29‏/12‏/2015

عاكف: قصة قصيرة (2)





أيُّ قصة هذه؟ إنها مثل آلاف القصص.
سهرت متكئا على حافة النافذة، يحرك شعري نسيم غير بارد، أبادل صديقي بعض الأحاديث ثم أعود إلى نفسي متفكرا ومتعذبا.
ما الذي يجب أن أفعله؟ هل أحاول نسيانها؟ أم أتقرب إليها؟ وهب أنني تقربت إليها وأحببتها وأحبتني، فهل نبقى محرومين أم نتزوج؟ وهب أنني نسيتها، فهل سأنسى كل أنثى أعرفها؟ وهب أنني تزوجتها، فهل سأتزوج كل الإناث؟
فكرت فيما يمكن فعله، وكنت أشعر -وأنا في الطابق الرابع- بأنني مخير بين أن أسقط عليها فأهلك أو أبقى في مكاني ويبقى الحب حيا في كل جزء من أجزائي. ولكن حتى بقاء الحب حيا فيَّ لم يكن يعني لي أنه سيبقى حيا أبدا، إذ سأنتهي قريبا أو بعيدا وسينتهي معي. كنت أطمع في خلود لا ينتهي، في سفر لا ينقطع عبر الأجيال وعبر الثقافات، ولم يكن هذا بمستبعد من آلية تفكيري أنا الذي أقرأ فجرا آثار البابليين وأقرأ ظهرا فلسفة هيغل وروايات سارتر ومسرحيات غوته.
قال لي صديقي متحمسا (أنقل هذا الحوار من ذاكرة غير دقيقة!):
- لا سبيل إلى الخلود الذي تنشد، فإنما الدنيا عابرة، "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون".
فاعترضت:
- لكن هذا العبور ليس سريعا كما تظن، إن الآخرة لن تكون بعد قرن أو قرنين، وأنا بحاجة إلى استنفاذ كل الحياة الدنيا.. كلها.
- وما الذي يدفعك إلى هذا الطمع؟ ألا تحب أن تلقى الله؟
- سواء أحببت أو لم أحب سألقاه، هذا ما لا اختيار فيه، إنما الاختيار يا عزيزي في الفناء أو البقاء.
- سبحان الله، أأنت الذي تختار بين هذين؟
- نعم.
- ألن تموت بلا اختيار أيضا؟
- بلى.
- فكيف يكون لك الخيار بين البقاء والفناء؟
- بين البقاء والفناء، ليس بين الحياة والموت.
- كيف؟ قل لي.
- لا أدري. لكنني أؤمن بأن الخيبة الكبرى هي أن نموت عندما نموت. ألست تقرأ وترى آثار الأولين؟ انظر كيف يعيش كونفوشيوس بيننا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، انظر إلى عرَق بناة الأهرام ومعاولهم، أيبدو أنهم ماتوا عندما ماتوا وتركوها بعدهم؟
- نعم ماتوا، اذكر لي اسم واحد منهم.
- لا يهم، وليست الأسماء هي دليل الحياة، بل الآثار.
- وهل ستشعر أنت بثناء الأجيال القادمة وهجاءهم بعد موتك؟
- لا يهم، فما لهذه الغاية يفني الإنسان عمره، إنما أبقى فيهم كما يبقى السابقون بيننا.
- أريد أن أعرف هل سيكون لديك إحساس لتدرك أنك بقيت أم فنيت؟
- قلت لا يهم، فهذا البقاء لا يعنيني، إنه سيل من الأفكار التي يمكن أن يتركها إنسان يعلم أنه سيموت.
- الأفكار والفنون؟
- الأفكار والفنون.

وحتى بعد نوم صديقي بقيت ساهرا أستعيد حديثنا. نعم، الأفكار والفنون، لقد كنت توًّا حائرا بين السقوط والموت أو العجز في الأعلى، لكن هذا الحديث أيقظني، أعطاني الفكرة التي كانت تنقصني على مدى إحدى وثلاثين سنة.
صباحا، طلعت أوائل الفجر على رجل غير الذي عرفته وعرفه صديقي، جديدا، يتحسس هوامش الساحة التي بدت بنفسجية شاحبة، ويعي أنه هو كل شيء. طردت من ذاكرتي كل قوانين الحياة وسخرت من خوف الناس القديم من الموت، فما هو هذا الموت الذي يوحي بالفزع كلما هاج ذكره؟ وشعرت بالامتنان لمحاجَّة صديقي، أعني بالتحديد سؤاله "وهل ستشعر أنت بثناء الأجيال القادمة وهجاءهم بعد موتك؟"، واهتديت من خلاله إلى أن الموت -ولتشعرْ بالصدمة- هو أعظم الأساطير التي عرفها البشر. إذ بما أن كل الذين يموتون لا يعون أنهم ميتون، فما هو الموت بعدئذ إلا أنه حزن الآخرين أو فرحهم؟ وبلغة صديقي "ثناء" الآخرين أو "هجاؤهم"؟ وإذا كان الإنسان وحده هو الذي يكترث لأحاسيسه ومشاعره، وإذا كانت أحاسيس الآخرين ومشاعرهم لا تغير شيئا في ذاتها، فإن حزن الآخرين وفرحهم هو أيضا أسطورة الأساطير، لأنه لن يكون وقتها -أي بعد موته- إلا عدما.  
كلَّمتُ صديقي ببعض هذا فتجمد وبدى غير مصدِّق أنني تغيرت كل هذا التغير في ساعة واحدة، و"بسبب عيني أنثى" كما قال متهكما.
لكنني يا صديق الفن لم أسعد بهذا التغير كما قد تستنتج، فلم يكن اختيارا بمقدار ما كان اضطرارا وضياعا، صحيح أنني لم أعد آبه بفكرة موتي وانتهائي قريبا أو بعيدا، لكنني أصبحت أنظر بعينين لا تعيشان لحظتهما وحدها بل ملايين اللحظات الآتية المحتملة، وأصبحت غير سعيد بهذه الحياة التي حلمت يوما أنها ستكون مشوارا جميلا.
ذهبنا صباحا إلى إحدى المكتبات، وكنت مشغول البال بها وبما ستؤول إليه أحوال أجسادنا.. في أي بلاد سيتعفن جسدي الأسمر هذا وإلى أي حد ستخبو شعلة الشباب فيها؟ من سيهتم لأمرها إذا سافرت أنا؟ ومن سيسعدها إذا لم أسعدها أنا الذي أحببتها؟ أما أحوال أرواحنا فلم تشغلني كثيرا، لأنني كنت قد عرفت كيف ستبقى حية ما حيي الناس.
في المكتبة، يمم صديقي شطر كتب الفقه والتاريخ كعادته، وبقيت أنا في الطابق الأسفل أقلب الدفاتر البيضاء.
والآن يحق لك أن تسألني عن تمام القصة...
عدت وحدي في عصر اليوم التالي، ووقفت قريبا منها، أحس بسخونة جسدها تحرق أعصابي، وأتعمق في عينيها فأجدهما قد مُلئتا عسلا جديدا. أعطيتها ثمن الحذاءين ثم ابتعدت عنها إلى هذا اليوم الشتوي الثقيل الذي أكتب فيه.

فهذه هي بداية صديقك الخمسيني التعيس الذي يرجو أنها لم تكن طويلة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.