حقوق النشر: zgr_pro |
لم يكن بُعدا الزمان والمكان حاضرين في ذهنه عندما أرخى
قبضته عن ذراع مقعده متنازلا عنه لشيخٍ ينحني بالقرب منه، ولأكون صادقا فحتى اسمه
لم يكن حاضرا. كل ما يمكنكم التنبؤ به لو كنتم تنظرون إليه هو أنه سيكون آخر من
يصرخ على السائق الذي يتوقف كل عشرة أمتار لراكب جديد برغم امتلاء الباص.
وقف خلف جسد فتاة، وثبت أنفه في شعرها مستثارا برائحة
الشامبو الممتزجة بزيت فروة الرأس وولوَل على نساء بلده كما يفعل العرب دائما
عندما يكونون في الخارج، إلا أنه لم يقل لها كما تتخيلون "كيف الحال؟"
بلغة تركية سليمة.
وبينما هو ينتصب متوجِّسًا، توقف الباص، فنزلت يدان ودخلت
يدٌ واحدة. فسَّر هو الأمر بهذه الطريقة: "يدٌ ناعمة تقترب متمسِّكة بالعمود
الحديدي في الأعلى.. لا بل هي يد أنثوية تتسلق نحوي". لو رأيتموه وهو يمسِّح
صدأ العمود براحة يده ليلمس يدها، أو لو نفذتم من جمجمته لتروا كم تتحرَّق أعصابه
لركوب كل المشاة في شوارع أنطاكيا هذا الباص بالتحديد، لعرفتم أنه في تلك اللحظة
فقط اكتسب زمانا وصار له مكان بين الرُّكاب وانطباعات.
في العشرين عاما ونيف التي عاشها في بلاده لم يستطع يوما
أن ينظر إلى عيني امرأة أجنبية إلا صدفة، هذا الفعل الرومانسي الذي سمع عنه كثيرا
لم يكن إلا أضغاث أحلام. ولكنه لما أفلتَ من أول نظرة، علقت بعينيه الحاجة إلى نظرات
أخرى، كأنما كانت عيناه مشدودتين إلى عينيها بخيوط لزجة.
صاح في أبعد دهليز من عالمه الباطن: "الحمرة
والزُرقة والتورُّد، هذا هو النعيم، يحيط بكل هذا شعرٌ بلون عنب الشاردونية".
تزوَّد من النظرات وعاد يصيح: "إنها لا ترفض نظراتي.. لا تهددني بإبلاغ
الشرطة، هل تراه طال بي الطريق حتى نمت؟". ثم نأى بوجهه لئلا يضايقها. وكلما
توقف الباص ونزلت يدان، تضرَّع إليها في السر ألا تحرمه من اليد الوحيدة التي لمسها
عامدا وتلذذ بإثمها.
كان يرهف سمعه ليحصي أنفاسها. بين شفتها العليا وأرنبة
أنفها توسعت بعض المسامات وأفرزت حبَّات ندًى فما كان أشهاها إلى جسده وروحه،
والشال العسلي الذي يطوف مراتٍ حول جيدها ما كان أحوجه إلى أن يلفَّه بقسوة حول
رأسه ويغطي به وجهه ليشنق ألَمه. وبينما هو في غمرة اشتهائه، لمسته تلك الفتاة
وناولته ليرتين ليسلمها إلى السائق.
أراد أن يقتحم هدوءها، ولكنه كطفلٍ هم بأن يمد يده إلى
محفظة أبيه شعر بغصَّةٍ في الحلق وتراجع، فار في دمه بعدها جحيم من الحقد فأحرق
جنات الهُيام التي نبتت بينه وبينها. بقي غيرَ مستقر، وشعر بإهمالها إذ لم تلبِّ
نداء قلبه وتلصق صدرها بصدره. "أليس هذا حقي؟ أليست تشتهي أن تضمني؟ سأريها..
الجبانة" قال لنفسه. وما هو أن
مدت يدها -التي كانت في حوزته- إلى السائق حتى أشار إليها بوجهه مع بضع كلمات
إنجليزية مرتبكة فهمت منها أنه دفع ثمن التذكرة عنها.
التفت بعض القاعدين العابسين، وتعجَّبت هي قائلة: "شكرا"،
ثم تأملت سُمرته ففُتنت بها. الأتراك لن يدفعوا عنها مهما أعجبوا بها، ولا
الأوربيون الآخرون يبدؤون حياتهم معها بثمن تذكرة. أعادت النظر إليه مبتسمة،
فبادلها الابتسام... ثم توقَّف الباص.
نزل معها مزهوًّا، متضخما، ليس لديه أدنى ريب في نجاح
خططه، ولما سألته: "هل تسكن هنا؟" كانت هي الدخيلة وهو المسؤول
والمنتظَر، فأجابها: "لا". لكنه بسرعةٍ رقَّ وانسابت الكلمات بلطف من
فمه وهو يشرح لها أنه لا يعرف لم نزل، ثم أنهى كلامه باقتراح التمشِّي معه قليلا.
ترددت ثم غمرتها موجة ضحك متقطع وأنفاس مضطربة:
"واو! هذا لطيف، لكنني متعجِّلة.. لكنن.. أوه، دعنا نتمشَّ قليلا". فرح
هو لكنه فضَّل أن يبدو معتدلا، كطالب جبان بُشِّر بنجاحه المؤكد ففضَّل الابتسام
وعدم المبالاة، أو كخليفة أموي "أتته الخلافةُ منقادة" فبكى.
ولما سألته عن بلده، تحركت عيناه، وطأطأ رأسه مجيبا:
"بلدي الآن هذا الشارع"، وكان يتجنب أكثر ما يتجنب أن يوحي إليها بأنه
يستطيع الكلام بالعربية؛ لأن العربية في رأيه ليست فيها مرادفات لكلمات مثل
"واو! هذا لطيف، لكنني متعجِّلة.. لكنن.. أوه، دعنا نتمشَّ قليلا".
بقي مأخوذا بفكرة وجوده جنبا إلى جنب مع أنثى، ارتعش جسده
جذلا وخوفا، وأحس بالعظمة تنفخ صدره، ولم يدرِ لم انسلخ من جغرافيته وفضَّل الشارع
المتثلج في ليلة من ليالي كانون على الصحراء الدافئة الآمنة والثمرات. فتَّش عن
مقهى، لكن الوقت كان متأخرا وأبواب المقاهي الموصدة لا ترحم جسده المرتجف، ثم
اقترح عليها أن يخرجا من الشارع الرئيسي إلى الشوارع الأضيق والأقل نورا. ارتعشا
متماسكين ملتصقين بالجدران الخشنة الممتدة رجوعا.
كانا يحدثها عن رحلته إلى "لواء إسكندرون"،
ويصف لها كيف كان يطلب في كل مقهى مشروبا ليستمتع بـ "الأغاني التركية
والأبيض المتوسط، ثم أمطرت، فدخنت بكثرة تحت أوراق النخل وفوق العشب النظيف،
افترشتُ العشب وفكرت بصمت وأنا أدخن، لا أخفيك، إن الكثير من الكتب التي قرأتها
تؤثر في تفكيري العملي... ذهبت بعدها إلى عرصوص...". سألته باندهاش: "عرصووووص؟!"،
فأجاب: "نعم، كنت عائدا إلى حيث أسكن، لكن المطر ألجأني إلى الباصات المتجهة
يمينا فركبت".
لم تستطع تصديقه أو تكذيبه، لكنها كانت مفتونة به، وهو
بدوره لم يجد بُدا من الثرثرة إن صدقا وإن كذبا ليبقى ممسكا بيدها. لقد كان مثل أي
إنسان يتكلم، وفي منتصف الكلام أدركته نشوة التفاصيل.. وما كان أرخص الوقت وأهون
التعب في حضرة "الحمرة والزرقة والتورُّد".
"يمينا.. يمينا، سألت الراكب المجاوِر عن الوجهة
فقال بملل إنها عرصوص، توقعتها طرسوس السورية، لكنني توقعت فحسب، ولم أهتم إن كانت
عرصوص أو طرسوس ما دمت بعيدا عن المطر.. هل ترين؟ إنني لم أزل بملابسي التي سبحت
ودخنت وتبللت فيها، إن رائحتي الآن ماء، نعم.. فلتضحكي، إنك أول أنثى في العالم
تمشي مع رجل لم يغتسل جيدا، هل تدرين إلى أين انتهى بي اليمين؟". قالت:
"أنت غريب! إلى أين؟"، فاستوقفها قائلا: "إلى منزل عجوز محدودبة الظهر
لم تعرف الضحك منذ قرابة ألف سنة.. كان بيتها مليئا بعناقيد العنب الحقيقية".
توقفا تحت عمود إضاءة، حيث الشارع خاوٍ إلا من بعض المارة
اللامبالين، أدرك بالفطرة أن نظرتها تلك كانت تعني الاستحسان، وأن أنفاسها القريبة
كانت تهمهم بدعوته إليها. استعاد ملايين المشاهد التي ضم فيها رجل أنثى إلى صدره
بدون أن تحاصره الشرطة، وأحاطها بذراعيه أولا كما يسلم الرجل على أخته في يوم
العيد، ثم طوَّقها كما ينبغي، أو كما تصوَّر أنه ينبغي.
أحست بتلذذه بالعناق مع أنها لم تقصد أن تمارس معه نوعا
من جنس الملامسة في الشارع، كانت تعبر عن صداقتها، ولكنه اعتقد أنها تقبل صِداقها ليرتين
في ليلة شتاء بلا شهود. حاولت أن تنفلت منه، لكنه التصق بها وهذى: "كلما ضعت
وجدت عناقيد عنب.. كلما ضعت وجدت عناقيد عنب".
أرخى ضمَّته عندما مر بالقرب منهما رجل، ثم عاود تطويقها
طاعنا رقبتها "الدبقة" بأنفه، ومتمسكا بفكرة الثرثرة: "هذا الكتاب
الذي كنت تقرئينه، اسمه "رقيقٌ هو الليل"؟ قرأته، نهايته لم تقنعني، لكن
الراوي أتقن الدخول إلى موضوعه.. الشخصيات مثيرة بلا استثناء، أظن الكاتب بالغ
قليلا في وصف البطل وأظهره إلى المشهد متأخرا.."، وبدون أن يسمح لها بمناقشته،
راح يشد يمينه حول خصلات شعرها ويستطرد: "أنا أحبك.. أنا أعبدك.. أنا
أريدك"، لكنها دفعته بقوة، وقالت له وهي تمسح ريقه من وجهها: "أرجوك، ما
هذا؟".
اصفرَّ وجهه، وكان يلهث، حاول أن يهدئها، شعر بالنقص، أوحت
إليه بأنه منفيٌّ إلى خارجها، توقع أنه لم يعجبها، لكنها قطعت الشك بيقين
اعترافها: "اسمع يا عزيزي، لم أقصد أن.. أعني لقد انفعلتَ بشكل مخيف، هل أنت
بحاجة إلى النوم؟ أعني فلتعذرني، غدا عندي عمل، أراك لاحقا".
هزَّ رأسه، بقي يرمقها وجسده يبرد كلما ابتعدت، ثم أدخل
يده في جيبه يتحسس الليرات المعدنية مخاطبا نفسه: "لقد كان من حقي".
0 التعليقات:
إرسال تعليق