18‏/06‏/2016

مي




فقدت والدها حين استقرّ "صاروخ" في غرفته حيث اعتاد أن يجلس ليتابع نشرة الأخبار ويشتم قليلًا. لم تكن في المنزل حينها، فقد كانت تعمل في منطقة بعيدة بعض الشيء وتتحمل عبء الحواجز والخوف المتربّص بها حتّى تؤمّن له ما يحتاج. حين عادت لم تستوعب في البداية أنها تقف أمام منزلها. فقدت إيمانها بكلّ ما يمكن أن يقدّم لها العون في تلك اللحظة، حتى أنها نسيت الأدعية والصلاة والعبارات التي قالتها في الشهر الفائت لصديقتها التي فقدت عائلتها أيضًا. كان العمّ جلال الذي يحمل ديون الحيّ بابتسامة يضع يده على كتفها ويقول بمرارة: "الحرب اختارت والدك اليوم يا مي ". تحول خضار عينيها إلى خريف بارد تمامًا، وقبضت على علبة السجائر التي كانت تحملها، ثم هرستها تحت حذائها القديم، ولم تبك. مرّ أسبوع وانتهى العزاء ولم تبك مي. لم تقل شيئًا. كانت تكتفي بالبحلقة في نقطة ما وتسمع من يقول لها بين الحين والآخر: "لك الصبر. لك الأجر. الله لن ينساك". وكان العم جلال دائما يضع يده على كتفها ويقول: "إبكي يا بنتي. ابكي. ما بيسوى هيك". عندما نفذ صبره هزها بقوة ثم صفعها.
ساد الصمت فترة. زمّ فم مي المتشقق. احمرّ وجهها قليلًا وهطلت دمعة كبيرة. تدحرجت ثم أحدثت صوت ارتطامٍ مجلجل في داخلها، وهكذا انفرط العقد المتين في النهاية. أرخت مي رأسها على يديها وبدأت بالنحيب. كان نحيبها يشبه خيمة لجوء بالية تصفر فيها الريح. صراخَ طفل ضلعت سيارته الحمراء الصغيرة تحت الأنقاض. هدير الطائرة قبل أن تلقي بحملها اللعين، وصوت المذيع وهو يقول: "وردنا الآن". لم يكن يخطر ببالها أن يكون والدها الفنان الأعزل المجنون هو الشريط الأحمر الذي سيمرّ على شاشة الدمار ثم يهوي إلى الأبد. ظلت تبكي طوال الليل حتّى صارت خوخةً نضجة ومهترئة. وكلما سمعت صوت طائرة تمر فوق رأسها كانت تقف وسط الغرفة. ترفع رأسها نحو الأعلى وتصرخ!

مضى شهر الآن. هاهي مي تخرج من منزل العم جلال وهي تدري أن العالم سيكون مختلفًا وهي تنظر إليه بعين اليتم والخوف. ومهما لوحت له بيديها فإنه لن يكترث أبدًا. الشمس حادّة الملامح فالصيف قد بدأ منذ من الأمس بالتنفس القوي والمقرف. هاهي تقطع المسافة ذاتها نحو العمل.
"صباح الخير"
"خير؟ أي خير هذا؟"
"لقد تعرضت لظرف قاهر جدا. تأخرت بسبب فقدان أبي بطريقة مأساوية. أنت تعرف ما هو الوضع."
"الله يرحمو لأبوك. انضم للقافلة"
"سأعمل وقتًا إضافيا لأعوض غيابي"
غمغم صاحب "الكرش" الكبير. مدّ يده نحو الصندوق ليعطيها بعض المال وهو يخبرها أنه وجد فتاة بديلة. لم تنتظر مي. أدرات ظهرها ومشت.


وهي تعبر الزقاقات تعرقت بما يكفي لتبكي جيدا .ترى أجزاء منها تغادرها وتمشي على مهل إلى مصبٍّ بعيد. لم تكن قادرة -رغم كبريائها- أن تبدع أي وسيلة للدفاع. واحدةً من بين الكثيرين الذين التهمتهم الحرب، ومن بينا لفقراء الذين يُطالَبون دومًا بالدفاع عن البلاد في مثل هذه المرحلة بينما ينعم الأغنياء بخير الأرض في كلّ المراحل، ويمشون على الجسور البشرية حتى يصلوا إلى الضفة الأخرى. وهناك يبدؤون سرد مسيرة نضالهم الشاقة وكيف أنهم جاهدا لتعيش الاشتراكية ويسود العدل وينتهي الفقر. هي ذاتها سمعت الكثير من هذه الوعود التي قُطعت لتعوضهم عن كل ما قدموا قسرًا وجبرًا. لم يكن يعنيها أن يقال عنها "بطلة". كل ما كانت تريده هو أن تنجو بما تبقى من أحلامها. أن تهرب إلى مكان آخر ستكون فيه واثقة من الحصير الذي تنام عليه وأن أحدًا لن يسحبه من تحتها. ستملك حينها قرار الدفاع عنه وسوف تقاتل حتى النهاية فهي تدرك أكثر من أي شخص آخر صعوبة ألا ينتمي الإنسان إلى وطن وصعوبة ألا يشقى في الحنين إليه.



 على الهامش: شاركي بالغناء والسخرية. افتعلي أي بهجة عابرة وازرعي مكان الساق المبتورة غصن برتقال. وقولي للأطفال الذين يتسلقون أكتاف الجداران ألا يشتروا إلا السكاكر الملونة.



17‏/06‏/2016

وليد عبيد في لوحة "المُهاجِر"



"المُهاجر" - للفنان المصري وليد عبيد

ماذا لو لم يكن عنوان هذه اللوحة "المهاجر"؟
كنا سنرى هذا الرجل الطريح على نعومة الرمل عاشقا مُعذَّبا أو ربما رُفاتَ جسدٍ ميت. لكن لا. هذه اللوحة رُسِمت للمهاجر، ولا تعني غير الهجرة.

الجو غائم، هناك سفينة تغادر، ومن بعيدٍ تُطل مجموعة من الأشجار بنوع من الحياة. وما عدا هذه التفاصيل، ليس ثمة حياة أوضح من التي تتدفق من هذين الجسدين. وإذا لم يكن في المكان غيرُهما، فإن أحدهما يهاجرُ إلى الآخر، أحدهما يمارس الهجرة إلى أحدِهِما.

عندما نظرت إلى اللوحة للمرة الأولى لم يدهشني فيها إلا تموضُع الجسدين والرمزية التي يؤديها كل عضو من أعضائهما. شعرت بأنني أشاهدُ لوحة أجساد، فتنة أجساد.. وغربة أجساد. وأدركت بسرعة أن الرجل هنا هو المُهاجر إلى المرأة، فألحَّت بي أسئلة كثيرة... لِمَ الهجرة؟ من أين؟ إلى أين؟ وفكرت قليلا: لعلهما آدم وحواء هبطا قبل لحظات من الجنة؟ ثم غيرت رأيي.

الرجل يطرحُ جسده موازيا للمرأة، ساقاه تبتعدان عنها وتتجهان إلى سفينته البعيدة ورأسه يدنو منها، إنه يشبه بوصلة تحدد حنينه إلى المكان الذي طُرِد منه. أول انطباع صعد إلى ذهني هو أنه في حالة سيئة، ومهما بدا الجزء الأسفل منه أنيقا ونظيفا ومرتخيا فإن أعلاه مشوَّه ويكاد يفقد أي دليل على الحياة. إنه بالغُ الضعف والهوان، إنه مسكين.. مسكين جدا. فهو رمزُ الحاجة واللجوء والعَدَم، رمز التأثُّر والتقليد والاتِّكال.

جسد الأنثى يعرض لنا الجانب الآخر من اللوحة، الجانب الحي، فهو يستلقي في أرض الحياة، في جهة الأشجار والوطن. قد يكون عاريا، أو هو يجب أن يكون عاريا، لكنه لا يبدو كذلك، على الأقل بالنسبة للرجل الذي يجاوره تماما، ويوشك يلمسه. المرأة تفتح كتابا لكنها لا تقرأه، فعيناها تتوجهان نحونا وتغرينا بالهجرة، تمتدان نحونا وتريدانِنَا.  

إذا كان في اللوحة نوعٌ من الألم أو القسوة أو دقةِ تصوير الألم والقسوة فهو ما ترمز إليه الأطراف. ذراعا الرجل أولُ ما يستحق الشفقة، فهما عاجزتان ذليلتان غائبتان، نستطيع أن نرى فيهما كل علامات التسوُّل والضراعة. أما يدا الأنثى فتملكان ثروة تعطيها قيمةً ودورا في لعبة الوجود. ولتتأملوا أين تتموضع ساقاها، واحدة على الكرسي، وواحدة على الأرض.

شاء الفنان أن يكون لون جسد الأنثى متماهيا مع لون الرمل فكأنهما قطعة واحدة، وشاء بطريقة مدهشة أن يعطي الأنثى في اللوحة كل معاني السُّلطة والتملُّك، فهي توزع جسدها لتملك كل شيء، حتى نحن. ساقها اليمنى تملكُ الكرسي، وجزء من ساقها اليسرى يملك الرمل، ويداها تملك الفكر، وعيناها تملكنا.

أما الرجل فقدماه لم تزالا مبللتين من السفر وينقسم جسده بين المكان الذي جاء منه والمكان الذي جاء إليه، وتغزو جسده الأسمر مسافات بيضاء؛ إنها ليست مرضا جلديا كما قد نظن، بل هي عدوى الوطن الآخر الذي يمثله جسد الأنثى، لقد انتقلت إليه من جسد الأنثى المجاورة. لكنه لم يزل منتميا إلى مكانه الأول، ولم يزل يسأل وطنه الثاني أن يتقبَّله، لاحظوا كيف تلامس يده اليسرى المُنكَّسة قطعة القماش البيضاء التي تستلقي عليها، ولاحظوا كيف تتوجه اليد اليمنى إلى السماء.

في اللوحة الكثير من اللامبالاة والتهميش. فلا الرجل يأبه بجمال جسد الأنثى ونعيمها، ولا الأنثى تدرك أن رجلا ما يطلبُ نعيمها بكامل الذُّل والاحتياج. لا غريزة هنا، لا شهوة، لا حب، لا جنس. وهذه الأمور لم تفُت الفنان بالتأكيد، فهو لم يرِدها لوحة لعاشقين أو لمغتربين، بل أرادها لمُهاجِر ومدينة. والمدن العظيمة لا يفتنها المهاجرون إليها، لا تراقصهم أو تغني لهم، إنها تستقبلهم فحسب وتسكب فيهم أفكارها وألوانها. 

لكن هناك شيئا آخر، إذا تعمَّقنا أكثر في وجه الأنثى فلن نرى إلا وجها عربيا، عربيا مصريا، عربيا مصريا بمنتهى العروبة والتعرِّي، فهل يمكن أن يهاجر العربي المصري إلى العربي المصري؟ لعل هذا من الألغاز التي لم يُفضِّل وليد عبيد الكشف عنها، وكم في اللوحات العظيمة من ألغاز! 



16‏/06‏/2016

غانية





تشعر بالأرق وفقدان الشهية تجاه رقائق البطاطا المفضّلة لديها، وقد رفضت حتّى الآن ثلاث دعوات إلى العشاء وطلبًا وحيدًا للحب، وتجاهلت إلحاح الليل عليها وإغراء فستانها الكمونيّ القصير، كما فقدت صديقتها إثر انفجار سيارة مفخخة أودى بما لا يقلّ عن عشرين سنة قادمة كانت تتمنى لو أنها تحياها معها بين زواريب الفنّ وقداسة كأس البرتقال والتنقّل البطيء على رقعة الشّطرنج في ذلك الدكان النائي الذي يبيع الزجاج المزخرف، وتكتسي جدارنه بلوحات مغمورة مرسومة بالفحم لإناث متمرّدات؛ بعضهن عاريات والبعض الآخر jلوّحن من بعيد لأشياء غير واضحة.
قبل ساعتين ونصف -أي عندما اكتشفت الوقت- تعرّضت للإهانة التي يُسفر عنها الانتظار، وقالت بمنتهى الوحشيّة: "يا لفداحة الذوبان في سِوانا" وراحت تبكي. إنها أنثى جميلة -وإن كنتم لا تعلمون- فإن الأنثى الجميلة حين تبكي آسفة وقد تملّكها شعور بالوحشة والظلم، فإنها لن تنسى ولن تطيب ذاكرتها من حدة التخلي الذي مورِس عليها، ولن تغفر -لنفسها أولا- ويلات الحرب العاطفية التي خاضتها بحيث فقدت في كل مرة توقًا وجنونًا واعتذرت عن حماقاتها واعتقدت -لفرط رقتها- أن عليها أن تكون قوية طوال الوقت حتّى تحافظ على "حسن"، ثم اكتشفت أن صوتها ظلّ غارقًا في مناجاته الوهمية، وأن من تثق به لن يقاتل من أجلها أبدًا. "الحبّ ليس مشروطًا؟" تعاود ضرب ساقيها وتبكي. تحاول ببكائها أن ترمم ثقوب قلبها. أن تتعب حتّى تغفو. لكنها تفشل، تصحو أكثر، تخشخشُ بأساورها لافتةً انتباه الرفوف والنوافذ والحشرات التي تتمشى تحت السرير.

إنها "غانية" التي تتفحص الآن ملمس الغطاء القطني، وتشبكُ يديها خلف رأسها محاولة أن تتلاشى بهيئتها القديمة، وأن تخلق أفكار جديدة تعينها على بصق هذا الألم الشديد مدركةً أنّ تصفيق الجميع لها خارج هذه الغرفة ليس إلا وهمًا أو شيئًا مؤقّتًا يرضيهم ويقدم لهم المتعة بينما يسحبُ منها في كلّ مرة قدْرًا من البهجة والعفوية. تدركُ أن ثمن حريتها سيكون غربة، وأن ثمن دفاعها عن وجهها سيكون يدًا أعلى من يد قاتلها، وأن ضريبة نومها ستكون حياةً ماضية ستجاهد ألا تأخذ منها أيّ وجه أو قبلة أو محاولة انتحار.

تبدأ بدندنة الموسيقى التي كان والدها يستخدمها لردّ الحرب وتحمّلِ فداحة الأصوات التي تُسقِطُ في كلَ مرة ضحية وتهدمُ بيتًا وتعطي الآخرين سببًا للرحيل. تدندن وهي تدرك أن هذه الموسيقى لن تردّ شيئًا في النهاية وأن الضحية ستسقط وأن البيت سيصير بخارًا وأن الأخرين سيرحلون، إلا أن عزاءها كان موجهًا إلى نفسها -أولا-. عادةً بيضاء كانت تواظب عليها كلما اشتدّ أزيز الرصاص واهتزّ سريرها إثر انفجار قريب ولمحت أضواء سيارات الإسعاف الحمراء التي ستحمل الموتى وسوف تجاهد كي لا يضيع الأحياء على الطريق.

هدأت الأصوات الآن. قالت لها صديقتها على "facebook" أن جارتهم فقدت زوجها والأخرى تعرض إبنها لجروح بالغة وأن الأرقام تزداد بحيثُ تجلسُ والدتها مدهوشة وهي تقول لزوجها الراحل: "تعى يا رجال، تعى شوف شو عملنا بحالنا يا حبيبي". تختم صديقتها الرسالة بوجه مقلوب وآخر حزين مقحمة في النهاية شفاه حمراء غليظة.

مجدّدًا تشعر غانية بالوقت. الواحدة والنصف ليلًا. تمدّ رجليها على الأرض وترسم بيدها اليسرى تلالًا وأشكالا مبهمة. تغنّي أغنية كلاسيكية تستذكر فيها كيف غرق "جاك" في قلب المحيط. تتحول الدنيا في نظرها إلى سفينة ضخمة مصابة بالعطب. ترى الناس يتساقطون ويصيرون أسماكًا. البعض يطفو على السّطح كما تطفو غيمة بليدة. تقول: "كم من الجميل أن يموت الناس بهذه الرومانسية". تفترض أنها أيضًا ستصطدم بكلّ القضبان الحديدية، أو قد تكون أحد العازفات لشخص قرر تقبيل حبيبته في اللحظة الأخيرة. وبعدأن يعمّ الهلع أخيرًا تغني بصوت أكثر ارتفاعًا وتقول لهم: "الدنيا تبدو سيئة حين نكون سيئين، ومخيفة حين نكون خائفين". يرمي أحدهم حذاءه فوق رأسها لكنها تعتبر هذا نوعًا مشرفًا من التصفيق. بعد ذلك تقوم. تسوّي طرف فستانها الطويل، تربط شريط خصرها بإحكام. تحرك رقبتها قليلًا وبعد ذلك تغمض عينيها وتنزلق. تشعر بنعومة السطح الخشبي. تتألم قليلًا في البداية لكن الجثة التي بجانبها تقول: "go on". تبتسم، تضحك، تقهقه وبعد ذلك تحدث صوت الارتطام/ الانفجار ويطفو ذيلُ فستانها كرزًا خالصًا. تغرق. تنزل نحو القاع وتلتقي ب "جاك". يبتسم فتبتسم له في المقابل ويبتسمُ كل الموتى الذين غرقت بهم سفينة الوطن ولم يجدوا من ينقذهم.

هكذا قالت غانية : نموت ونحن نحاول أن نحكي قصة أو نغني...

12‏/06‏/2016

يولا






كانت "يولا" فتاة جميلة. ذات مرة أحبها رجل لأنه اعتقد أنها لا تكذب، وأحبها آخر لأنه آمن بقدسيتها، وتساءل الذي جاء ليسلمها طردًا بريديا فيما إذا كانت مخلوقًا سماويا أم لا. كان ليولا شعرًا قصيرًا غشّاشًا. تارة يبدو حالكًا وتارة يظهر كستنائيًّا بطريقة وقحة، لكن مجدها كان يكمن في عينيها.
"ما تشبه عيناك يا يولا؟" سألتها جدتها.
"زجاج يا جدّتي". ضحكت جدتها كما يضحك الغراب وأردفت: "حافظي على هذا".

تجلس يولا على الأريكة المغطاة بملاءة قرمزية. تحرك ساقاها العاجيتان فتميل الشمس تجاه قبلتهما ويصلّي النور بعمقٍ عند ركبتيها. تأكل كعكة هشةً وترشفُ البرتقال. تتخيل أن هناك من يحبها وأنه كما كانت تقرأ يسمّى "توأم روحها" وربما هو الآن يشرب البرتقال أيضًا وينصتُ لموسيقى سيّئة، ويحرك شعره الأشقر الكثيف ليظهر جبينه العريض الذي يحرس عينين مموّجتين مثل فراء القطة التي أهداها لها والدها في عيد ميلادها الفائت قبل أن يموت بعد أسبوع إثر حادث قال عنه الجميع أنه مؤلم، لكن الأمر لديها كان مجرد عملية طويلة مليئة برائحة مواد التخدير والدماء. "سوف يستيقظ حتمًا، أليس كذلك؟" تصمتُ لثوانٍ ثم تنتبهُ إلى أنها تشركُ توأمها المفترض في "أحزان عائلية". تجلسُ يولا جلسة تخلو من البهجة وتبدأ بالنحيب.

خرجت في أحد صباحات كانون الباردة. كانت ترتدي قبعة بالية من الفرو وتغطي جسدها الممشوق بمعطف سميكٍ من الجوخ الأبيض. تخرج وحدَها غالبًا لأنها لم تنجح في تكوين الصداقات فقد كانت الفتيات يعتبرنها مجرد دمية حلوة أو شخصية هاربة من الرسوم المتحركة وكثيرًا ما كنّ يستهزئن بوجهها الخام الذي لم تلمسه مساحيق التجميل يومًا. كان فمها يشبه احتقان وريد بالدماء. منتفخًا وممتلئًا ولونه قاني، وهذا البرد قد عتقه أكثر.
تفكّر يولا وهي تمشي بإمكانية أن يكون عندها سيارة مفضّلةً اللون الأحمر ومختارةً حجمها الصغير. تساءلت: "ألا يوجد سيارة تتسع لشخص واحد؟" ثم ضحكت للحظة، فابتهجت معها شجرة قريبة. في الجانب الآخر من الطريق كان يمشي رجل فارع الطول مثل عمود جهّز ليحمل الكثير من الأسلاك الكهربائية. يرتدي سترة سميكة من "الجينز" المبطّن ويلف حول رقبته وشاحًا رماديًّا. يده اليسرى مختبئة في جيبه والأخرى تعانق سيجارة. كم كان مشهدا آسرًا اختلاط أنفاسه البيضاء بأنفاس السيجارة الرمادية. من يفرّق عندها بين لهاث الدفء والبرد؟
وقفت يولا عند محطة الباص. لم ينظر أحدهما إلى الآخر فرجل يدخن يمتلك من الغرور ما يكفي وأنثى تحلم قد لا تتنبّه لشيء. قال رجل عجوز: "متى يأتي القطار؟" ردّ الرجل بشيء من اللا مبالاة: "عندما يحين الوقت"، ثم رفع كم سترته قليلا: "أي بعد خمس دقائق" وغرق في صمته مجددا.

بينما كانت يولا تصعد السلالم القديمة عائدة إلى بيتها كان هو ينزل من الأعلى. التقيا عند الدرجة السادسة عشرة. كاد أن يصطدم بها فقال بكل هدوء: "عفوًا" وها هي إذًا تنظر إليه. كان له شقّين صغيرين ينفذ من خلالهما الضوء. فكّرتْ "ما أصغر عينيه!" واتسع قلبها قليلًا لكنّ هذا لم يعن له شيئًا كما يقول عصفور  يراقب المشهد من بعيد.

"يا يولا، سيكون علينا ترميم الحمام بالكامل؟ أي منزل مهترئ هذا!" قال "سافيو" الرجل الذي اعتادت أن توكل له مهام التصليح وجلب الأغراض والثرثرة العابرة وتشارك كوب من الشاي المعدّ بتأنٍّ حتى يصير ليلًا. كان سافيو بعد هذه العشرة الطويلة التي رأى فيها يولا تبكي وتصاب بهيستيريا الرقص بعد شرب النبيذ، يكنّ لها شيئًا من تلك العاطفة السحرية التي استفزّته لتقبيلها حين دخل المطبخ ورآها تدور على موسيقى صاخبة. أراد أن يأخذها من ذراعها وينظر مباشرة إلى عينيها، ثم يسلّم عليها بشفتيه. لكنه كان متزنًا جدا إلى الدرجة التي قضى فيها اتزانه على أفكاره المجنونة المتعلقة بها. ويولا؟ كانت طبعًا تفكر في ذلك الرجل الطويل الذي التقت به مرتين دون أن تعرف اسمه حتى.

كان يجلس على السلالم في ذلك اليوم ويدخّن. بينما كانت تنزل على مهل تبيّنت ظهره المكتسي بقميصٍ وردي خفيف، وشعره الذي عبث به السهر كما يبدو. "السهر على سرير فتاة؟" فكرت يولا بغضب غير مبرر. حين جاورته وقفت قليلا. قليلا يعني مرور بعض الوقت دون حراك أو كلام. قال دون أن يلتفت: "أهلا جارتي" ثم ضحك بشكل مفرط. أحسّت يولا في تلك اللحظة أنها تنال فرصتها لتشاركه هذا الموعد الغريب المليء بالترنّح.
الآن، هي قريبة منه. متجاوران. لا هو يعلو ولا هي تهبط.
"أنت جاري إذا؟"
"إنه سؤال أحمق أيتها الصغيرة"
"مجرد سؤال عن الحال يا ..."
"كريستوف!"
تنحنحت يولا ، نظر في عينيها مباشرة وحدق. ظل بصره معلقا بزجاجهما الأزرق عاكسًا وجهه عليهما حتى ارتبكت يولا واتسع قلبها أكثر من قبل.
"هل تعلمين؟" نطق أخيرًا.
"كنتُ في حفلة سيئة جدا. المنزل كان متسعًا، فيه كل ما يشتهيه رجل يود أن يقضي ليلة عسليّة. هناك كان بإمكاني أن أقوم بكل ما أريد. أن أرسم حتى يمتلئ دفتري لكنني شعرت بالملل فجأة. أتعبتني الوجوه المتشابهة والعيون التي تبدو وكأنها تحترق، فجرت أمشي، وحبن وصلت غلى هنا. إلى هذه الدرجة بالذات تعبت، فقررت أن أحتفل في هذا المكان العتيق مستجلبًا الوجوه من ذاكرتي".
"مضى وقتٌ طويل على آخر مرة احتفلتُ فيها" قالت يولا هذه الجملة وسرعان ما ودّت لو أنها لم تفعل لكن الكلمات كانت قد خرجت وانتهى الأمر. وجدت طريقها نحوه فضحك حتى ظهرت كل أسنانه وعلّق:
"يولا الصغيرة، سأرسمك يومًا ما"
تحدثا طويلًا. حتى بدايات الفجر ربما. شرحت له بنصف لغة عن نفسها وأنها تعيش في المنزل الذي ورثته عن والدها الذي كان يرسم أيضًا بعض الصور للحشرات التي كان يصادفها أثناء سيره عبر زقاقات المدينة. ذكرت له سافيو النبيل الذي سيرمم لها الحمام ويساعدها في وضع ورق الجدران في الصاله. كلمها هو عن سبب مجيئه إلى هذه البلاد وكيف أنه ظل يعيش في فقر مدقع حتى فتحت له طاقة الحياة، ثم أخرج دفترًا من صغيرا من جيب سترته المرمية عند أسفل قدميه وراح يقلب فيه. كلما كان يريها المزيد من لوحاته كلما كانت تحب أصابعه أكثر وكان قلبها الذي راقبه على مدى أشهر طويلة من نافذة الغرفة وحفظ كيف يمشي وكيف يداعب أوراق شجرة التوت في نهاية الشارع قبل أن يركب في سيارة غالبا ما كانت تقله في الفترة الأخيرة وكيف كان يحكّ طرف فمه باستمرار حين يحادثه صاحب العمارة عند الباب. بحلقت فيه. بشيء من العفوية مدّ يده إليها. عبث بشعرها ثم كرر
"يولا الصغيرة. يولا الصغيرة"
قبل أن يصعد نحو منزله سألته: "كريستوف، ما تعني طاقة الحياة؟"
ردّ بإهمال من يقول شيئًا بديهيًّا وبسيطًا: "المرأة التي سأتزوجها قريبًا. سأسافر معها نحو بلدان كثيرة فهي مهتمة بالفن مثلي. حسنًا! بطريقة مادية بعض الشيء ولكن لا بأس." حرك يده من الخلف واختفى.

داخل غرفة الجلوس المجددة كانت تجلس يولا على ذات الأريكة حين دخل سافيو لأخذ رأيها في بلاط الحمام. وجدها تحدق بصمت في يديها، وخُيّل إليه أنها ستلتهم إحداهما لا محاله. حين اقترب منها يسبقه قلبه الخائف الذي قلما رآها حزينة إلى هذا الحد. تبيّن له بكاؤها الصامت. ولأنه نبيلٌ جدا فإنه يدرك كم من المؤلم أن تبكي فتاة جميلة بصمت. قال لها برفق: "يولا" جاثيًا على ركبتيه وناظرا إلى يديها. حين رفعت وجهها بدا وكأنه خُبزَ لفترة طويلة في فرن كبير. اقترب منها أكثر ومن دون أي تخطيط صارت يولا بين ذراعيه. امتزج بكاؤها الحاد بلون سترته، وكانت الموسيقى لا تزال تخرج من فم المسجّل بينما تهب الرياح في الخارج وينطوي هذان الأحمقان على بعضهما. 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.