كانت "يولا" فتاة جميلة. ذات مرة أحبها رجل لأنه اعتقد أنها لا تكذب، وأحبها آخر لأنه آمن بقدسيتها، وتساءل الذي جاء ليسلمها طردًا بريديا فيما إذا كانت مخلوقًا سماويا أم لا. كان ليولا شعرًا قصيرًا غشّاشًا. تارة يبدو حالكًا وتارة يظهر كستنائيًّا بطريقة وقحة، لكن مجدها كان يكمن في عينيها.
"ما تشبه عيناك يا يولا؟" سألتها جدتها.
"زجاج يا جدّتي". ضحكت جدتها كما يضحك الغراب وأردفت: "حافظي على هذا".
تجلس يولا على الأريكة المغطاة بملاءة قرمزية. تحرك ساقاها العاجيتان فتميل الشمس تجاه قبلتهما ويصلّي النور بعمقٍ عند ركبتيها. تأكل كعكة هشةً وترشفُ البرتقال. تتخيل أن هناك من يحبها وأنه كما كانت تقرأ يسمّى "توأم روحها" وربما هو الآن يشرب البرتقال أيضًا وينصتُ لموسيقى سيّئة، ويحرك شعره الأشقر الكثيف ليظهر جبينه العريض الذي يحرس عينين مموّجتين مثل فراء القطة التي أهداها لها والدها في عيد ميلادها الفائت قبل أن يموت بعد أسبوع إثر حادث قال عنه الجميع أنه مؤلم، لكن الأمر لديها كان مجرد عملية طويلة مليئة برائحة مواد التخدير والدماء. "سوف يستيقظ حتمًا، أليس كذلك؟" تصمتُ لثوانٍ ثم تنتبهُ إلى أنها تشركُ توأمها المفترض في "أحزان عائلية". تجلسُ يولا جلسة تخلو من البهجة وتبدأ بالنحيب.
خرجت في أحد صباحات كانون الباردة. كانت ترتدي قبعة بالية من الفرو وتغطي جسدها الممشوق بمعطف سميكٍ من الجوخ الأبيض. تخرج وحدَها غالبًا لأنها لم تنجح في تكوين الصداقات فقد كانت الفتيات يعتبرنها مجرد دمية حلوة أو شخصية هاربة من الرسوم المتحركة وكثيرًا ما كنّ يستهزئن بوجهها الخام الذي لم تلمسه مساحيق التجميل يومًا. كان فمها يشبه احتقان وريد بالدماء. منتفخًا وممتلئًا ولونه قاني، وهذا البرد قد عتقه أكثر.
تفكّر يولا وهي تمشي بإمكانية أن يكون عندها سيارة مفضّلةً اللون الأحمر ومختارةً حجمها الصغير. تساءلت: "ألا يوجد سيارة تتسع لشخص واحد؟" ثم ضحكت للحظة، فابتهجت معها شجرة قريبة. في الجانب الآخر من الطريق كان يمشي رجل فارع الطول مثل عمود جهّز ليحمل الكثير من الأسلاك الكهربائية. يرتدي سترة سميكة من "الجينز" المبطّن ويلف حول رقبته وشاحًا رماديًّا. يده اليسرى مختبئة في جيبه والأخرى تعانق سيجارة. كم كان مشهدا آسرًا اختلاط أنفاسه البيضاء بأنفاس السيجارة الرمادية. من يفرّق عندها بين لهاث الدفء والبرد؟
وقفت يولا عند محطة الباص. لم ينظر أحدهما إلى الآخر فرجل يدخن يمتلك من الغرور ما يكفي وأنثى تحلم قد لا تتنبّه لشيء. قال رجل عجوز: "متى يأتي القطار؟" ردّ الرجل بشيء من اللا مبالاة: "عندما يحين الوقت"، ثم رفع كم سترته قليلا: "أي بعد خمس دقائق" وغرق في صمته مجددا.
بينما كانت يولا تصعد السلالم القديمة عائدة إلى بيتها كان هو ينزل من الأعلى. التقيا عند الدرجة السادسة عشرة. كاد أن يصطدم بها فقال بكل هدوء: "عفوًا" وها هي إذًا تنظر إليه. كان له شقّين صغيرين ينفذ من خلالهما الضوء. فكّرتْ "ما أصغر عينيه!" واتسع قلبها قليلًا لكنّ هذا لم يعن له شيئًا كما يقول عصفور يراقب المشهد من بعيد.
"يا يولا، سيكون علينا ترميم الحمام بالكامل؟ أي منزل مهترئ هذا!" قال "سافيو" الرجل الذي اعتادت أن توكل له مهام التصليح وجلب الأغراض والثرثرة العابرة وتشارك كوب من الشاي المعدّ بتأنٍّ حتى يصير ليلًا. كان سافيو بعد هذه العشرة الطويلة التي رأى فيها يولا تبكي وتصاب بهيستيريا الرقص بعد شرب النبيذ، يكنّ لها شيئًا من تلك العاطفة السحرية التي استفزّته لتقبيلها حين دخل المطبخ ورآها تدور على موسيقى صاخبة. أراد أن يأخذها من ذراعها وينظر مباشرة إلى عينيها، ثم يسلّم عليها بشفتيه. لكنه كان متزنًا جدا إلى الدرجة التي قضى فيها اتزانه على أفكاره المجنونة المتعلقة بها. ويولا؟ كانت طبعًا تفكر في ذلك الرجل الطويل الذي التقت به مرتين دون أن تعرف اسمه حتى.
كان يجلس على السلالم في ذلك اليوم ويدخّن. بينما كانت تنزل على مهل تبيّنت ظهره المكتسي بقميصٍ وردي خفيف، وشعره الذي عبث به السهر كما يبدو. "السهر على سرير فتاة؟" فكرت يولا بغضب غير مبرر. حين جاورته وقفت قليلا. قليلا يعني مرور بعض الوقت دون حراك أو كلام. قال دون أن يلتفت: "أهلا جارتي" ثم ضحك بشكل مفرط. أحسّت يولا في تلك اللحظة أنها تنال فرصتها لتشاركه هذا الموعد الغريب المليء بالترنّح.
الآن، هي قريبة منه. متجاوران. لا هو يعلو ولا هي تهبط.
"أنت جاري إذا؟"
"إنه سؤال أحمق أيتها الصغيرة"
"مجرد سؤال عن الحال يا ..."
"كريستوف!"
تنحنحت يولا ، نظر في عينيها مباشرة وحدق. ظل بصره معلقا بزجاجهما الأزرق عاكسًا وجهه عليهما حتى ارتبكت يولا واتسع قلبها أكثر من قبل.
"هل تعلمين؟" نطق أخيرًا.
"كنتُ في حفلة سيئة جدا. المنزل كان متسعًا، فيه كل ما يشتهيه رجل يود أن يقضي ليلة عسليّة. هناك كان بإمكاني أن أقوم بكل ما أريد. أن أرسم حتى يمتلئ دفتري لكنني شعرت بالملل فجأة. أتعبتني الوجوه المتشابهة والعيون التي تبدو وكأنها تحترق، فجرت أمشي، وحبن وصلت غلى هنا. إلى هذه الدرجة بالذات تعبت، فقررت أن أحتفل في هذا المكان العتيق مستجلبًا الوجوه من ذاكرتي".
"مضى وقتٌ طويل على آخر مرة احتفلتُ فيها" قالت يولا هذه الجملة وسرعان ما ودّت لو أنها لم تفعل لكن الكلمات كانت قد خرجت وانتهى الأمر. وجدت طريقها نحوه فضحك حتى ظهرت كل أسنانه وعلّق:
"يولا الصغيرة، سأرسمك يومًا ما"
تحدثا طويلًا. حتى بدايات الفجر ربما. شرحت له بنصف لغة عن نفسها وأنها تعيش في المنزل الذي ورثته عن والدها الذي كان يرسم أيضًا بعض الصور للحشرات التي كان يصادفها أثناء سيره عبر زقاقات المدينة. ذكرت له سافيو النبيل الذي سيرمم لها الحمام ويساعدها في وضع ورق الجدران في الصاله. كلمها هو عن سبب مجيئه إلى هذه البلاد وكيف أنه ظل يعيش في فقر مدقع حتى فتحت له طاقة الحياة، ثم أخرج دفترًا من صغيرا من جيب سترته المرمية عند أسفل قدميه وراح يقلب فيه. كلما كان يريها المزيد من لوحاته كلما كانت تحب أصابعه أكثر وكان قلبها الذي راقبه على مدى أشهر طويلة من نافذة الغرفة وحفظ كيف يمشي وكيف يداعب أوراق شجرة التوت في نهاية الشارع قبل أن يركب في سيارة غالبا ما كانت تقله في الفترة الأخيرة وكيف كان يحكّ طرف فمه باستمرار حين يحادثه صاحب العمارة عند الباب. بحلقت فيه. بشيء من العفوية مدّ يده إليها. عبث بشعرها ثم كرر
"يولا الصغيرة. يولا الصغيرة"
قبل أن يصعد نحو منزله سألته: "كريستوف، ما تعني طاقة الحياة؟"
ردّ بإهمال من يقول شيئًا بديهيًّا وبسيطًا: "المرأة التي سأتزوجها قريبًا. سأسافر معها نحو بلدان كثيرة فهي مهتمة بالفن مثلي. حسنًا! بطريقة مادية بعض الشيء ولكن لا بأس." حرك يده من الخلف واختفى.
داخل غرفة الجلوس المجددة كانت تجلس يولا على ذات الأريكة حين دخل سافيو لأخذ رأيها في بلاط الحمام. وجدها تحدق بصمت في يديها، وخُيّل إليه أنها ستلتهم إحداهما لا محاله. حين اقترب منها يسبقه قلبه الخائف الذي قلما رآها حزينة إلى هذا الحد. تبيّن له بكاؤها الصامت. ولأنه نبيلٌ جدا فإنه يدرك كم من المؤلم أن تبكي فتاة جميلة بصمت. قال لها برفق: "يولا" جاثيًا على ركبتيه وناظرا إلى يديها. حين رفعت وجهها بدا وكأنه خُبزَ لفترة طويلة في فرن كبير. اقترب منها أكثر ومن دون أي تخطيط صارت يولا بين ذراعيه. امتزج بكاؤها الحاد بلون سترته، وكانت الموسيقى لا تزال تخرج من فم المسجّل بينما تهب الرياح في الخارج وينطوي هذان الأحمقان على بعضهما.
2 التعليقات:
ذكرتني برواية اسمها
The Family Way
لكاتب إنجليزي اسمه
Tony Parsons
الحوار بين يولا (اعتقدت الاسم بولا بداية!) والرجل الغامض على السلالم مشابه جداً لجوار في تلك الرواية
أذكر الرواية لأني أعجبت جدًا بهذا الكاتب الذي اكتشفته صدفة قبل عامين وقرأت له الكثير من يومها
يولا تبدو هشة ولكن كلنا كذلك. ليست ظروفها صعبة أو حتى محطِّمة ولكنها بشر
وعللى رأي الأغنية اللا-مشهورة
nobody wants to be alone
عبارة صحيحة سواء كانت مركزاً أو محورًا لتقييم الحياة أو حتى محورًا جزئيًا لها. طغيان فكرة الوحدة يصبغ تصرفاتنا، وانفعالاتنا ويهدينا لقمًا سائغة لأفعال لا منطقية وطائشة ولكنها تظل تحت بوتقة (الطبيعة) البشرية
----------------------
رمضان كريم
يبدو أنني أتمتع بالتخاطر -إن صحّ التعبير- مع كتاب لا أعرفهم، وهذا شييء جيد.
يولا الصغيرة، ما جريمتها؟ الوحدة المفرطة والخيال الخصب. أعتقد أن يولا ستصير كاتبة ممتازة يومًا ما . وأتمنى ألا تجد في سافيو منقذًا أخيرًا ..
قد لا تكون الأغنية مشهورة فعلًا لكن معناها - كتصرف- متبنّى وبقوة .أقصد.. من يريد ذلك في نهاية الأمر؟
نهارك سعيد
رمضان كريم وأبيض.
إرسال تعليق