08‏/08‏/2015

رواية لوليتا - قراءة نفسية (3)



دانتي وبياتريس، للرسام الفرنسي أوديلون ريدون.
من الملاحظات السهلة التي يمكن أن تعثروا عليها في بدايات الرواية أن همبرت وحيد، فهو على طول الرواية لا يذكر اسم صديق واحد، وعندما لجأ إلى ذلك الأستاذ في مدرسة بنات بيردسلي، فقد كان يحتاج إلى خدمته كأحد معارفه لا أكثر، وهو على طول الرواية لا يلتقي بقريب واحد، ولا حتى بزميل يحمل له ذكرى طيبة. هذه الملاحظة أساسية وكان يجب أن أوضحها في البداية، لكنني اخترت أن أبدأ بها هذه التدوينة.
الأشخاص ذوو الشخصية الفصامية schizoid personality disorder باردون عاطفيا، ومنفصلون، ومتحفظون، ويفتقدون الإحساس بالفكاهة، ومتجهون نحو أنفسهم introspective، وخياليون. (كتاب أوكسفورد المختصر لعلم النفس السريري، صفحة 135). فأي شك بعد الآن في أن همبرت همبرت شخص فصامي؟ لن نتسرع.
همبرت بلا شك فصامي في كثير من جوانب شخصيته، وأذكر الآن الكثير من سلوكاته التي كان فيها فصاميا، لكنني أتجنب اقتباسها كلها، وإليكم هذا التصريح بالبرود العاطفي: "كانت عادتي في التزام الصمت عندما أكون منزعجا" يقول هذا بعد أن أخفق في محاولة إغراق شارلوت هيز في البحيرة. والأمثلة الكثيرة في الرواية كفيلة بأن تعزز من ثقتي بأن شخصية همبرت لا تخلو من لمحة فصامية، فهو يعيش معظم يومه في تأليف الخيالات والانفعال معها، وهو يتأمل عالمه الداخلي كثيرا ويعنى بتأمل ذاته، وهو انطوائي، وهو متحفظ جدا. لكن دعونا نغص في شخصيته أكثر، فثمة جوانب أخرى ذات أهمية كبيرة.

لقد انتهينا في التدوينة السابقة عندما عاد همبرت إلى دخول المصحة مرة ثانية بعد رحلة القطب الشمالي، وتعرفنا على ملامح العلة التي كان يشكو منها، وأثناء مراجعتي لاقتباساتي من الرواية، وجدته يسخر مرة أخرى من الأطباء النفسيين، ويصف لنا انتشاءه بخداعهم قائلا: "اكتشفت ينبوعا غنيا بالبهجة العارمة يكمن في مخادعتي لعلماء النفس والمكر بهم عن طريق جرهم ببراءة إلى ظنون ونتائج لا علاقة لها بي، فكنت (دون أن أجعلهم يحسون بأنني أعرف أسرار مهنتهم) أخترع لهم الأحلام التي تدل على حالات غير موجودة عندي، وأبتكر لهم رؤى كنت أزعم أنني أراها في يقظتي"، ومن خلال طبيعة خداعه لهم، أي من خلال تزويره للأحلام التي لا تتعلق بمرضه، أظن أن الأطباء الذين اهتموا به كانوا محللين نفسيين فرويديين، ويبدو أنه قد نجح في خداعهم، فبعد أن رشا ممرضة لتطلعه على سجله الطبي، اكتشف أن بعضهم شخصه بالاستعداد للشذوذ الجنسي، بينما شخصه البعض الآخر بـ "العفة الكاملة" كما يصف، ولن يفيدنا موقف الأطباء منه؛ لأنه يتعمد وصفهم بالمغفلين، ولأنه كذب عليهم كثيرا؛ باحثا -ربما- عن اللذة التي يحصل عليها دائما من مخالفة الأصول والأخلاقيات. 
وعموما، فأنا لا أعتقد أن لمرضه الذي أقعده في المصحات أكثر من مرة صلة بلوليتا، لكن من المحتمل أن يكون لعلاقته بلوليتا صلة بنمط شخصياته المعقدة، أقول "شخصياته" وأنا أتذكر الآن أربع شخصيات في عالمه ومتاهته. 
بعد الأربعين صفحة التي درسناها سابقا، أستطيع أن أقتبس من هنا وهناك بعشوائية، معتمدا على تصوركم لشخصية همبرت الذي أظن معالمه اتضحت لكم، فما من داع لتتبع صفحات الرواية واحدة بعد الأخرى...

قلت سابقا إنني رأيته مجنونا بالشك paranoid، وكنت مستندا إلى تصرفاته التي أوحت لي دائما بأنه بارانويٌّ، فهمبرت رجل حساس، وشكاك، وسريع الشعور بالعار والذل، وعديم الثقة في الآخرين، وغير منطقي، وغيور، ومتساهل في مسألة الذنب، ويعتقد أنه مهم جدا برغم إنجازاته العادية. (المرجع نفسه، ص135). وهنا اتجاه في شخصيته إلى جنون الشك paranoia تعززه الكثير من المشاهدات، ولعل أوضحها تخوُّفه الدائم بعد أن أخذ لوليتا من المخيم، وشكه في كل شخص يلتقيه، وتجنبه المبالغ فيه للانخراط في أي علاقات مهما كانت سطحية مع أشخاص قد يفضحون سوء نواياه. 

وإنني أواصل القراءة، وأزداد تشبثا برأيي فيه، فأنا أراه شخصا معاديا للقانون والحدود الأخلاقية، أما ظاهرة الشذوذ الجنسي في حياته، والتي يفترض أن تكون صلب الرواية بالنسبة للجميع، فهي سلوك مدفوع بهذه المعاداة وهذا الرفض للأخلاقيات التي تقيد خيالاته وأفعاله الحقيقية. وأفضل أن تقرؤوا هذا التصريح منه، الذي ذكره بعد سرد تجربة جنسية ناقصة مع لوليتا، حين كانت تأكل تفاحتها وتقرأ شيئا ما مريحةً ساقيها في حضنه وملامسةً جسده ببراءة، يقول: "في تلك اللحظة لم أعد همبرت همبرت الكلب الذليل الذي يلعق القدم التي تركله، فلقد أصبحت فوق مستوى محنة السخرية، وأبعد من متناول يد العقاب"، فهو يتلذذ بهذه الملامسات التي يختلسها من انتباه الطفلة ذات الإثني عشر عاما، لكنه يتلذذ أكثر ببقائه بعيدا عن يد العقاب وقبضة القانون. 

وسأقتبس الآن اقتبساسا أعلق عليه أهمية كبيرة، فهو يوجز وصفي السابق لشخصياته، يكتب همبرت وهو لم يخرج بعد من لذة الملامسات نهار ذلك الخميس السعيد: "وشعرت بالزهو، فلقد سرقت عسل التشنج دون أن أضر بأخلاق القاصرة، فلم يقع على الإطلاق أي ضرر، لقد صببت فيها حسيا كل لواعجي، ولكن دون أن أدنِّسها، وهكذا فقد ظلت لوليتا آمنة، وظللت آمنا، فما امتلكته بجنون لم يكن لوليتا الواقعية إنما كان لوليتا خيالية خلقتها أنا" فهو هنا مضاد للمجتمع، وبارانوي، وفصامي، هكذا بالترتيب. ولتلاحظوا معي كيف يصف نشوته وزهوه بالنيل من طهارة طفلة ولا يلتفت إلى عفتها وطبيعة حياتها الأنثوية، فكأنه يجامع جدارا، أو يلامس إسفنجة! ولتلاحظوا أيضا اهتمامه بمسألة الأمان، ولتلاحظوا أخيرا غرقه في خيالاته إلى هذا الحد.. حتى إنه يخدع نفسه ويظن أن لوليتا التي تلذذ بها هي لوليتا خيالية. ولعل من الجميل أنني حصلت على اقتباس واحد يوضح كل هذه الجوانب الشخصية من حياته، بل إن الأجمل أن هناك جانبا آخر في الاقتباس نفسه، أو شخصية أخرى يتحلى بها همبرت، وسأشرح هذا الآن. 


بالإضافة إلى الثلاث شخصيات التي اتصف بها همبرت بوضوح، هناك ملامح شخصية رابعة تبدو من بعيد، ولقد ذكرها هو أكثر من مرة في مذكراته، لكن ليصف بها الميس هيز، وأحيانا لوليتا، أقصد كلمة "هستيري". من أهم ما يميز الشخص المصاب باضطراب الشخصية الهستيرية histrionic personality disorder هو ميله الشديد إلى الاستعراض والتهويل self-dramatization، وهمبرت أشد ميلا إلى هذا الاستعراض، فلغة سرده للأحداث كلها لا تخلو من ملامح استعراضية، بل إن توجيهه هذه التقارير الشخصية إلى هيئة المحلفين هو بحد ذاته توجيه استعراضي واضح بشدة، والشخص الهستيري يمارس الابتزاز العاطفي emotional blackmail بسهولة، وكذا كان همبرت، ولعلكم تستعيدون الآن صورته وهو يتزوج أم لوليتا ليبقى قريبا من ابنتها محبوبته، أو لعلكم تصورتموه مسافرا بلوليتا المسكينة وموهما إياها بأنه أبٌ حريص عليها. 

وملمح آخر من ملامح همبرت الشخص الهستيري هو أن مشاعره الجنسية محدودة، بل ضيقة، لا تتجاوز إحساسات الشغف والغلمة مع ثلة من الصغيرات بين التاسعة والرابعة عشر، وهو لا يستطيع الوصول إلى الإرجاز (رعشة الجماع orgasm) برغم استعراضه مشاعر العشق والرغبة، وهذا جليٌّ في نهاياته الجنسية الغامضة، أقصد أنه يصف طويلا عشقه ونشوته وتلذذه، لكنه لا يذكر لا بالصراحة ولا بالتعريض أنه وصل إلى مرحلة الإرجاز، فهو وإن قال: ".. بينما كنت أركز على إليتها اليسرى آخر ارتعاشة في أطول نشوة عرفها مخلوق بشري أو وحش إنساني" واصفا موقفا آخر تلذذ فيه بملامسات الصغيرة لوليتا، إلا أن هذه الارتعاشة خيالية، شأنها شأن كل لذاته ومشاعره الغامضة، وهو يصف بدقة المرحلة الجنسية الأخيرة في موضع قبل هذا الموضع، فعندما تشبعت أعصابه بالانتعاش الذي جلبه له قربه من لوليتا، ذكر أنه كان مرتبكا ومتذبذبا لأقصى حد: ".. فلقد تعرت أعصاب اللذة، وبدأت مناطق الإحساس في جسمي تدخل مرحلة الخبل، فكان أقل ضغط يكفي للوصول إلى النهاية الرائعة السماوية"، ولكنه يُحرم دائما من نهايته الرائعة السماوية، أي الإرجاز، فهو يقترب جدا من الانتهاء لكنه لا يحصل عليه، ومن يدري؟ لعله عنِّين impotent لا يستمتع من الجنس إلا بلحظات عابرة تبقى في ذاكرته حينا ثم تخبو!

لن أطيل أكثر في وصف هستيرية همبرت، وسأذكر الجانب الهستيري من الاقتباس السابق الذي جمع لنا ثلاث شخصيات لهذا الرجل، ألا وهو خداعه الواضح لنفسه self-deception، إن همبرت يخدع نفسه، همبرت يفعل هذا بلا حساب، أفرأيتم كيف يعتقد بأن لوليتا التي استمتع بها هي لوليتا خيالية؟ أفرأيتم من قبل كيف يحاول إقناع نفسه بأن من حقه أن يتلذذ بلوليتا وفي الوقت نفسه يزعم أنه أباها الحريص والغيور؟ أفرأيتم كيف يدعي أنه لم يدنس طهر لوليتا وهو فعل هذا بكل وحشية؟ إذن فهمبرت يخدع نفسه، وهو بهذه السلوكات ذو شخصية هستيرية بالإضافة إلى شخصياته الثلاث.

أخلص بعد كل هذا إلى تحليل سريع، وهو أن شخصية همبرت التي وصفها فلاديمير بعناية ودقة، ليست شخصية رجل شاذ جنسيا، ولو كان الشذوذ الجنسي مما يميزها، لكنها شخصية مركبة ومعقدة، أراد فلاديمير أن يستعملها لرسم جزء الإنسان الوحشي الذي يبرز في غياب القانون، أو رغبة الإنسان الدفينة في خرق القواعد والأعراف، وإنني أعترف بأن هذا هو كل ما لدي إلى الآن. وسأستكمل لاحقا بقية التحليل، وسأفسر سلوك همبرت، ودوافعه، بدون الاستطراد إلى سلوك كل من لوليتا أو أمها الميس هيز؛ لسبب وحيد: هو أنني أرى كل الشخصيات الأخرى في الرواية كما يراها همبرت، وهذا لا يساعدني على قراءتها قراءة نفسية واقعية على أقل تقدير. 


07‏/08‏/2015

رواية لوليتا - قراءة نفسية (2)



دانتي وبياتريس، للرسام الإنجليزي هنري هوليدي (1883)
استعرضت في التدوينة السابقة موضوع الرواية وأحداثها الرئيسة، وأردت بهذا الاستعراض الطويل أن أمهد لمحاولة قراءتها قراءة نفسية، وإنني بعد أن قرأت ما كتبت عدة مرات أستطيع أن أبدأ التحليل النفسي لمحور القصة (همبرت همبرت) وأنا مطمئن إلى أن ما ستقرأونه لن يكون غريبا أو معقدا، وعموما فمن شاء أن يقرأ الرواية فهي تستحق القراءة. وإنني على طول هذه التحليل سأعتمد على أمرين: أولهما دقة الترجمة التي بين يدي، والتي أشرت إليها سابقا، وثانيهما تصوري الخاص للأحداث والتفاصيل، وهو تصور قد يختلف عن تصوركم. وسأعتمد على عدة مراجع في علم النفس النظري والسريري، وأهمها كتاب أوكسفورد المختصر لعلم النفس السريري (الطبعة الخامسة).

بعد قراءة الملخص أو الرواية كاملة، لا يستطيع القارئ أن يخفي اقتناعه التام بأن همبرت يعاني شذوذا جنسيا، ولن يبتعد هذا الشذوذ عن إطار البيدوفيليا Pedophilia أو ما يسمى أحيانا "عشق الأطفال" -يترجمها البعض بعشق الغلمان، لكن هذه الترجمة لا تتسع للفتيات الصغيرات- ولأن همبرت يحدد المرحلة العمرية لحورياته المسعورات بين تسع سنوات إلى أربعة عشر سنة، فإن المصطلح الأنسب لهذا النوع من البيدوفيليا هو الهيبيفيليا Hebephilia.
ولكن هل هذا الاقتناع صحيح؟ يمكن أن يكون صحيحا إذا اعتمدنا على التشخيص السريع غير المتأني للحالة، أي إذا نظرنا إلى ولع هذا الكهل همبرت بالطفلات الصغيرات وهوسه الجنسي بهن، ولم ننظر إلى طبيعة حياته في الجوانب الأخرى، ويمكن أن يكون خاطئا إذا اكتشفنا أن هذه الجوانب الأخرى تقترح حالات نفسية وأنماط شخصية مختلفة. ويحق لنا أن نتساءل: هل همبرت عاشق صغار pedophile جوهري؟ أم أن هناك اضطرابات نفسية هي التي تدفعه وتعزز لديه هذه المشاعر غير السوية؟ سنرى.

عندما قرأت الرواية، وجدتني أدون ما أصادفه من ملاحظات تتعلق بعلم النفس، وعندما انتهيت، كانت ثلاث صفحات كاملة تكتظ بالمصطلحات العلمية التي لا أجد علاقة قوية تربطها وتعطيني وصفا محددا لشخصية همبرت، فمن ناحية رأيت أنه مجنون بالشك paranoid (لعل هذا هو تعبير الكاتب الذي ترجمه المترجم بـ "مجنون")، ومن ناحية أراه شخصا عدائيا ومضادا للمجتمع anti-social، ومن ناحية أشك في أنه شخص فُصامي schizoid؛ لذا اضطررت إلى إعادة قراءة الرواية باحثا عن السياقات التي تهمني في دراستي النفسية، ومهملا السياقات الأخرى.

في هذه التدوينة سأعطيكم لمحة عامة وتفصيلا نفسيا لأول أربعين صفحة، أي إلى أن يعود همبرت من رحلة العشرين شهرا في القطب الشمالي...
يبدأ همبرت الحزين اليائس بخطاب رقيق في أول صفحتين، يوجهه إلى حوريته الحبيبة (لوليتا)، وهو خطاب شاعري بحق، لكنني لن أقف كثيرا عند التأملات الأدبية، بل سأقتبس الجزء الذي يتعلق بموضوعنا، وهو الجزء الذي يقول فيه: ".. والواقع أن لوليتا ما كانت خليقة بأن تأتي إلى الحياة لو لم أحب ذات مساء" وهنا يسهل علي أن أعد هذا التعبير مجرد نزوة لغوية لو لم أكن أقرأ ما يكتبه همبرت، لكنني مضطر إلى الاهتمام بهذا التصريح، وبناء عليه سأتهم همبرت بأنه لا يهتم بقيمة حياة الآخرين lacks of concerns for others، وإنني في الحقيقة لا أجازف بهذا الاتهام، فهمبرت أناني جدا ويمكن أن يعرض الآخرين للضرر والألم في صالح سعادته ونشوته، فأنتم ترونه يتزوج فتاة في العشرين (فاليريا) ثم يطلقها؛ لأنها لم تعد حورية مسعورة كما بدت له أول مرة، وترونه يتزوج من (الميس هيز) ليبقى قريبا من ابنتها، ويحرم (لوليتا) من حريتها في اختيار الأصدقاء لتبقى له وحده، فكل هذه الأفعال تقودني إلى هذا الاتهام، وهو على كل حال لا يفيدنا كثيرا ولا يعني لنا أي تشخيص، لكنه مهم كبداية. 

بيئة همبرت الأولى غامضة نوعا ما، ولا أدري أألقي اللوم على همبرت أم على فلاديمير نفسه، فأنتم لا تكادون تحصلون على تصوير واضح للبيئة التي عاش فيها الطفل همبرت، وأقصد هنا البيئة النفسية التي تتمثل في الأحداث، والمشاعر وتأثيرها في نفس الإنسان، ودورها في تشكيل شخصيته. فالأم ماتت عندما كان همبرت في الثالثة، وعلاقته بأبيه جيدة وغير عدائية، وليس له أية إخوة أو أبناء أقارب يمكن أن نتبين منهم طبيعة الأجواء التي عاش فيها، لكن هناك شخصين أزعم أنهما أثرا فيه تأثيرا قويا، وهما خالته (سيبيل) ورفيقه الأمريكي المجهول. فأما خالته التي تولت رعايته بعد وفاة أمه فكانت طيبة برغم تزمُّتها، يصف هذا بقوله: ".. والواقع أنني أغرمت بهذه الأم الجديدة على الرغم من تعسف بعض القواعد التي وضعتها لحياتنا في البيت، ولعلها تعدني للحياة كأرمل أفضل من أبي المترمل" ولا يزيد شيئا، وبالنظر إلى شُح الوصف الواضح لبيئة همبرت، لا أجد مفرا من التمسك بهذا الاعتراف، وأعلق عليه أحداثا كثيرة حصلت بعد زمن طويل، فالخالة سيبيل إذن هي الناضجة الحنونة، ولكنها في الوقت نفسه المتزِّمتة التي تضع القواعد والحدود، فهل ربط همبرت هنا بين المرأة الناضجة والقانون الذي يحد من حركته؟ أم هل رأى فيها تجسيدا للقوانين الوضعية التي بقي طول حياته معارضا لها؟ لن يخلو الأمر من أحد الافتراضين، ولكنني أرى أن همبرت إلى الآن هو مزيج من كرهه لتزمُّت خالته، وحاجته إليها، وهذا يفسر اضطرابه الذي يعبر عنه لاحقا بدقة: ".. وهكذا فلم تكن المخلوقات النسائية اللواتي كنت أسمح لنفسي بمقاربتهن أكثر من وسائل ووسائط مسكنة ملطفة... لقد كان عالمي منفصما على ذاته، فقد كنت أحس بوجود جنسين من النساء، وأحس ببعدي عنهما معا، فأحدهما لا أتجانس معه، وثانيهما لا تسمح الأعراف الخلقية والمدنية والاجتماعية بأن أقضي منه وطري. لقد أدركت هذه الحقيقة الآن" فهو كما قرأتم ورأيتم لا يستطيع الفكاك من هذه الحيرة، يرى في النساء الكبيرات (أمثال خالته) وسيلة يضطر إليها اضطرارا، ويشكو من الكبت الذي يمارسه عليه القانون الخارجي، وسنعرف هذا النوع من الكبت بعد قليل. 


وأما رفيقه الأمريكي فيذكره في المقدمة ويصف ما كانا يفعلانه من الحديث عن المغامرات الغرامية ومشاهدة الصور الإباحية، وهذه المعلومة غير ذات أهمية، فالكثير من الأطفال الموشكين على البلوغ يمرون بتجارب من هذا النوع ولا يصبحون فيما بعد شاذين كهمبرت. 


فهذه هي بيئة همبرت الأولى، التي لا نستطيع أن نكتشف فيها أكثر مما اكتشفنا، بالإضافة إلى علاقته بالطفلة (آنابيل)، وهي العلاقة التي يعترف بأنها أثرت فيه أقوى تأثير، ولأتجنب الإطالة، لن أعيد تفصيل علاقته بآنابيل إذ فرغت من هذا في التدوينة السابقة، لكنني سأقتبس عدة اقتباسات ألمس فيها صلة بموضوعنا. يذكر همبرت أن آنابيل كانت تحلم بأن تكون "ممرضة"، وأنه كان بعكسها يحلم بأن يكون ".. جاسوسا مرموقا مشهورا". وإذا عدنا إلى تصريح له بتزمُّت أهله وأهل آنابيل في مراقبتهما، نجده يقول: "كنا تحت رقابة صارمة فلا يسمح لنا بالابتعاد معا عن مرمى ومسمع أهلنا"، وبعد كل هذا، لا يخامرني أي شك في كره همبرت للعادات والتقاليد والقوانين، وهذا يجعله شخصية معادية للمجتمع anti-social كما ذكرت، فهذا التشديد الاجتماعي الذي مارسته عليه أول مرة خالته سيبيل، ثم أهل آنابيل، هو الذي فرض عليه أن يتحيَّن الفرص لمعانقة آنابيل، ويحلم بأن يكون جاسوسا. 
هذه الرغبة تهم كثيرا، فهي تفسر لنا الكبت الذي كان يعيشه، وتفسر لنا سلوكه الشاذ فيما بعد، فهو يقرأ كتبه بالقرب تجمعات الأطفال؛ ليحظى برؤية حورياته، وهو يتعمد ركوب المواصلات المزدحمة؛ ليستمتع برؤية وملامسة من تصادفه من القاصرات، وهذه أحيانا تكون سلوكات طبيعية، لكنها في حالة همبرت تعني اضطرابا في التفضيل الجنسي sexual preference، وخصوصا اضطراب التلصص Voyeurism والاحتكاكية Frotteurism، وأفترض -بما أنني في معرض الحديث عن اضطرابات التفضيل الجنسي- أن همبرت عانى أيضا اضطراب الفيتيشية Fetishism، فهو يفضل دائما في حورياته الأعضاء البعيدة عن العملية الطبيعية للجنس، فيفضل السيقان البضَّة، والشعر، بل ستقرأون في منتصف الرواية -تقريبا- أنه يتسلل إلى غرفة لوليتا ويشم ملابسها بعمق بعد أن خرجت إلى المخيم. كل هذه السلوكات غير الطبيعية واضحة في الرواية، وتفسر -التبصبص والاحتكاكية- محاولة همبرت للإفلات من قيود المجتمع والتنفيس عن الكبت الذي يعيشه، وقد يكون من الجيد أن نشفع كل هذا باقتباس من الرواية، عندما يقول: "ما أحيلى تلك اللحظات، لحظات كنت أطل فيها من نافذتي فأرى واحدة من تلك الصغيرات تتعرى أمام مرآتها وتراقب وتدرس جسدها بفضول... وما أحيلى تلك الملامسات المبهورة التي كانت تتاح لي في عربات الترام...". 

لكن الدارس النفسي للرواية يفاجأ بقوة الاستبصار insight لدى همبرت، وأعني بالاستبصار قدرته على معرفة ما به من أمراض، فهو يصف نفسه بالشاذ، والسوداوي، والمجنون بالشك، بل ربما شخص حالته بأنها امتداد لقصته مع آنابيل، فهو يقول بكل موضوعية: "ولكنه يقنعني في النهاية بأن قضيتي مع لوليتا قد بدأت بآنابيل بطريقة سحرية مشؤومة"، ويقول: "إنني أعرف كذلك أن الصدمة التي سببتها لي وفاة آنابيل قد عززت التشتت النفسي الذي أصابني ذلك الصيف المشؤوم المفعم بالكبت وجعل من ذلك التشتت عقبة دائمة في طريق أي غرام صادفته في سنوات شبابي الباردة"، ثم يقول: "لقد ظلت ذكرى هذه الجلسة تحت خميلة الميموزا تلاحقني كاللعنة، ظللت دائما أشعر بشبح تلك الفتاة الصغيرة بأطرافها النحيلة ولسانها الدافئ وهو يلاصقني، ولم أستطع فك هذا السحر عني إلا بعد أربعة وعشرين عاما يوم أعدت إلى الحياة آنابيل في جسد لوليتا وشخصها"، وهذا تحليل نفسي فرويدي دقيق، ولا أظن أن الفرويديين سيقولون غير ما قاله همبرت عن نفسه، فهو يتحداهم ويسخر منهم، فيقول فيما بعد متلذذا برؤية الطب النفسي عاجزا عن معالجته أن المحللين النفسيين ربما سيشيرون عليه بأن يواقع لوليتا في ظل الصخور على شاطئ ما، يقصد ما يقترحه المحللون النفسيون دائما لفك العقدة decomplexation، فهم ربما يظنون أن حالة همبرت هي بسبب رغبته التي لم تكتمل عندما كاد يتمكن من آنابيل لولا ظهور الرجلين الذين قطعا عليه لذته. 

لذا نرى البعض قد وصف الرواية بأنها تهكُّمية، أراد فلاديمير فيها أن يسخر من منهج التحليل النفسي الفرويدي الذي كان يسيطر في تلك الحقبة على الأمريكيين وغيرهم، لكنني أرى أن فلاديمير أعمق من هذا، وأنه يستعرض حالة نفسية متكاملة ويصفها بكل دقة وشاعرية. 

لقد ذكرت أنني سأذكر نوع الكبت الذي مارسه المجتمع على همبرت، وهو كبت ناتج عن صرامة القوانين التي تعاقب الشاذين أمثاله بالسجن، هذه الصرامة التي ظل يحاربها حتى النهاية، فما تكون نهاية الرواية التي يبدو فيها همبرت منتشيا بقيادة السيارة في الاتجاه غير القانوني إلا حلا لأزمته مع هذا الكبت؟ إنه يشكو واصفا الحضارة التي يرزح تحت قسوتها ويمتعض قائلا: "حضارة تسمح لرجل في الخامسة والعشرين أن يغازل فتاة في السادسة عشرة من عمرها ولكنها لا تسمح له بمغازلة فتاة في الثانية عشرة من عمرها". 


وإذا عدنا إلى رأينا نحن في همبرت، لا رأيه هو، نجده كما قلنا أنانيا عديم الشفقة callous لا يعطي أهمية لعذاب الآخرين وحياتهم عندما يريد أن يسعد ويرتاح، ويصور فلاديمير هذه القسوة تصويرا بديعا عندما يصف بدقة قصة طلاقه من (فاليريا)، وكيف أنه لم يأبه بشيء، كأنما كل ما فيه من غيرة وأخلاق ورجولة قد ذاب وتلاشى. 


بعد الطلاق يسافر إلى أمريكا كما ذكرنا، والأحداث من سفره إلى أمريكا حتى عودته من القطب الشمالي لا تتعلق بموضوعنا إلا في موقف واحد، وهو دخوله إلى المصحة النفسية لسبب مجهول مرتين، ولكنني عثرت بعد محاولات على تصريح يبدو نافعا في هذا السياق، وهو قوله واصفا ألمه: "... شعور بالسويداء مشفوع بشعور كان يوحي لي بأنني مضطهد"، وربما كانت هذه هي كل حالاته التي ذهب بسببها إلى المصحات، الاضطهاد أو جنون الشك Paranoia والسويداء (لا أدري ما يقصد المترجم بهذه الكلمة، ولكنني أتوقع أنه قصد السوداوية أو الاكتئاب Depression وهو توقع قريب ومحتمل). 


06‏/08‏/2015

رواية لوليتا - قراءة نفسية (1)



اللقاء الأول لدانتي وبياتريس، للرسام الإيطالي رفايللي جيانيتي.

"أليست هي لي، كما كانت بياتريس للشاعر دانتي؟". يقول همبرت همبرت مزهوا بامتلاكه لحبيبته لوليتا، مستلهما قصة الحب القوي بين الشاعر الإيطالي دانتي ومحبوبته بياتريس، ومدركا التشابه الجميل بينها وبين قصة حبه.
إنها من الروايات المثيرة للجدل، وهذا ما تفعله الروايات الجريئة التي تسحرك بروعتها لكنها تخجلك بإباحيتها، بعضهم وصفها بأنها من جنس رواية جيمس جويس الشهيرة "عوليس Ulysses"، أما بعضهم (جوان راي الابن الذي قدَّم للرواية) فرأى فيها عملا هادفا ويدعو إلى الأخلاقية، بل إن بعضهم ادعى أنها مأخوذة عن قصة أخرى نُشرت قبلها بعقود!
في 1955، نُشرت رواية "لوليتا" لكاتبها الروسي فلاديمير نابوكوف في باريس، فلم تلبث أن منعت لسنوات، ثم انتشرت بسبب جدل النقاد حولها، حتى صارت كتاب جيب يحتفظ به قراء الإنجليزية، وحتى ضُمَّت إلى قائمة التايمز لأفضل 100 رواية إنجليزية بين عامي 1923 و 2005.
كاتب الرواية هو الأديب الروسي فلاديمير نابوكوف، المولود في سانت بطرسبرغ عام 1899 لعائلة روسية عريقة وثرية، ولم يكد يبلغ الثامنة والعشرين حتى غرقت روسيا في ثورة فبراير 1917 ثم الثورة البلشفية في أوكتوبر، وبعدها هربت العائلة، وتنقلت بين المدن حتى استقرت في برلين عام 1920، بينما التحق فلاديمير بجامعة كامبريدج ودرس فيها الآداب والعلوم، ثم لحق بعائلته في برلين عام 1922. في هذه الفترة اغتيل والده، فتفرغ للأدب، وعُرف في برلين شاعرا وكاتبا باسمه الأدبي "ن. سيرين"، وما هي إلا ثلاث سنوات حتى نشر عمله الروائي الأول "ماشينكا"، ثم بدأ ينشر العمل تلو الآخر، وينتقل من بلدة إلى أخرى، إلى أن استقر في منهاتن بأمريكا، وهناك تطوَّع للعمل في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي كعالم حشرات.
حياة فلاديمير المضطربة والثقافية في الوقت نفسه أثرت في كتاباته، فقد تلقى تعليما جيدا، وأتقن الروسية والإنجليزية والفرنسية وهو في سن مبكرة، أما الظروف السياسية آنذاك فهي تنعكس بكل قوة في أعماله الأدبية، ونخص هنا رواية "لوليتا"، وهذا الرأي الأخير خاص بأستاذة الأدب الإنجليزي الإيرانية آذر نفيسي التي اتخذت من أدب نابوكوف مُلهما ومرشدا لها بعد أن استقالت من جامعة طهران، فألَّفت كتاب "أن تقرأ لوليتا في طهران"، منتقدة فيه الوضع السياسي الإسلامي الشمولي في بلدها، ومتمسِّكة هي ورهط من تلميذاتها بروح الأدب القادر على التغيير. 


ترجمة دار أسامة
ما هي "لوليتا"؟ ولم أثارت كل هذا الضجيج الذي لم يهدأ إلى الآن؟ وكيف يمكن أن أكتب عنها فآتي بجديد والمواقع تطفح بمقالات الناقدين والدارسين النفسيين؟ إنها بلا شك تستحق كل هذا الاهتمام؛ ولن أطيل أكثر في التمهيد... 

يروي الرواية همبرت همبرت "يرمز لاسمه أحيانا بـ هـ. هـ" وهو أستاذ أدب سويسريٌّ في أواخر الأربعين يقع في حب طفلة في الثانية عشرة، هي "دولوريس" التي يدعوها بـ "لوليتا". يكتب قصته الحزينة الطويلة موجِّها كلامه إلى هيئة المحلفين، موحيا إليك بأنه ينتظر نطق المحكمة بعقابه الذي يستحق، وطامعا في أن ينقذ روحه من الهلاك، بعد أن أيقن من أنه مسجون أو ميت لا محالة.
تبدأ الأحداث بالفتى (همبرت) يعيش مع أب ميسور الحال يملك فندقا على الريفيرا، وتهتم بأمره خالته (سيبيل) بعد أن ماتت أمه وهو في الثالثة من عمره. كبقية الأطفال، يدخل همبرت المدرسة ويقضي وقتا طويلا في الدراسة، ويرافق أباه في الرحلة والأخرى، ويسمع من الناس أن أباه استغل خالته سيبيل التي قيل إنها أحبته، وأن له عشيقات كثيرات، لكنه يجلُّه ويحترمه؛ لأنه لا يهمله، ولأنه يصطحبه ويقرأ له القصص. 
وبسرعة، يقفز الكهل (همبرت) الذي يروي القصة بلسان الرجل الكبير الذي عرف الحياة ما يكفي من الزمن، فينتقل إلى ذكرى حبه الأول (آنابيل) التي تصغره بأشهر قليلة، ولكنه لا يذكره في سياق الحب، بل في سياق استرجاع ممارساته الجنسية، التي كانت آنابيل هي موضوعها، فيقول إنه لم يعرف تجربة جنسية قبل عامه الثالث عشر.
آنابيل هي فتاة ساحرة، كان أبواها صديقين لأبوي همبرت، وفي ظروف غامضة، وقع في حبها ووقعت في حبه، فراحا يجربان لوعة الحب في قلبيهما طفلين لم يعرفا للإثم إيقاعا في حياتهما. ولماذا الإثم؟ لأن همبرت وآنابيل سرعان ما جربا ما يجربه البالغون من اللذة المادية، فاختبآ كل مرة عن أعين العائلتين الحريصتين، ومارسا في خلوتهما بعض الحركات  والملامسات البريئة التي صارت عملية جنسية -أو كادت تصير- في يوم من الأيام، ففي ذلك النهار بالقرب من الشاطئ وفي ظل الصخور بعد عناق طويل، أوشك همبرت أن يواقع آنابيل لولا خروج رجلين فجأة من الشاطئ.
لا يطول هذا الاستذكار المُر لآنابيل؛ لأنها ماتت بعد ذلك اللقاء، وتركت وراءها عُقدة في حياة همبرت، ورغبة لم تكتمل.

يكبر همبرت، ثم يصير أستاذا للأدب الفرنسي، ويبدأ في تأليف كتاب، لكن هذه الأحداث المهنية ليست مهمة، فهمبرت برغم كبره ومكانته التي آل إليها، لم يزل طفلا قبل سن البلوغ يطارد فاتنته آنابيل ويتذوقها، فينخرط أستاذ الأدب هذا في حياة جنسية شاذة، فهو يفضِّل الفتيات الصغيرات بين التاسعة والرابعة عشر، ويطلق عليهن "الحوريات المسعورات Nymphet"، ولا يستمتع إلا بهن، فيبدأ بالبحث عنهن في كل مكان، فتارة يقرأ كتابا بجوار حدائق الأطفال، وتارة يقصد بيوت الدعارة باحثا عن حورية مسعورة تخفف آلام آنابيل الكامنة في ذاكرته.
وبعد الكثير من المحاولات واللقاءات غير الممتعة مع فتيات يبدو عليهن البله والترهُّل، يقضي وقتا ممتعا مع (مونيك) ذات الستة عشر عاما، ثم يقرر أن يتزوج بدافع "التسوية الجنسية" من فاليريا التي تتصف بصفات الحوريات المسعورات برغم كبرها. ينتهي هذا الزواج الفاشل بعد أربعة أعوام؛ لأن حقيقة فاليريا الناضجة انكشفت، وأنتم تعلمون أن همبرت يتقزز من الناضجات، ولا يستمتع إلا بالصغيرات في المرحلة العمرية من 9 سنوات إلى 14 سنة! وستقرأ عجبا في هذه الصفحات الأولى، ستكره هذا الأستاذ الشاذ، وتشعر بالقرف يجري في دمك وأنت تعيش معه الذكريات التي يستمتع بروايتها وترفضها أنت، يتقبلها وتعترض عليها أنت، وتكون موقفك العدائي له، وربما لن تغير هذا الموقف حتى النهاية.

يسافر همبرت إلى أمريكا بعد وفاة عمه الثري الذي ترك له ثروة واشترط عليه أن يهتم بتجارة العطور، وفي أمريكا يدخل مصحة نفسية لسبب مجهول، فهو لا يذكر الحالة التي ألقت به في المصحة طيلة سنة كاملة، ثم يسافر في بعثة غامضة إلى القطب الشمالي لغرض النقاهة ولدراسة التأثيرات النفسية، ويبقى عشرين شهرا في هذه البيئة، ولا يجد في فتيات الإسكيمو مثالا لآنابيل فاتنته الأولى، ثم يعود إلى أمريكا، ويدخل المصحة للمرة الثانية لسبب مجهول أيضا، مستمتعا بالرعاية الطبية، والكذب على الأطباء.
بعد الخروج من المصحة، يسافر إلى بلدة صغيرة تدعى "رامسديل" قاصدا بيت ابن عمه (ماك كو) الذي سمع بأن لديه ابنة في الثانية عشرة من عمرها، هنا ستتوقع أن ابنة ماك كو هذه هي لوليتا، لكنك ستخطئ، فبعد وصوله إلى البلدة يكون بيت ماك كو قد احترق صدفة، فيقيم مؤقتا في بيت صديقة لعائلة ابن عمه تدعى (الميس شارلوت هيز). يتردد في البداية، ويبقى في بيتها السيء بدافع المجاملة الأوروبية، لكنه يقرر فيما بعد أن يقيم في هذا المنزل كل عمره، فلشارلوت هيز حورية مسعورة ذات اثني عشر عاما هي (دولوريس أو لوليتا).

ينتهز هذا الأستاذ الشاذ كرم الميس هيز ومحاولاتها لإثارته، ويبدأ بالتفكير الهوَسي الدائم في ابنتها لوليتا، فهو يراقبها في المسبح، وفي غرفتها، وفي المطبخ، ويقدم لها الخدمات والدروس الخصوصية، ويتقرب منها يوما بعد يوم، متلذذا بهذا القرب، ومستذكرا حبه القديم ورغبته التي لم تكتمل مع آنابيل. وتمر الأيام، وترسل الأم ابنتها إلى مخيم للطالبات، وتبقى مع همبرت الذي لا يعطي وجودها أية أهمية؛ لأنها ليست حورية مسعورة! فيجد بعد أيام رسالة من صاحبة البيت تطلب منه فيها أن يغادر البيت أو يتزوجها، فلا يملك إلا أن يتزوجها؛ ليبقى قريبا من حبيبته لوليتا، وهو بزواجه منها لا يتخلى عن خيالاته الشاذة، فيرى فيها "لوليتا كبيرة"، ولكنه يسأم منها بعد حين ويخطط للتخلص منها؛ ليتفرد بصغيرته الحبيبة.
تتولى الأقدار تلبية رغبته في موت الميس هيز، فتموت في حادث سير بينما تعبر الطريق لتضع عدة رسائل في صندوق البريد، فيسعد همبرت، وينطلق بسرعة إلى المخيم للهروب بلوليتا. يكذب عليها في البدء ويزعم أن أمها مريضة ونائمة في أحد المستشفيات، ويستمتع بالتنقل معها من فندق إلى فندق، ويضع لها الحبوب المنومة في الشراب ويغتصبها، ويغدق عليها بكرم، حتى يصارحها بحقيقة موت أمها، ويقنعها بأن تبقى معه بصفته أبا حريصا عليها، وبصفتها ربيبة له... وهنا ينهتي الجزء الأول من الرواية.

الجزء الثاني يصور همبرت وحوريته لوليتا مسافرين بين الولايات الأمريكية، ينامان بحذر في الفنادق المغمورة والكابينات الرخيصة، ويفتعلان المشاكل ثم يتصالحان مضطرين، هو محتاج إلى حبها، وهي محتاجة إلى رعايته وماله. بعدها يستقران لبعض الوقت في مدينة "بيردسلي"، وتدخل لوليتا مدرسة خاصة بالبنات، ويبدأ همبرت بمراقبتها بحرص، ويغار عليها غيرة مرضية، فيمنعها من مرافقة الشباب، ويحرمها من الكثير من رغباتها؛ لأنه يخاف أن يفقدها كما فقد آنابيل من قبل. وفي هذه الأيام، تشير ناظرة المدرسة على همبرت بالسماح لابنته بتمثيل دور في مسرحية للكاتب (كلير كويلتي - كانت شارلوت هيز تعرفه في الماضي) الذي يُعجب بأداء لوليتا جدا، ولكن الأمور لا تستقر، فالمشاكل تستمر بين همبرت الذي يمثل الأب الشكَّاك العنيد الأناني، ولوليتا الفتاة السوقية المشاغبة التي تريد أن تعيش حياتها كباقي الفتيات، ثم ينتهيان إلى حل تجده لوليتا، وهو أن تتخلى عن دورها في المسرحية، وتترك المدرسة، وتواصل الترحال مع همبرت إلى الشرق الأمريكي.

أثناء ترحالهما المحموم، يشعر همبرت بأنهما مُطارَدين، وأن للوليتا يد في هذه المطاردة، فيحرص على الاحتفاظ بها، ولا يتركها تغيب عن عينيه لحظة، ولكنها تستغل أحيانا طاعته وحبه العميق لها فتفلت من مراقبته، وتهاتف شخصا يشك همبرت في إخلاصه لها. وفجأة، تمرض لوليتا، ويمنع همبرت من مرافقتها، فينام في فندق قريب من المستشفى، وعندما يعلم بأنها شُفيت، يكون هو قد مرض مرضا يجعله يلازم الفراش، وعندما يذهب لإخراجها من المستشفى، تكون قد هربت من شخص غامض، واختفت من عالمه.
يغضب همبرت ويبدأ البحث عنهما في كل الأمكنة، ولكنه يفشل. 
تغيب لوليتا لثلاثة أعوام، وفي هذه الفترة، يتعرف همبرت إلى حورية مسعورة أخرى هي (ريتا)، فيتمتع بها، وتساعده هي في البحث عن لوليتا بعد أن تعلم بأنه ينوي الانتقام منها...
وبعد أن ييأس، تهاتفه لوليتا وتخبره بأنها تزوجت، وصارت حبلى، وتطلب منه أن يساعدها وزوجها المهندس (ديك) ببعض المال. يترك ريتا، ويسرع إلى بيت لوليتا، يعطيها مبلغا كبيرا، ويتوسل إليها أن تخبره باسم الرجل الذي اختطفها من المستشفى، نعم، لقد كان كاتب المسرحية (كلير كويلتي) الذي أعجب بأدائها فهرب بها لتشارك في تصوير مسرحياته الإباحية، لكنها ترفض فيتخلى عنها، فتبحث عن عمل في أحد المطاعم، وتتعرف إلى ديك زوجها.

يودع همبرت لوليتا، ويتحسس مسدسه المخبأ في جيبه، ثم يذهب إلى بيت كويلتي ويقتله، ويخرج منتشيا بانتصاره، فيركب سيارته ويقود مخالفا خط السير القانوني، وهنا يُقبض عليه، وتنتهي الرواية. 

إنني أعلم أنني أطلت، ولكنني مضطر إلى هذه الإطالة التي تشوِّه الرواية بلا شك، والتي حاولت أن أوجز فيها ما استطعت، فلم أصف روعة التفاصيل الصغيرة التي أبدع فلاديمير في بعضها سردها، ولم أنقل اقتباساتي المفضلة خشية الإطالة. الآن، ليس من شأني أن أقرأ الرواية قراءة أدبية، فالمواقع والمنتديات لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا ذكرتها، لكنني مهدت كل هذا التمهيد لأعطيكم صورة واضحة لأحداث الرواية تعينكم على فهم قراءتي النفسية المتواضعة لها. 


04‏/08‏/2015

الحب والوقت




"الحب يضيع الوقت، الوقت يضيع الحب"، ألمس نوعا من القرابة بين هذا المثل السائر واللوحة في الأعلى للرسام الروسي Andrey Remnev، لست ماهرا في قراءة اللوحات الفنية، ولكنني أستطيع أن أشعر بهذه الوحدة بين المشهد المصوَّر والمثل، وسواء كان المثل فرنسيا، أو للمسرحي اليوناني يوربيديس، أو من الأمثال التي لا يعرف أصلها بسبب شهرتها الواسعة، فهو يتناول مشكلة قديمة من مشكلات الإنسان؛ الحب والوقت. فالإنسان أدرك هذه المشكلة بلا شك في البداية، عندما كان يدرك وجوده في مجتمع صغير، ويكوِّن علاقاته، ويحاول أن يفهم طبيعتها وكيف تبدأ ولِمَ تنتهي، وهو لم يزل محاوِلا وسيظل على حاله لا يهتدي إلا إلى أطراف تفسيرات وحلول ليست كافية لتغيير الواقع الذي لا بد منه؛ والسبب ربما يعود إلى فهمه للحب كشعور مجرَّد لا يمكن إسقاطه على معنى محدد، فقد رأى أن هذا الشعور هو دافع الحياة، وسبب السعادة، وغايته التي لا تعدلها غاية، فراح يصنع له القصائد والقصص والأساطير والأغاني الشعبية والآلهة، وراح يعطيه المعاني والفلسفات، وراح يمجِّده ويعلق عليه كل آماله، لكنه استنتج أنه أخطأ، وبعد وقت طويل جدا استنتج هذا. 

فما الحب إذن؟ هل هو حقا شعور مقدَّس وغامض يسيِّرنا ويتحكم بنا؟ أم هو حالة نفسية مؤقتة؟ أم هو انفعالات مادية؟ أم مجرد حيلة تطوُّرية للجمع بين الجنسين للغاية الوحيدة من وجودهما؛ البقاء؟ 
كما ترون، لو شئنا أن نناقش كل هذا سنحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت، ونحن -تقريبا- في غنى عن نقاش كهذا، فالناس على مذاهبهم لم يتركوا فيه صغيرة ولا كبيرة، فكتبوا فيه الأدب، وقدموا فيه البحوث العلمية، مع أنهم لم يستكملوا معاناتهم الأولى البدائية، ولم يتخلصوا من صراع الحب والوقت فيهم. 

الأخوان رحباني من الفنانين العرب الذين اهتموا بهذا الصراع في أعمالهم الموسيقية، وتتبعوه في كل حالاته، فمرة يعود أحد المحبين متذكرا حبه القديم يتساءل: "كيفك انت؟"، ومرة تشتاق المحبَّة البعيدة عن حبيبها المسافر فتطمئنه بأنها على عهدها معه محافظة على حبه ووفية له بقولها: "يا قلبي لا تتعب قلبك"، ومرة يمل أحدهما من الآخر فيتعجب: "مش كاين هيك تكون"، ومرة تنقطع أخبار أحدهما فيبدأ الآخر بالظن والتفكير اليائس المتشائم: "يا ترى نسينا". فهما مهتمان بتجسيد هذا الصراع في مسرحهم وفي ألحانهم؛ لأنه صراع لا يخلو منه مجتمع، ولا تبرأ منه قصة حب مهما كانت، لأن من طبيعة الأشياء أنها تتغير وتخضع لسلطان الزمان والمكان، ومن طبيعة الإنسان أنه يتفاعل مع الوقت مشتاقا حينا، ومتألما حينا آخر. واهتمام الأخوين رحباني بمشكلة الحب والوقت تكاد تلمسه في معظم أعمالهم، لكنني ذكرت هذه الأمثلة الأربعة لعلاقتها بالمشكلة من حيث أريد أن أناقشها، هذه العلاقة التي يشرحها المثل، وربما لا تقصِّر اللوحة في شرحها. وفي الحقيقة، تعمدت ذكر هذه الأمثلة بالتحديد لأنها تمثل استجابات الإنسان المختلفة التي تصل إلى قمة التفاؤل في أغنية "يا قلبي لا تتعب قلبك"، وإلى قمة اليأس في أغنية "يا ترى نسينا"، وتتراوح بين الرغبة في التغيير والخوف منه في أغنية "مش كاين هيك تكون"، وتحاول أن تحل المشكلة بالعودة والسؤال بغض النظر عن التفاصيل التي تغيرت في أغنية "كيفك انت؟". 
هكذا استجاب الإنسان لعامل الزمن في حياته العاطفية، فاخترع الهدايا، وطور الملابس والعطور، وصنع المجوهرات، وكتب الرسائل والذكريات، وسمى المباني والمدن والأشياء الأخرى باسم أحبابه... كل هذا ليبقى خالدا فيهم، ويبقوا خالدين فيه، ولينجوا جميعا من بطش الزمان والمكان. 



"حبو بعضن" أغنية أخرى لحنها زياد رحباني لأمه السيدة فيروز، وهي الأغنية التي لا تحاول أن تقدم حلولا، ولا أن تصف مشاعر، بل تريد أن تحاكم الوقت مباشرة بمطلعها الرائع "بيقولوا الحب بيقتل الوقت، بيقولوا الوقت بيقتل الحب". إذن فنحن أمام القضية الفلسفية كما هي، في سياق قصة حب يبدو أنها انتهت بالمأساة، وكان الوقت هو الشبح الملازم لها، فالقصة بدأت "تحت الشتي، بأول شتي حبوا بعضن"، والقصة انتهت "بتاني شتي، تحت الشتي تركوا بعضن"، هذا كل شيء، يبدأ الحب في جو ممطر، فيكون المطر رمزا للحياة والري والخضرة والإثمار، ثم ينتهي في المطر التالي، فيكون المطر نذير شؤم وخوف وفراق طويل... والمدة بين المطر الأول والذي بعده قد تطول أو تقصر، لكن سلطان الوقت بلا شك هو المسؤول.

الأغنية قصيرة جدا، وبسيطة، فهي لا تزيد على خمسة مقاطع توضح كل المشكلة، ثم تنتهي كما بدأت. وإذا شئنا أن نستطرد قليلا في العجب من روعة الأداء الموسيقي ومحاكاته للمشاعر التي يمكن أن يثيرها هذا المثل المجهول الغامض، فالسيدة تبدأ بنبرة صوت منكرة معترضة "بيقولوا الحب بيقتل الوقت..." وكأنها ليست هي التي تقول، وكأن الذين يقولون هذا أخطؤوا، لكنها تذكره لسبب مجهول، أو ربما لتحاول حل المشكلة، ثم ترفع صوتها فتحس أنت بأنها وجدت الحل، واكتشفت الوسيلة التي ستخلصها وحبيبها من هذا القدر أو المصير أو القانون الذي لا يسلم منه أحد "يا حبيبي، تعا تا نروح قبل الوقت وقبل الحب"، وهي بهذا لا تقدم شيئا جديدا، فهي تثبت له أنها فشلت إلى هذا الحد، كيف لا؟ وهي تقول "يا حبيبي" ثم تقول "قبل الحب"، وهي تقول "قبل" الوقت".. فنداؤها هو الحب الذي تريد أن تهرب منه، و"قبل" هو الوقت الذي لم يزل يطاردها حتى في كلامها. 

وإذا عدنا إلى سبب كل هذه التراجيديا، فإن سببها عادي ولا تكاد تخلو منه علاقة عاطفية، بل يجب ألا تخلو منه علاقة عاطفية، فكل ما في الأمر أن الحبيبين افترقا لأسباب كثيرة، هي بالتحديد "كلمة زغيرة" أنهت كل شيء، لكننا لم نعرف بعدُ كم هي المدة بين البداية والنهاية، أو بين "الشتي" الأول و "الشتي" الثاني. هل هي طويلة أم قصيرة؟ والواضح أنها طويلة وكثيرة الأحداث، فهي تصف له يأسها وحزنها على حبهما الكبير كيف انتهى بكلمة صغيرة تافهة "ما زالا قصص كبيرة، وليالي سهر وغيرة، تخلص بكلمة زغيرة"، فهي قصص وليست قصة واحدة، وهي ليال وليست ليلة أو ليلتين، لكن كلمة واحدة أوقفت هذا الاشتعال وأطفأته. فما تكون هذه الكلمة؟

لا تشرح لنا الأغنية ما هي هذه الكلمة، أو ما يجب أن تكون هذه الكلمة، فهي لا تقدم غير هذه الخمسة مقاطع، وتبدأها وتنهيها باستنكار "بيقولوا الحب..." واقتراح "يا حبيبي..."، ولكن يسهل استنتاج ماهية هذه الكلمة، فما دامت صغيرة فهي يجب أن تكون قوية بما يكفي لتنهي حبا عاش قصصا كثيرة وليال طويلة، يمكن أن تكون كلمة من هذه الكلمات التي نسمعها في نهايات الأفلام، أو في حوارات القصص والروايات، كلمة مبهمة تُفسَّر خطأ، ويبدو أن قائل هذه الكلمة هو الطرف الذكوري من القصة، فهو غائب بلا ملامح ولا تفاصيل، لكنه حاضر بكلمته الصغيرة التي أنهت كل شيء. 
على كل حال، لا يهم أن نعرف ما هي هذه الكلمة بالتحديد، والأكثر أهمية هو أن نلمس هذه القدرة الفنية على لمس موضوع اجتماعي فلسفي بكل هذه البساطة وكل هذا الإيجاز!

المشكلة لا تنتهي بين الحب والوقت، والصراع لا ينتهي بين المحب والوقت، فحلاوة الحب ولذته إن لم تنته لأسباب خارجة عن القدرة والإرادة انتهت لأسباب يصنعها الإنسان نفسه، أو تصنعها طبيعته التي ربما ليس الحب الدائم العميق من صفاتها. 

02‏/08‏/2015

النشر الإلكتروني (الحرية)



الحرية مطلب من مطالب الإنسان، بل هي أساس من أسس الإنسانية. كلنا في حاجة شديدة إلى أن نكتب ونقرأ ونمارس وجودنا بحرية. لكن هناك أشخاصا بحاجة إلى أن يعيشوا على عبودية الآخرين. وهم الذين يحتاجون دائما إلى القيود الأثقل والأغلظ؛ لأن هذه القيود تشعرهم بالأمان. 

يبدو هذا كلاما عميقا؛ هذا لأننا نفكر فيه جميعا في أعماقنا. نحن الآن بشرٌ ننتمي إلى سلالة الإنسان العاقل homo-sapiens الذي ظهر في أفريقيا منذ آلاف السنين، وبيننا وبين أول إنسان عاقل مشى على هذه الأرض، كما بين الشيخ الهرِم والطفل الصغير، فنحن الشيوخ الهرمون الذين تعلموا من الحياة أن يقتصدوا في الكلام ولا يتسرعوا ولا يكونوا أطفالا في استجاباتهم لرغباتهم وأميالهم، وهذا الإنسان الأول هو الطفل الصغير الذي يمارس كل ما شاء بحرية، فربما نجح وربما أخفق، لكنه بلا شك تطور؛ لأنه كان على استعداد لأن يجرب كل شيء وأن يكبُر. 

إنني لست بصدد الخوض في حديث تطوُّري اللهجة، لكنني أمهد لمناقشة بعض أسباب نجاح النشر الإلكتروني وتراجُع الورقي، ومن أهم هذه الأسباب الحرية. 
ولنكون واقعيين، دعونا نفتش عن مقارنة مشابهة للمقارنة بين النشر الإلكتروني والورقي، أين يمكن أن نحصل عليها؟ نعم، إنها موجودة، ولكن أين؟ هل تذكرون أننا في يوم من الأيام كنا نعتمد كليا على المجلات والتلفزيون في معرفة ما يجري حولنا وما يتطور؟ إذن، فلم لا نقارن بين الإعلام التلفزيوني والإعلام الإلكتروني، ثم نعكس مقارنتنا هذه على النشر الإلكتروني والنشر الورقي؟

قديما، كان المثقفون يقصدون محطات التلفزيون لنشر ثقافتهم، فالشيخ يقصد المحطات الدينية، والأديب يقصد المحطات الأدبية، والمطرب يقصد المحطات الغنائية. وكذا يفعل المتابعون، فالمهتم بالحديث الديني يهتم بمحطات الدين، والمهتم بالأدب يهتم بالمحطات الأدبية، والطروب المغرم بالغناء يهتم بمحطات الغناء والرقص. وكان الجميع قانعين بهذه "النعمة"، ولا ينتظرون خيرا منها. لكن هناك أشخاصا شعروا بالرثاء لرسالتهم، مقدِّمين كانوا أو مشاهدين، لم يجدوا في التلفاز ولا في الصحف المحلية ما يشبع فكرهم ويغذوه. ففضلوا الانتظار...

ونحن نعرف أن الرقابة الساذجة التي كانت تُمارَس على المادة العلمية أو الثقافية أو الفنية ملأت حياتنا بالسذاجة، فلا تكاد تنتقل من محطة إلى أخرى حتى تجد محدِّثا يحدثك عن الأمور التي مضت عليها قرون عدة وذهب طعمها، أو فنانا يثير اشمئزازك ببرود أدائه، أو برنامجا ينتهي غالبا بارتفاع الأصوات والسباب! هذا كان مقبولا، لكن من غير المقبول أن تُستضاف وتكرَّم وأنت تحمل رسالة تورِّط صاحب المحطة أو أصحابها، ففضلنا نحن الانتظار...

لكن الغزو الإلكتروني الذي بدأ يوسع رقعته في البلاد العربية ويدخل البيوت (بغض النظر عن رفضنا ومعارضتنا له) ويتيح لأصحاب الرسالات ما لم يُتح لهم، ويمنح المشاهدين ما لم يُمنحوا، غيَّر كل شيء. فلم نعد مضطرين إلى مشاهدة أحد المغفَّلين يتكلم ليلا ونهارا بما يضر ولا ينفع، ولم يعد أصحاب الرسالات مضطرين إلى السكوت التام. صار -ليس في يوم أو يومين- بالإمكان أن نشاهد ما نريد، ونقدم ما نريد، ونسينا أخبارًا فجَّة كـ "جريدة أوقِفت" أو "قناة شُفِّرت" أو "مذيع طُرِد". 
والآن، بإمكاننا أن نفتح موقع Youtube ونشكر الله، ثم نشاهد علماء ودعاة وفنانين لم نكن نحلم بمشاهدة أمثالهم، أو ننشئ قناة ونقدم فيها ما نشاء بدون أي مقابل. إن الأشياء تتغير، لكننا قد نخفق في ملاحظة التغيرات.

من الآن يحلم بأن يكون مقدما لبرنامج أو مديرا لمجلة وهو خائف؟ لا أحد، يستطيع الجميع أن يفعل ما يشاء، وحقا لقد اكتشفنا أن انسحاب الرقابة الساذجة من السوق الإلكترونية كشف لنا عن الكثير من النضج والجمال في شخصيتنا، ولا بد من التفاهة واللعنة التي تطاردنا متمثلة في بعض الفارغين. 

هل اكتفيتم؟ أقصد هل توصلتم إلى النقطة المهمة التي أردت أن تصلوا إليها؟ بلا شك يمكننا أن نستفيد من هذه المقارنة، لكن بعد أن نحسب حسابا لضرورة الوقت، الإنترنت لم يصل إلى ما وصل إليه في سنة أو سنتين، لكنه وصل وهو الذي يمنحني الآن فرصة لأكتب إليكم ما أريد.
إذن، فالغلبة للنشر الإكتروني -كما يقولون- أو فالمستقبل له. لم نعد بحاجة إلى الوقوف على أبواب دور النشر، أو انتظار الأندية الأدبية لعشر سنوات على الأقل! الطريق أمامنا ممهدة ورائعة، فلماذا نفضِّل العناء دائما؟ 

إن إسقاط واقع الإعلام التلفزيوني قديما على النشر الورقي الآن، والإعلام الإلكتروني حديثا على النشر الإلكتروني، لن يفشل، وما الذي يجعله يفشل وذاتُ الرقابة التي كانت تُمارس قديما تمارس الآن، وذات الرغبة في التحرر التي كُبتت قديما هي مكبوتة الآن؟ فلننتظر وسنرى.
ولعلكم تتساءلون الآن عما قدمه النشر الإلكتروني مقارنة بما قدمه الإعلام الإلكتروني، والإجابة سهلة، إن  النشر الإلكتروني ليس هو نشر الكتب فقط، بل يتسع ليشمل المنتديات، المواقع، الصفحات الاجتماعية، المجلات، الرسائل البريدية... وكل هذه تمثل النشر الإلكتروني، ونشر الكتب -وهو الذي لم يثبت وجوده وقوته إلى الآن- مجرد جزء من هذه الوسيلة الواسعة. لكن المشاهدة الدقيقة لما يحدث ستمنحنا القدرة على أن نزعم أن الكتب الإلكترونية ستكون هي الحل لأزمتنا الثقافية. 
ونحن بذكرنا محاسن هذه الوسائل الإلكترونية لا نهمل مساوئها، لكن هذه المساوئ هي ثمن الحرية التي ستخرجنا من الظلام، وهي جزء من طبيعة الإنسان التي لم يستطع النشر الورقي نفسه أن يقمعها، صحيح؟ 




يتم التشغيل بواسطة Blogger.