26‏/03‏/2016

تفاصيل (8)~ موسيقى


أنا منذ البدء، هذه الأخيلةُ الملونة أنا، هذا الصوت الساري المتعفّن

هذه أغنيةٌ إيطاليّةٌ مليئةٌ بالتعب، ساعة حمراء، طائرة ضخمةٌ تمرّ فوق رأسي ولا تقلقني، صوت جارنا وهو يحدّثُ صديقته على الشرفة ويضحكُ ببذاءة، كوب شايٍ مضى على انتظاره ثلاثون دقيقة، فكرةٌ مضيئةٌ ومحرجة، أسئلةٌ وجوديّةٌ عالقةٌ أظنّها تبعثُ ما يكفي من الفوضى، وذات مرةٍ قررتُ أنا وصديقتي "الهبلة" بعد أن سكرنا بكأسين من "الكابتشينو" أنّ بعض الفوضى لا تنتهي إلا بانتهائنا، واتفقنا أن نتصالح مع هذه الحقيقةِ، وألّا يودي بنا عجزنا عن إيجاد جوابٍ إلى الانتحار، ثمّ قلنا للنادل: "أعطِنا كأسًا آخر"، وحين شربناهُ نسينا ما قلنا، ووضعت كلّ واحدةٍ منّا خطةً مُحكَمَةً لإنهاء حياتها، هي قررت أن تذهب إلى البيت، تتابع فيلمًا لريتشارد غير، وتتصل بوالدها وتخبره بطلباتها المتعلّقة بالشوكولا، وبعد ذلك تملأ حوض الاستحمام، تمدّ لسانها للفوضى، وتموت بهدوءٍ حتّى تصيرَ فقاعةً جميلة، بينما اخترتُ ببساطةٍ أن أنتظرك، الأمر يشبه أن أدخّن سجائري المفضّلة، وأبحلق في فوضاي طويلًا وبشكلٍ مستفز، أن أراقب تساقط أجزائي، وأظنّ أن قلبي هو آخر ما سيغمض عينيه، ويرتاح أخيرًا بعد أن خاض تجربتهُ الفريدة وشهد التحولات العظيمة، ألا تعتقدُ ذلك؟

انتهت الأغنيةُ الإيطاليّةُ بصراخ الرجل وأظنّ أنها طريقته ليعبّر عن فوضاهُ هو الآخر، تبدأ الآن موسيقى بطيئة مُشبَعة بالحزن، يخيّل لي أنها تعطي صورة بانوراميّة لمدينة كاملة تتشتت فيها الألوان حتّى تصير رمادية بالمجمل، وهذا النقرُ الخفيف الذي يصاحبها يشبهُ أنثى ترقصُ حافيةً عند الميناء، وتحاولُ أن تصير سمكةً قبل أن يقبض عليها تجارُ الحرب ويذبحوها لأن خصرها جميلٌ وفتّان، يتوقف النقرُ وتحلّ مكانه موسيقى أكثر دأبًا، "جاء الجرذانُ إذًا" ربّما هذا ما تقوله الفتاةُ المسكينةُ، بينما تستمرّ بالرقص وتحرّكُ يديها، ويظهر جسدها القمحيُّ من تحت الفستان الشفاف المائج، وكلّما اشتدت الموسيقى صارت ملامحُ الأنثى أكثر وضوحًا في مخيّلتي، إن لها عينا قطّة ورشاقة أفعى، وفي وجهها "شامةٌ" بارزةٌ ومُقلِقة.
تنتهي المقطوعةُ بقرع طبلٍ ولمرةٍ واحدة، ولا أستطيعُ أن أجزم ما يمكن أن تكون النهاية لكنني أفضّلُ انتصارها وأفضّل أن يكون رقصها أمضى من سيوفهم!

ألاحظ الآن أن الساعة تسيرُ نحو الثالثة والنصف ليلًا، وأنّ أمي نسيتْ إطفاء الشمعة الموضوعة في الممر الطويل، وهذا يعطيني شعورًا غامرًا بأنني عتيقة، أسكنُ في قلعةٍ تعود إلى العصر الروماني، وأنني سوف أمسكُ ذيل فستاني وأقطع الممر لأقابل رجلي السري الذي لا يبدو جذّابًا جدًّا، وربّما أحتسي معهُ النبيذ وأقبّلهُ، وبعد ذلك أُطلعهُ على حياتي الثانية التي أعيشها في مدينةٍ أكثر تحضّرًا.
وكيف أنني أرتادُ مقهىً بحريًّا وأتمتع بخصمٍ على وجبات غدائي لأن عندي بطاقة عضويةٍ مميزة، وكيف أن الحروب تُقادُ من السماء، وأن ليس بإمكانه أن يزورني لأن الرجال لا يستطيعون أن يكونوا خفيفين لهذه الدرجة ولا يستطيعون أن يكونوا أطفالًا مرتين!

توقظني الموسيقى الهنديّة الآن من أفكاري، لكنها مختلفة عما سمعتهُ من قبل، فعادة يكون الهنود أكثر حماسة، وتكون موسيقاهم معدّة للرقص البذيء الصادق، وللمتعة القصوى، لكنّ هذه الجمل منكسرةً وبطيئة أيضًا، وأظنّ أن الرجل يقول: "تركتِني في منتصف الغابة، واحترقتِ كأيّ فراشة، لكنّ الريح حملتكِ إليّ مجدّدًا بطريقةٍ غريبة، فوُلدتِ من بين ذراعي وأصبحتِ مكتملة مرّة أخرى، أووه يا عزيزتي كم نحن خالدان"


على الهامش : "كقطع سحابٍ تذوب في ضوء الشمس"

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.