20‏/03‏/2016

أم عيون وساع



لوحة مجهولة الفنان في غرفتي
عندما تكون قريبة منه، يرى العالم جميلا جدا. وردٌ وفلٌّ وجوانح متعبة و"حساسين ترفرف وتطل".
هي أدهشته بسُمرتها وهو بشاعرية مجنونة دلَّلها تدليلًا. 

هو يتسكع ربما في طريق قروي ضيِّق تفترشه العصافير والزنابق. وهي تسير بفتنتها التي تجمعت كلها في "شالها" و"عينيها".
هذا الطريق الذي يسكن العشبُ جزءًا منه ويترك الباقي لمشيتها التي تتلفَّت التفاتتها فتضيح النجوم وتنذبح القلوب القاسية، يشبه ضربَ الفُرشات باللون الطينيِّ على لوحةٍ مجهولة الفنان في غرفتي.

تمرُّ هذه الفتاة التي لا نعرف عنها إلا أنها "سمراء" ترتدي "تنُّورة نيلية" وشالا زهريا ميَّالًا إلى الخُضرة.
هل يحبها؟ واضح جدا أنه يفعل. وإلا كيف سيرى وحده "دنيا الورد" التي تنفتح عليها عيونها ويسمع الحساسين التي ترفرف عندما يراها؟

تترنَّح فيروز طول الأغنية على مقام الراست الهادئ المحلِّق دائما واقفةً على آلة قانون كبيرة ومتوكِّئة على قصبة مزمار، تضطرب معها القلوب المدلَّهة وتردد معها أوتار الكمان. تبدأ الأغنية بشيء يشبه خُطى أنثى تمشي برقَّة "دمْ دمْ.. دمْ دمْ دمْ" وتؤدي دور مشيتها أصابع عازف القانون.. ثم يشتعل قلب هذا العاشق ممثَّلًا بصوت الكمان الذي يلي نقرات القانون الخفيفة. يباركُ كلَّ هذا هواء ساخن يخرج من رئتين ثم يعبر فجوات المزمار مردِّدا: يا سلاااام، يا سلاااام. 




واااه، هذه خطى أنثى أم زخَّات مطر في أوائل الفجر؟ وهل هذا أنين قلبه أم فوران أتون القرية الذي يغسل الحجارة بلهيبه ويطعم الناس خبزَه؟

يلمحها خاطفة مثل فراشة ملوَّنة، يصيحُ: "يا عيني عا هالعينين ال عا دنية ورد انفتحو" وينذبح قلبه. 

وفجأة، تصير هذه الفراشة الرشيقة كونًا واسعا تتوزَّع فيه "اللفتات" وتضيع النجوم. يخاطبها سرًّا: "في نجم بلفتاتك ضاع" ثم تعلو فيروز: "ضاااااع" ويختفي صوتها. هذا العاشق القروي الذي استيقظت أنفاسه على هذا المشهد لا يجد مديحا لها أعذب من "سحرك يلي ما بينباع.. مبكِّي الوردة الجورية". 

يتصوَّر في لحظة بطيئة أنها بادلته الحب حتى طابت بينهما العشرة ولذَّ الوصال ثم، قبل أن تمضي هذه اللحظة، يراهما اختلفا وأذاعا أسرارهما وجرَّبا لوعة الهجر. وفي محاولة لإرضاء رجولته يتصورها تطلب رضاه وتقول: "ارجع ارجع" فيرجع ولا يعرف ما الذي ألمَّ به. 


لكن خياله لا يلبث أن يكون حقيقة. تؤدي الجوقة الموسيقية البسيطة مشهد خطواته تقترب من خطواته، هذا المشهد الذي لا تنقصه استفزازات المزمار وآهات الكمان.
"جلسة لنا ع الحب مجتمعين
وتنيننا ع المقعدة مجانين"
طاوعته إذن وضاق بها الطريق فقعدت بقربه.
لاحظوا الآن كيف تصيح فيروز ناقلةً شعوره بكل أمانة (الدقيقة: 4:13): "وتقرِّبي صوبي تا نحكي شوي.. عيونك وقلبي وسر هالحلوين".
وما أشهاه من موَّالٍ لِسِعة عينيها وضِرام قلبه!
"تا نحكي شوي" هذه الضراعة المحمومة إليها، إلى الحديث معها قليلا عن عينيها وقلبه، "تا نحكي شوي" تغنيها فيروز غناءً مستقلا وتكاد تبكي. 


فعمَّ كانت بقية الحديث اللطيف؟ 
حكى لها حكاية قصيرة وسكب فيها غزَلًا حلوا: كانت هناك عصفورة بالأمس تخبر أختها بسرّ، وبصراحة؟ لقد كان هذا السر عنك، وبما أنني سمعتهما سأنقله إليك، لقد حدثَتْها عن شالك، قالت: " شالك يا سمرا مغزول من لون الزهر المخضرّ". 
الآن أتصورها تتعجب: جد؟
فيمسك بيديها ويطلب منها أن تدعه يتهادى على أمواج عينيها كشراعٍ مسافرٍ إلى ميناء منسيٍّ، وأنَّى يصل هذا الشراع الخالد؟


8 التعليقات:

أنا من حزب: صوت فيروز من الأصوات المبالغ في تقديرها.

هل أكمل؟ أم الانسحاب طيب! :)

أظن خياري سيكون الثاني

*عذرًا لأني قرأت التدوينة على عجالة ولم أتأنّ*

عزيزي رمزي
أنت بارع في قراءة الأغاني. ولحسن الحظ انك اخترت أغنية كنت وما أزال اعتبرها من مفضّلاتي الموسيقية، كيف لا وهي على مقام الرست العذب الرائع.
جوّ الأغنية جميل وهي عبارة عن قصّة كما فصّلت فيها أنت، وكل أغاني فيروز هي قصص وحكايات.
أحيانا يأخذني اللحن بعيدا عن كلام الأغنية، لكن بعد كم مرّة سماع أعود لتأمّل الكلمات بتؤدة وحرص.
حاول أن تسمع نفس هذه الأغنية بصوت مطربة ناشئة من فرقة جامعة الكسليك اللبنانية. وستجدها على الأرجح في موقع ساوند كلاود. صحيح أن لا احد ينافس فيروز في جمال الصوت وعظمة الأداء، لكن أداء تلك المطربة هو أيضا جميل وصوتها فيه قدر كبير من الإحساس والشجن والحنين.
تحيّاتي لك.
بروميثيوس

صوت فيروز يا هيثم جمال فني فريد
ربما لا يطربك جدا
لكنه يعطيك ما يعطيه النهر للغصون البعيدة
هو صوت له معنى وله غاية
وله كل الحب :/

تعال أحسن لك :)

أهلا بالصديق الملهم بروميثيوس
لحسن حظي ولحسن حظك :)
أشكرك على وجودك واقتراحك
وسأسمع الأغنية بكل تأكيد

شكرا لك

العزيز بروميثيوس، العزيز رمزي، أيمكن أن أسأل لم "..لا احد ينافس فيروز في جمال الصوت وعظمة الأداء" ؟ حتى في عمومية الحكم أقصد؟

أصوتها خلاب في كل أغانيها؟ لا أحد ينكر رخامة وتمكن صوت فيروز. أداء ملائكي، أتفق مع ذاك. ولكن ألا نصبغ (بمثال صوت فيروز) حالة رومانسية هنا تضاعف من افتتاننا بصوت فيروز وجعله في مقام عال.. جدًا؟

*هيثم يكمل بحذر*

أنا كثيرًا ما أنخرط بجدال (نقاش؟) حول صوت فيروز (وأيضًا أم كلثوم) وهل أنه يجب ان يروق لكل الآذان؟ (لن أقول الأرواح) :)

هي نفسها تقول أن صوتها بالأكيد لا يصلح لكافة أنواع الغناء ولا لكل الطبقات. بأنها لا تجيد سوى رفع الصوت بالغناء (والتشديد هنا على الإجادة بمعنى الإتقان).
http://www.alhayat.com/OpinionsDetails/501224
ليست كل كلمات أغانيها ساحرة ولا كل أداء لها نديًا وحالمًا. كثيرون جدًا لا يرضون بهذا القول ولا حتى أن الغالب من أغانيها هو الرائع وبعضًا من أغانيها ممتاز والقليل جيدًا. لا، كل ما غنته فيروز فهو فائق ويتجاوز خطي الزمان والذائقة البشرية :)
رأي يمكن أن يكلفك غاليًا إذا قلته لعاشق صوتيّ فيروزيّ :)
------------------
لا أقصد المناكفة والله. لكن أن صوت فيروز هو الصنو لشروق الشمس وأنه إذا كنت على البحر فلا أطيب من سماع فيروز و .. و.. أليست هذه مبالغات؟ أفكرة عدم وجود منافسة حقيقية لصوت فيروز في زمانها ونشوء عبقريتها أمر يمكن التغاضي عنه لجهة طغيان تقييم صوتها ووسمه بالأزلي؟ أليست شاعرية أكثر من المنطق (الغنائي) ولو قليلاً؟ ألم تنصدم بالكثيرين (ممن عاشروا عصر فيروز حتى) الذين لا يعرفون إلا ١٠ أغان لفيروز ولكن يدافعون عن صوتها بشراسة ملفتة؟

---------------------
يبدو أنني انسحبت من خيار الانسحاب يا رمزي. فعذرًا :)

بالمناسبة يا رمزي. يبدو أننا كنا نكتب تعليقينا الأخيرين بذات الوقت!
:)

أحب دائما أن أكون منحازا لفيروز، دائما يا هيثم، وهذه حالة محض شخصية لا يمكن أن تكون معيارا لإتقانها أو ضعفها.
ليس الصوت وحده هو الحاكم على جمال أداء الفنان، هناك عوامل أخرى كالصدق والإحساس والكلمات...
فيروز لم تكن مغنية فحسب، بل كانت عاشقة عميقة العشق، وكلماتها لم تكن أية كلمات، بل الكلمات التي كتبها الرحبانيان وسعيد عقل ونزار وجبران وآخرون عاشت كلماتهم الحياة عيشا حقيقيا ولم تجمح مع الأخيلة والأمنيات.
أغان مثل "عودك رنان" و"نسم علينا الهوا" كانت واقعا حزينا جميلا من حياتها الشخصية.

هذه مناسبة رائعة للحديث معك ومع السيد بروميثيوس
ولست أمانع أن أطيل النقاش والثناء على فيروز :)

هي أكثر من مغنية بكل تأكيد. مؤدية متقنة.

الرحابنة أبدعوا ونفضوا وزلزلوا، لن أقول ما خلا ذلك.
هل (الضغط) للاستماع لأغاني فيروز والافتتان بها عنصر في تأجيج حالة الود والوصال لدي مستقبلي فنها؟ عنصر متواضع التأثير مقارنة مع جودة المخرج الفني، لا خلاف هنا ولكن ما مدى الإلمام (وبالتالي الاعتراف؟) بكينونته؟

لا مانع البتة من النقاش أكيد ويا ليت أقتنع وأصير ثنّاء شرسًا بدوري. من يعلم! :)

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.