01‏/11‏/2016

لوحات حاتم




أكتب أحيانا لأجل الصورة، ألملم الحروف وعلامات التنوين لأعبر عن انفعالاتي وأربطها بصورة أحببتها. أكتب عن الليل، مثلا، لأستعير لوحة من فان جوخ، وعن الجسور لأستدعي لوحات مونيه، وعن غموض الملامح لأبحث عن صورة مناسبة لرينيه ماغريت. لكنني الليلة سأعلِّق الصور على ظهري المكشوف لأكتب. لأنني حقا أشعر بجفاء الإلهام.

حاتم هو صديقي في الكلية، يشاركني دراسة الطب ومقترحات الكتب الفكرية وبعض الجَدَل. عرفته منذ أكثر من ثلاث سنوات أنيقا وهادئا ومتحمسا لأفكاره. أعجبني فيه اطِّلاعه الواسع وتقديره للفنون وتميُّزه في النظرة إلى الأشياء حوله. إذا واجهتم صعوبة في تخيُّله فاستذكروا (خواكين فينيكس) بطل فيلم (Her) الذي ظل يبحث عن عالم آخر يتواصل معه حينما لم يكفه كل العالم الطبيعي. 
قبل عدة أسابيع، فاجأني بأسماء جديدة في عالمه: "الوجه الآخر للقمر"، "هذه هي توليبي". فصُعِقت. لم أكن أتوقع أن يتجه حاتم إلى الرسم. يجوز أن يذوب في حياة اللوحات والرسامين ليشبع أعصابه بالألوان والفراشات والجبال، لكن أن يصير رساما فجأة؟ هذا ما حدث. أرسل إليَّ مجموعة من اللوحات الجديدة مرفقة بمجموعة من أغاني فرقة الروك الشهيرة (Pink Ployd). 

"هذه هي توليبي" لوحة بسيطة، حيث تتوسَّط زهرة توليب مساحة هادئة من لونٍ بارد لم أجد له اسما في ذاكرتي. يمزج حاتم في هذه اللوحة بين الصمت والكلام، بين التجريد والتفصيل. يمكن اعتبار "هذه هي توليبي" لوحة شخصية لنبرر العجز عن الخوض أكثر في أسرارها. لكننا لن نتجاهل سحرها. عندما رأيتها خطرت ببالي فكرة: لم لا يتوقف الناس عن تأليف الكتب ويختصرون كل شيء في غلاف جميل؟ ربما تكون الفكرة أشد غموضا! 


آمنتُ دائما بقوة الفن ليس على إنعاشِ أيامنا الخاملة فحسب، بل على إيجاد معنى فريد لحياةٍ واحدة لا آخر لها. قطع الإنسان، ولم يزل يقطع، أشواطا كبيرة من وجوده على هذه الأرض فنَّانا. أصبح البشر فنانين قبل أن يكونوا فلاسفة وعلماء وقتلة. رسموا قبل أن يكتبوا، صمتوا طويلا قبل أن يستطيعوا الثرثرة. يعيش الفنان في سلام مع نفسه. سلام وجودي على الأقل. قد يكون كئيبا أو فقيرا أو متشرِّدا لكنه لن يشعر بأن ذاتَه خذلته أو أنه يخذل ذاته. كيف وهو ينام على مرتاحا على لوحاته أو كتبه أو أغانيه أو منحوتاته كما ينام نبيٌّ على جبال من الحسنات؟ 



إن النبيَّ والفنان يدعوان لنفس النوع من الأفكار: تلك الأفكار التي تعينك على مسالمة الوجود وتضمن لك الخلود. إنهما يتحرَّقان لأن يدرك الناس ما يدور في ذهنيهما. ينتظران الوحي قليلا أو طويلا ثم يجيء ويريح جسديهما الكادحين. يسهر النبي راكعا لأنه أدرك أن الحياة يجب أن تكون أطول من الزمن، لأنه يدرك ويعلِّم الناس أن تدرك أن الذوات العظيمة الصبورة الواسعة يجب أن تفوز بالخلود. ويسهر الفنَّان لأنه يدرك أن كيانه الروحي: أفكاره، انفعالاته، حاجاته، احتجاجاته، ظلامه، نوره يجب ألا يندثر لحظة الموت. الموتُ يرعبُ الفنان ويُفرح النبي. لا يريد الفنان أن ينتهي في لحظة واحدة "كما يموت البعير". يريد الفنان أن تشعر به الأجيال القادمة.. أن تتصفَّحه وتسمعه وتتأمله وتلمسه وتشمَّه ما دامت الحياة. 




لم يسمِّ حاتم كل لوحاته. لم يوقِّع أسفلها. وربما ينتبه إلى هذه الخطوات المهمة لاحقا. فالتاريخ لا يرحم الأشياء الثمينة المجهولة. والتخمين موهبة بشرية قديمة. قد تفتنني الأوديسَّة لكنني لا أرتاح لخلاف العلماء حول كاتبها. أحب أن أضع يدي على توقيع (بيكاسو) البسيط. الاسم يعطي العملَ الفني كينونة. الطبيعة تُبدعُ كل يوم أجمل الأعمال: ندف الغيم وسراب الصحراء وأنين الرياح في الغاب، لكننا لا نستطيع فهمها ككينونة تنفعل وفق فلسفة مفهومة. قد نرى الكينونة في الطبيعة لكنها كينونة غير ثابتة وغير مستقلَّة، تفتقر إلى أبسط مبادئ التواصل. نستطيع بناء صومعة بسيطة فوق تلَّة بعيدة لفهم كينونة الطبيعة، لكن من ذا يرغب في بناء صومعة على لوحة؟ 



لا معنى للجبال ذات القمم المدببة التي يكسوها الضباب حيثُ يعيش حاتم. لا معنى لهذه الصورة بالنسبة لعينيه، لكن قد تجدون المعنى هناك... ربما في تلافيف دماغه التي التقطت هذه الصورة في بداية فيلم أو في ألبوم صور قديم أو في حلم. هذه اللوحة طقس متحرِّك يكاد يزيد برودة أو يقل. أكاد أرتعش من الخشوع والصقيع. أكاد أبحث عن شمس تبتلعني. يعيش حاتم في نفس مدينتي، لذا أدركُ تماما حاجته اللاواعية في التلحُّف بجبلين باردين والشعور بألم مفاصل طبيعي ولو مرة واحدة. سأتدخَّل هذه المرة وأسمِّي هذه اللوحة "الحاجة إلى برد". وأرجو أن تلاحظوا توقيع (H2) أسفل اليمين. قد يكون لهذا الحرف علاقة باسمه، أو إذا شئنا الذهاب بعيدا، بعنصر الهيليوم. عنصرُ النجوم والبدايات والانفجار العظيم! 



أول انطباع شعرت به تجاه هذه اللوحة هو أنها تجسِّد الوحشة. قرصٌ ذهبي يضمُّ زهرة بيضاء وفراشة. تبدو الفراشة جامدة محنَّطة ممنوعة من الحركة برغم إغراء الرحيق والنور. في مركز القرص ثمة ثقب صغير. قد نسمعُ صُراخا إذا وضعنا هذا القرص في جهاز فونوغراف؟ ربما أراد الفنان أن يُسمعنا صوت اعتراضات الفراشة ورفضها لهذه الوحشة. أو ربما أراد المزج بين عناصر الطبيعة وعناصر الصناعة ليصدمنا بحقيقة عدم انسجامهما. هذه اللوحة سجن. أنا أحترم الفراشات وطريقة حياتها. لذا يزعجني حبسها. لكن ماذا لو كان حاتم يريد أن يصور لنا فراشةً تؤدي عرضًا حركيا على خشبة مسرح؟ ما المانع؟ هذه البقعة المركَّزة من الضوء تشبه الأضواء التي تطارد الراقصين والممثلين الصامتين. والفراشة لم تبدأ الرقص بعد. 





* للتواصل مع حاتم على تويتر: Z_AXIZ@

16‏/10‏/2016

كيف تقرأ ورقة علمية (بالتفصيل)؟



قد يواجه بعض المهتمين بالعلوم صعوبات في قراءة البحوث والدراسات العلمية. الأمر ليس معقدا جدا. المهم أن تكون لغتك الإنجليزية جيدة. في هذا الفيديو الذي أعدَّه موقع العلوم الحقيقية، ستجد تفصيلا بسيطا لكل أجزاء الورقة العلمية وطريقة التعامل مع كل جزء حسب الأهمية ونوع المعلومات التي يحتويها. 

للحصول على نسخة مكتوبة
http://real-sciences.com/?p=9163


13‏/10‏/2016

رائحة التمر



إلى هِداية،

نُشُوز.. نُشُوز. نَشَزَتْ عظامي مني إليك. 
أنا هنا كتمثال مدفون. تصوَّري كم أنا عاجز عن الحس والحركة. 
كل قطعة مني انسحقت هنا وذَرَتها قوَّة غامضةٌ إلى غرفة نومك. 
لكن برغم هوْل القوة ووحشيَّتها لم يتزحزح عقلي من مكانه. 
فأيُّ جمودٍ أنا فيه؟! 
أن يكون لديكِ كُلِّي وفي الوقت نفسه أستطيع أن أعيَ مكاني الوحيد وفقاعات الفراغ المحيطة بي. 

أشتهي أن أتجاوزَ ذاتي. 
جربتُ أن أدورَ حولي كالصوفيين لكنني كنت ضعيف الإيمان. 
مدَّدتُ أطرافي ورأيتُها أطولَ، لكنها لما تجاوزت مجالَ رؤيتي لم تعد أطرافي. 
أتمنى لو أستطيع أن أؤدي طقسا أو أكذوبةً أو أهمهم وأغمغم فأنسى ذاتي قليلا وأهوي إليك. 

حينما أدركتُ أنني أحبك تخيَّلتُ رائحتك. 
كيف يتخيَّل المرء رائحة؟ 
كنتِ تقولين إن رائحتك يقطين، خوخ، زنجبيل، جوز. 
لكنني شممتُكِ دائما فكنتِ أقرب إلى التمر. إلى التمر المجفف أكثر. 
صنعتُ من انعدام الرائحة شيئا ألمسه بيديَّ القصيرتين. 
وفي كل مرة أقبض قبضة من التمر وأقرِّبها من وجهي أشعرُ بك. 

اعتاد إنسانُ الصحراء، وأنا ذلك الإنسان، أن يخلُق ما لا يجد وما لا يطال وما لا يفهم. 
يخلق الجنَّ والماء والأبطال الخرافيين بأجنحتهم العملاقة وتحمُّلهم لحرارة النار والأعمال الشاقة. 
ماذا يفعل إنسان الصحراء عندما يحبُّ أو يتخيَّلُ حبيبة؟ 
لذا على شبهِك خلقتُ عصافير بيضاء تحملني إليك بقدر ما أحملها في جيوب ملابسي وذاكرتي. 
أنا إنسان الصحراء حيث يُزرع الأنبياء وأنت إنسانة الجبل حيث تتكلم الآلهة. 

يا جسد التمر الذي بلا رائحة، يا جسد الغياب، يا جسد الحنين والاختناق، 
طعمُ التراب يحجبُ صوتي، وأنا مكبَّلٌ في واقعٍ سيءِ الملمس. 
ما هي احتمالات أن تنشز عظامي وتنسحق عند سريرِ نومك؟ 
سألغي عقلي وأنام. 


05‏/10‏/2016

المبتسمون على حبال الموت



في ذلك اليوم المشهود اجتمع كل الناس ليمتعوا أنفسهم بمشاهد الموت. خرج الرجال والنساء والأطفال متجردين من همومهم ومخاوفهم، غير مبالين بمظاهرهم، حفاة، فارغي البطون، يحدوهم إلى ساحة الموت شعورٌ دفينٌ بالتجدُّد والخلود وحاجة إلى خوفٍ حقيقي ينسيهم أوهامهم. 

انتصب قاضي القرية بثبات ووزَّع وجهه بين الحشود وقال: يا أيها الناس، إن هؤلاء الثلاثة مجرمون بموجب دستورنا العادل والحكيم. فالأول يتبع دينا غير دين آبائنا وأجدادنا، والثاني لا يتبع دينا ولا يؤمن بإله، والثالث ما عرفنا له حقيقة، فلا هو بالمتدين ولا هو بالكافر. فوجب التخلُّص من أفكارهم الفاسدة وأرواحهم الملوَّثة. وكما تعارف الناس الذين هم منا ونحن منهم سيُشنقون بعد إتمام الطقوس المحترمة التي لا نفرط فيها.
وكانت عادة أهل هذه القرية أن يستمعوا إلى الكلمات الأخيرة التي يقولها المحكوم عليهم بالموت ثم يودعوهم قائلين بصوت واحد: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. كنوع من الانتقام مع حفظ الجميل. 


بدأ القاضي بالمجرم الأول، فأشار إليه بأن يبدأ خطبته ويوجز، فقال مبتسما: ما عساكم آخذين مني؟ جسدي المتعب الفاني؟ خذوه هنيئا لكم، فإن روحي صاعدة إلى الحقيقة التي اخترت أن أعبدها، ولو كانت مختلفة كل الاختلاف عن الحقيقة التي ورثتموها. عودوا إلى دياركم أيها الرجال، وعدن إلى دياركن أيتها النساء، فإنني عائدٌ إلى ربي. 

وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فهلل الجميع: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. 

ثم أشار القاضي إلى المجرم الثاني، فقال مبتسما: ما بال أقوام يقتلون العقول التي تفكِّر عنهم؟ سحقا للجهل الذي أنتم فيه! لو تركتموني في مختبري وتجاربي وأبحاثي لما آذيت ذبابة ترفرف حول أجسادكم النتنة. 

وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فهلل الجميع: الوداع واللعنة.. الوداع واللعنة. 

ثم أشار القاضي إلى المجرم الثالث، فقال مبتسما: إنني أنا الفنان، وهذه جريمتي. ما هو الموت الذي جئتم للتلذذ بصوته ورائحته؟ إنه لا شيء. هل تتصورون أن حبلكم هذا الذي يلتف حول رقبتي سيُلغيني؟ كلا. أنا آسفٌ عليكم، وآسف على صديقيَّ اللذين بردت أنفاسهما منذ لحظات، فكلكم لم تفهموا الموت كما فهمته. إن الحياة امتداد أيها الحمقى.. إنها امتداد واستمرارية. إنكم جميعا في مرحلة الوجود المادي، تأكلون وتنامون وتتكاثرون وتلعنون الموتى، فأين ستكونون بعد عام أو عامين أيها الشيوخ القذرون؟ وأين ستكُنَّ بعد عام أو عامين أيتها العجائز القذرات؟ وأين ستكونون بعد ستين أو سبعين سنة أيها الأطفال المساكين؟ في اللاشيء، ينتظركم دود المقابر وظلامها، تنتظركم لعنات الناس من بعدكم.
أما أنا، حتى لو كنت سبب جدلكم وأرقكم وآلام رؤوسكم، فإنني خالد فوقكم، معكم وبعدكم، في عقول شبابكم المتمردين وفي عقول أبناء شبابكم. إنني لا أخاف الموت الذي تخافون، فما هو إلا نهاية سيئة لقصة الرعب التي حُكيَت لكم. فأخبروني إن شئتم كيف يشعر الميت بموته؟ وكيف يتحسس آثار الطعنات على جسده؟ وكيف يبحث عن أطرافه المشوهة أو المسروقة؟ وكيف يسمع اللعنات والصلوات؟
ما الموت إلا نوم طويل، أخرج فيه كالحلم وأزعجكم بأفكاري، أكون حلم فتياتكم وقدوة صبيانكم، وأكون فيه صوت الناي في أغصان حقولكم، ووقع الرقص في ساحات أعراسكم، أخرجُ، أعيدُ تشكيل ذاتي، أتجدد، أنمو، أكبر كأسطورة، أستمر، أخلُد. فعودوا إلى دياركم إني معكم وبعدكم. 

وسُحِب الكرسي من تحت رجليه المرتعشتين، فنظر الناس إلى بعضهم، ثم هللوا: اللعنة، اللعنة، اللعنة. 


01‏/10‏/2016

دعوة لإعادة النظر إلى الحياة



الحياة بكل بساطة
البقاء، التكاثر. هاتان الكلمتان هما الأهم في قاموس الحياة. البقاء هو الاستمرارية التي ينجزها التكاثر. يحدث كل شيء في الطبيعة. بلا سبب وبلا غاية. لا معنى للحياة الشخصية. ومن ثم لا معنى للمتعة، اللذة، الحرية، الاستقلال... فكل هذه مجرد منتجات ثانوية للنمو الاستثنائي لقدراتنا المعرفية. الحبُّ هو وسيلةُ التكاثر لتحقيق البقاء. والبقاء ليس قوة أو إنجازا نُريدُه أو نحققه، بل هو، بكل بساطة، الذريَّة. لكن الذرية في ذاتها ليست غاية. فلا أحد يفهم لم عليهِ أن يحصل على أطفال. حتى صفاتنا التي تنتقل إلى الأجيال الأخرى لن تبقى صفاتنا. الصفة لا تدرك ذاتها.

الحياة بكل تعقيد
الحياة مفهوم شديد التعقيد. نستطيع أن نؤلف ونرسم ونغني ونهذي آلاف السنين في فلسفات الحياة. لكنها تبقى محصورة في شكلها الأكثر بدائية: أزواج وأطفال. كان البشر في القديم البعيد يمارسون حياتهم بفارقٍ بسيط عن الحيوانات الأخرى: الوعي. تكاثرت الأجيال مدفوعةً بسيكولوجيا الحب والخوف، ثم تضخَّم الوعي فجأة! فجأة بلا هدفٍ واضح. وبينما بقيت الكائنات الأخرى ترتع وتعاني في أبسط أشكال الحياة، صرنا نحن البشر أكثر تعقيدا بشكل غير معقول. أدمغتنا كبرت واستهلكت نسبة كبيرة من طاقتنا الحيوية، واتَّجهنا نحو نوع آخر من الحياة: الحضارة.
لقد كان لدينا، بلا شك، الاستعداد للتطور بسرعة نسبية واختراق الطبيعة. أدركنا رعشة الحب وجرَّدناه من طبيعته النفعية، فابتكرنا العشق والهُيام وسهر الليالي. وجرَّدنا الخوف من طبيعته الوقائية، وابتكرنا الشجاعة والحرية وكوَّنَّا التحالفات وهاجمنا الأعداء وأطلنا الحروب ودمَّرنا البيئة.

الخلود.. الانقراض
لا تعرف الحيتان معنى الحب، لكنها تملك الهرمونات التي تؤدي وظيفة التكاثر. لم تنقرض الحيتان. أما نحن البشر فهوينا في دوَّامة غامضة اسمها الوعي، وتهنا تيها حقيقيا قد آن الأوان لإعادة النظرإليه. إننا نبتعد يوما بعد يوم عن البساطة متجهين إلى التعقيد. نتوقف عن التفكير في العائلة والمجتمع ونفكر في أنفسنا وفي أشياء أخرى أقل أهمية. بل في أشياء غير ممكنة كالخلود أو عبور بوابات الزمن (غير ممكنة على الأقل في الوقت الحالي). فهل هذا هو الوقت الأنسب للاعتراف بقلة أهمية الوجود الذاتي؟ وإعادة الأولوية إلى الوجود الجمعي الكائن في الذرية والمجتمع؟

الأفكار بدلا من الأطفال؟
لا فائدة حيوية من الغرق في التفكير، وعشر سنوات لتأليف رواية أقل بكثير من عشر دقائق للمعاشرة. الأمران سيَّان في العبثية والغموض. لكن هناك مقدِّمات نفسية وجسدية للثاني أكثر من الأول. أي نحن ندرك ونشعر بالفائدة المباشرة من المعاشرة: اللذة، الفائدة طويلة المدى: الذرية. لكن من ذا الذي يعلم ما هي فائدة كتابة رواية في عشر سنوات؟ ربما تكون الأفكار شكلا آخر للذرية؟!

أمراضٌ حضارية، انتحارٌ حضاري
نظرةٌ سريعة إلى قائمة الأمراض العشرة الأولى المسببة للوفاة عالميا تكفي لإقناعنا بإعادة النظر إلى معنى الحياة الذي أنتجته الحضارة. أمراض القلب والأوعية الدموية، أمراض الجهاز التنفسي، السُّكري... الانتحار.
إنهاءُ الحياة هو نتيجة منطقية لعدم القدرة على فهمها أو موازنتها. في 2013، ذكر 8.3 مليون شخص بالغ حول العالم أنهم فكَّروا في الانتحار السنة الماضية (2012). من هؤلاء، مليون شخص حاولوا الانتحار فعلا، وبين كل 25 محاولة انتحار تنجح واحدة! لم الانتحار؟ مع أن الانتحار يتعارض مع المعنى الجوهري للحياة وهو البقاء الشخصي بما يكفي للوصول إلى سن التكاثر وإنجاب الذرية ورعايتها حتى تصل إلى سن التكاثر، ينتحر الناس عندما يعجزون عن مواصلة الحياة، أي عندما تكون الحياة عبئا في ظلال الاكتئاب والإديولوجيا والفقر. ولن أتكلم عن القتل والحروب هنا.
ما أقصده هو أننا نملك من الوعي ما يتعدَّى متطلبات الحياة بمراحل. هذا الوعي الحديثُ نسبيا لم يتحصّل بعدُ على الركائز السيكولوجية والفسيولوجية الكافية. نحن نثرثر هنا وهناك ونبتعد أكثر وأكثر عن جوهر الحياة. لدينا في أدمغتنا مراكز للمكافأة. تنشط هذه المراكز عندما نتمكن من إيجاد شريكٍ مناسب أو عندما نحصل على مولود لطيف. وتنشط أيضا عندما ننهي ورقة علمية في فيزياء الكم. لكن شعورنا بالراحة في المقابل لا يعني أننا نسيرُ في الاتجاه الصحيح من الطبيعة، فالحصول على مولود أهم بكثير من معرفة أشكال الكوارك!

لم أقصد التنظير ضد العلوم والمعارف في هذا المقال. كل ما قصدته هو الدعوة إلى نظرة تحليلية شاملة للحياة ككل. فقد يكون ثقل الوعي هو سبب انعدام توازننا. وقد نستطيع إذا ما عدنا إلى أساسيات الحياة أن نقلل نسب الأمراض الجسدية والاضطرابات النفسية التي تغلغلت فينا بعدما تركنا الطبيعة إلى الصناعة.


22‏/08‏/2016

يوميّات آنسة حلوة


توت رغد الشهي

* امتلك "سراج" أخيرًا جرأة الإفصاح عن اسمها. صار يضع صورًا خليعة أيضًا ويرسل لها عبر "حالته الشخصيّة" ألفاظًا جنسيّةً واضحة. سراج يبلغ من العمر 15 عامًا لكنه رجل في نهاية الأمر، أليس كذلك؟ وقد قالت أمي ذات مرة وهي تحدق في أختي: "قدّمي للرجل ما هو أكثر متعة من الجنس".

* قال لي عزيز: "آنسة، شلت كل الحب وحطّيتو عندك" ثم قدّم لي رسالة مليئة بالقلوب. أليس هذا أثرًا ممتازًا يمكن أن تتركه آنسة في قلب طفل رقيق مثل عزيز؟

* يقول لي خالد "آنسة سعاد". خالد طفل عنيد وساديّ ولديه شخصية قوية جدا. ذكيّ ومناور، لكنه أُعجبَ حقًّا بفكرة اللوح السحريّ الذي ابتكرناه معاً حيث أفصحت لي أخته إيمان عبر "الواتس" عن تعلّقه بهذه الفكرة وكيف أنه استيقظ عصرًا وهو مصرّ على الذهاب عند "الآنسة نور" لرسم بطة صغيرة على اللوح السحري. الأمر الذي أعانه في المرة السابقة على التصالح مع اللون الأصفر  بعد أن كان يواجه صعوبة في تذكره. لم يختر خالد موزة ولا شمسًا ولا ضفيرة شريكته في الدّرس. اختار بطّة كتلك التي تضعها له أمه في حوض الاستحمام. شكرًا يا خالد لأنك تحبّني وتعرف اسمي.

* تنتظر سلمى مفاضلة القبول الجامعي وبينما تنتظر ترسمُ لوحات مدهشة حقا وتقوم بالتقاط بعض الصور المميزة. تحلم بأن تصير مهندسة معمارية، وتربّي أظافرها لتمسك سيجارة وتدخّن "جكرًا" بصديقها السخيف الذي يقول لها "هذا معيب". سوف تكتشف أن هذه المجاكرة غير مهمة مع مرور الوقت، ولن تصير سلمى مهندسة حسب توقعاتي وهذا يحزنني جدا، لكنها ستظلّ فنانة إلى الأبد.

* يفكّر أسامة في السّفر إلى ألمانيا بعد عدم تمكّنه من نيل شهادته الإعدادية، ويقول لرغدا: "بحبك يا مجنونة كيف ما كنت تكوني" ثم يقول لي: "أنا صغير جدا وهي تطالبني بخاتم أبو ألماسة. هل تعرفين كم يبلغ سعره؟" لا أظن أن أسامة يودّ أن يبتاع شيئًا بقدر رغبته في ابتياع درّاجة نارية جبليّة وابتكار فريق لقيادة هذا النوع من الدراجات في الشوارع. وعلى رغدا أن تفهم هذا جيّدا.

* رغد، الطالبة التي تحضر لي التوت في موسمه كتبت لي رسالة سيّئة جدا من الناحية اللغوية لكنها أوصلت لي كمية هائلة من المشاعر التي جعلت يومي أفضل. أنا زهرة في الحقل؟ أوه! شكرًا يا رغد. شكرا جزيلًا.

* تأقلم مصعب مع رحيل من يحبّ نحو حضن آخر أكثر ثراء. ولأنه ضعيف بما يكفي "استعمل" فتاة أخرى لإتمام المهمة ورسب في كلّ مقررات الجامعة.



على الهامش: قابلة للتجديد؟



النميمة تطوُّريًّا: حيث لا توجد نميمة لا يوجد مجتمع!


ملخَّص: يرى عالم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري روبن دونبار (Robin Dunbar) في دراسة نُشرت عام 2004 بعنوان “النميمة  من منظور تطوُّري” أن النميمة gossip (بالمعنى الأوسع للكلمة وهو، حسب قاموس أوكسفورد، تبادل الأحاديث حول الأشخاص الآخرين.) كانت حاسمة لقدرتنا كبشر على تطوير جماعات اجتماعية كبيرة، ويعود السبب إلى أننا نستعمل اللغة غالبا لتبادل المعلومات الاجتماعية، خصوصًا للمحافظة على التواصل مع الأفراد الآخرين وللإعلان عن ميزاتنا ومساوئ أعدائنا. للنميمة أيضا، كجزء من اللغة المتبادلة يوميا، وظائف أخرى كتتبُّع المتطفِّلين (مشكلة الرُّكَّاب بالمجَّان) وخداع الآخرين. يُنهي دونبار الدراسة باستعراض الأسس المعرفية التي نحتاجها لممارسة النميمة، ومن أهمها نظرية العقل.

رابط المقال كاملا: 
real-sciences.com/?p=8387

15‏/08‏/2016

إلى كنزى



عزيزتي كِنْزَى،

عدتُ قبل ساعتين من رياضتي المسائية. نزعتُ ملابسي وتلذّذتُ بحمام ساخن ثم حلقتُ ذقني الخشنة وخدشتُ طرف فمي. صار عندي الآن جهنّم صغيرة تنتظر جنّة قبلتك. أكلتُ بعدها بيضًا مسلوقًا باردًا وشربتُ ما تبقّى من كوب القهوة الصباحي. وها أنا أدخّن سيجارتي وأنفثُ أنفاسها/ أنفاسي على عصفوري الملون معتقدًا أنني أقدم له معروفًا ينسيه موت شريكته بالأمس. أتساءل: هل للعصافير ذاكرة يا كنزى؟ ثم أشعر بدناءتي المتمثلة في قفص نحاسيّ أنيق. أعدك أنني سأطلق سراحه غدًا حتّى يقابل مصير طيرانه ويموت راضيًا عن وجوده.

أفتح النافذة التي تدلّيت منها ذات مرة بعد أن رأيتٍني أقبل إحداهنّ في زقاق خلفي. كان أمرًا لطيفًا جدا أن تنتحري من أجل رجل أحمق مثلي لكنني ما طقتُ عقدة الذنب المتمثّلة في دفع أنثى رقيقة إلى الموت بهذه الطريقة السخيفة لذلك أمسكت خصرك بإحكام ودفعتُ بك نحو الداخل. حين وقعتِ على الأرض انفرشَ شعركِ وبدا وجهكِ مُحمرًّا وغاضبًا وتعيسًا. قلت لي أنك تكرهين شفتيّ، وعقلي المتخلف وساديّتي. ثم أخفيت ملامحك ورحت تنتحبين على نحو لا يصدّق حتّى خفتُ على أتفاسك وكدتُ أجزم أنك تنتحرين بطريقة أخرى. وما إن وضعتُ ذراعيّ حولك لأخلّصك حتّى انهالت عليّ يداك الواهيتان بالضرب. كنت تدقين صدري دون أن تعرفي أن أبوابه مشرّعة لك، وتصرخين في وجهي دون أن تدركي تمزّقي أيضًا. هدأت بعد ساعة وخرجت راكضة من الباب تاركة خلفك بللًا على قميصي، في روحي، في ازدرائي لذاتي، في مرارة القبلة اللعنة. تاركة هذه النافذة المفتوحة المُوحِشة.

التقينا بعد أسبوع ورقصنا على أغنية صاخبة. أذكر أنك كنت حلوة بطريقة لا تطاق بحيث شربت معي القهوة بعد انتهاء السهرة وقلت لي: "يا صديقي"

أحتاج إليك يا كنزى بشكل يتنافى مع حريتي، وأبتغيك بإمكانياتي التي تكاد تكون معدومة، فقد تركتك تتسربين مثلما ينسلّ ضوء من تحت بابي كلّ مساء ويمشي في الممر تجاه غرفة أخرى. لم أفعل شيئا لأحافظ عليك. وها أنا الطفل المهم الذي يصفق له الجميع يفتقد ذراعك المليء بالزغب الأشقر ويرتجي كوبًا آخر من القهوة حتى يُصلح ما كان. وهاهي "نجاة" تذكرني بك وهي تكرر "بسيطة جدا". أقلبُ على وجهي من الضحك وأسترجعك وأنت تزكّين أسنانك وتصرين موافقة على ما تقوله. بينما تشبهين في الحقيقة فستانًا مرصوصًا بالأحجار الملونة. يرهق أكتاف فتاة صغيرة.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.