30‏/11‏/2015

قصة قصيرة: قرَف



اللوحة لـ Victor Rodriguez

كانت أمها عندما تتباهى بها تصفها بالجميلة المطيعة، ولكنها كانت مطيعة فحسب، فوجهها الصافي والموسيقيُّ الذي يشع منه لون القمح لم يعجب رجال القرية الذين كانوا يفضِّلون وجوها بيضاء.
تعلمت منذ الطفولة كيف تلوذ بالعزلة والصمت عندما يرتفع صوت والدها، وتعلمت كيف تناوله أظافرها راضيةً عندما يصرُّ على تقليمها بأسنانه القذرة صارخا: "هذه مقاعد للشيطان يا بلهاء"، ثم تنظر إلى أصابعها وقد بقيت آثار الطلاء شاهدة على نقصها. لم يملك أحد في البيت مهما كان أن يدافع عنها ويعترض على ما يفعله الأب العصبيّ. 
حاولت أن تحتمل الضربات النفسية والجسدية التي كانت تذوقها كل يوم بصمت، فهي على الأقل تحيطها بهالة من الأعذار إن اندسَّت تحت غطائها ونامت لساعات طويلة. 
لم تكن اجتماعية، ولم يُشع عنها أنها خرجت من البيت إلا إلى المدرسة، حيث كانت تغلِّف جسدها بالعباءة النظامية وتترك أعصابها تشتعل وهي تتمسَّك بيد صديقتها المقربة.
وصديقتها المقربة هي واحدة من الطالبات المنعَّمات، أبوها لا يعرف عنها شيئا، وأمها لا تملك أن تأمرها أو تنهاها، فهي حُرَّة إلى درجة الملل، وقد جاءت إلى مدرسة القرية من المدينة، بعد أن تذوقت حلاوة التفلُّت وطعم الرجال. 
صارتا صديقتين مقربتين، وبالرغم من صعوبة التواصل في جو المدرسة، كانت كل واحدة منهما تكتفي من الأخرى بمصافحة بطيئة.
وعندما تعود إلى البيت، كانت تؤدي واجباتها، تلمع المرايا، وتغسل الثياب، وتحضر كأس الماء إلى غرفة إخوتها الرجال، ثم تنهدُّ متأوِّهة، لا يسليها إلا طيف صديقتها، فتستحضر وجهها الذي يشبه رخاما أبيض تنتشر عليه عروق بلون القرمز، ولا تطلب أكثر من هذه اللحظة. لاحظت أمها هذه الطمأنينة على وجهها وبدأت تشك في أمرها! 
وبعد الخروج من مدرسة الثانوية، كان الحرم الجامعي أوسع بكثير من نافذة الحرية الضيقة في البيت، فاستطاعت أن تلمس معصم صديقتها، فعضدها، فكتفها، ثم انتهت إلى عناقها عناقَ من يطلب الحياة بعد الموت، ولم تكن القبلة لزجة ومقرفة كما كانت تتصور، بل بالعكس، دافئة تشبه تبادل الأسرار الكبيرة. ولأنها كانت شديدة الحياء لم تكن تعي شيئا مما يحدث عندما تلتقي بصديقتها... ولولا لذة الأمن والشعور بالذات لما صدقت شيئا مما تصفه لها. 
كانت تستيقظ صباحا، وتملي على شفتيها تورُّد الصحو، ثم تورايهما بالبُرقع، وتستمع إلى صراخ والدها حتى ينتهي عند باب الجامعة، ثم تدخل باحثة عنها... تعود كل يوم بفم مرتاح، يجري فيه دم جديد وترتعش فيه سعادة.
لكن هذه الأوعية الدموية التي تفتّحت، انغلقت إلى الأبد. فما أكثر الرجال الذين تقدموا لخطبتها عندما اقترب تخرُّجها وصارت أنثى جميلة ومطيعة ومتعلمة.
وافق والدها على زواجها من أكثرهم مالا وأوسعهم بيتا وأقربهم إلى طبعه ورؤيته للحياة، ولم تملك أن ترفض. عرفت أن حياتها انتهت بهذه البداية، ولم يبق إلا أن تصلِّي على روحها للمرة الأخيرة معها...
بحثت عنها في كل الأمكنة، بحثت في كل الصور، في كل الذاكرة، ولما لم تجد لها أثرا غير زمجرة الرغبة في صدرها استسلمت لصوت الحياة الجديدة الغامضة، وخرجت من نفسها بلا رجعة، وأسلمت جسدها لشياطين زوجها. 

2 التعليقات:

قراءة مختلفة و جريئة في بعديْ الإفصاح واللا إفصاح
"تعود كل يوم بفم مرتاح..." أعجبني هذا السطر. الفم مفتاح و/أو بوابة للولوج إلى الروح

أهلا بك يا صديقي هيثم
نعم، الفم كل شيء!
شكرا لك

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.