04‏/06‏/2016

نظرية الحركات الإيقاعية: هل كان الانتخاب الطبيعي ثملا عندما طور الموسيقى والرقص؟


جينيفر جراي وباتريك سوايزي يرقصان على جذع شجرة، من فيلم dirty dancing
"تبدأ حياتنا بتهويدة،
 تنضج على وقع موسيقى الزفاف،
 ثم تنتهي بالموسيقى الجنائزية" Tianyan Wang, 2015

هل كان الانتخاب الطبيعي ثمِلا عندما طوَّر الموسيقى والرقص؟ نحن نؤمن بأنه حكيم ويبحث دائما عن مصلحتنا الوجودية، فهل أصاب حينما انتخب الرقص والموسيقى - هذه الأشياء الدنيوية الفانية؟ إذا كانت الموسيقى تكيُّفا، فما هي المشاكل التطورية التي واجهها الإنسان والحيوانات الأخرى بعذوبة الموسيقى وحرارة الرقص؟

"الموسيقى موجودة دائما في تاريخ وثقافات الإنسان، ولديها القدرة على استحثاث المكافآت rewards وإثارة العواطف emotions الإيجابية والسلبية"، "والموسيقى لا تكون وحدها أبدا، بل تكون مصحوبة بالرقص والحركات المتناغمة الأخرى، ليس في الإنسان وحده، بل حتى في الحيوانات الأخرى". "وإلى جانب الرقص، تتشارك الموسيقى الكثير من الصفات والدوائر العصبية neural circuits مع الكلام". لكن برغم هذا يبقى وجود الموسيقى مُلغِزا وسرُّ نشوئها محيِّرا. "منذ داروين (1871)، الكثير من العلماء اعتقدوا أن موسيقى الإنسان يجب أن تكون تكيُّفا adaptation" أي يجب أن يكون الإنسان واجه بعض المشكلات التطورية التي تطورت الموسيقى لحلها. دراسات التوائم وعَمَهِ الموسيقى الفِطري congenital amusia (عدم القدرة على ملاحظة، تذكُّر، إدراك الموسيقى منذ الولادة) أكدت أن للقدرات الموسيقية أسسًا وراثية. لكن السؤال هنا "ما هي الضغوط التطورية المسؤولة عن نشوء الموسيقى والمشاعر الموسيقية؟".

هناك العديد من النظريات التي أجابت على هذا السؤال:
1- نظرية الانتخاب الجنسي sexual selection لداروين (1871): الموسيقى والرقص تطورا لفوائدهما في اجتذاب القرناء الجنسيين.
2- نظرية اتصال الأم بالطفل mother-baby connection لديسيناياكي (2000): احتياج الطفل إلى الاتصال بأمه يمكن أن يؤدي إلى تفاعُل مبني على الموسيقى [1].
3- نظرية التماسك الاجتماعي لبراون (2000) [1]. 

لكن في دراسة مثيرة (2015) [2] يقدِّم  Tianyan Wangمن جامعة تسينغ-هوا الصينية فرضية أخرى لتفسير نشوء الموسيقى والرقص والكلام من منظور أحيائي اجتماعي. وفقًا لتأثير دوبلر (نسبة إلى الرياضي الفيزيائي النمساوي كريستيان دوبلر: هو تغيُّر التردد أو الطول الموجي بالنسبة لمُستمِعٍ يتحرك نحو مصدر الصوت أو بعيدا عنه) [3] يرى Tianyan Wang أن الموسيقى والرقص يشكلان نوعا واحدا من الحركات (الحركات الإيقاعية rhythmic movements). ثم يفترض أن نظام المكافأة والشعور المتعلِّقين بالحركات الإيقاعية RRRE)) الذي يدفعنا للبحث عن الموسيقى والأحداث الإيقاعية نشأ لتكييف المتعضِّيات -الكائنات- مع بيئاتهم الداخلية والخارجية. ويرى أن نظام RRRE يستدعي نوعا آخر من المكافآت والمشاعر المتعلقة بالمجتمع تُدعى (SRRE).

ما هي علاقة الموسيقى والرقص ببقائنا؟ 
كما عرفنا، الموسيقى والرقص ينشطان نظام (RRRE) الذي بدوره يؤدي إلى تنشيط وظائف بيولوجية مثل الانتخاب الجنسي، ووظائف اجتماعية مثل تقوية علاقة الأم والطفل، ويعزز التماسك الاجتماعي. وهنا تغدو هذه الوظائف التي اعتُقِد أنها هي الضغوط التطورية التي جعلتنا نبحث ونستمتع بالموسيقى، تغدو هذه الوظائف ضغوطا ثانوية للضغط الأولي البيولوجي الذي هو نظام RRRE المسؤول عن نشوء الموسيقى كتكيُّف مع الحركات والأحداث الإيقاعية الداخلية والخارجية.
الحركات الإيقاعية موجودة بكثرة في البيئات المختلفة (الماء، الهواء، الأشجار) وتنتج بسبب قوى الطبيعة (الرياح، المد والجزر) أو بفعل الحيوانات؛ لذا تكيَّفت الكائنات المائية aquatic والبرية arboreal مع هذه الإيقاعات لمعايشة البيئات المرنة التي تحيط بها. الحيتان المفترسة وأُسود البحر مثلا طوَّرت حركات سباحة مميزة للتوافق مع بيئة المحيطات المتقلِّبة. من هنا يكون إدراك وإنتاج الحركات الإيقاعية وأيضا التناغم مع الإيقاعات الخارجية والداخلية بالغ الأهمية لبقاء الكائن المتعضي وتكاثُره؛ لهذا السبب طورنا نظام المكافأة RRRE من أسلافنا المائيين والبريين.

سبب بيولوجي أولي؟
هذا يعني أن الموسيقى تطورت لمواجهة ضغوط تطورية مهمة لبقائنا. وفي الواقع، تذكر دراسة حديثة (Sescousse et al., 2013) أن المكافآت المتحصلة من الأحداث الإيقاعية هي مكافآت أولية، أي كتلك المتحصلة من الطعام والجنس. بل إن تناغم الكائن المتعضِّي مع الأحداث الإيقاعية يمكن أن يكون أكثر أهمية لبقائنا من الطعام والجنس!
إذن ببساطة، نحن نستمتع بالموسيقى ونتراقص معها لأننا نبحث عن إرضاء أنفسنا وإشباع مشاعرنا، ما نبحث عنه يوفِّره لنا نظام تطور منذ القِدم لدى أسلافنا السابحين ومتسلقي الأشجار؛ وهؤلاء الأسلاف أصلا طوَّروا هذا النظام (RRRE) ليتغلبوا على تقلبات البيئة الإيقاعية (المتكررة) مثل حركات المد والجزر وهبوب الرياح.

هذه الدراسة معقدة ومتعددة الأهداف، فهي تبحث عن أصول الموسيقى والرقص والكلام معا، ولكنها على كل حال تنوِّرنا بافتراضٍ جديد يمكن أن يكون هو الضغط التطوري الذي أدى إلى تطويرنا هذا الشغف بالموسيقى والحركات الإيقاعية المصاحبة لها.

شكرا عزيزتي الطبيعة، تسقط التُّهمة! 
الخلاصة هي أن الانتخاب الطبيعي لم يكن ثملا، بل عاقلا جدا وحكيما كما نعرفه، إذ جمع بين الضرورة البقائية (التواؤم مع البيئة المتقلبة) والفوائد التكاثرية (الانتخاب الجنسي وعلاقة الأم بالطفل) ولمَّ شمل المجتمع في النهاية.


المراجع: 
[1] ir.lib.uwo.ca/cgi/viewcontent.cgi?article=1069&context=lme
[2] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4332322

01‏/06‏/2016

زهراء



تزيحُ خصلات شعرها عن وجهها. هكذا يبدأ الصباحُ غالبًا، وتشرق الشمسُ أكثر عندما تفتحُ عينيها. أول ما يواجهها هو السقفُ الذي أكلت الرطوبة جزءًا لا يستهان منه، وهي تحب أن تحدق فيه قبل أن تقوم بأي حركة. ترتّب أحقادها وتتساءل ماذا يوجد وراءه. إنها تدركُ جيّدًا أنه "ياسر". جارهم السكران الذي يضربُ زوجته كل يومٍ ويحبّ الموسيقى. لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتّى يبدأ بإزعاجه -كما يقول والدها- على نقيض ما تعتقدُ طبعًا، فقد كانت ترى أن الموسيقى هي حسنتهُ الحاليةُ الوحيدة. الشاهد اليتيمُ الذي ظلّ على عبقريته القديمة، فقد كان ياسر محاسبًا ماهرًا جدًّا يقدر على حلّ المعادلات الرياضية بخفّة قطةِ تمرُّ من تحت سيارة. يدهشُ الجميع حين يبدأ بالكلام فقد كان مثقّفًا، ثريًّا بالنظريات العلمية، وله رأيه الخاص في بدايات العالم ومجيئنا -نحن المخلوقات المزعجة- إليه. في أحد الأيام -منذ سنة تقريبًا- عاد ياسر من الشركة التي كان يعمل بها وأغلق باب غرفته. ظلّ وحيدًا لأسبوع ثم بدأ بأن يكون سواه. حينها لطمت زوجته وجهها وقالت: "لم يعد ياسر من الشركة في ذلك اليوم المشؤوم"، ولا أحد يعرف ما الذي حدث بالضبط. كانت "زهراء" متأقلمة مع جنون العباقرة ولم يكن جارهم المحاسب الموسيقيّ السكّير أول نموذج تراه لحماقة الوطن. ظلت تحدّقُ في السقف لخمسة عشرة دقيقة ثم قررت النهوض. في الطريق إلى المغسلة التقت بأمها التي كانت تبتسمُ ببساطة. لمّا عبرت بقربها قالت: "صباح الخير"، فاستمرت والدتها بالابتسام دون أن تتكلم.


فوق المغسلة مرآةٌ غبّشها الوقت ولم يستعد زجاجها لمعانه التام رغم كل النظافة التي تحرص عليها زهراء. يتبيّن وجهها طريقه الشفاف. لها بشرةٌ قمحيّة و"عينان خام" كما كان يقول لها رؤوف منذ سنين. شعرها مكنسةٌ مصنوعة من أوراق الخريف الناضح بخرابه الجميل، وكان لها غمازة واضحة في ذقنها الصغير تعطيها مسحة من الابتسامة الإجبارية. وهكذا كانت تبتسمُ عند المرآة في تمام الساعة السابعة كل صباح، ثم تنصرفُ لأداء واجباتها العادية متلخّصة في الترتيب والتنظيف والطبخ والغسيل. كل البيت كان يقوم على كتفيها. من بابه إلى محرابه. وكان والدها رجلًا قاسيًا وبلا عاطفة. انتهت رسالته السامية حين أنجب ثلاثة أولاد ورماهم نحو الحياة، وبهذا شارك في الجيل الجديد ولا يستطيع أحد أن يغيّب اسمه من بين المنجزين الذين تناسلوا على نحو جيد. لم تكن زهراء تحمل له أي عاطفة في المقابل مع أنها كانت تتمنى لو أنها تشعر أن لها سندًا أو صديقًا يتذكرها بقطعة شوكولا أو يحدثها بشيء غير الطلبات اليومية المجهدة.

كانت تبحث عن الحرية. لكنها لم تكن تعرف أن تحدد لها ملامح واضحة فقد كانت مفكرة دقيقة جدّا وملعونة للدرجة التي أنبت لها تفكيرها كل العوائق الكبيرة والاختلاطات التي يواجهها العالم من حولها. ولم تستطع أن تفهم لم وفي مكان آخر هناك امرأة تشبهها تعيش حياة أفضل منذ أن ولدت؟ "من أنا؟" ضاعت زهراء في ضباب هذا السؤال طويلًا. وكانت تدرك أنها في رحلة مضنية لإيجاد وجودها وإثباته. "حسنًا" قالت بتركيز وبدأت تكتب:
"أنا زهراء قادر الحاج حسن. عمري ثلاثون عامًا. كان عندي تجربة حبٍّ فاشلة لكن هذا يعني أنني أحببت. أعمل في التدريس. أوه! لقد تفاعلتُ مع أشخاص رائعين وشهدت على نطقهم لأول جملة صحيحة باللغة الفرنسية، ولم أكف يومًا عن سؤالهم عن أحلامهم. إنني أتساءل هل أصبح عزيز رسّامًا الآن؟ وهل سافرت غادة خارج هذا البلد حتى تنال حريتها كما كانت تقول؟ وهل صار أسامة خبّازًا؟
إنني موهوبة أيضًا في تنسيق الطعام. هل طبق السلطة الذي أقدمه -على أقل تقدير- يكون عاديًّا؟ أقسم ببشرتي الشفافة أن أخي يلتهمه ويقول لي متلمّضًا: "زهراء، هذا سعادة". بإمكاني أن أرقص ببراعة على أغنيات فيروز الكئيبة التي تندر فيها الموسيقى الشقية، وعلى جملة أم كلثوم البليغة جدا التي تختصر تمردي حين تقول: "عايزنا نرجع زيّ زمان؟" يزمّ جسدي نفسه مستفزًّا الهواء والمخلوقات اللطيفة، ثم يقهقه بصوت مدوٍّ: "ئول للزمان إرجع يا زمان!". حتّى أن صديقتي قالت لي أن أنتقل لإنشاء مدرستي الخاصة بالرقص وأن أخلص الناس من حركاتهم البليدة.
لديّ الكثير من المظلات الملونة التي تموج حول وجهي وبإمكاني أن أغير طقس المدينة من خلال قميصي البحري كما يمكنني أن أقرأ بسرعة بالغة، وأصطبغ بلون الورق حتى لو كان الكترونيًّا. في الأسبوع الماضي تتبعت أثر قطة سوداء في العتمة، وتغلبتُ على خوفي فيما يخصّ دناءة عينيها ولغتها المفاجئة، فنظرتُ إليها مباشرة حين ماج ضوء سيارة عابرة ثم ضربتُ الأرض برجليّ حتى طردتها من البقعة التي أردتُ أن أقف عليها، كما ذهبت إلى المقهى الذي في نهاية الشارع مع صديقتي التي أعتبرها "تحويشة عمري" أليس عظيمًا أن يمتلك الإنسان منا صديقًا حقيقيًّا لهذه الدرجة؟ كان المقهى يبدو غائرًا في بشرة الحياة مثل ندبة. تتراوح أضواؤه بين درجتي الأبيض والبرتقالي، وتنبعث منه رائحة الشاي والفاكهه، ويسمع صياح رجال متحمسين لكرة تحف على العشب لكنها لا تكمل طريقها تجاه الهدف.
هل أكون الكرة؟ كان النادل الذي كان يحدق بي شابًّا طويلًا يرتدي قميصّا تفاحيًّا وبنطالًا كحليّا ويحيط معصمه بساعة ضخمة على نحو مبالغ فيه، وكمعظم الرجال الذي التقيت بهم هذا الأسبوع فقد كان يستحم بالعطر ولا بدّ أن أشير إلى أن العطر كان فاشلًا جدا وأنني قررت في لحظة حماس أدبي أن أكوره في روايتي القريبة التي سأجمع فيها كل الرجال التافهين وعلى رأسهم أبي وعمي بلال وبائع الخضرة، صاحب الدهون السمكية المتراكمة في عقله.
إنني إذن موجودة. أسمع أنفاسي وأمتلك هذه اللحظة التي أكتب فيها وأجد الوقت رغم أمومتي المفروضة علي حتى أشذب شعري وأضع الكحل وأقهر الحشرات التي تخرج من رأسي. إنني لا أقل أهمية عن أي فنان يصفّق له الآخرون. أنا كل الآخرين وإنني أصفق لنفسي، وأعينها كل يوم على القيام لأمنح هذا الوطن فتاة حلوة تساهم في إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن.
أنا زهراء التي أرعى عصفوريّ دوري وأحرص على إطعامهما كل صباح. أضع الياسمين في شعر أمي حتّى لا تشقى وأسلّم على كل الأصدقاء الذين يختلفون عني ولا أبيع معتقداتي لأحد ولا أسول استعارتها أيضًا، وأعطر قميص أخي قبل أن يلتقي بحبيبته. ألا تعرفون؟ إنني أمنحها الرائحة الأبدية التي تدفعها إلى سماع دقات قلبه فأخي لا يعرف كيف يقول لها ذلك. وهي تبتسمُ مطولا وهي تتنفس منه.
أجزم أنني لن أشيخ ولن أشك في وجودي مرة أخرى، ولن أسمح لجمالي أن يصير لعنة كما حدث لجارنا المسكين. إنني أمنحكم عبقريتي كيفما أشاء. ووحدي أقرر متى أرفع يدي لأريكم الغبار الكوني العالق تحت إبطي".

30‏/05‏/2016

لوردي




كان كلّ ما في "لوردي" بسيطًا باستثناء اسمها الذي اعتبرهُ أستاذ اللغة العربية شيئًا خارجًا عن مألوف شخصيّتها، ولا يليق بتلعثمها حين تلقي قصيدةً ولا برداءة خطّها وهي ترسمُ الياء في نهاية كلمة "علي". كانت قليلة الأصدقاء. تصاحبها "سلمى" المصابة بفرط الفلسفة، و "علياء" التي كان همّها الوحيد أن ترسم خطوطًا غير مفهومة وتسمّيها لوحات فنيّة، ثم تسخرُ من بيكاسو ودافنشي، وهي تمضغُ اللّبان بالنعناع وتصنعُ منه بالونًا كبيرًا جدًّا. كانت لوردي تتخيّلُ أن البالون يمكن ألا ينفجر بل يأخذ بالاتّساع فقط حتّى يصير وطنًا لها، تجلسُ داخلهُ وتمدّ رجليها، ثمّ تشاهدُ غباشةَ العالم الخارجي. لكنّ صوت انتهائه وارتطامه بشفاه علياء الغليظة كان يوقِفُ مجرى خيالها ويعيدها نحو الواقع، ويلفتُ انتباهها أن لها ظلّا على الأرض يميلُ معها ويعكسُ شكل جسدها المكتنز الذي لم تكتشف بعد، فقد قالت لها أمها أن الجسد هو الجزءُ القذرُ منّا، لكنّ الروح هي الأهم وعليها تغذيتها بالصمت الطويل، والتأمل، وعدم التدخل في مشاكل العالم وبالتالي عدم التفكير في حلّها وبالتالي انعدامٌ نسبيٌّ للوجود. كانت لوردي تنتفضُ عندما تتذكر هذه المواعظ التي استمرت والدتها بتكرارها على طاولة الفطور كلّ يوم. وكانت تتساءل في كهفها العميق عن إمكانية أن يكون هذا سخيفًا جدًّا وتافهًا، وأرادت بكلّ عمق أن يكون لها صديقً وفيٌّ -غير "دبّها الأحمر" الكبير الذي يغنّي ذات الأغنية منذ خمسة سنوات- تحكي له عن الرعب الذي يرافقها، وكيف أنها تخاف من نفسها لكنها تريد أن تقرأها رغم كل شيء، وتريد أن تدرك شجاعتها المخبّأة وتكون قادرة على مناقشة صديقتها في القضايا الفلسفية برأي يخصها وحدها، والخربشة أيضًا، إذ لطالما شعرت لوردي برغبتها في رسم امرأة عارية مزهوة بجسدها. وكانت تتساءل: "هل تستطيع امرأة متّسخة الروح أن تزهو بجسدها؟" كانت ترى أن التصالح مع الجسد يحتاج إلى قوة روحية عظمى، وهذا ما حاول الأستاذ حسين "الخرفان"-كما يسمّيه الطلاب- أن يقوله يوم الأربعاء الفائت.

تسكنُ لوردي في حيًّ متوسط الرفاهية، فيه "دكان" كبيرة جدا تتلخص فيها كلّ مفاهيم الحرب اللعينة من غلاء الأسعار وانعدام الشفقة والمعلبات التي تجبر على شرائها. في الحيّ بضع سيارات لامعة يغلبُ عليها اللون "الرماديّ الفاتح" الذي كان يساعدها على التأكد من شكلها جيئة وذهابًا من المدرسة. وقفت لوردي أمام سيّارة "العم محمود" الأكثر فخامة. كانت مكتنزة على نحوٍ مغرٍ، شعرها بنيٌّ قد طُبخ للتوّ فسالت منه رائحة الشوكولا المدهشة. ممسّدٌ نحو الخلف تشعّ منه شموسٌ ضغيرةٌ ومشاكسة. لها بشرة بيضاء لا تخلو من التورّد وما يميّزها هي "الشامةُ" التي تعلو فمها المخلوق بتأنٍ تامٍ وملفت.
"قشطة يا قشطة" قاطع شابٌّ تأملها، ومن دون أن تفكر قالت له: "تضرب بشكلك" وكأنها تعني: "أنا حلوة جدا، أحلى منكم جميعًا، أحلى من كل خرابكم اللعين".
ثم مررت يدها على السيارة وقالت: "أبو محمود بنئ دايمًا إنو ما معو مصاري. نخر راس أبي وهوّ بنئ. إي وحياة هالشجرة إنو سيارتو لحالها حقها بلاوي. لك أنا بئدر إشتري فيها كومة كتب وإعمل بالبائي طيارات ورق وساعتها أبو محمود بينجلط طبعًا".

تدخلُ لوردي المنزل. تخلع حذاءها وجوربها الذي يكون غالبًا مخططًا بعدة ألوان. تسلم على والدها المتسمر أمام الأخبار ثم تتبع رائحة الأكل. "محااااااشي؟" تصرخ لوردي ببهجة، وحين تمدّ يدها نحو الوعاء تتلقى ضربة خفيفة. تصعد مسرعة نحو غرفتها. تبدل ملابسها. تغسل وجهها ويديها ثم تنزل. على المنضدة الخشبية المستديرة تبدأ بالتهام طعامها المفضل. دائمًا تكون أول من ينتهي. تبدأ بعدها بفتح أحاديثها البسيطة وتستخدم يد والدها كملهمٍ أساسي. أحيانًا تخترعُ أحداثًا وهمية لتنال ضحكته، وحين تنجح تمعنُ في الاختراع أكثر حتّى يقهقه. تشعرُ عندها بالانتصار الصغير الذي يعطي لوجودها معنى مقدسًّا، ويجعلها جذابةً بما يكفي لتغطّي على أصوات القصف البعيدة، ويجعل قامتها أكثر ارتفاعًا من "الدولار" اللعين. هكذا تقضي لوردي أيامها. أحيانًا تحاول أن تقول شيئًا مهمًا للمرأة الصغيرة، أو أن تحصل على فرصة للغناء لكنها تعجز دومًا عن إيجاد الأغنية الملائمة لذلك كانت تكتفي بالاستماع لدبها الوفي، وتصفق له بحرارة.

اليوم هو الأول من أيار والشتاء قد حلّ من جديد.  البلاد تحتفل -رغم كل شيء- بعيد العمال. لوردي  تتذمر دومًا من الاحتفالات والعطل وتضع نفسها ندًّا إذ تقول: "لماذا لا يحتفل أحد بيوم للطالبات؟ لماذا لا تحصل البلاد على عطلة في يوم ميلادي؟". قررت خالتها أن تصطحبها ليقوموا بإحضار صديقة نازحة كانت قد تركت بيتها بسبب الأوضاع الصعبة. فرحت لوردي جدا وفكرت أن بإمكانها أن تحصل على نافذة متحركة، وأن تحظى بالهواء الكافي لتستجلب أحلامها وقدرتها الخارقة. في تمام الساعة التاسعة كانتا تقفان على باب "كراج الحافلات". اندهشت جدًّا بالناس الذين يعافرون الحياة رغم اليأس، ويختارون لأسباب متعددة أن يتوجهوا نحو متابعة مشاغلهم رغم الثقب الواضح في ظهورهم. تقول وهي تستند على كتف خالتها: "كثافة سكانية ملفتة، لم ترد في كتاب الجغرافيا" تضحكُ بصوت مرتفع، تستمرّ بالضحك حتّى..
بوووم
تفر العصافير القريبة ويهتزّ سرير فتاة في الطابق الخامس من هول الانفجار. يسيطر الضباب الكثيف والصراخ. وهناك قريبًا جدًّا تركض لوردي. إلى أين تأخذها قدماها؟ وما هو الطريق الذي يجب أن تسلكه؟ حاملة عبء وطنها على كتفها ورامية ثقل الدماء فوق كفّها الأيمن وقابضة على سمكة حيّة بيدها اليسرى. أما قلبها فهو لوحة مليئة بالألوان التي يعبث فيها الخوف ثم يفر منها صوت داخلي يقول: "أنت قوية. أنت جبل. أنت حلوة جدا والحلوات لا يمتن هكذا. ليس عن طريق الخطأ، ولا قبل أن يرسمن رجلًا أسمر يدخن سيجارته العاشرة ويلعب الغمّيضة مع ذاكرته".يستحيل الخوف إلى قطعة هشّة من القطن ويطير حتى يصير شيئًا مجهولًا لا يعرف عنه إلا اختفاؤه بين ضفائر الفتيات اللواتي كنّ يصرخن أيضًا. من يمنحنا الحياة؟ كانت خطواتها تتساءل وكلما لهثت أكثر تأكدت أنها الآن مسؤولة عن منح الحياة لنفسها ومن الخطأ أن تتوقف عن الركض. فالتوقف الآن يعني الموت، انهيار القمة التي عمرتها واستنبتت منها مطرًا وبحرًا وقاربًا. كان يعني التخلي عن شجرة الزيتون في حديقة بيتهم الأول وعن مذاق القبلة الأولى وعن الذراع الرطبة التي ستعلق عليها خيوط الفجر وبدايات العالم وتحارب بها الأسئلة الكثيرة والحزن الذي لا يهدأ. أخيرًا تنال لوردي ما تمنته دائما وهي الآن بعد أن جلست على رصيف آمن تشعر أن روحها هي مجموعة من الدبابيس التي ثقبت عقدة الجسد حتى طار وتهشم. وسوف تعرف لاحقًا أنها فقدت خالتها وصديقة كانت موجودة في نفس المكان.

24‏/05‏/2016

أنا وريتّا وتبًّا للبندقية





أنا راقصةٌ مبتدئةٌ وهذه الموسيقى تشرحُ كيف أخطو بارتباك. كيف أتعثّرُ بالفراغ، بوهمِ أن تكون هنا. ملاصقًا للعرق النابت على جبهتي. هذه الموسيقى تلخّصُ استعدادي للصراخ. كيفَ أنني زرّرتُ فستان "الجينز" المنقّط وكيف ارتديتُ الصّندلَ المقصّب، وكيف رفعتُ شعري كي لا تناله العصافير المتوحشة التي تخرجُ من حنجرتي وكي لا ينزل على وجهي ويمنعني من رؤية كل هذا الدمار الذي سأرقص فوقه وأدفنه تحت قدميّ دون صلاةٍ ودون رحمة. هذه الموسيقى تنقرُ على كلّ حقائبي المقفلة التي جهّزتها للسفر مرات عديدة ثم اكتشفتُ ألا أحد كان لاستقبالي وألا أحد كان مستعدًّا ليأخذني "بقلبه وأصابعه وكفّيه". تفتح الموسيقى الحقائب فتنزلُ أحلامي وتتمشى، وتفيضُ بعض الديدان أيضًا وتصطفّ على السرير.

أمدّ يدي ويمسك بها صوته إذ يقول: "بين ريتّا وعيوني بندقيّة". تكسرني هذه الشفافيّة المفرطة فأنحني وأصلّي لإله في العيون العسليّة لأنني أعرفُ ريتّا جيّدا وأعرف شجرة الزيتون التي نالت تحتها أول قبلةٍ، وأحمل صورة ذراعه الممشوقة المغطّاة بضفيرة قمحيّة.  أموجُ مثل بحرنا الصيفي حين يقول: "وأنا أذكرُ ريتَا مثلما يذكرُ عصفورٌ غديره"، ثمّ تصيرُ الأجنحةُ حطامًا. يغضبُ البحر أكثر. يصيرُ زبدهُ واضحًا مثل ازدحام الفانيليا فوق قطعة كعك.
هكذا إذًا؟ تتحركُ عيناي بسرعة. بخفة من يفكرُ بمخرجٍ وهو يرى الموجة الضخمة تقتربُ منه. برجاء العالق في منطقتين من الموت حاملًا بذرة الحياة الوحيدة وهو يتحمل مسؤولية استمرار نسل الأسماك والأشجار. هكذا إذًا؟ كلّ ما بيننا. "مليون عصفور وصورة؟"، كلّ "المواعيد الكثيرة"؟ تذهبُ دخانًا حين " تطلق نارًا عليها بندقية؟" وتنفجر موجةٌ على صخرة عنيدة. تتشظّى ويتطايرُ دمها الأبيض عاليًا. يصيرُ ذراتٍ خفيفة ومنعشة يتلقّفها وجهي بكل اشتياق ويحس بطعمها المالح.
المجد، كلّ المجد للدماء المالحة التي لا تنسى ولا يستطيعُ الطغاة ابتلاعها أو التحكم بخلودها. المجد، كل المجد لجسد ريتّا المرسوم باللهفة على كلّ الحدود الملغّمة. المعجون بكل هذه الأسلاك الشائكة دون أن يتجرّح. المجد، كل المجد "لعرس جسدها المقيم في دمه"، لهذا الضياع الذي اختصر الوصول "بسنتين". المجدُ للعهد المعتّق بالنبيذ الذي يحكي قصة الاحتراق بين شفتين أطبقتا على العالم بقبلة. القبلةُ تجعل من رقصي أكثر ألمًا. يفرّ من معصمي غرابٌ صغيرٌ ويقطرُ النحاس من رأسي مشكّلًا طريقًا أملسًا كنتُ قد هيأته لتتزحلق عليه وتضحك. هل تدرك ما معنى أن أشذّب أدغال عقلي المتعب لألتقيك فوق سطح هذه النعومة المعتّقة؟ إنك لا تعرف، ولا تدرك دورتي البطيئة على هذه الموسيقى التي تتبع العهد. ولا ترى بهجة بساطته وكم أن من الجميل أن "نولد مرتين".

"آآآه ريتّا" تصرخُ أصابعي في الهواء. تصيرُ حبالًا منتصبةً وقابلةً للكسر، ويتحرك رأسي جيئةً وذهابًا بفضول من يريد أن يرى ماذا يوجد خلف الضباب الكثيف. يصيرُ جسدي رهن التساؤلات العبثية ويتحول إلى علامة استفهام زرقاء مستنكرة: "سوى إغماءتين وغيوم عسليّة؟" حقا؟ آه ريتّا، هذا أصغر من أن يفرقنا. أصغر بكثير. لا يساوي في عمر شوقنا شيئًا، ولا يهم حتى عصفور الدوري الذي يقفز من يدي الغيمة إلى قلبكِ السماء.

يتحرر جسدي أخيرًا. تسترد أصابعي ليونتها. يفتح لون فستاني حتى يصير أزرقا شفافا. ألفّ مرتين وأقف على رؤوس حنيني. ثم أتركُ شعري. يلفّ معي مشدّدا: "كان يا مكان" فتردّ كل الأشياء من حوله: "ماذا كان؟". يضربُ خصلاته مثل الأطفال: "قمري هاجر في الصبح وحيدًا في الغيوم العسلية" وضحكُ وهو يدري أن "قمره" دائم الوجود في أصابع الشوكولا التي تركها على أوراق قصائده، وأن المدينة التي "تكنّس المغنين" لا تستطيع أن توقفهم عن النموّ في مكان آخر. العالم واسعٌ جدا، ألا ترى؟ وبإمكان ريتّا أن تحيا أينما تريد وهي اختارت أن تحيا فيك وتمسك بذراعك مجددا أمام البندقية. البندقيّة ليست "بينكما" إنها وهم يا عزيزي. ليس أكثر!

يلوي خصري عدة مرات ثم أبتسم. تصفّق لي الديدان الصغيرة وتتحول إلى قطار.

في لحظاتٍ عاطفيّةٍ متفرقة (3)






*صاح عزيز: "تعالي" ورفرف بيديه. من يومها وأنا أحبّ العصافير وعندما يموتُ عصفورٌ أحزن بشدّة لأنّ العالم يكون قد فقد حينها رجلًا حقيقيًّا.

*يستفيقُ العالمُ كلّ يومٍ على الكثير من المصائب. لقد تصالحتُ مع الانفجارات والسّيول والانهيارات الثلجيّة والجرائم الساديّة لكنني لم أعتد على غياب ابتسامتك بعد.

*تحيطُ بي غابةٌ بنيّةٌ داكنة. أنا القهوة والشوكولا والوحلُ الذي يخلّفهُ المطر. أنا التّمر الذي يغمّسهُ الأطفال بالحليب، وأنا الخشبُ المطليّ للتو ليصير كرسيّ قراءةٍ أو جسرًا جديدًا.أنا معطفٌ من الرّمل الذي يختار غروره ودفئه وأنا كستناءُ الشتاء المدللة التي تطيبُ كلّما احترقت. أنا البنيّ عندما يختلطُ بجوع الألوان فيصيرُ عالمًا وبدايات.

*بنيتَ لي بيتًا صغيرًا بنوافذ حمراء، واعتنيتَ بأصُص الورد والممر الخلفي، ووضعتَ في الصالة لوحةً لعريشة عنبٍ في أسفلها جرة نحاسيّة، ثمّ قلتَ لي: "أكسرُ رجلكِ إن دخلتٍ. آه كم أحبّك حين لا تأتين".

*كلّ "المثقّفين" الذين أعرفهم يحبّون "Frida" الفريدة، و "Van Gogh" الأب الروحي للسماءِ المتاهة، ويمجدون "محمود درويش" ويلعنون "نزار قباني"، ويستخدمون أسماء أنهار غريبة ومدن نائية. ويصورون عقربًا راقصًا بهاتف الجوال، ويضيفون رغبتهم العميقة في إنجاز فيلم قصير، ونيل قسط كافٍ للرسم وتحليل الأفلام وتعلّم اللغة اليابانية. أما أنا فأحبّ فقط طائر "الفلامنجو" وأرى أن فساتيني لوحات عظيمة جدًّا وملهمة.

* منذ أن عرفتُ أن هناك انفجارًا عظيمًا وأنا أعاتبُ السماء. طال عتبي جدًّا حتّى صرتُ نجمة.

*ليس عاديًّا أبدًا أن ينشأ الإنسانُ في بيتٍ فيه شجرة غاردينيا وياسمين وأصيص فلٍّ مزدحمٍ، وعريشةُ عنبٍ وزهر فتنةٍ وبعض الأعشاب التي تداوي الخوف والكثير من التراب المتعطّش للمزيد. ليس عاديًّا أبدًا. إنّ في هذا لعنةً وجمالًا يؤذي صاحبهُ أولًا، فالعالمُ خارج هذه الحديقة مزروع بالشوك. وسيكون شاقًّا جدًّا على زهرة غاردينيا حسّاسة أن تنمو في أي مكان.

*لن نتقاسم الكعكَ مرةً أخرى، ولن نتعارك بالموسيقى. لن يكون لنا مقهى مشتركًا وأصدقاء مشتركين، ولن أحكي لك كيفَ حرقتُ أصابعي وأنا أقلي السمك أو كيفَ تزحلقتُ في الممر وأنا أنظف الأرض بالماء والصابون، ولن أطلعك على فكرتي الجهنمية بتغيير العالم عن طريق الألوان والفساتين. لن ألوي ذراع حنيني أو أضحي بزهرة من المخمل من أجل انتظاركَ مرة أخرى.

*وجهكَ مثل الجراد. طويلٌ جدًّا وكثيف، ويؤمن بفاعليّة الغزوات الجماعية. لكنّ له مبيدًا ناجعًا وهو الرقص. كلما رقصتُ أكثر، كلما التهمك الحريق وأنهاك. إنني أدفنكَ بكلّ ما أوتيتُ من ميلان، وأواريك في حنايا خصري ثمّ أشدّ ما تبقّى منك بذراعيّ وأجعلك تغرق في الجزء الأيمن من رقبتي. تغرقُ تمامًا.

*أيّار المسكين الذي يأتي كلّ سنةٍ بمصيبة. يلصقون به اسم الغراب ثم يضيفونه إلى قائمة الأشياء التي تجلبُ النّحس. لا عليك يا أيار! سأحبك أنا، فإنني أفهم ما معنى أن يعيّركَ الآخرون لأنك فقدتَ ابتسامتكَ إثر حادث أليم.

19‏/05‏/2016

شَرَفُ المومِس: فيلم الطاحونة الحمراء




"أعظم شيء ستتعلمه أبدًا
هو أن تحب فحسب
وأن تكون محبوبا في المقابل".  

ماذا لو هاتفك صديق عزيز آخر الليل قائلا: "أرجوك، لقد مللت الحياة، لم أعد أعرف ما أريد منها وما تريد مني"؟ قد تهدئه بكلمات تختارها بحكمة، تقترح عليه سماع موسيقى خالصة أو ترشده إلى قراءة أحد الكتب الجيدة. لكن ماذا لو كان لا يستطيع سوى مشاهدة فيلم يسيل اللون الأزرق في لحظاته وتتصاعد خيوط الضباب من خلاله؟ أرجوك الآن أن تقترح عليه Moulin Rouge ثم تعود إلى النوم. 

هناك الكثير جدا من الأفلام التي نود أن يشاهدها جميع الناس، لسبب غامض قد يكون مجرد الانفعال النفساني لنهاية سينمائية مؤثرة أو قد يكون متعلقا بفلسفة القصة والحاجة إليها. فيلم "الطاحونة الحمراء" الذي أخرجه باز لورمان عام 2001 هو أحد الأفلام التي أود أن تشاهدوها جميعا. 

لن أقص عليكم قصته ولن أرهقكم بالتفاصيل التقنية والجوائز والإيرادات بل سأسمح لكم بالولوج إلى ذاكرتي...
أنتم الآن تسبحون في أعصابي الصفراء، مجموعة من المشروعات المؤجلة ثم آلة كاتبة عتيقة ثم عبارة  "the greatest thing" التي تتكرر كتهويدة بصوت مغني الروك ديفيد بوي.



أظن أن حلمي وحلمكم جميعا هو أن نحصل على هذا الشيء العظيم الذي -بالتأكيد- لن نتفق عليه! لكنه حلمنا ونحن أحرار في تشكيله ومتابعته حتى النهاية. تتوغلون أكثر في ذاكرتي فتتبدى لأعينكم المتلفِّتة أوراق كثيرة تتساقط بترتيب ثم تتبعثر قبل أن تحط على القاع. أفكارٌ وقصص وأشخاص وعناوين أعالجها في صمت. ورقة لاصقة كُتب عليها: "لا توجد شبكة إنترنت لمدة مجهولة". جهاز لابتوب ومجلد أفلام شوهدت من قبل. بعض الأفلام التي لم تكتمل. "الطاحونة الحمراء". 

تنطحنون برقَّة وهدوء مع أكوام تفاصيلكم وأوراقكم وأفكاركم. تتنازلون عن أترافكم وتبدؤون بتجربة السفر إلى باريس لمعايشة الثورة البوهيمية وتشاركون في كتابة مسرحية ضرورية. 

"يجب أن يستمر العرض" يسير شريطٌ أحمر يحذركم! فيجب أن تصبروا حتى ينتهي العرض، يجب أن تبقوا في ذاكرتي. 
الآن تقابلكم سيالة عصبية أنيقة الهندام وتطلب منكم بلطف أن توقعوا على تحويل كل إمكاناتكم في الحياة إلى عرض مسرحي تنتظره الملايين. "يجب أن يستمر العرض" تقولون لأنفسكم ثم تبدأون التفكير: سيكون مخيبا ومهينا أن نفشل في تقديم العرض. وداعا للكسل. سنوجه كل اهتماماتنا وقوانا المادية والروحية ليكون العرض عظيما. 

تحذركم السيالة العصبية: "لن تغادروا خشبة المسرح. هل تفهمون؟ إنه عرضكم الأخير. فرصتكم الأخيرة لإظهار أنفسكم الجميلة للعالم. هذه هي مسرحية الحياة". 
موافقون مبدئيا...

تكرر السيالة: "في سبيل هذا العرض ستفرحون وتألمون، ستقدرون وتعجزون، ستحصلون وتفقدون".
موافقون... 

تنتشرون، تتوزع حواسكم في فضاء غير مرتب، مغمورين ولا قيمة لكم ما دمتم وحيدين. أنتم بحاجة إلى تعلم شيء، إلى دليلٍ يوجهكم إلى عرضٍ أفضل. 

قال الكاتب الغنائي إيدين آهبيز ذات يوم في 1947: "أعظم شيء ستتعلمه أبدًا
هو أن تحب فحسب
وأن تكون محبوبا في المقابل".  

لن تتعلموا شيئا في الفيزياء طبعا، لكن إن كانت الفيزياء حبَّكم فيجب أن تفعلوا. 
الكثير من المتعة والحيرة، دماغي العامل بدأب يمدكم بالدفء ويقاسمكم محصول السُّكر الذي وصله من الشاي الذي تدفق في أمعائي قبل دقائق. أنتم مستنفرون وتائهون. ما هو الحب الذي يجب أن يكون أعظم ما نتعلمه؟ 

القراء الذين لا تستهويهم الرومانسية، إنني أطمئنكم فهذا الحب ليس شخصا دائما. قد يكون أي شيء تحبونه حقا، لكن عليكم أن تفهموا كلام السيد آهبيز جيدا. "وأن تكون محبوبا في المقابل". 

الآنسة المومِس (ساتين) ليست خاطئة. لا تتأثروا جدا بلقبها الجارح "مومس" فهي فكرة في النهاية، والفكرة التي تملك جمال ساتين وخفتها وحيويتها ستكون ملك الجميع، ومن يمنح أكثر يستحق أكثر. 

تقول الفكرة المتراقصة على ارتفاع الأيادي: "قبلة على اليد قد تكون مناسبة جدا، لكن الجواهرهي أفضل صديق للفتاة". هذه الكلمات يمكن أن تُفهم بطريقة أخرى غير طريقة فتيات الملاهي البوهيميات. القُبلة هي أن نعيش جزءا من الحياة، جزءا حقيرا مهما طال لأنه لم يزل جزءا، أما الجواهر فهي أرواحنا التي ندفعها لمومسات الأفكار لنحظى بالعيش معهن. 


الأفكار تريد الأرواح. بعضٌ من الروح لا يستهويها هي التي تنادي بأعلى نعومتها: "هلمُّوا أيها الفتيان.. نالوا مني". 
كلكم ستتخلصون من الحيرة وتذوبون في مجتمعكم الجديد ثم تحبون (ساتين) الفاتنة. بعضكم لا يملك شيئا لكنه متحمس للعطاء مثل (كريستيان) وبعضكم يملك كل شيء لكنه كسول مثل (الدوق مونروث). 

نداااء.. سيالة عصبية تنادي: "فليخرج كل أشباه مونروث من ذاكرة رمزي وليبق المتحمسون ولو كانوا مُعدَمين". 
في عرض الحياة الأخير ستكونون في كامل بهجتكم وجلالكم، ستقدمون إيمانكم القوي بحبكم، لكن هل ستكونون محبوبين؟ هل تستحقون أن تكونوا محبوبين؟

اقتضت المسرحية بأسلوب مثير وكوميدي أن يكون هناك (ماهاراجا)، الماهاراجا هو العظيم الذي يطلب العظيم. أو باختصار هو الرجل الفارغ في الحبكة؛ لأن العظيم لا يطلب عظيما وهو العظيم. ستواجهون الكثيرين أمثال (ماهاراجا) في محاولاتكم لتقديم عروضكم وحتى أثناء تقديم العرض. يجب أن تنجذب (ساتين) إلى الماهاراجا، لكن هناك عازف غيتار مسكينا لا يُضاهى بالماهاراجا سيحاول جذب فكرته الجذابة. 

لمن ستكون الفكرة؟ منطقيا ستمنح جاذبيتها وانجذابها لعازف الغيتار، واقتصاديا وبأسلوب شاعري ستمنح جاذبيتها وانجذابها لعازف الغيتار!

لا تكونوا ملوكا عظماء، فالأشياء العظيمة لن تنجذب إليكم. 
ما الذي يجب أن يحدث؟ تذكروا تحذير السيالة العصبية. ستحصلون وتفقدون. وإذا افترضنا أنكم كلكم وقَّعتم على دور عازف الغيتار كقرار سليم لعرضكم الأخير، فالملوك العظام سيأتون لا محالة ويرغمون الأفكار على الانصياع والتضرع والانجذاب التام إليهم. وإذا كنتم كلكم عازفي غيتار مساكين فإن الفراغ سيصنع من نفسه ملكا.. ملوكا عظام. 

اختار (كريستيان) حُب (ساتين)، وبما أن مصيرهما كان تحت رحمة المسرحية قرر أن يحبها بإخلاص وصبر. أي قرر أن يدفع لها جواهره حين كان الآخرون يبحثون عن ثمن قُبلة. 
في الحياة الكثير من هذا. أنتم مشغوفون حبا وتضحية وتلذذا وعذابا بأفكاركم والآخرون يمسُّونها مسًّا خفيفا ثم يتغيبون في العرض الأخير. 

تذكروا أن "الملايين" الذين ذكرتهم في البداية لا يعبأون باللقطات السريعة، لا يصفقون وينشدهون للقُبل. فإذا كنتم تعتقدون أن حُبَّكم المؤقت والبخس لفكرة ما سيشفع لكم عندهم فسينتهي العرض في غيابكم وستبقون أبدا من مُمارسي القُبل خلف الكواليس. 


يبدأ الدوق مونروث الإنفاق بسخاء لإنشاء مسرحٍ في الطاحونة الحمراء. أراد هو أن تكون ساتين له، تصوروا، ساتين بلا مقابل، هذا يحط من قدرها وينزلها من رتبة مومس إلى جارية. لكن "العرض يجب أن يستمر" وأنتم لن تسألوا أسئلة تافهة ذات يوم مثل: لمن هذه الفكرة؟ هل هي حق قانوني لأحدهم؟ 

أصيبت ساتين بالسُل الرئوي. الفكرة الآن ملطخة بالفناء إن لم ينعشها (كريستيان) منكم. لقد قبَّلها الآخرون حتى نقلوا إليها عدوى الموت. هي الآن تتذبذب. وبأمر من مدير المسرح ستنجذب إلى الدوق وستترككم؛ أنتم عازفي الغيتار المساكين. 

هل تصاب الأفكار بالسُّل الرئوي؟ نعم، وبالإيدز والطاعون والسفلس. هذه الأمراض هي الأساطير الذي يلصقها الناس بفكرة ما. هناك، حولنا، الكثير من الأفكار المسلولة، لكن الضمان الطبي الذي يمكن أن أوفره لكم هو أن هذا النوع من السُّل غير معدٍ. 
استثناااء، السيالة العصبية تستثني: إلا عن طريق التقبيل! 

تعلم ساتين بأنها ستموت، وبيأسٍ قاسٍ تعرض عن محبوبها كريستيان خشية عليه من الموت على يد الدوق. هل تخافون الموت؟ فلتتذكروا أيضا أن الدوق كسائر الملوك العظام فارغ لا يعطي حتى الموت. 

موسيقى حزينة تنبض في الذاكرة، ساتين تغني وبرودة الموت تدفعها إلى إنهاء عرضها: "في الداخل، قلبي يتحطم. زينتي قد تتساقط. لكن ابتسامتي لم تزل باقية". 

يستمر العرض...
مشاهد راقصة وأخرى دامية ستشاهدونها على جدران أعصابي. يحمل الفراغ مسدسا ويوجهه إلى كريستيان لكنه يطلق موتا فارغا لا طاقة له بقهر امتلاء روحه الصادقة. ولنسبة الفضل إلى صاحبه، فقد قام أصدقاء كريستيان بمجهود بطولي ليعينوه على إنهاء عرضه الأخير.. فاستحقوا بهذا النبل خلودهم في قصته. 

دموع.. دموع.. رائحة عطر كريزي مودي.. دموع تغمركم في نهاية الذاكرة ثم تسمعون صوتي يعيد إليكم ما قالته الفكرةُ لعاشقها: 
"يجب أن تستمروا
لديكم الكثير لتمنحوه
احكوا قصصكم، هيا فلتعِدوني
بهذه الطريقة
سأظل معكم دائما". 


* شكرا لمترجم الأفلام الرائع أشرف عبد الجليل
* شكرا لشركة الاتصالات السعودية على قطع شبكة الإنترنت

18‏/05‏/2016

التانغو في السينما (1)



1- Easy Virtue
(جيسيكا بيل) تبحث عن شريك لتؤدي رقصتها الأخيرة في بريطانيا. التانغو لا تعرف الوحشة. إنها رقصة مطاردة، وقد يكون من الجنون أن نطارد شخصا غير موجود، لكن ما العيب؟ الجنون ليس سيئا على وقع الجيتار.
جيسيكا القادمة من أميريكا بعدما قتلت زوجها الأول لتريحه من معاناة السرطان المؤلمة، تبحث عن راقص. من يراقصها؟ 
لو لم ترقص جيسيكا ستتحطم مثل تمثال أفروديت دي ميلو الذي حطَّمته حقا في نهاية الفيلم. 
"لا لا لا.. لاريتا" يخرج هذا الصوت من فم شاب مخبول يعاني من انفلات الحروف أثناء النطق، لكنه يكون هذه المرة منصفا. لا لا لا.. لاريتا هي درجات الصعود إلى عينيها المنكمشتين كقطتين مبللتين، وهي الشهقة المُتعَبة التي تصدرها الآلة الموسيقية قبل أن تفقد أنفاسها. 


 2- ?Shall We Dance
هذا هو أقصى الانحناءة الذي تستطيعه (جينيفر جوبِز)، إنها بالكاد تقف على أصابع رجلٍ واحدة وكاحِل مائل منصتةً إلى لهاث روحها، لكن إذا غطينا الجزء السفلي من جسدها المتعرق سنلاحظ أن ذراعيها مسترخيتين تماما ولن نكتشف أن كتفيها غير متوازنين. 
أدت جينيفر هذه الرقصة وحدها في هذه القاعة الخشبية الناعمة في دفء الشمس، تأملوها كيف تتوقف في جزء بارد من اللحظة وتهدئ كل أحزانها.. أتخيَّل بالونا ضخما أحمر يتراقص بخفة على أصابع يمينها، وربما شمعة بوذية تشتعل في يسارها.
"بولينا" اسمٌ جذاب ومدوِّخ. حرف المد في نهايته مُلهم وأقرب إلى الخشوع والعزلة. تختبئ بولينا في نادي رقصٍ محترم وصارم في تعليماته هاربةً من رقصتها الأخيرة التي فقدت فيها حبيبها وسمعتها. 
إنها "هان شان" معتزلا في جبله المثلج، يلف حول جسده الهزيل معطفا ثقيلا ويحتسي شوربة الخضار منطويا على ذاته الهادئة ووحيدا.


3- Take the Lead
يقضي (أنطونيو بانديراس) وقتا لا يُحسد عليه مع مجموعة من الطلاب السيئين، وبما أنه فشل في تعليمهم رقصات محترمة كالتانغو والسالس والرومبا؛ لأنهم يعشقون الرقص الصاخب غير المرتب، فقد قرر أن يريهم كيف تكون التانغو شهية مع تلك الأنثى القاسية التي كانتها (كاتايا فيرشيلاس).
أثناء الرقص يتعلم الراقصون كيف يكتسبون الثقة ويمنحونها، كيف يصنعون من أجسادهم قصة يطارد فيها الذكر الأنثى كما تشاء الغريزة. تختار الأنثى دائما أن تقسو، ويختار الذكر أن يغريها بفن المغازلة، لكن على كل حال يجب أن يكونا "جسدا واحدا" كما يقول أنطونيو الذي مثل دور الراقص المعلم الشهير بيير دولين.



أعدكم بالمزيد من اللقطات... 

14‏/05‏/2016

من دون تخطيط



من أقصاي إلى أدناي،



أجلسُ في ساحة المدينة. عربتي مليئةٌ بالخضار الطازجة لكن لا صوت لي لأنادي عليها، والموسيقى "كلّ الرزق" كما كان يقول أبي الذي توفي منذ زمن سحيقٍ جدّا، منذ الأبدية كما أعتقد، ليس لأنني خالدٌ بل لأنني ناقمٌ وحزين. مرّت بقربي فتاةٌ جميلة. نظرتْ إلى صندوق التفاحِ طويلًا وكدتُ أجزمُ أنها ستشتري لولا أنها نظرتْ إلى وجهي فغيّرت رأيها. يبدو أن الجميلات لا يحبّذنَ ابتياع التفاح من رجلٍ صغيرِ العينين وأبيض على نحوٍ يثيرُ غيظهن. وجدتُ قربَ يدي حشرةً صغيرةً وعسليّةً تشبهُ عيني جدّي اللتين كانتا تمرّان بوهجهما منذ الصباح في مجالات ذاكرتي. فتحتُ لها طريقًا إلى ذراعي، تمشّت على عريّ جلدي وتسلّقتْ شعرتين لكنني عندما لم أشعر بالدغدغةِ رميتُها على الأرض، فتابعتْ سيرها كأنّ انفصالها عنّي لم يحدث عندها ضررًا. جاء طفلٌ في الخمسين من عمره. سألني بلهجةِ نزوحٍ متعَبةٍ عن سعر البرتقال، فضربتُ له مبلغًا يكفيني لعلبة سجائر. وضعتُ له البرتقال في "الكيس الأسود" وقبضتُ منه ثمن رئتي، وبعد ذلك أغلقتُ شارعي الصغير وذهبتُ إلى أقرب دكان. قلتُ له: "علبة سجائري من فضلك"، فضحكَ الرجلُ بوقاحةٍ وهو يدركُ هزيمتي وخلوّ جيبي، ولكنني شخصٌ رائعٌ جدًّا لدرجة أنني أملكُ رأيًا آخرَ أكثرَ بهاءً وإبداعًا. كان الطريق إلى "بيتي" معبّدًا بالأطفال الصغار الذين يلعبون بالكرة ويقذفونها باستمرارٍ على سيّارة جارنا النّظيفة وهذا ما أسعدني حقًّا. حصل هذا عندما بدأتُ بسيجارتي الرّابعة. توقّفتُ قليلًا لألعبَ مع "عُمَرْ". كان عمر صديقي المفضّل تقريبًا هو و"سُهَى" التي كانت تجلسُ على الرصيف وتمضغُ لبانةَ النعناع ثم تقول: "آح. حدّة كتير". كان شكلها، ضفائرها القمحيّة، وطرفُ بنطالها المتّسخ بالوحل، والكتاب المقدّس المفتوح في وجهها، ويدها الصغيرة المجبّرة، كلّ ما فيها كان يثيرُ فيّ رغبةً جامحةً بالحياة، وكنتُ أضحكُ ملْء فمي ويفيضُ الدّخانُ غامرًا كلّ هذه الدنيا المعتقة بالضباب، وهذا هو أحلى مشهد أكررهُ كل يومٍ قبل أن أدخل بيتي الفارغ.
لقد بعتُ غرفة نومي كي أتمكّن من السفر، لكنني وبعد أن دفعتُ ثمنها "لابن حلال" اكتشفتُ أنني لا يمكنُ أن أعبر الحدود. و"أولاد الحلال" خفيفون كفراشة، سرعان ما يحترقون في غابات غضبك ويخلقون في مكانٍ آخر، بعيدًا تمامًا عنك. وسوف يسألني جدارٌ قديم: "ماذا عن بقيّة البيت؟" وسوف أقولُ له وأنا أدخّنُ سيجارتي العاشرة أن هذا هو بيتي بالكامل. لم يزل عندي لوحة عتيقةٌ جدًّا مصنوعةٌ من أعواد القصبِ كنتُ قد أنشأتها للفتاة الوحيدةِ التي أحبّتْها روحي -حسنًا وجسدي أيضًا- لكنَها اعتبرت ذلك ضربًا من التفاهة، ولم تكن تؤمن بأهميةِ الفنّ، بل لم تعرف كم مرةً جرحتُ يدي لأنمّق لها ذلك المنزل المرسوم على طرف بحيرةٍ هادئة، وكم أقنعتُ القمر أن ينيرَ في السماء الخشبية ليمنحنا بعض الدفء عندما يأتي الشتاء وينقطعُ "المازوت". لم أزل أجدُ صعوبةً بالغة في التخلي عنها، وذات مرة عندما زارني صديقي الذي مات الآن قال لي أنني شخصٌ رومانسي وتافه. وعندها ضحكتُ بعمقٍ كما أفعل في هذه اللحظة وأنا أدخّن سيجارتي السادسة عشرة.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.