وآخرون كثيرون كانوا يطلبون مني أن أحتفظ لأجلهم بالكثير من الصور. وهم الذين سرقوا مني ربع وقتي.
أول شعور انتشر في دمي عند الدخول كان غريبا، شعرت بالانتماء إلى المكان فجأة، فالتمثال الذي ينتصب أمامي بضخامة بنيتة منقوش في تلافيف دماغي، والبيوت الشاهقة خلفه هي جزء من تخيلات سابقة لم أعان في استذكارها، والناس هؤلاء هم أقاربي الذين تربطني بهم شهوة الاغتراب ذاتها. 



إطلالة على البحر من أعلى الجزيرة
سلكنا طريقا ضيقا، أرصفته مجموعة كبيرة من الناس والدكاكين، وهو يستطيل متفرعا وعاليا وهابطا بلا نهاية. إن المكان هنا أكثر حميمية من أي مكان يعج بالأبواق والغازات في العالم، القليل جدا من السيارات الرسمية تسير بطمأنينة، ويمر بك كل الوقت أناس منزوعوا الملامح يتمكنون من قيادة دراجاتهم في الزحام، والذين أغرموا من قبل بنمط الحياة الأكثر قدما ركبوا عربات تسير بها الخيول، ويوجهها حوذي سريع الغضب. أما نحن فمشينا، أردنا أن تتشبع أجسادنا بالطرقات، وأردنا أن نعبئ أعصابنا الجافة بهذه المدركات والمثيرات الحسية الكثيرة.

وارتفع داخل جمجمتي صوت رائع
في طريقنا إلى الداخل، كانت الشوارع تقل سعة، وتحتمل الأشخاص الذين يتمتعون بالهدوء، وكانت وجوه جديدة تظهر وتنبهنا إلى وجودها. إنها قوية الحضور لما تحمله من الأزلية والفن. واحد منها كان وجه رسام كاريكاتير، يمازح الجميع بلا تحديد، توقفت أتأمل تجاعيد ذراعيه، وارتفع داخل جمجمتي صوت رائع وغير مفسَّر. إنه يشبه شخصا مقربا: سيغموند فرويد.
تعمقنا في المشي، وتذوقنا البوظة، واستوقفتنا اللوحات الفنية المعلقة على عتبات بعض المحلات، تحسسنا القطع الخشبية والمعدنية برهافة، وجربنا القبعات المصنوعة يدويا، ولفتتنا روائح الأزقة الكثيرة كلما اقتربنا من وسط الجزيرة.

تساءلت: هل لو كنت ابن هذا المكان سأفتشه كما أفعل الآن؟ وأجبت مباشرة: كلا، فهنا أشكال لم تعرفها العين من قبل، وبداخلي إلحاح قوي، أشتهي رسم كل شيء في الذاكرة؛ وهذا جزء من شخصيتي كإنسان يعرف قيمة الوقت، إنني باختصار أود أن أتمكن من حفظ كل شيء هنا، لماذا؟ لأنني لا أريد العودة والاكتشاف، سأسافر إلى مكان آخر. 

الساحة الأولى والأخيرة
لا أدري كيف خرجت من إعصار الموسيقى ومحمود درويش، عندما افترشت العشب آمنا من الناموس والذباب، استنتجت أنني للتو كنت غارقا في "مديح الظل العالي" بينما أتجول بالدراجة الهوائية، وأطيل النظر في صناديق التوت البري. حقا عندما لامستُ العشب انتعشت ذاكرتي فطفقت أردد: "كم سنة.. كم سنة.. كم سنة".
الاستلقاء على العشب أسرنا أنا وصيديقي، فتنازلنا عن المضي إلى جزيرة أخرى، وتنازلنا عن عشاد كاديكوي، وتنازلنا حتى عن المزيد من التجول. هذه الساحة التي ينتصب فيها التمثال هي الساحة الأولى والأخيرة، وهي النقطة التي اتسعت، والتوسع الذي صار ضئيلا في الروح.
أنهينا بقاءنا هناك بالإسراف في التقاط الصور، كمن يعمِّق النفس النهائي من سيجارته الوحيدة في سجن أبدي، وركبنا أول باخرة إلى مينائنا كاباتاش... 

بكل لؤم، أسرعنا واخترنا المقاعد المشرفة على الماء. 

وجديدا كان الغروب في جسدي
أتابع ببطء كيف تغرب الشمس
أتكئ وحدي
أنا الآن وحدي وصديقي يلمس كتفي كل مرة
ليريني صورة ويسخر من صوري
لكنني كنت جديدا
وجديدا كان الغروب في جسدي
أرقب الجبال 
كيف تمسي ظلا؟
وأوزع اهتمامي بالأمواج

كيف تعود كقافلة خاسرة؟
وتشغلني فتاة حلوة الملامح
فأتذكر..
كيف كان النهار الدافئ؟
لكنني كنت جديدا
وجديدا كان كل شيء في جسدي
أتشمم الملح
وأترك أصوات الطيور الجائعة

أتركها تنطبع في روحي
لأنني مسافر
والمسافر يفعل كل شيء



0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.