الحياة بكل بساطة
البقاء، التكاثر. هاتان الكلمتان هما الأهم في قاموس الحياة. البقاء هو الاستمرارية التي ينجزها التكاثر. يحدث كل شيء في الطبيعة. بلا سبب وبلا غاية. لا معنى للحياة الشخصية. ومن ثم لا معنى للمتعة، اللذة، الحرية، الاستقلال... فكل هذه مجرد منتجات ثانوية للنمو الاستثنائي لقدراتنا المعرفية. الحبُّ هو وسيلةُ التكاثر لتحقيق البقاء. والبقاء ليس قوة أو إنجازا نُريدُه أو نحققه، بل هو، بكل بساطة، الذريَّة. لكن الذرية في ذاتها ليست غاية. فلا أحد يفهم لم عليهِ أن يحصل على أطفال. حتى صفاتنا التي تنتقل إلى الأجيال الأخرى لن تبقى صفاتنا. الصفة لا تدرك ذاتها.
الحياة بكل تعقيد
الحياة مفهوم شديد التعقيد. نستطيع أن نؤلف ونرسم ونغني ونهذي آلاف السنين في فلسفات الحياة. لكنها تبقى محصورة في شكلها الأكثر بدائية: أزواج وأطفال. كان البشر في القديم البعيد يمارسون حياتهم بفارقٍ بسيط عن الحيوانات الأخرى: الوعي. تكاثرت الأجيال مدفوعةً بسيكولوجيا الحب والخوف، ثم تضخَّم الوعي فجأة! فجأة بلا هدفٍ واضح. وبينما بقيت الكائنات الأخرى ترتع وتعاني في أبسط أشكال الحياة، صرنا نحن البشر أكثر تعقيدا بشكل غير معقول. أدمغتنا كبرت واستهلكت نسبة كبيرة من طاقتنا الحيوية، واتَّجهنا نحو نوع آخر من الحياة: الحضارة.
لقد كان لدينا، بلا شك، الاستعداد للتطور بسرعة نسبية واختراق الطبيعة. أدركنا رعشة الحب وجرَّدناه من طبيعته النفعية، فابتكرنا العشق والهُيام وسهر الليالي. وجرَّدنا الخوف من طبيعته الوقائية، وابتكرنا الشجاعة والحرية وكوَّنَّا التحالفات وهاجمنا الأعداء وأطلنا الحروب ودمَّرنا البيئة.
الخلود.. الانقراض
لا تعرف الحيتان معنى الحب، لكنها تملك الهرمونات التي تؤدي وظيفة التكاثر. لم تنقرض الحيتان. أما نحن البشر فهوينا في دوَّامة غامضة اسمها الوعي، وتهنا تيها حقيقيا قد آن الأوان لإعادة النظرإليه. إننا نبتعد يوما بعد يوم عن البساطة متجهين إلى التعقيد. نتوقف عن التفكير في العائلة والمجتمع ونفكر في أنفسنا وفي أشياء أخرى أقل أهمية. بل في أشياء غير ممكنة كالخلود أو عبور بوابات الزمن (غير ممكنة على الأقل في الوقت الحالي). فهل هذا هو الوقت الأنسب للاعتراف بقلة أهمية الوجود الذاتي؟ وإعادة الأولوية إلى الوجود الجمعي الكائن في الذرية والمجتمع؟
الأفكار بدلا من الأطفال؟
لا فائدة حيوية من الغرق في التفكير، وعشر سنوات لتأليف رواية أقل بكثير من عشر دقائق للمعاشرة. الأمران سيَّان في العبثية والغموض. لكن هناك مقدِّمات نفسية وجسدية للثاني أكثر من الأول. أي نحن ندرك ونشعر بالفائدة المباشرة من المعاشرة: اللذة، الفائدة طويلة المدى: الذرية. لكن من ذا الذي يعلم ما هي فائدة كتابة رواية في عشر سنوات؟ ربما تكون الأفكار شكلا آخر للذرية؟!
أمراضٌ حضارية، انتحارٌ حضاري
نظرةٌ سريعة إلى قائمة الأمراض العشرة الأولى المسببة للوفاة عالميا تكفي لإقناعنا بإعادة النظر إلى معنى الحياة الذي أنتجته الحضارة. أمراض القلب والأوعية الدموية، أمراض الجهاز التنفسي، السُّكري... الانتحار.
إنهاءُ الحياة هو نتيجة منطقية لعدم القدرة على فهمها أو موازنتها. في 2013، ذكر 8.3 مليون شخص بالغ حول العالم أنهم فكَّروا في الانتحار السنة الماضية (2012). من هؤلاء، مليون شخص حاولوا الانتحار فعلا، وبين كل 25 محاولة انتحار تنجح واحدة! لم الانتحار؟ مع أن الانتحار يتعارض مع المعنى الجوهري للحياة وهو البقاء الشخصي بما يكفي للوصول إلى سن التكاثر وإنجاب الذرية ورعايتها حتى تصل إلى سن التكاثر، ينتحر الناس عندما يعجزون عن مواصلة الحياة، أي عندما تكون الحياة عبئا في ظلال الاكتئاب والإديولوجيا والفقر. ولن أتكلم عن القتل والحروب هنا.
ما أقصده هو أننا نملك من الوعي ما يتعدَّى متطلبات الحياة بمراحل. هذا الوعي الحديثُ نسبيا لم يتحصّل بعدُ على الركائز السيكولوجية والفسيولوجية الكافية. نحن نثرثر هنا وهناك ونبتعد أكثر وأكثر عن جوهر الحياة. لدينا في أدمغتنا مراكز للمكافأة. تنشط هذه المراكز عندما نتمكن من إيجاد شريكٍ مناسب أو عندما نحصل على مولود لطيف. وتنشط أيضا عندما ننهي ورقة علمية في فيزياء الكم. لكن شعورنا بالراحة في المقابل لا يعني أننا نسيرُ في الاتجاه الصحيح من الطبيعة، فالحصول على مولود أهم بكثير من معرفة أشكال الكوارك!
لم أقصد التنظير ضد العلوم والمعارف في هذا المقال. كل ما قصدته هو الدعوة إلى نظرة تحليلية شاملة للحياة ككل. فقد يكون ثقل الوعي هو سبب انعدام توازننا. وقد نستطيع إذا ما عدنا إلى أساسيات الحياة أن نقلل نسب الأمراض الجسدية والاضطرابات النفسية التي تغلغلت فينا بعدما تركنا الطبيعة إلى الصناعة.
2 التعليقات:
قراءة جميلة جدًا
بسيطة حد العمق!
أعلم أنني سأود الرجوع إلى هنا مستقبلًا
أتطلع لحضورك دائما
أشكرك
إرسال تعليق