02‏/09‏/2015

المؤقَّت


اللوحة للرسام الهولندي إدوارد كوليَر
ولد إدوار كوليَر في مدينة هولندية تدعى بريدا عام 1642، أي في أواخر أيام فن الـ Vanitas أو Still-birth بعد أن ازدهر في هولندا في هذا القرن والذي قبله.  وهو في لوحته هذه يصور ما يصوره رساموا الفانيتاس غالبا، جمجمة تشير إلى الوجود البشري المؤقت، وبعض مظاهر الحياة التي غالبا ما تتنوع وتشمل الكتب، الآلات المختلفة، الساعات الرملية، والورود. 
الوجود البشري المادي في هذه الحياة مؤقت حقا، وهو لا يكفي جماعة من الناس تريد أن تعيش أكثر من عمرها، وهذا تقريبا هو الدافع الأول للفن في كل الثقافات. نحن أمام مشكلة لازمت الإنسان من أول يوم، وهي إدراكه لحقيقة الموت، ونحن أمام بعض الحلول القليلة جدا لهذه المشكلة القديمة كل القِدم. 
ما هي حلول الإنسان بمختلف مستوياته وثقافاته وبمختلف عصوره؟  
لقد حاول أن يحارب ويستعمر ويجمع الأموال ويسخِّر العبيد لخدمته والناس لطاعته، وحاول أن يبني المدن والقلاع والقصور والحدائق، وحاول أن يغري الشعراء بذكره في قصائدهم، والرسامين بتخليد صورته في لوحاتهم، ونقشَ الأسماء والتواريخ على العملات، وشجع بناء التماثيل وتجسيد المعارك والإنجازات... وفعل الكثير مما سعى يوما بعد يوم في تأسيس ونشر الحضارات، وإعطاء كل فترة زمنية سمة وملامح لا تختلف في كثير عن الفترة التي قبلها والتي بعدها، لكنها تتميز عنهما بالضرورة.
الموت هو الذي سيحيي الحضارة بلا شك. ولكن، إذا كان هذا شأن جماعة قليلة من الناس الذين أدركوا أن وجودهم سيصير هباء فحاولوا البقاء بطرق شتى، فما شأن الآخرين؟ 
الآخرون أيضا مولعون بالخلود، وهم غارقون في أمنياتهم بأن تستمر حياتهم وتتخطى عقبة النهاية المؤلمة التي هي نهاية مصيرية لا مهرب منها. لكن سلوكهم في طلب البقاء يسير في طريق مادي صرف، فهم لا يفتأون يتكاثرون ويتكاثرون، مدفوعين بحلمهم اللاواعي بالبقاء الدائم في ذريتهم، سواء بالصفات الموروثة أو بالذِّكر. 
حياتنا اليومية توضح كل هذا. ففي كل مكان من العالم كل يوم ستجد إنسانا يريد أن يحافظ على حياته بكل ما يستطيع، فهو يعمل، وهو يتفنن، وهو -للأسف- يقتل ويبيد كل من ينافسونه، وهو يتفاعل مع الإنسان الآخر، ويصنع معروفا مع صديق مقرب، وطبعا يكوِّن أسرته ويحميها ويدبر لها رزقها. وفي النهاية، ستجد إنسانا يحاول أن ينسى أنه سيموت. 

لكن إذا ألقينا نظرة سريعة على فترة زمنية مضت وحاولنا تأملها قليلا، ما الذي سنخرج به؟ 
لندخل في العصر الأندلسي مباشرة (711 - 1492)، أقلنا معرفة ربما سيعرف على الأقل اسم شاعرين عربيين، وبعض الآثار مثل نافورة الأسود في قصر الحمراء، وقصر قرطبة. أما الذين أحبوا هذه الحقبة التي حكم فيها المسلمون الأندلس، فسيعرفون الكثير من الشعراء والفلاسفة ورجال الدين، وسيسترجعون الكثير من المعالم في كل مرحلة من مراحل هذا العصر الجميل. 
السؤال هنا؟ ألم يعش في العصر الأندلسي إلا هؤلاء؟ والجواب قطعا لا. وما نذكره الآن هو ما حصلنا عليه من الكتب وغيرها من طرق نقل الحضارات. فهل من الحظ أن شاعرا كابن زيدون يحظى بكل هذا الوجود بيننا ولا يحظي به "ابن زيدون" آخر كان يبيع الخضار في أحد أسواق غرناطة؟ أو "ابن زيدون" آخر كان خياطا في دكان متواضع بحي صغير من أحياة إشبيلية؟ كلا، ليس من الحظ، وبالرغم من أن كل واحد من هؤلاء سعى باجتهاد لأن يبقى، إلا أن الذي حظي بطول العمر وعاش إلى 2015 وسيعيش إلى أبعد من هذا هو ابن زيدون الشاعر الجميل. 

وإذا عدنا إلى لوحة كوليَر في الأعلى، ما الذي سنرى؟ الذي استطعت رؤيته هو: أوراق خضراء، جمجمة، عظمة كبيرة، آلة موسيقية، دورق أنيق، كتابان أحدهما ضخم والآخر صغير، دفتر، ورقة، وكتاب في الخلفية إلى جانب ساعة رملية، ما يشبه كيس النقود، بوصلة... وأشياء أخرى. إنها هي ممثل الحياة البشرية، ووجود الجمجمة بينها هو رمز الفناء المادي، ووجودها حول جمجمة تقضم عظمة هو رمز البقاء الأثري بعد أن يعيش الإنسان سنينا معدودة من الصراع. 




0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.