في ذلك اليوم المشهود اجتمع كل الناس ليمتعوا أنفسهم بمشاهد الموت. خرج الرجال والنساء والأطفال متجردين من همومهم ومخاوفهم، غير مبالين بمظاهرهم، حفاة، فارغي البطون، يحدوهم إلى ساحة الموت شعورٌ دفينٌ بالتجدُّد والخلود وحاجة إلى خوفٍ حقيقي ينسيهم أوهامهم.
انتصب قاضي القرية بثبات ووزَّع وجهه بين الحشود وقال: يا أيها الناس، إن هؤلاء الثلاثة مجرمون بموجب دستورنا العادل والحكيم. فالأول يتبع دينا غير دين آبائنا وأجدادنا، والثاني لا يتبع دينا ولا يؤمن بإله، والثالث ما عرفنا له حقيقة، فلا هو بالمتدين ولا هو بالكافر. فوجب التخلُّص من أفكارهم الفاسدة وأرواحهم الملوَّثة. وكما تعارف الناس الذين هم منا ونحن منهم سيُشنقون بعد إتمام الطقوس المحترمة التي لا نفرط فيها.
وكانت عادة أهل هذه القرية أن يستمعوا إلى الكلمات الأخيرة التي يقولها المحكوم عليهم بالموت ثم يودعوهم قائلين بصوت واحد: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. كنوع من الانتقام مع حفظ الجميل.
بدأ القاضي بالمجرم الأول، فأشار إليه بأن يبدأ خطبته ويوجز، فقال مبتسما: ما عساكم آخذين مني؟ جسدي المتعب الفاني؟ خذوه هنيئا لكم، فإن روحي صاعدة إلى الحقيقة التي اخترت أن أعبدها، ولو كانت مختلفة كل الاختلاف عن الحقيقة التي ورثتموها. عودوا إلى دياركم أيها الرجال، وعدن إلى دياركن أيتها النساء، فإنني عائدٌ إلى ربي.
وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فهلل الجميع: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة.
ثم أشار القاضي إلى المجرم الثاني، فقال مبتسما: ما بال أقوام يقتلون العقول التي تفكِّر عنهم؟ سحقا للجهل الذي أنتم فيه! لو تركتموني في مختبري وتجاربي وأبحاثي لما آذيت ذبابة ترفرف حول أجسادكم النتنة.
وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فهلل الجميع: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة.
ثم أشار القاضي إلى المجرم الثالث، فقال مبتسما: إنني أنا الفنان، وهذه جريمتي. ما هو الموت الذي جئتم للتلذذ بصوته ورائحته؟ إنه لا شيء. هل تتصورون أن حبلكم هذا الذي يلتف حول رقبتي سيُلغيني؟ كلا. أنا آسفٌ عليكم، وآسف على صديقيَّ اللذين بردت أنفاسهما منذ لحظات، فكلكم لم تفهموا الموت كما فهمته. إن الحياة امتداد أيها الحمقى.. إنها امتداد واستمرارية. إنكم جميعا في مرحلة الوجود المادي، تأكلون وتنامون وتتكاثرون وتلعنون الموتى، فأين ستكونون بعد عام أو عامين أيها الشيوخ القذرون؟ وأين ستكُنَّ بعد عام أو عامين أيتها العجائز القذرات؟ وأين ستكونون بعد ستين أو سبعين سنة أيها الأطفال المساكين؟ في اللاشيء، ينتظركم دود المقابر وظلامها، تنتظركم لعنات الناس من بعدكم.
أما أنا، حتى لو كنت سبب جدلكم وأرقكم وآلام رؤوسكم، فإنني خالد فوقكم، معكم وبعدكم، في عقول شبابكم المتمردين وفي عقول أبناء شبابكم. إنني لا أخاف الموت الذي تخافون، فما هو إلا نهاية سيئة لقصة الرعب التي حُكيَت لكم. فأخبروني إن شئتم كيف يشعر الميت بموته؟ وكيف يتحسس آثار الطعنات على جسده؟ وكيف يبحث عن أطرافه المشوهة أو المسروقة؟ وكيف يسمع اللعنات والصلوات؟
ما الموت إلا نوم طويل، أخرج فيه كالحلم وأزعجكم بأفكاري، أكون حلم فتياتكم وقدوة صبيانكم، وأكون فيه صوت الناي في أغصان حقولكم، ووقع الرقص في ساحات أعراسكم، أخرجُ، أعيدُ تشكيل ذاتي، أتجدد، أنمو، أكبر كأسطورة، أستمر، أخلُد. فعودوا إلى دياركم إني معكم وبعدكم.
وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فنظر الناس إلى بعضهم، ثم هللوا: اللعنة، اللعنة، اللعنة.
2 التعليقات:
"ما الموت إلا نوم طويل" - مخيفة هذه الفكرة!
==============
رائحة الموت وصوته. لا عجب أنهم سكتوا وأنصتوا.. ووعوا!
أعتذر عن إخافتك :)
كانت عالقة في المسودة لشهرين ثم رأيت أنها مناسبة للنشر
أشكرك صديقي
إرسال تعليق