23‏/03‏/2016

قصة قصيرة: سمكةُ عبدُه (2)





توقفت على بعد خمس خطوات منها. كنت قصيرة القامة تتمايل مع قوة الريح ورذاذ مطر لم أدرك وجوده. قلت لها بجراءة رجل لا ينام على سرير: "أحسنتِ، لقد دوَّختِ هذا الصياد القديم وأتعبتِه". فتلفَّتت إلى ناحية أهلها وأفلتت الخيط ثم اقتربت قائلة بارتعاش: "آسفة. لأول مرة أرمي هذا الشيء في البحر". حاولت أن أضحك لكنني لم أستطع، قلت متجهما: "وقد صدت رجلا كاملا". اقتربت وطلبت مني الابتعاد عن أهلها، أخذت بقية الخيط المتدلية من يدي ورمتها ثم قالت بصوت خائف: "سيقتلني أبي لو رآنا معا. يجب أن أتعشى بك" وضحكت، واصلت: "يا سمكتي السمراء".
عندما مشيت معها لم أكن قد عرفت من قبلها فتاة سوى ابنة عمي التي تزوجت لما رأت ميلي إلى الجوع والسهر. أسرعنا خائفين، مع أنني تظاهرت باللامبالاة. كانت ترتدي كعبين أحمرين يحلو من خلالهما بياض رجليها، وكنت أرتدي الرصيف.

قالت لي وقد بدا لها أنني لا أهرب من أهلها: "أسرع... يجب أن تكون معك سيارة لتأخذني". نظرت إليها فرأيت في وجهها مِحْجرين من القمح يضمَّان حمامتين تتلفَّتان من الفزع.

الأنثى الكاذبة لا تخاف.
أسرعت معها مؤمنا بهذه المجازفة. تركتها تصفق الرصيف بكعبيها وأسررت إلى رفيق علمت حبه لي بأن يعطيني سيارته وسجائره. عندما رآها بقية الرفاق تركب سيارة "آلتيما" عنَّابية، سمعتهم يتذكرون أمثالهم الشعبية ويتضاحكون.
ربما قالوا: "حوَّات وراقد في امجبل"، أو "صام وصام وفطر على بصلة" وقصدوني بها أو قصدوا أنفسهم معبِّرين عن آلام الحرمان التي يقاسونها.

صمتُّ طويلا متفكرا في الفعل الخطأ الذي ارتكبته. هل هو سرقة هذه الشابة من أهلها؟ أم الانشقاق عن رفاقي؟ لقد اعتدنا أن نقتسم كل شيء: السمك، السجائر، النوم، المال... ثم أيقظتني: "من أنت؟". لم أعرف إجابة محددة ومختصرة حينها، فقلت ما قالته لي من قبل: "أنا سمكتك السمراء، وأنت؟ من أنت؟". أجابت بحياء: "أنا سَحَر، أنت من هنا؟".
كيف أصف لكم المشهد يا قرَّائي؟ لم أكن كاتبا يوما، ولو تعلمون، كان آخر ما كتبته تلك الأيام هو خمس سير ذاتية بخط رديء لأحصل على عمل. قلت لها: "أنا من هنا". علَّقت: "أحب جيزان، فهي مدينة أمي". لاحظت ثقل كلامها فسألت: "وأنت من أين؟ من جدة؟". فضحكت حتى سمعت قمَّة ضحكتها.

بلا شك لقد سمعتم قمة الضحك: ذلك الصوت الذي لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى أعلى منه. إنه شهي بالنسبة لي كآخر نقطة يصل إليها خيط الصيد.

"كل هذا البياض من جدة؟" قالت ساخرة من قلة خبرتي بالنساء. فقلت: "البياض والسمرة في كل مكان". لكنها لم تتوقف عن الضحك إلا لتقول: "أنا من أبها، من الجنوب يا غشيم".

مرة أخرى حاولت الضحك لكنني لم أفلح. كانت الأيام قد مضغتني حتى أخرجتني ميتا بلا حراك كسمكة بلعت الشوكة ورضيت بمصيرها فلم تجد فرقا بين الماء والهواء ولم تحاول الفكاك عندما أخرجوها إلى الشاطئ.. لكنهم عندما رأوها جامدة تحيط بها اللزوجة أعادوها خوفا من أمراضها. لذا قررت أن أحاول الفكاك لئلا ترميني إلى الرصيف.

قلت بصوت أعلى: "إلى أين سنذهب؟ أرى أننا تركنا البحر بسرعة، لو أننا بقينا هناك لكنا في مأمن. أظن أن أباك الآن سينفجر". فهدأت.. تباطأت أنفاسها وقالت: "أنا لست مسؤولة. لقد اصطدتَني فلتفعل بي ما تشاء". ضحكتُ لأسيطر على خوفي وقلت: "سآكلك". فضحكت: "لماذا؟ أنتم الصيادون تأكلون الأسماك عندما لا تبيعونها، أتوقع أنكم تخشون أن تتعفن في أكياسكم قبل أن تعودوا". أحسست بأنها تستفز رجولتي أو ترجوني ألا أكون كالـ "صيادين" الآخرين. لكنني لم أعرف من هم هؤلاء الصيادون الذين يخبئون نساءهم في بطونهم.

توقفنا عند إشارة مرورية. وكان عداد الثواني يخبرنا بأننا سننتظر "120 ثانية".
سألتها أن تكشف عن وجهها ثم سمعت أنفاسها تحرك "البرقع" الشفاف أمام وجهها فأعادتني إلى الريح العاصف المباركة التي حملتني إلى هذا الوطن الذي لا يشاركني فيه أحد. شعرت بالأنانية. وضعت يدي أمام وجهها وطلبت منها ألا ترفع الحجاب لئلا يراها الناس في السيارات الأخرى. عبَّرت لي عن افتخارها بهذا الموقف البطولي مني بأن أمسكت بيدي اليابسة وفركتها بيديها.

لم تكن لدي موضوعات مفضلة أخوض فيها كبقية العشاق، لم أكن قارئ روايات أو رساما.. كنت صيادا وحسب، فشرحت لها بلغتي الوحيدة التي أستطيع أن أكون فصيحا عندما أتكلم بها: "تدافع الأسماك عن نفسها عادة بإفراز سائل لزج يغطي جسدها وبأشواكها، سمكتي الأولى نجت لأنني أمسكتها من الذيل فقفزت عائدة إلى الماء. أنت الآن تمسكين سمكة جافة متصلبة بلا أشواك لكن ما يميزها عن بقية الأسماك أنها لا تريد القفز من يديك". فقالت بذكاء: "لا، بل لأنها بلا ذيل!"، وضحكنا معا.

تأكدت لحظتها من رغبتها في رجل مختلف، ولكنني سألت نفسي: ممن تهرب هذه السمكة اللزجة جدا؟ لكنني فرحت عندما نزعت ذيلي وجعلتني فريدا في عالمها.
لاحظوا أن لغتي تتعقد بقدر ما نواصل الحديث. وستصير أكثر تعقيدا بعد لحظات لأن ذلك الوجه الذهبي الذي مررت أصابعي الميتة عليه أحيا فيَّ لغة قديمة كانت نائمة في أغواري.

الغور هو العمق الأعمق، وهو جزء من جسد الأرض الذي يملؤه الماء. الغور هو منطقة غارقةٌ داخلي منذ زمن بعيد وسَحَر لم تخلق فيَّ لغة جديدة بل أحيَت لغة قديمة. لغةٌ ماتت في المجتمع والجوع. فأيُّ قارئ منكم لا بد أن يشعر في نهاية هذه القصة بهول الأغوار التي هي جزء من ذاته، وسيكتشف هذه اللغة القديمة التي فقدها.

مررت أصابعي الميتة على وجهها فخجلت واعترضت بأنفاس ساخنة. كانت السيارة واقفة في مكان مظلم بعيدة عن أي وقتٍ أو إنسان. احتجت إلى يدي لأواصل القيادة. صمتنا خاشعين في رهبة لمستنا الأولى. سألتها: "أين نذهب؟" فقالت: "في أبها، دائما هناك جبل، يختبئ فيه العشاق والرهبان معا، خذني إلى أي جبل، لدي كلام كثير لأقوله لك". رددت بصوت عالٍ: "جبل"، فقالت: "نعم، جبل".

سرت بالسيارة في كل طرقات المدينة فأعطيتها انطباعا صادقا عني، لأنها لم تكن بعيدة عن الواقع عندما قالت: "منذ متى لم ترتح في بيتٍ يا عبدُه؟". فترددت وأنا أقول لها: "منذ أربعين ليلة". قالت: "غريب.. غريب.. كل شيء فيك مميز.. كل شيء فيك يجذبني. لطالما أحببت كبار السن الذين يبدون في حالة رديئة، الذين لا ينامون في المكان نفسه كل يوم".

تناولتُ علبة السجائر، فقالت: "هيا دخِّن وألهمني ونزعت حجابها كاملا وفكَّت الأزرار الثلاثة الأولى من عباءتها: "حتى اسمك النكرة، حتى هذه الهاء الغائبة تثيرني فأنا لا أدري أنت عبدُ من، لكنني لن أرفض أن تكون عبدي.. يا عبديييي يا عبُّوديييي".

ابتسمت ولم أنظر إليها. ضحكت ولمحت قميصها الزيتوني يهتز فوق صدرها، طلبت مني إقفال المكيف وفتح كل النوافذ والإسراع أكثر: "يلااااا، يا مجنون، يا صيادي الذي يشبه في ثوبه الفضفاض جبران خليل.. أنا ماري.. ماري الخاصة بك.. عذراؤك".

لن أخفيكم، منذ ركبت في سيارتي أمام رفاقي نظرت إليها كما نظروا: فتاة قليلة الأدب تثق في كل الرجال. نزعها الحجاب وإظهارها ملابسها جعلتني أتوقع أن تقول لي في أية لحظة: نم معي. لكنني توقفت عن إساءة الظن عندما صاحت: "عذراؤك".



فأي عذراء كانت سحر؟  

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.