14‏/05‏/2016

من دون تخطيط



من أقصاي إلى أدناي،



أجلسُ في ساحة المدينة. عربتي مليئةٌ بالخضار الطازجة لكن لا صوت لي لأنادي عليها، والموسيقى "كلّ الرزق" كما كان يقول أبي الذي توفي منذ زمن سحيقٍ جدّا، منذ الأبدية كما أعتقد، ليس لأنني خالدٌ بل لأنني ناقمٌ وحزين. مرّت بقربي فتاةٌ جميلة. نظرتْ إلى صندوق التفاحِ طويلًا وكدتُ أجزمُ أنها ستشتري لولا أنها نظرتْ إلى وجهي فغيّرت رأيها. يبدو أن الجميلات لا يحبّذنَ ابتياع التفاح من رجلٍ صغيرِ العينين وأبيض على نحوٍ يثيرُ غيظهن. وجدتُ قربَ يدي حشرةً صغيرةً وعسليّةً تشبهُ عيني جدّي اللتين كانتا تمرّان بوهجهما منذ الصباح في مجالات ذاكرتي. فتحتُ لها طريقًا إلى ذراعي، تمشّت على عريّ جلدي وتسلّقتْ شعرتين لكنني عندما لم أشعر بالدغدغةِ رميتُها على الأرض، فتابعتْ سيرها كأنّ انفصالها عنّي لم يحدث عندها ضررًا. جاء طفلٌ في الخمسين من عمره. سألني بلهجةِ نزوحٍ متعَبةٍ عن سعر البرتقال، فضربتُ له مبلغًا يكفيني لعلبة سجائر. وضعتُ له البرتقال في "الكيس الأسود" وقبضتُ منه ثمن رئتي، وبعد ذلك أغلقتُ شارعي الصغير وذهبتُ إلى أقرب دكان. قلتُ له: "علبة سجائري من فضلك"، فضحكَ الرجلُ بوقاحةٍ وهو يدركُ هزيمتي وخلوّ جيبي، ولكنني شخصٌ رائعٌ جدًّا لدرجة أنني أملكُ رأيًا آخرَ أكثرَ بهاءً وإبداعًا. كان الطريق إلى "بيتي" معبّدًا بالأطفال الصغار الذين يلعبون بالكرة ويقذفونها باستمرارٍ على سيّارة جارنا النّظيفة وهذا ما أسعدني حقًّا. حصل هذا عندما بدأتُ بسيجارتي الرّابعة. توقّفتُ قليلًا لألعبَ مع "عُمَرْ". كان عمر صديقي المفضّل تقريبًا هو و"سُهَى" التي كانت تجلسُ على الرصيف وتمضغُ لبانةَ النعناع ثم تقول: "آح. حدّة كتير". كان شكلها، ضفائرها القمحيّة، وطرفُ بنطالها المتّسخ بالوحل، والكتاب المقدّس المفتوح في وجهها، ويدها الصغيرة المجبّرة، كلّ ما فيها كان يثيرُ فيّ رغبةً جامحةً بالحياة، وكنتُ أضحكُ ملْء فمي ويفيضُ الدّخانُ غامرًا كلّ هذه الدنيا المعتقة بالضباب، وهذا هو أحلى مشهد أكررهُ كل يومٍ قبل أن أدخل بيتي الفارغ.
لقد بعتُ غرفة نومي كي أتمكّن من السفر، لكنني وبعد أن دفعتُ ثمنها "لابن حلال" اكتشفتُ أنني لا يمكنُ أن أعبر الحدود. و"أولاد الحلال" خفيفون كفراشة، سرعان ما يحترقون في غابات غضبك ويخلقون في مكانٍ آخر، بعيدًا تمامًا عنك. وسوف يسألني جدارٌ قديم: "ماذا عن بقيّة البيت؟" وسوف أقولُ له وأنا أدخّنُ سيجارتي العاشرة أن هذا هو بيتي بالكامل. لم يزل عندي لوحة عتيقةٌ جدًّا مصنوعةٌ من أعواد القصبِ كنتُ قد أنشأتها للفتاة الوحيدةِ التي أحبّتْها روحي -حسنًا وجسدي أيضًا- لكنَها اعتبرت ذلك ضربًا من التفاهة، ولم تكن تؤمن بأهميةِ الفنّ، بل لم تعرف كم مرةً جرحتُ يدي لأنمّق لها ذلك المنزل المرسوم على طرف بحيرةٍ هادئة، وكم أقنعتُ القمر أن ينيرَ في السماء الخشبية ليمنحنا بعض الدفء عندما يأتي الشتاء وينقطعُ "المازوت". لم أزل أجدُ صعوبةً بالغة في التخلي عنها، وذات مرة عندما زارني صديقي الذي مات الآن قال لي أنني شخصٌ رومانسي وتافه. وعندها ضحكتُ بعمقٍ كما أفعل في هذه اللحظة وأنا أدخّن سيجارتي السادسة عشرة.

3 التعليقات:

محزن لأنه وحيد أو وحيد لأنه حزين؟

أتساءل كيف يمضي شخص (وكلنا ذاك الشخص في فترة ما) ما تبقى من اليوم وليس بحوزته إلا ٤ سجائر متبقية!

كوني تورّطتُ منذ البداية وتحدّثتُ على لسانه فأسجيبُ عنه.
حسنًا!
إنه ليس محزنًا بقدر ما هو باعث على التأمل والتصالح مع الوحدة. وليس حزينًا بما للكلمة من معنىً قاسٍ وأزرق. لديه عمر وسهى وغيظ الفتيات منه أيضًا. دعنا نقل أنه "يحبّ الحياة ما استطاع إليها سبيلا" وكونه "طفران" فسوف يدخّن نفسه إذا ما انتهى اليوم قبل أن تنتهي السجائر المتبقيّة!
هناك احتمالات عديدة في الحقيقة ..

مساء سعيدًا,

صدقًا كنت سأقول أنه -بالمجمل- يبعث على الأمل ولكن فكرة أن مسببات الأمل اليومية هي بالأحرى مجرد مسكنات منعتني من إقحام الكلمة في التعليق الأول.

ولكن مع هذا هناك دائمًا (غدًا) باحتملاته المتعددة كما قلت

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.