26‏/06‏/2016

رسائل منّي إلي (1) ~ حتّى لا أنسى


اللوحة للفنان السوري، صفوان داحول
نور العزيزة جدًّا. الأغلى على الإطلاق:

لن تصيري سمكة مهما تدهّنت بالماء وسبحتِ. لن تصيري عصفورًا مهما تسلّقت شجرة التين في الفناء الخلفي لبيت جدّك، ولن تحترقي مهما قلت أن ضلوعك من خشب. لن تتحوّلي إلى دالية عنب مهما قالوا أنّ جمالكِ مُسكرٌ، وأن عينيك خمّارتان ماجنتان غارقتان في الليل والوحدة. لن تُرجعي الأشياء من العدم مهما قرأتِ من نظريات وخضتِ في نقاشات وأشعلتِ آخر فتيل في رأسك. لن تعيدي اللحظة التي سبقتْ افتراق يدك عن يد والدك في ذلك البهو المريض المليء برائحة الرزّ المطبوخ بالخضار مختلطًا مع القليل من المعقّمات ومصحوبًا بضربات الفتاة التي كانت تنظّف جدارًا قريبًا، مُمسكة جمود العالم في ملامحها ومبتسمةَ في آن.
لن تنتصب أعواد روحك المكسورة مهما تحدّثتِ عن الأمل والعودة والحنين، ومهما أضأت الشموع وصليتِ، ومهما هشّمت اللوح الزجاجيّ ودستِ عليه. لن يصير فستانك الورديّ أسود مهما جرتِ عليه وحاولتِ تجاهلَ فجرهِ ولهيبه. لن يقول لك أنه آسف، فالأسف أمر معقد للغاية ينبعُ من مفهوم الخطأ الذي يكون بدوره نسبيّ وضبابي. لن يعود ذلك الخيال من الماضي ليقول لك : "خذيني، اصطفيني" لأنّ الأخيلةَ لا تعود، ولا تصير حقيقة بعد كلّ هذا الوقت من النّأي، ونكران القلب، واجترار الأسى. لن تفهم أمك لماذا بكيت حين فقدت مشبك شعرك البنفجسي لأنها ستعتبر أن شعرك طويل جدا وأن الدنيا مليئة بالمشابك الأكثر جمالًا وألوانًا. لن تتحرك ستارة نافذتك في حزيران بفعل النسيم بل سوف تتعرق وتتقبل انحناء الشمس في دورة مهمة لا تبدي خلالها أي انزعاج.

أنت في قوقعتكِ الملتفّة، المشبوكة. مثل أية بلهاء تحدق في جدار وهي تنتظر أن تخرج الصراصير من شقوقه وتعتذر عن سوادها. ماذا عن الفراشات التي تحلق حولك؟ ماذا عن النور النابع الذي ينعكس على الشقوق ويعقّم عفنها؟ ماذا عن الماضي الذي يستقيم ويمارس صفته من ناحية المضيّ والسكون؟ ماذا عن الآن الذي ينظر إليك بعين واسعة جدا آخذًا جمالك بعين الاعتبار وكاسيًا كتفك الأيمن بشالٍ من "الدّانتيل الأخضر"؟

24‏/06‏/2016

تفاصيل (11)







مرتان في اليوم وأحيانا أكثر، أقطع ذلك الطريق الطويل الممتدّ كأنّ آخره العالم، وأحيانًا في -لحظات التّعب- يبدو بلا آخر. يهيّئ له "حزيران" في هذه الأيام تيّارات مليئة بالحرارة، وتلوّحه الشمس من كل الجوانب. لا مظلّة فيه ولا ظلا للاحتماء. فقط طريق ضيّق بعض الشيء على جانبيه رصيفان رماديان يحملان على كتفيهما عمارات ومنازل مهجورة. كان "محمّد" الصبي الذي اعتدتُ مقابلته كل يوم، يتسلّق جدارًا متوسّط العلوّ ليجلس على حافّته. في الأسفل كانت تقف "لارا" الفتاة التي ترافقه دومًا. خُيّل إلي أنه مشهد كلاسيكيّ جدًا من ذلك النوع الذي يستعرض فيه البطل مهارة معيّنة حتّى تصفق له الأنثى ويصير قلبها أشدّ احمرارًا. ابتسمتُ بهدوء وأنا أنظر إلى محمّد المزهوّ بنفسه كأنما وصل أعلى قمّة في العالم.

وأنا أمشّط الإسفلت الحارّ بقدميّ  أحببتُ خطواتي وقدّستُها. وربما اكتسبتُ حبّ الرقص لكثرة ما مشيت في حياتي، واكتشفتُ كم من الممكن أن نحوّل أقدامنا إلى أوتار نابضة وخيوطا من الألوان، علّنا بذلك نبطئ من عدْوِ الخراب السريع، أو نجتذبه إلينا بحركة أو دوران مجنون. وفي لحظات كثيرة -في الصباح تحديدًا- عندما يكون الطريق خاليًا كنتُ أتفاعل مع الموسيقى المنبعثة من سماعات أذنيّ. أكثر من يعرف أسرار هذه اللحظات الخاصة هي الموسيقى الهنديّة التي كانت تستنبتُ لي جناحين وتجعل نبوءة صديقي -صاحب الشعر الخفيف الجميل والسترة المقدّسة- حقيقة إذ كان يقول دومًا: "أنت عصفورة، عصفورة قلبي".


على ذات الطريق أيضًا، شهدتُ المآسي. آخرها كان ذلك الحريق الهائل الذي شبّ في الدكان الوحيد الموجود فيه. كان دكانًا صغيرًا مليئًا بأكياس البطاطا وعلب البسكويت والسكاكر والفحم و "البينزين". ملاذ الأطفال الصغار الذين يقيمون في المنازل القريبة منه، وفي أحيان كثيرة كان ملاذ طفولتي أيضًا، عندما كنتُ أشتهي كأس الذرة المسلوقة مجيبة "بنعم" على سؤال الرجل الذي كان يقول: "ذرة بالزّبدة والملح؟". فاردةً يدي ومستعدّة للمتعة الكبرى.
لا زلتُ أذكر الصراخ الذي كان ينبعث في ذلك اليوم حادًّا وموجعًا. فكرتُ في البداية -بسبب الأوضاع السيئة عموما- أن هناك انفجار أو اعتقال أو مشكلة قائمة على اختلاف طائفي أو حتّى فكري. وكل هذه كانت أحداثًا مؤلمو طبعًا، لكن الصراخ حينها كان بسبب النار التي اندلعت في جسد طفل صغير علق داخل الدكان وتكوم على نفسه غير قادر على النهوض. رأيت الذي كان يبيعني البهجة خارجًا هو الآخر بكمية بائسة من الأذى. كان قد نجح في إنقاذ طفلين وعجز عن أنقاذ الثالث. حاولنا مساعدته لكن النار كانت جائعة جدّا بحيث ابتعلت كل شيء. لم تبقَ أي علامة على أنّ الألوان مرت من هنا يومًا ما، أو أن هذه البقعة الصغيرة -التي بدت سوداء على نحو لا يصدق- كانت نافذة للحياة والضحك. تلاشى كل شيء في لحظة واحدة. وكانت أم الطفل تبكي على الرصيف بل تنوح. تنوح معها الأحجار وأبواب المنازل الحديدية والماء الضعيف والسوائل السوداء التي كانت تجري آخذةً معها آخر ضحكة له وآخر سؤال. حتّى الآن، لم يزل المكان خرابًا، ولا يبدو أنّ أحدًا -بمن فيهم أنا- سوف يتصالح مع هذا الخراب أو ينسى تفاصيله بهذه السهولة. فالدكان لم يكن مجرّد مكان عادي. كان يمثّل شيئًا أعمق لكلّ الذين يعبرون الطريق كجزءٍ من حياتهم وشقائهم.

ذلك المنزل الأخضر على ضفة الطريق اليمنى يبدو أن بابه قد طلي للتو. كان علامة تغير لافتة وسط تكرار المشهد كل يوم. توضعت أمامه سيارة بلاتينية نظيفة جدا يبدو أنها غُسلت للتو أيضًا. لم يعد المنزل مهجورًا بعد الآن. صار على حافة جداره أصيص زهر وردديّ قاني -وهذا من ألواني المفضلة- يجاوره أصيص آخر تنام فيه عروق خضراء وتتشقق التربة البنية الرطبة دالة على عبور خيوط الماء فيها. فكرتْ "يال السعادة" وأنا ألتقط بعيني صورة سريعة لهذه الحياة الجديدة. ابتسمتُ بعمق شديد، ثم رددتُ تحية محمّد الذي اعتاد بعد العشرة التي لا بأس بها أن يناديني من الطرف الآخر "نوووور" مبتسمًا وفخورًا بصوته، غير مبالٍ بملابسه القديمة وحذائه الذي هرسته الخطوات ربّما. إذ كان يبدو جقيقيًّا جدا ومليئًا بالحياة، مستعدا أكثر من أي رجل ناضج وكبير أن يغني ويقول ل "لارا": "سوف أستمر في التسلّق من أجلك. هذا ليس شيئًا مؤقّتًا".

على الهامش: للطريق بقية
للطريق تفاصيل أخرى.

20‏/06‏/2016

أربعون ساعة من الاستيقاظ



كنتُ أودّ أن أطلعكَ على بعض الأشياء المهمة ولكنني نسيتها الآن. إنني أنسى كثيرًا في هذه الأيام وكلّما ازداد النسيان في حدّته أستمع إلى الموسيقى أو أسجّل مقطعًا صوتيًّا أغني فيه أغنية ناقصة محاولةً بذلك الاعتذار عن شطحاتي وسكوني لأيام طويلة. أودّ أن تعرف أنني أتهاوى كلّ يوم أكثر، ولا تقلق فهذا لا يمنعني من الابتسامة والتنزّه ولعن الحر الشديد وتحويل معاناتي اليومية إلى قصيدة. كما أنني أحاول الاحتفاظ بحسّ السخرية قدر المستطاع.

مضى وقتٌ طويلٌ على نومي الأخير. ما يزيد عن أربعين ساعة وإنني أحاول الآن أن أصل إلى هاتفي لأرى كيف باع "الدكتور فاوست" روحه إلى الشيطان. كان عندي صديقة بسيطة جدًّا تنتقد هذه التسمية لا لشيء إلا لأنها تفكر فيها بطريقة كلاسيكية. الشيطان في نظرها كان مخلوقًا غريبًا قادمًا من مكان سفليّ جدًّا ووضيع. له عينان غائرتان ويده سيفٌ من نار، وصوته فحيحُ أفعى. كانت تنفخُ على ملابسها عندما تتحدث عنه وتتلفظ بأشياء لا أفهمها. واليوم، أودّ أن ألتقي بها لأخبرها كم أنها مخطئة. "فالشيطان" يمشي بيننا. وقد تكون له بشرة ناعمة جدًّا وابتسامة هادئة. قد يكون فينا أيضًا. ما يكون استسلامنا إذًا؟ ما يكون هذا الكره الذي يسكننا؟ ما تكون هذه الفروع الخضراء التي نقصّها لنمنع شجرة من التعريش؟ ما يكون الأرق؟ الحزن؟ ليتني ألتقي بها لأخبرها أن الشيطان مجازٌ معقد جدا وغريب، وأنه في كلّ شيء يفرض سيطرته علينا ويدوس على وجوهنا مصرًّا على عقد صفقته مهما كان الثّمن.لقد أقسمتُ وأنا أصنع الرزّ الأبيض منذ أسبوع ألا أبيع روحي له أبدًا. لذلك فإنني أشاركك هذه التفاصيل وأصنع لنفسي فساتين ملونة وأمجّد الأشياء البسيطة وأربّت عليها، وأقول لعزيز -رجلي الصغير- وهو يلوح لي من بعيد أنني أحبّهُ جدًّا وأننا سوف نذهب معًا لشراء دفتر ألوان وسوف نستخدمُ حاسّة الموسيقى لعبور شارع مزدحم. لذلك فإنني أرسم بقلمٍ مكسور، وأدور حول متاهات الغبار، وأستدرج نوري لأمنح هذا الليل الرابض على صدري سببًا للرحيل. ما تفعل أنت حيال أرقك؟

منذ قليل، مرت طائرة فوق بيتنا، وهذا ليس خبرًا مميّزًا لكنها كانت قريبة جدا. أكاد أجزم أنه رآني وربّما قال: "لا، ليس الآن. مازال عندها دفتر يجب أن تملأه، وطبق من ورق العنب لا بدّ أن تأكله. سأعود في وقتٍ لاحق. سآخذها بكامل نضوجها وجمالها ولن يسأل أحد إلى أين تذهب".
أنا أيضًا لا أريد أن أموت الآن. مجرد حدث عابر ينتهي باستفاقتك دون أن تراني. هل كنت لتتساءلَ كيف عبرت؟ من أي خرم؟ من أيّ شقٍ صغير مددت نفسي وصرتُ خيطًا رفيعًا وانتهيت؟ يقول بعض الأشخاص أننا حين نموت نصير غبارًا ونتحد بالكواكب ثم نشعّ إلى الأبد. ولكن، ما هو الأبد يا صديقي؟
إن الأوهام تقتلني، ولا أدري كيف أشرح لك الأمر، وكيف أعبر لك عن مدى أسفي. لقد رأيت الحقيقة الهشّة أمامي قبل أسابيع. كانت تتوضح مع كل بقعة دم تنصبغ على ثوبي، وكان صراخ الرجال -الذين حسبتُ أنهم لا يصرخون- يشقّ روحي ويدلف إليها ثم يقتل مجموعة لا يستهان بها من العصافير. الجروح التي اكتسبتها في ذلك اليوم راحت تتعمق وتصير خنادق لعينة يجري فيها الدم ويصب في قلبي مانحًا إياي سببًا آخر للخوف. توجعت جدا. استعدتُ حياتي للحظات، ولكنني لم أكن قادرة على الحفاظ عليها رغم كل شيء. حاولتُ كما كان يحاول الجميع أن أقول أنني صامدة، وأن عيني التي اصطادت صديقتي وهي تموت لن تحتفظ بهذه الذكرى إلا قليلًا، وسوف تحوّلها إلى حدث سيء يُضاف إلى كومة المصائب لا أكثر. وأنّ الأب المسكين الذي كان يلطم وجهه سوف يجدُ في جثّة ولده الهامدة سببا ليقوم ويغني. كم قدمًا تلزمنا لنمشي مرة أخرى؟ كم روحًا نحتاجُ لنرقص؟ حجمُ الدمار كبير جدًّا، وليس خطأ كما كانت تقول حافلة محترقة أن نبكي. وليس خطأ كما تقول طائرة عابرة الآن أن ننتظر. هل تنتظرُ معي؟
لا تقلق. ليس ضروريًّا أن تقول نعم. فأنا أدرك اختلافنا، وأدرك ألا أحد مستعد لانتظار كهذا. حتى أنا لست مستعدة، وأشقّ أنفاسي من قلب الحديد البارد حتى أمنح هذه الأصابع التي تكتبُ الآن سببًا للاستمرار، وقدرة على المرور حول عينيك وصولًا إلى صدغك الأيسر الحبيب، ونزولا عند صدرك الضبابي الذي يشبه انعجان الصخور بشلال يهطلُ من الأعلى. الأعلى هو فمك المزموم على أحاديثه الطويلة والمعتمة.

دخلت أمي الغرفة. قالت لي: "تعالي نشربْ الشاي". الطاولة مستديرة وصغيرة. تتسع ليدينا فقط. ترمي أمي بضع قطع من الكعك الهش، ثم تحرك السكر بملعقة بيضاء وتضعها جانبًا بتأنٍ ملفت. ثمّ تُعيد جسدها نحو الخلف مستندةً على وسادة ذهبيّة مبرشّة. تحدثني عن مخاوفها وأفكارها بشأن تحسين ما يمكن إنقاذه. منذ زمن. عندما كان عندي ضفائر. كنتُ أعتقد أن الكبار لا يخافون، وأنّ لديهم كلّ الحلول مما يدفعهم لعدم البكاء والصراخ. لذلك -ربما- كنتُ أقول في نفسي: "متى أكبر؟ يالها من فكرة مدهشة!". والآن، وأمي تتحدث بهذا الرعب، وتنقر بيديها منفعلة وقد غشاها التعب. مستجلبة الوجوه من ذاكرتها، لاعنةً فيروز والكتب التي قرأتها، آسفة على ضياع دفتر رسوماتها ومعاتبة جدّي طويلًا. أكتشفُ أنني - الكبيرة الصغيرة- سأكون الحضن المتكفّل برعايتها وإخبارها بجدوى الرقص، وأنّ الكثير من الكتب التي نقرأها قد تتخلى عنا عند أول تجربة حقيقية وأن أمل فيروز رومانسي مخصوص بزمن سحيق وبعيد، ولا حقيقة في هذا الكون الذي يأكل نفسه سوى امتلاكنا لهذه اللحظة، وإحساسنا بسخونة الشاي على شفاهنا وبقايا الكعك على أصابعنا. وقد أحتضنها، وأقول لها بكلّ هدوء: "لا تقلقي، تحدث معي أشياء كهذه". متى احتضنتَ "حضنكَ" آخر مرة؟

أعود إلى غرفتي. الهواء ساخن جدًّا. حزيران يفرقعُ أصابعه عند الشباك ويدخّن سيجارته العاشرة ثم يسحب قطع الشوكولا من درجي القريب. يقشّرها ويبتلعها ثم يمضي تاركًا أثر لمساته المحمومة في هذا الجوّ الدبق. تدور أصوات الموسيقى مخمورة في كلّ شيء. في مشبك شعري الأزرق. في قميصي الأصفر المتروك على الكرسي. في حذائي الكهرماني المتعَب من العَدْوِ الأخير. في الغطاء البحريّ المائج بأزهاره كأنما حلّ به عشق أو أصابته قذيفة ملونة. في زجاجات العطر الفارغة وتلك الوحيدة الممتلئة حتّى منتصفها. ما يمكن أن تقولَه عن فتاة تستخدم عطرًا اسمه "هزار"؟ من المؤكّد أنك لم تسمع به من قبل. الجميلاتُ لا يحتجن إلى عطور معروفة، وربّما لا يحتجن العطر أبدًا. لكنه وفي مرحلة من مراحل الذكرى يغدو مهمًا بل جوهريًا ليكتمل نصابُ هذا الحفل الصاخب. ما اسم عطرك؟

أسمع جارنا وهو يصرخ. هو ذاته من رمى طفله من السيارة اليوم بطريقة همجيّة بعد أن امتنع عن النزول. أقول لك. لم أستطع امتلاك نفسي. قلت له: "هذا ضد الإنسانية تمامًا. ما تظن أنك تفعل؟" فقال بكلّ وقاحة: "أربّي إبني". تكفل جارنا الآخر بالنقاش بينما كان الطفل الصغير يبكي. أمسكت يده ومسحتُ وجهه وقلت له ما خطر ببالي حينها. ثم تمشينا قليلًا واشترينا السكاكر وأطعمنا دجاجة "إم مصطفى". أوصلته إلى منزلهم حيث فتحت لي أمه الهزيلة التي اعتبرتها مشاركة في هذا المسار التربوي الأحمق. إنه يصرخ الآن. مثل أي شيء سيّء يحصل هنا. مثل الموت والتفخيخ وصعوبة العيش والابتسامات الناقصة. متى شعرتَ بالرغبة في قتل أحدهم؟

استوى عقلي الآن. صار شديد الاحمرار ومحتقنًا. يبدو أنني استعدتُ ذاكرتي في النهاية...


على الهامش: Yanni - الصديق الوفي

19‏/06‏/2016

لغز الانتحار التطوري: متى قد تقتل نفسك؟





ليس هناك شيء أسوأ في الوجود من القتل، وليس هناك أفظع ولا أبشع من أن يقتل الإنسان نفسه. قد يقول البعض متحمسا: كيف لم يمنع الانتخاب الطبيعي الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية التي تدفع بالناس إلى الانتحار؟ كيف أؤمن بأن غاية التطور هي البقاء والتكاثر إذا كان مليون شخص حول العالم يموتون منتحرين كل سنة، أو إذا كان هناك شخص ينتحر كل أربعين ثانية؟ [1] .
لكن لا يجب أن نصوغ سؤالنا بهذه الطريقة قبل أن نعرف ما هي الفائدة التطورية من الانتحار؟ 

دعونا في البداية نعرف الأسباب [2] التي قد تجعل الإنسان يقتل نفسه. 
يزداد خطر الانتحار مع التقدم في العمر: 
الرجال الأكبر سنا معرضون لخطر أكبر. لكن ثمة استثناء، في سبعينات القرن الماضي (1970s) زاد معدل الانتحار بين الشباب، وخاصة الشباب الذكور، في البلدان ذات الدخل العالي. 

هناك أسباب بعيدة للانتحار (أقل ارتباطا)، مثل: 
- الحِمْل الوراثي Genetic loading (الحِمْل الجيني هو انخفاض في متوسِّط لياقة مجموعة من الناس بالنسبة إلى مجموعة مكونة من أشخاص مثاليين جينيا أو هو الفُرصة النسبية لموتِ أحد الأفراد في المجتمع قبل بلوغ سن التكاثر بسبب الجينات الضارة التي يحملها [3,4]). 
- نوع الشخصية (الاندفاعية، العدائية). 
- خلل نمو الجنين وظروف الولادة. 
- الأحداث المؤلمة المبكرة.
- الاضطرابات العصبية البيولوجية.

وهناك أسباب قريبة للانتحار (أكثر ارتباطا) مثل: 
- الاضطرابات والأزمات النفسية. 
الأمراض الجسدية. 
- وفْرة وسائل الانتحار. 
- مشاهدة نماذج الانتحار (عبر وسائل التواصل، مثلا).

سنستعرض في هذه التدوينة أهم الفرضيات التطورية التي ترى أن الانتحار تكيُّف بطريقة ما. ولكن قبل البدء، علينا أن نفهم "قاعدة هاملتون" جيدا. 
إذا أردنا الإجابة على سؤال: ما هي الفائدة التطورية للانتحار؟ فنحن في مأزق ما، وربما لن نملك إلا أن نزعم أن الانتحار تكيُّف. وبما أن المُنتحِر ينهي حياته، فلا بد أن يكون بهذا الفعل يمنح شخصا آخر أو مجموعة أشخاص آخرين بعض المنفعة، هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها فهم الانتحار بوصفِهِ تكيُّفا. وسنمر بقاعدة هاملتون لأنه هو عالم الأحياء التطوري الذي أثار القرن العشرين بتفسيره لسلوك الغيرية. 

رأى هاملتون William Donald "Bill" Hamilton في نظريته "اللياقة المتضمنة Inclusive fitness" أن سلوك الغيرية altruistic behavior بين الأشخاص الذين يتشاركون نسبة معيَّنة من الجينات سيسمح لهذه الجينات بأن تُمرَّر عبر الأجيال [5]. 
وقدَّم هاملتون حالة خاصة من اللياقة المتضمنة تُدعى "انتخاب الأقارب Kin selection" ومفهوم هذه النظرية هو أن الانتخاب الطبيعي سيفضِّل الجين المسؤول عن السلوك الغيري عندما تكون منفعة الأقارب الجينيين أكبر من كُلفة الشخص الغيري [2]. أي، بلغة الرياضيات، سيحدث سلوك الغيرية إذا كانت 


r × b > c 

حيث: r"" هي درجة القرابة relatedness degree الجينية، ""b هي المنفعة benefit التكاثرية لقريبٍ جيني، "c" هي الكُلفة cost التكاثرية على الشخص الغيري [6]. 

والآن من حقنا أن نسأل: ما هي المنفعة التي سيتلقاها أقاربنا البيولوجيون إذا انتحرنا؟ هذا إذا غضضنا النظر عن مأساتهم وحزنهم وتفشِّي سوء سمعتهم في المجتمع. 

سألخص الآن دراسة [2] حديثة (2013) نُشرت في المجلة العالمية للأبحاث البيئية والصحة العامة بعنوان "لغز الانتحار التطوُّري The Evolutionary Puzzle of Suicide". 

1- فرضية الانتحار الغيري The Altruistic Suicide Hypothesis: 
استعمل بروفيسور علم النفس والأعصاب والسلوك De Catanzaro نظرية "اللياقة المتضمنة" لتفسير لغز الانتحار تطوريا. اعتقد دي كاتانزارو أن الشخص سيُقدِم على الانتحار عندما تكون احتمالية نجاحِه التكاثري غير مشجعة، وعندما يدرك في نفس الوقت أن استمرار وجوده سيقلل اللياقة المتضمنة بتعارُضِهِ مع النجاح التكاثري لأقاربه الجينيين [7].

وُجِد سلوك تدمير النفس الغيري (الانتحار) في الكثير من الكائنات، من الكائنات وحيدة الخلية والطفيليات إلى الحشرات الاجتماعية social insects، ووجوده بين البشر مُختلفٌ فيه. تطور تدمير النفس في عدد من الحشرات الاجتماعية كاستجابة  دفاعية ضد الأعداء لأن له عواقب نافعة للياقة أفراد المستعمرة الناجحين تكاثريا (أي كأن الحشرة تعرض نفسها للخطر وهي تدرك أن الحشرات الناجحة تكاثريا في المستعمرة ستستمر في التكاثر، ومن ثم في نشر جيناتها). وتعرِّض الحشرات حياتها للخطر في حالات مختلفة: (1) حالة الدفاع اللحظي؛ عند وجود عدوٍّ ما. (2) حالة الدفاع الانتحاري الوقائي: أن يكون الموت هو نتيجة إصلاح أو إخفاء الوكْر (بيت الحشرات) لمجرد الوقاية قبل هجوم العدو. (3) تغادر الحشرات المريضة والمصابة بالعدوى الوكْرَ لئلا تُعدي الحشرات الأخرى، ومن ثم تتعرض لخطر الموت. 

ماذا عن البشر؟ وجدت الدراسات أن الفرد يكون ذا قيمة سلبية إذا كان عبئا على أقاربه (لسبب مرضي أو أسباب أخرى) أو كان ذا قدرة تكاثرية منخفضة. وارتبط الشعور بالعزلة والعبء على العائلة بالتفكير في الانتحار. بل إن بعض الأشخاص رأوا أن انتحارهم تضحية لمساعدة أقاربهم. وفي الماضي، كان شعب الإسكيمو يعُدُّ الانتحار سلوكا غيريا (تضحية لمصلحة شخص أو مجموعة أشخاص). البالغون الأكبر أو الأشد مرضا سيقتلون أنفسهم أو يُقْتَلون بطلبهم في أوقات المجاعة. 

باختصار، ترى هذه الفرضية أن الانتحار سلوكٌ تكيُّفي في حالات خاصة مثل "الشيخوخة، الأمراض النفسية، الأمراض الجسدية - خصوصا المزمنة منها، المثلية الجنسية". 

لكن إذا كان العبء على الأقارب تفسيرا معقولا للانتحار في كبار السن فإن من الصعب القبول بأن انتحار الشباب ذوي الصحة الجيدة سيحسِّن من لياقة الأقارب. وبدلا من هذا، من المحتمل أن يكون الانتحار في هذه الحالة (الشباب ذوي الصحة الجيدة) منتجا ثانويا غير تكيُّفي؛ أي ليس سلوكا أساسيا نتج من عملية تطورية مباشرة لأداء دور تكيفي.

2- فرضية المساومة The Bargaining Hypothesis:
دعنا نفترض أنك تعيش في منزل بين عشرة أفراد وتعاني باستمرار من إهمال والديك وصراعاتهم معك. في أسوأ الحالات قد تمثِّل مسرحية انتحار مضمونة النتائج لكنها غير قاتلة! 
ترى هذه الفرضية أن السلوكات الانتحارية قد تكون صرخات نجدة أو إشارة صادقة إلى الاحتياج يمارسها الأشخاص (المراهقون، مثلا) الذين وقعوا في مشاكل مع جماعاتهم الاجتماعية (العائلة، المجتمع...). 
في هذه الحالة ستكون محاولة الانتحار مغامرة؛ فقد تنجو وتحظى بما كنت تريده، أو قد تخسر حياتك. ومن وجهة نظر تطورية، ستتطور هذه الاستراتيجية عندما تكون فوائد الجينات المسؤولة عن "استراتيجية الإشعار" في المتوسط تفوق تكاليفها. ومن المهم في هذه الفرضية أن تكون معظم محاولات الانتحار غير قاتلة. 

3- فرضية التلاعب الطُّفيْلي The Parasite Manipulation Hypothesis: 
من المعروف أن الكائنات الطفيلية تستطيع التلاعب بسلوك المُضيف (الكائن الذي تعيش فيه الطفيليات). هذا التلاعب تكيُّف يعود على الطفيلي بالمنفعة، فهو يسهِّل له الانتقال من مُضيف إلى آخر. هناك طفيليات تعيش في أكثر من مُضيف، فهي تنتقل إلى مُضيف وسَطي (مؤقت) وتتغذى فيه، ثم تحاول الانتقال إلى مضيف نهائي لتستكمل دورة حياتها. 

من أشهر الأمثلة على هذا النوع من التلاعُب التكيُّفي هو ما يفعله طفيل توكسوبلازما غوندياي Toxoplasma gondii. يستطيع هذا الطفيل أن يعيش في الثدييات كمُضيف وسَطي له، لكن مضيفه النهائي هو السنُّوريات (كالقطط والأسود...)؛ لأنها الوحيدة التي تُخرج بُويْضات الطفيل مع فضلاتها. عندما يُصاب حيوان ثديي آخر (الفأر، مثلا) بعدوى توكسوبلازما غوندياي سعيش الطفيل في جهازه العصبي ويقوم بالتلاعب بسلوكه (يجعل الفئران أقل خوفا من القطط وأشد انجذابا لها) حتى يتمكن من الانتقال إلى مُضيفه النهائي وإكمال دورة حياته (يأكل القط الفأر الذي تعيش فيه هذه الطفيليات فتنتقل الطفيليات إلى القطط وتنضج). 

البشر أيضا يُصابون بعدوى توكسوبلازما غوندياي، بل إن بعض الدراسات ربطت بين العدوى الكامنة (ليست لها أعراض سريرية) والسلوكات الانتحارية في البشر. وإضافة إلى هذا، كانت السنُّوريات المفترسات الأولى للبشر في القرن العشرين، ومن المرجح أن هذه السنوريات الحديثة (بالإضافة إلى تلك التي عاشت في بيئات الأسلاف) كانت مفترسات خطرة للإنسان البدائي. لكن فرضية التلاعب الطفيلي (أن تتلاعب الطفيليات بالبشر لتستطيع الانتقال إلى مضيفها النهائي) لم تزل مُحاطة بالكثير من الجدل. 
ومن المُلفت في هذه الفرضية أن السلوك الانتحاري لا يعود بالمنفعة إلى المُنتحِر (الإنسان، مثلا) بل إلى الطفيلي. 

يستنتج الباحثون أن "خلفيتنا البيئية والثقافية قد تطورت جدا. ازداد تعاون الأفراد وقل اعتمادهم على الأقارب بخلاف ما كان يحدث في الماضي. نحن نعتقد أن الصلاح الاجتماعي المتطور في العديد من البلدان قد بدَّل قيمة الانتحار التكيُّفية، وصار يمكن فهم الانتحار بوصفه "غير مُلائِم" لبيئتنا الحديثة. ولأن بيئتنا تغيرت عما كانت عليه في زمن الأسلاف فلا توجد قيمة تكيفية للانتحار" – مترجم بتصرف. 

ملاحظات شخصية: 
- هذه الفرضيات التي قدمت لها في التدوينة لا تبرر الانتحار أو تشجع عليه، بل تحاول تفسير هذا السلوك الذي يبدو متعارضا مع المنهج التطوري الذي يعطي الحياة والتكاثر الأولوية على أي شيء آخر. 
- من الممكن تقليل نسبة الانتحار عالميا بمضاعفة الاهتمام بالفئات الأكثر عرضة للانتحار، ككبار السن والمرضى النفسيين وأصحاب الأمراض الجسدية المزمنة والمتشردين... ومضاعفة التوعية بالطرق المثلى لتحسين لياقة الأقارب، وهي: رعاية صغار الأقارب، والمساهمة في تحمل بعض الأعباء عنهم... إلخ. 




المراجع: 
[1] http://www.suicide.org/international-suicide-statistics.html
[2] http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3881146/
[3] http://www.els.net/WileyCDA/ElsArticle/refId-a0001787.html
[4] https://www.blackwellpublishing.com/ridley/a-z/Genetic_load.asp
[5] http://global.britannica.com/science/inclusive-fitness
[6] http://www.genetics.org/content/176/3/1375
[7] http://blogs.scientificamerican.com/bering-in-mind/is-killing-yourself-adaptive-that-depends-an-evolutionary-theory-about-suicide/

18‏/06‏/2016

مي




فقدت والدها حين استقرّ "صاروخ" في غرفته حيث اعتاد أن يجلس ليتابع نشرة الأخبار ويشتم قليلًا. لم تكن في المنزل حينها، فقد كانت تعمل في منطقة بعيدة بعض الشيء وتتحمل عبء الحواجز والخوف المتربّص بها حتّى تؤمّن له ما يحتاج. حين عادت لم تستوعب في البداية أنها تقف أمام منزلها. فقدت إيمانها بكلّ ما يمكن أن يقدّم لها العون في تلك اللحظة، حتى أنها نسيت الأدعية والصلاة والعبارات التي قالتها في الشهر الفائت لصديقتها التي فقدت عائلتها أيضًا. كان العمّ جلال الذي يحمل ديون الحيّ بابتسامة يضع يده على كتفها ويقول بمرارة: "الحرب اختارت والدك اليوم يا مي ". تحول خضار عينيها إلى خريف بارد تمامًا، وقبضت على علبة السجائر التي كانت تحملها، ثم هرستها تحت حذائها القديم، ولم تبك. مرّ أسبوع وانتهى العزاء ولم تبك مي. لم تقل شيئًا. كانت تكتفي بالبحلقة في نقطة ما وتسمع من يقول لها بين الحين والآخر: "لك الصبر. لك الأجر. الله لن ينساك". وكان العم جلال دائما يضع يده على كتفها ويقول: "إبكي يا بنتي. ابكي. ما بيسوى هيك". عندما نفذ صبره هزها بقوة ثم صفعها.
ساد الصمت فترة. زمّ فم مي المتشقق. احمرّ وجهها قليلًا وهطلت دمعة كبيرة. تدحرجت ثم أحدثت صوت ارتطامٍ مجلجل في داخلها، وهكذا انفرط العقد المتين في النهاية. أرخت مي رأسها على يديها وبدأت بالنحيب. كان نحيبها يشبه خيمة لجوء بالية تصفر فيها الريح. صراخَ طفل ضلعت سيارته الحمراء الصغيرة تحت الأنقاض. هدير الطائرة قبل أن تلقي بحملها اللعين، وصوت المذيع وهو يقول: "وردنا الآن". لم يكن يخطر ببالها أن يكون والدها الفنان الأعزل المجنون هو الشريط الأحمر الذي سيمرّ على شاشة الدمار ثم يهوي إلى الأبد. ظلت تبكي طوال الليل حتّى صارت خوخةً نضجة ومهترئة. وكلما سمعت صوت طائرة تمر فوق رأسها كانت تقف وسط الغرفة. ترفع رأسها نحو الأعلى وتصرخ!

مضى شهر الآن. هاهي مي تخرج من منزل العم جلال وهي تدري أن العالم سيكون مختلفًا وهي تنظر إليه بعين اليتم والخوف. ومهما لوحت له بيديها فإنه لن يكترث أبدًا. الشمس حادّة الملامح فالصيف قد بدأ منذ من الأمس بالتنفس القوي والمقرف. هاهي تقطع المسافة ذاتها نحو العمل.
"صباح الخير"
"خير؟ أي خير هذا؟"
"لقد تعرضت لظرف قاهر جدا. تأخرت بسبب فقدان أبي بطريقة مأساوية. أنت تعرف ما هو الوضع."
"الله يرحمو لأبوك. انضم للقافلة"
"سأعمل وقتًا إضافيا لأعوض غيابي"
غمغم صاحب "الكرش" الكبير. مدّ يده نحو الصندوق ليعطيها بعض المال وهو يخبرها أنه وجد فتاة بديلة. لم تنتظر مي. أدرات ظهرها ومشت.


وهي تعبر الزقاقات تعرقت بما يكفي لتبكي جيدا .ترى أجزاء منها تغادرها وتمشي على مهل إلى مصبٍّ بعيد. لم تكن قادرة -رغم كبريائها- أن تبدع أي وسيلة للدفاع. واحدةً من بين الكثيرين الذين التهمتهم الحرب، ومن بينا لفقراء الذين يُطالَبون دومًا بالدفاع عن البلاد في مثل هذه المرحلة بينما ينعم الأغنياء بخير الأرض في كلّ المراحل، ويمشون على الجسور البشرية حتى يصلوا إلى الضفة الأخرى. وهناك يبدؤون سرد مسيرة نضالهم الشاقة وكيف أنهم جاهدا لتعيش الاشتراكية ويسود العدل وينتهي الفقر. هي ذاتها سمعت الكثير من هذه الوعود التي قُطعت لتعوضهم عن كل ما قدموا قسرًا وجبرًا. لم يكن يعنيها أن يقال عنها "بطلة". كل ما كانت تريده هو أن تنجو بما تبقى من أحلامها. أن تهرب إلى مكان آخر ستكون فيه واثقة من الحصير الذي تنام عليه وأن أحدًا لن يسحبه من تحتها. ستملك حينها قرار الدفاع عنه وسوف تقاتل حتى النهاية فهي تدرك أكثر من أي شخص آخر صعوبة ألا ينتمي الإنسان إلى وطن وصعوبة ألا يشقى في الحنين إليه.



 على الهامش: شاركي بالغناء والسخرية. افتعلي أي بهجة عابرة وازرعي مكان الساق المبتورة غصن برتقال. وقولي للأطفال الذين يتسلقون أكتاف الجداران ألا يشتروا إلا السكاكر الملونة.



17‏/06‏/2016

وليد عبيد في لوحة "المُهاجِر"



"المُهاجر" - للفنان المصري وليد عبيد

ماذا لو لم يكن عنوان هذه اللوحة "المهاجر"؟
كنا سنرى هذا الرجل الطريح على نعومة الرمل عاشقا مُعذَّبا أو ربما رُفاتَ جسدٍ ميت. لكن لا. هذه اللوحة رُسِمت للمهاجر، ولا تعني غير الهجرة.

الجو غائم، هناك سفينة تغادر، ومن بعيدٍ تُطل مجموعة من الأشجار بنوع من الحياة. وما عدا هذه التفاصيل، ليس ثمة حياة أوضح من التي تتدفق من هذين الجسدين. وإذا لم يكن في المكان غيرُهما، فإن أحدهما يهاجرُ إلى الآخر، أحدهما يمارس الهجرة إلى أحدِهِما.

عندما نظرت إلى اللوحة للمرة الأولى لم يدهشني فيها إلا تموضُع الجسدين والرمزية التي يؤديها كل عضو من أعضائهما. شعرت بأنني أشاهدُ لوحة أجساد، فتنة أجساد.. وغربة أجساد. وأدركت بسرعة أن الرجل هنا هو المُهاجر إلى المرأة، فألحَّت بي أسئلة كثيرة... لِمَ الهجرة؟ من أين؟ إلى أين؟ وفكرت قليلا: لعلهما آدم وحواء هبطا قبل لحظات من الجنة؟ ثم غيرت رأيي.

الرجل يطرحُ جسده موازيا للمرأة، ساقاه تبتعدان عنها وتتجهان إلى سفينته البعيدة ورأسه يدنو منها، إنه يشبه بوصلة تحدد حنينه إلى المكان الذي طُرِد منه. أول انطباع صعد إلى ذهني هو أنه في حالة سيئة، ومهما بدا الجزء الأسفل منه أنيقا ونظيفا ومرتخيا فإن أعلاه مشوَّه ويكاد يفقد أي دليل على الحياة. إنه بالغُ الضعف والهوان، إنه مسكين.. مسكين جدا. فهو رمزُ الحاجة واللجوء والعَدَم، رمز التأثُّر والتقليد والاتِّكال.

جسد الأنثى يعرض لنا الجانب الآخر من اللوحة، الجانب الحي، فهو يستلقي في أرض الحياة، في جهة الأشجار والوطن. قد يكون عاريا، أو هو يجب أن يكون عاريا، لكنه لا يبدو كذلك، على الأقل بالنسبة للرجل الذي يجاوره تماما، ويوشك يلمسه. المرأة تفتح كتابا لكنها لا تقرأه، فعيناها تتوجهان نحونا وتغرينا بالهجرة، تمتدان نحونا وتريدانِنَا.  

إذا كان في اللوحة نوعٌ من الألم أو القسوة أو دقةِ تصوير الألم والقسوة فهو ما ترمز إليه الأطراف. ذراعا الرجل أولُ ما يستحق الشفقة، فهما عاجزتان ذليلتان غائبتان، نستطيع أن نرى فيهما كل علامات التسوُّل والضراعة. أما يدا الأنثى فتملكان ثروة تعطيها قيمةً ودورا في لعبة الوجود. ولتتأملوا أين تتموضع ساقاها، واحدة على الكرسي، وواحدة على الأرض.

شاء الفنان أن يكون لون جسد الأنثى متماهيا مع لون الرمل فكأنهما قطعة واحدة، وشاء بطريقة مدهشة أن يعطي الأنثى في اللوحة كل معاني السُّلطة والتملُّك، فهي توزع جسدها لتملك كل شيء، حتى نحن. ساقها اليمنى تملكُ الكرسي، وجزء من ساقها اليسرى يملك الرمل، ويداها تملك الفكر، وعيناها تملكنا.

أما الرجل فقدماه لم تزالا مبللتين من السفر وينقسم جسده بين المكان الذي جاء منه والمكان الذي جاء إليه، وتغزو جسده الأسمر مسافات بيضاء؛ إنها ليست مرضا جلديا كما قد نظن، بل هي عدوى الوطن الآخر الذي يمثله جسد الأنثى، لقد انتقلت إليه من جسد الأنثى المجاورة. لكنه لم يزل منتميا إلى مكانه الأول، ولم يزل يسأل وطنه الثاني أن يتقبَّله، لاحظوا كيف تلامس يده اليسرى المُنكَّسة قطعة القماش البيضاء التي تستلقي عليها، ولاحظوا كيف تتوجه اليد اليمنى إلى السماء.

في اللوحة الكثير من اللامبالاة والتهميش. فلا الرجل يأبه بجمال جسد الأنثى ونعيمها، ولا الأنثى تدرك أن رجلا ما يطلبُ نعيمها بكامل الذُّل والاحتياج. لا غريزة هنا، لا شهوة، لا حب، لا جنس. وهذه الأمور لم تفُت الفنان بالتأكيد، فهو لم يرِدها لوحة لعاشقين أو لمغتربين، بل أرادها لمُهاجِر ومدينة. والمدن العظيمة لا يفتنها المهاجرون إليها، لا تراقصهم أو تغني لهم، إنها تستقبلهم فحسب وتسكب فيهم أفكارها وألوانها. 

لكن هناك شيئا آخر، إذا تعمَّقنا أكثر في وجه الأنثى فلن نرى إلا وجها عربيا، عربيا مصريا، عربيا مصريا بمنتهى العروبة والتعرِّي، فهل يمكن أن يهاجر العربي المصري إلى العربي المصري؟ لعل هذا من الألغاز التي لم يُفضِّل وليد عبيد الكشف عنها، وكم في اللوحات العظيمة من ألغاز! 



16‏/06‏/2016

غانية





تشعر بالأرق وفقدان الشهية تجاه رقائق البطاطا المفضّلة لديها، وقد رفضت حتّى الآن ثلاث دعوات إلى العشاء وطلبًا وحيدًا للحب، وتجاهلت إلحاح الليل عليها وإغراء فستانها الكمونيّ القصير، كما فقدت صديقتها إثر انفجار سيارة مفخخة أودى بما لا يقلّ عن عشرين سنة قادمة كانت تتمنى لو أنها تحياها معها بين زواريب الفنّ وقداسة كأس البرتقال والتنقّل البطيء على رقعة الشّطرنج في ذلك الدكان النائي الذي يبيع الزجاج المزخرف، وتكتسي جدارنه بلوحات مغمورة مرسومة بالفحم لإناث متمرّدات؛ بعضهن عاريات والبعض الآخر jلوّحن من بعيد لأشياء غير واضحة.
قبل ساعتين ونصف -أي عندما اكتشفت الوقت- تعرّضت للإهانة التي يُسفر عنها الانتظار، وقالت بمنتهى الوحشيّة: "يا لفداحة الذوبان في سِوانا" وراحت تبكي. إنها أنثى جميلة -وإن كنتم لا تعلمون- فإن الأنثى الجميلة حين تبكي آسفة وقد تملّكها شعور بالوحشة والظلم، فإنها لن تنسى ولن تطيب ذاكرتها من حدة التخلي الذي مورِس عليها، ولن تغفر -لنفسها أولا- ويلات الحرب العاطفية التي خاضتها بحيث فقدت في كل مرة توقًا وجنونًا واعتذرت عن حماقاتها واعتقدت -لفرط رقتها- أن عليها أن تكون قوية طوال الوقت حتّى تحافظ على "حسن"، ثم اكتشفت أن صوتها ظلّ غارقًا في مناجاته الوهمية، وأن من تثق به لن يقاتل من أجلها أبدًا. "الحبّ ليس مشروطًا؟" تعاود ضرب ساقيها وتبكي. تحاول ببكائها أن ترمم ثقوب قلبها. أن تتعب حتّى تغفو. لكنها تفشل، تصحو أكثر، تخشخشُ بأساورها لافتةً انتباه الرفوف والنوافذ والحشرات التي تتمشى تحت السرير.

إنها "غانية" التي تتفحص الآن ملمس الغطاء القطني، وتشبكُ يديها خلف رأسها محاولة أن تتلاشى بهيئتها القديمة، وأن تخلق أفكار جديدة تعينها على بصق هذا الألم الشديد مدركةً أنّ تصفيق الجميع لها خارج هذه الغرفة ليس إلا وهمًا أو شيئًا مؤقّتًا يرضيهم ويقدم لهم المتعة بينما يسحبُ منها في كلّ مرة قدْرًا من البهجة والعفوية. تدركُ أن ثمن حريتها سيكون غربة، وأن ثمن دفاعها عن وجهها سيكون يدًا أعلى من يد قاتلها، وأن ضريبة نومها ستكون حياةً ماضية ستجاهد ألا تأخذ منها أيّ وجه أو قبلة أو محاولة انتحار.

تبدأ بدندنة الموسيقى التي كان والدها يستخدمها لردّ الحرب وتحمّلِ فداحة الأصوات التي تُسقِطُ في كلَ مرة ضحية وتهدمُ بيتًا وتعطي الآخرين سببًا للرحيل. تدندن وهي تدرك أن هذه الموسيقى لن تردّ شيئًا في النهاية وأن الضحية ستسقط وأن البيت سيصير بخارًا وأن الأخرين سيرحلون، إلا أن عزاءها كان موجهًا إلى نفسها -أولا-. عادةً بيضاء كانت تواظب عليها كلما اشتدّ أزيز الرصاص واهتزّ سريرها إثر انفجار قريب ولمحت أضواء سيارات الإسعاف الحمراء التي ستحمل الموتى وسوف تجاهد كي لا يضيع الأحياء على الطريق.

هدأت الأصوات الآن. قالت لها صديقتها على "facebook" أن جارتهم فقدت زوجها والأخرى تعرض إبنها لجروح بالغة وأن الأرقام تزداد بحيثُ تجلسُ والدتها مدهوشة وهي تقول لزوجها الراحل: "تعى يا رجال، تعى شوف شو عملنا بحالنا يا حبيبي". تختم صديقتها الرسالة بوجه مقلوب وآخر حزين مقحمة في النهاية شفاه حمراء غليظة.

مجدّدًا تشعر غانية بالوقت. الواحدة والنصف ليلًا. تمدّ رجليها على الأرض وترسم بيدها اليسرى تلالًا وأشكالا مبهمة. تغنّي أغنية كلاسيكية تستذكر فيها كيف غرق "جاك" في قلب المحيط. تتحول الدنيا في نظرها إلى سفينة ضخمة مصابة بالعطب. ترى الناس يتساقطون ويصيرون أسماكًا. البعض يطفو على السّطح كما تطفو غيمة بليدة. تقول: "كم من الجميل أن يموت الناس بهذه الرومانسية". تفترض أنها أيضًا ستصطدم بكلّ القضبان الحديدية، أو قد تكون أحد العازفات لشخص قرر تقبيل حبيبته في اللحظة الأخيرة. وبعدأن يعمّ الهلع أخيرًا تغني بصوت أكثر ارتفاعًا وتقول لهم: "الدنيا تبدو سيئة حين نكون سيئين، ومخيفة حين نكون خائفين". يرمي أحدهم حذاءه فوق رأسها لكنها تعتبر هذا نوعًا مشرفًا من التصفيق. بعد ذلك تقوم. تسوّي طرف فستانها الطويل، تربط شريط خصرها بإحكام. تحرك رقبتها قليلًا وبعد ذلك تغمض عينيها وتنزلق. تشعر بنعومة السطح الخشبي. تتألم قليلًا في البداية لكن الجثة التي بجانبها تقول: "go on". تبتسم، تضحك، تقهقه وبعد ذلك تحدث صوت الارتطام/ الانفجار ويطفو ذيلُ فستانها كرزًا خالصًا. تغرق. تنزل نحو القاع وتلتقي ب "جاك". يبتسم فتبتسم له في المقابل ويبتسمُ كل الموتى الذين غرقت بهم سفينة الوطن ولم يجدوا من ينقذهم.

هكذا قالت غانية : نموت ونحن نحاول أن نحكي قصة أو نغني...

12‏/06‏/2016

يولا






كانت "يولا" فتاة جميلة. ذات مرة أحبها رجل لأنه اعتقد أنها لا تكذب، وأحبها آخر لأنه آمن بقدسيتها، وتساءل الذي جاء ليسلمها طردًا بريديا فيما إذا كانت مخلوقًا سماويا أم لا. كان ليولا شعرًا قصيرًا غشّاشًا. تارة يبدو حالكًا وتارة يظهر كستنائيًّا بطريقة وقحة، لكن مجدها كان يكمن في عينيها.
"ما تشبه عيناك يا يولا؟" سألتها جدتها.
"زجاج يا جدّتي". ضحكت جدتها كما يضحك الغراب وأردفت: "حافظي على هذا".

تجلس يولا على الأريكة المغطاة بملاءة قرمزية. تحرك ساقاها العاجيتان فتميل الشمس تجاه قبلتهما ويصلّي النور بعمقٍ عند ركبتيها. تأكل كعكة هشةً وترشفُ البرتقال. تتخيل أن هناك من يحبها وأنه كما كانت تقرأ يسمّى "توأم روحها" وربما هو الآن يشرب البرتقال أيضًا وينصتُ لموسيقى سيّئة، ويحرك شعره الأشقر الكثيف ليظهر جبينه العريض الذي يحرس عينين مموّجتين مثل فراء القطة التي أهداها لها والدها في عيد ميلادها الفائت قبل أن يموت بعد أسبوع إثر حادث قال عنه الجميع أنه مؤلم، لكن الأمر لديها كان مجرد عملية طويلة مليئة برائحة مواد التخدير والدماء. "سوف يستيقظ حتمًا، أليس كذلك؟" تصمتُ لثوانٍ ثم تنتبهُ إلى أنها تشركُ توأمها المفترض في "أحزان عائلية". تجلسُ يولا جلسة تخلو من البهجة وتبدأ بالنحيب.

خرجت في أحد صباحات كانون الباردة. كانت ترتدي قبعة بالية من الفرو وتغطي جسدها الممشوق بمعطف سميكٍ من الجوخ الأبيض. تخرج وحدَها غالبًا لأنها لم تنجح في تكوين الصداقات فقد كانت الفتيات يعتبرنها مجرد دمية حلوة أو شخصية هاربة من الرسوم المتحركة وكثيرًا ما كنّ يستهزئن بوجهها الخام الذي لم تلمسه مساحيق التجميل يومًا. كان فمها يشبه احتقان وريد بالدماء. منتفخًا وممتلئًا ولونه قاني، وهذا البرد قد عتقه أكثر.
تفكّر يولا وهي تمشي بإمكانية أن يكون عندها سيارة مفضّلةً اللون الأحمر ومختارةً حجمها الصغير. تساءلت: "ألا يوجد سيارة تتسع لشخص واحد؟" ثم ضحكت للحظة، فابتهجت معها شجرة قريبة. في الجانب الآخر من الطريق كان يمشي رجل فارع الطول مثل عمود جهّز ليحمل الكثير من الأسلاك الكهربائية. يرتدي سترة سميكة من "الجينز" المبطّن ويلف حول رقبته وشاحًا رماديًّا. يده اليسرى مختبئة في جيبه والأخرى تعانق سيجارة. كم كان مشهدا آسرًا اختلاط أنفاسه البيضاء بأنفاس السيجارة الرمادية. من يفرّق عندها بين لهاث الدفء والبرد؟
وقفت يولا عند محطة الباص. لم ينظر أحدهما إلى الآخر فرجل يدخن يمتلك من الغرور ما يكفي وأنثى تحلم قد لا تتنبّه لشيء. قال رجل عجوز: "متى يأتي القطار؟" ردّ الرجل بشيء من اللا مبالاة: "عندما يحين الوقت"، ثم رفع كم سترته قليلا: "أي بعد خمس دقائق" وغرق في صمته مجددا.

بينما كانت يولا تصعد السلالم القديمة عائدة إلى بيتها كان هو ينزل من الأعلى. التقيا عند الدرجة السادسة عشرة. كاد أن يصطدم بها فقال بكل هدوء: "عفوًا" وها هي إذًا تنظر إليه. كان له شقّين صغيرين ينفذ من خلالهما الضوء. فكّرتْ "ما أصغر عينيه!" واتسع قلبها قليلًا لكنّ هذا لم يعن له شيئًا كما يقول عصفور  يراقب المشهد من بعيد.

"يا يولا، سيكون علينا ترميم الحمام بالكامل؟ أي منزل مهترئ هذا!" قال "سافيو" الرجل الذي اعتادت أن توكل له مهام التصليح وجلب الأغراض والثرثرة العابرة وتشارك كوب من الشاي المعدّ بتأنٍّ حتى يصير ليلًا. كان سافيو بعد هذه العشرة الطويلة التي رأى فيها يولا تبكي وتصاب بهيستيريا الرقص بعد شرب النبيذ، يكنّ لها شيئًا من تلك العاطفة السحرية التي استفزّته لتقبيلها حين دخل المطبخ ورآها تدور على موسيقى صاخبة. أراد أن يأخذها من ذراعها وينظر مباشرة إلى عينيها، ثم يسلّم عليها بشفتيه. لكنه كان متزنًا جدا إلى الدرجة التي قضى فيها اتزانه على أفكاره المجنونة المتعلقة بها. ويولا؟ كانت طبعًا تفكر في ذلك الرجل الطويل الذي التقت به مرتين دون أن تعرف اسمه حتى.

كان يجلس على السلالم في ذلك اليوم ويدخّن. بينما كانت تنزل على مهل تبيّنت ظهره المكتسي بقميصٍ وردي خفيف، وشعره الذي عبث به السهر كما يبدو. "السهر على سرير فتاة؟" فكرت يولا بغضب غير مبرر. حين جاورته وقفت قليلا. قليلا يعني مرور بعض الوقت دون حراك أو كلام. قال دون أن يلتفت: "أهلا جارتي" ثم ضحك بشكل مفرط. أحسّت يولا في تلك اللحظة أنها تنال فرصتها لتشاركه هذا الموعد الغريب المليء بالترنّح.
الآن، هي قريبة منه. متجاوران. لا هو يعلو ولا هي تهبط.
"أنت جاري إذا؟"
"إنه سؤال أحمق أيتها الصغيرة"
"مجرد سؤال عن الحال يا ..."
"كريستوف!"
تنحنحت يولا ، نظر في عينيها مباشرة وحدق. ظل بصره معلقا بزجاجهما الأزرق عاكسًا وجهه عليهما حتى ارتبكت يولا واتسع قلبها أكثر من قبل.
"هل تعلمين؟" نطق أخيرًا.
"كنتُ في حفلة سيئة جدا. المنزل كان متسعًا، فيه كل ما يشتهيه رجل يود أن يقضي ليلة عسليّة. هناك كان بإمكاني أن أقوم بكل ما أريد. أن أرسم حتى يمتلئ دفتري لكنني شعرت بالملل فجأة. أتعبتني الوجوه المتشابهة والعيون التي تبدو وكأنها تحترق، فجرت أمشي، وحبن وصلت غلى هنا. إلى هذه الدرجة بالذات تعبت، فقررت أن أحتفل في هذا المكان العتيق مستجلبًا الوجوه من ذاكرتي".
"مضى وقتٌ طويل على آخر مرة احتفلتُ فيها" قالت يولا هذه الجملة وسرعان ما ودّت لو أنها لم تفعل لكن الكلمات كانت قد خرجت وانتهى الأمر. وجدت طريقها نحوه فضحك حتى ظهرت كل أسنانه وعلّق:
"يولا الصغيرة، سأرسمك يومًا ما"
تحدثا طويلًا. حتى بدايات الفجر ربما. شرحت له بنصف لغة عن نفسها وأنها تعيش في المنزل الذي ورثته عن والدها الذي كان يرسم أيضًا بعض الصور للحشرات التي كان يصادفها أثناء سيره عبر زقاقات المدينة. ذكرت له سافيو النبيل الذي سيرمم لها الحمام ويساعدها في وضع ورق الجدران في الصاله. كلمها هو عن سبب مجيئه إلى هذه البلاد وكيف أنه ظل يعيش في فقر مدقع حتى فتحت له طاقة الحياة، ثم أخرج دفترًا من صغيرا من جيب سترته المرمية عند أسفل قدميه وراح يقلب فيه. كلما كان يريها المزيد من لوحاته كلما كانت تحب أصابعه أكثر وكان قلبها الذي راقبه على مدى أشهر طويلة من نافذة الغرفة وحفظ كيف يمشي وكيف يداعب أوراق شجرة التوت في نهاية الشارع قبل أن يركب في سيارة غالبا ما كانت تقله في الفترة الأخيرة وكيف كان يحكّ طرف فمه باستمرار حين يحادثه صاحب العمارة عند الباب. بحلقت فيه. بشيء من العفوية مدّ يده إليها. عبث بشعرها ثم كرر
"يولا الصغيرة. يولا الصغيرة"
قبل أن يصعد نحو منزله سألته: "كريستوف، ما تعني طاقة الحياة؟"
ردّ بإهمال من يقول شيئًا بديهيًّا وبسيطًا: "المرأة التي سأتزوجها قريبًا. سأسافر معها نحو بلدان كثيرة فهي مهتمة بالفن مثلي. حسنًا! بطريقة مادية بعض الشيء ولكن لا بأس." حرك يده من الخلف واختفى.

داخل غرفة الجلوس المجددة كانت تجلس يولا على ذات الأريكة حين دخل سافيو لأخذ رأيها في بلاط الحمام. وجدها تحدق بصمت في يديها، وخُيّل إليه أنها ستلتهم إحداهما لا محاله. حين اقترب منها يسبقه قلبه الخائف الذي قلما رآها حزينة إلى هذا الحد. تبيّن له بكاؤها الصامت. ولأنه نبيلٌ جدا فإنه يدرك كم من المؤلم أن تبكي فتاة جميلة بصمت. قال لها برفق: "يولا" جاثيًا على ركبتيه وناظرا إلى يديها. حين رفعت وجهها بدا وكأنه خُبزَ لفترة طويلة في فرن كبير. اقترب منها أكثر ومن دون أي تخطيط صارت يولا بين ذراعيه. امتزج بكاؤها الحاد بلون سترته، وكانت الموسيقى لا تزال تخرج من فم المسجّل بينما تهب الرياح في الخارج وينطوي هذان الأحمقان على بعضهما. 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.