21‏/03‏/2016

تفاصيل (6)~ حين كنت في السوق




المدينةُ صغيرةٌ جدًّا ومفروشةٌ بالناس الذين يمشون فوق بعضهم، وقفتُ أمام "بسطة" الفاكهة، كان البائعُ رجلًا في الأربعين، يرتدي سترةً زيتيّةً ويسرّحُ شعرهُ مثل طالبٍ مدرسيٍّ مجتهد، يدهُ ضخمةٌ جدًّا لكنّها جذابة، وفي رجله حذاء قديمٌ غير ملمّع، رفع صوته بمنتهى الثقافة وسألني ماذا أريد، اقتربتُ قليلًا من أحد الصّناديق وقلت: "أريدُ فريز لو سمحت"، كان ظريفًا جدًّا إذ قال لي: "أسمح طبعًا إن كنت تنوين إعطائي ثمنه"، ابتسمتُ في وجهه الواثق، ثم قلتُ لهُ بجدّيةِ خالي الكبير حين يتحدّثُ عن المال: "طبعًا"، وشدّدتُ على حرف الباء بمنتهى القسوة، ضحك الرجلُ وهو يزيحُ سيجارتهُ من جيب قميصه، دسّها في فمهِ بكلّ مهارةٍ، ثمّ أحاطها بيده اليمنى كما يحيطُ ميناءٌ بقاربٍ متعَبٍ، واستخدم اليسرى لإشعالها، وكالعادة كان النّفسُ الأولُ مليئًا بالشّبق والاحتياج، وما تبِعَ ذلك كنتُ أفترضُ أنهُ إكمالٌ لدورةٍ طبيعيّةٍ لا أكثر، لكنني وددتُ أن أقول له: "Wow! أنت تجيدُ الرّقص"، إلا أنّهُ أيقظني من على كرسيّ التحليل حين أعطاني "كيسًا أبيض" وقال لي: "اختاري الحبّات التي تريدينها"، وكان هذا شيئًا مريبًا بالنسبة لي، يشبهُ ورقةً كُتب عليها "أجيبي عن الأسئلة التالية باختيار الجواب الأصح من بين مجموعة من الخيارات الصحيحة".

رحتُ أتأنى تمامًا، اخترت قطعةً تشبهُ فستاني، نحيلةً من الأعلى ثمّ تأخذُ شكل الانفراج الكبير مثل ستارةٍ رائعةٍ ومدهشة، قطعة كان لها شكل لقائنا الأخير يوم جلسنا تحتَ ظلال خضراء كثيفة، ورحنا نقول أننا سنغيّرُ العالم، قطعةً كانت صغيرةً جدًّا مثل الغصّة التي منعتني من قول شيءٍ يوم باغتّني بالرحيل وقلتَ لي بحماقة: "غيّري العالم وحدك، فأنا مشغولٌ بأكل نفسي!"، قطعةً متوسّطةً وأنيقةً تشبهُ سيري باتجاه قبر صديقتي وأنا أقول: "ماهذا البيتُ السيّءُ الذي اخترتيهِ يا سمر؟ ألم يكن بيتك في غرفتي أفضل وأكثر زينة؟"، شعرتُ برغبةٍ في العطاس، وحين رفعتُ راسي رأيتُ البائع الفنّان ينظر إليّ بغرابةٍ وهو يشعل سيجارتهُ الثانية، شعرتُ أن الوقت المخصّص للإجابات قد فات وعليّ أن أسلّم ورقتي، فكمشتُ كمشتين كبيرتين وكنت أفكّر "كمشتان كبيرتان تشبهان روحي"، وضع الكيس على ميزانه ثم تخلّى عن حبّتين، مرّر لي أشيائي ومررتُ له نقوده، ومن ثمّ قلتُ بهدوء: "شكرًا لك".

انعجنتُ بعدها بروائح السوق، كانت محلّاتُ الطعام هي المسيطرة، تبعثُ في المرء شعورًا قويًّا بأنهُ لم يأكل منذ عشرين سنةٍ، وتقول له: "كُلْ، كُلْ" نقرًا على الرأس وإرهابًا، استطعتُ أن أتحوّلَ إلى خيطٍ من البخار، وتصاعدتُ حتّى اجتزتُ حاجز الجائعين، لكنني أُعجبتُ برجلٍ رائعٍ كان يقفُ خلف عربتهِ ويأمر "أم كلثوم" أن تغنّي لكل المارّة، أقصد أليس شيئًا مدهشًا أن تقيم "ثومة" حفلًا فنيًا وسط سوقٍ شعبيٍّ يمشي فيه الرجال وتصرخ النساء ويبيعُ الأطفال الكعك وألا يتوقف أحدٌ ليصفّق لها حتّى؟ ابتمستُ وأنا أتلمّسُ رأسي.

وصلتُ أخيرًا إلى قهوةٍ مدخلها رصيف، قد فُرشَتْ عليه الطاولات بشكلٍ عشوائيٍّ، ورُتّب الشبانُ وأُريدَ لهم أن يلعبوا بالأوراق ويتجادلوا بشأن "فتاة الكوبا" المدهشة، ولا شكّ طبعًا أن النرجيلة هي عمادُ الجلسات الاصطهاجيّة، وأن قلب الطاولة قد يأتي تعبيرًا عصريًّا عن المزاح،  كانوا يلعبون بمرح حين صرخ رجلٌ عابر: "هذا رصيفٌ أيها الحمقى، هذا لنا، أين يمشي المواطن؟ على نفسه؟" لكنّ أحدًا لم يلتفتْ، فانصرف الرجل شاقًّا طريقهُ بين السيارات وهو يشتمُ على الأغلب!

بقامةٍ تحملُ "الفريز"، وترتدي سترةً سوداء، وتلفُّ خصرها بزنّارٍ محكَمٍ من الدانتيل المصنوع يدويّا، كنتُ أقفُ أمام هذه الشاشة الحيّة وأطقطق أصابع عقلي، حين نقرتني يدٌ رحيمةٌ على كتفي، نبت لليد لسانٌ وقال: "تأخرت؟ أنا أعتذر"، استدرتُ تمامًا وأجبت: "لا أحبّ أن تأتي على الموعد"، ضحكنا بعدها بسُكْرٍ لسبب لا نعرفهُ غير أننا أدركنا بثانيةٍ واحدةٍ أننا نحناجُ إلى الاهتزاز، غبنا بعدها في ضبابِ العدم، وكنّا نأملُ أن نُخلَقَ في زقاقٍ قديم، أن نصيرَ فانوسًا طائرًا، علبة قشطةٍ طازجة، شيئًا بسيطًا وسعيدًا لا أكثر!


4 التعليقات:

"فأنا مشغولٌ بأكل نفسي"

هذا هو السطر الوحيد الذي أحسسته بلا منتم ٍ لسوقك وفريزاتك وحيك.

فعلا هو لا ينتمي إلى السوق كان قادما بسلاسة من ذاكرة غضبي!

مساء سعيدا

سلاسة.. ومن أتون الغضب.
صعبة التجانس ولكن غير مستحيلة :)

مساؤك سعيد

تصيرُ متجانسة عندما نتصالحُ مع غضبنا ..
عادي جدًا

أهلين

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.