14‏/04‏/2016

أرق




أشعرُ بالغيظ يا أمّي. نامت كل عصافير الدّوري وأنا لم أزل مستيقظة، ومع هذا فإنني لا أغرّد. أشعرُ بألمٍ في جبهتي سببهُ فكرةٌ عارضةٌ في وقت فائت من هذا اليوم. هل تدركين كميّة الهشاشة؟ أدور حولي كي أسقط لكنّني لا أفعل، رقصتُ على عشر أغنيات، شربتُ مشروبًا غازيًّا بعد أن غطّستُ فيه شرائح الليمون، حفظتُ بيتًا من الشّعر لا أتذكرهُ وأنا أسردُ في هذه اللحظة، وأعجبتُ بعبارة "طعم عتّقهُ الوقت"، والتي أراها الآن مقزّزة ونمطيّة، كما رتّبتُ خزانتي بطريقة المصابين بهوس الألوان، إنها يا أمّي مرتبةٌ على نحوِ مزعجِ جدًّا. غيّرتُ أقراطي مرتين وانتهيت دونهما لأنني شعرتُ فجأة بثقلهما وشعرتُ أن جحيمًا ينبتُ في أذني ويعوي دون توقّف.

كتبتُ رسالةً طويلةً إلى صديقي أفصحتُ فيها عن اشتياقي الشديد كأنثى لا تشتاق في العادة، واعترفتُ بأسرار فساتيني، وتحدّثتُ بحماقةٍ عن أقلامي الملوّنة وكم شعرتُ بالفزع حين باغتتني قطّة سوداء في الأسبوع الماضي، وعن إحساسي الغامر بالاسترخاء حين عرّضتُ شعري للهواء الساخن، وقلتُ له كم مرة استحضرتهُ وما هي المطاعمُ الشعبيّةُ التي ذهبنا إليها،  كيف أكلنا بنهمٍ ودقّينا كؤوس الشاي وشربنا نخب الصّحوة، وكيف ركضنا في ذلك الشّارع الخلفي دون أن نخاف من عتمة الحرب، ثم أحصينا النّملَ الذي كان يتمشّى على جدار الفجر، وكيف غرقنا في صمتنا أمام قاربِ يموجُ ولا يبحر.
قرأتُ الرسالة ثم مزّقتها، وبعد ذلك كتبتُ رسالةً أخرى إلى صديقتي أسماء أطلعتها فيها على ازدرائي الشّديد لذكرياتنا السّخيفة، وكم وداعًا تبِعَ تلويح يدينا، وكم أغنية ذاع صيتها وهي تحكي قصّة الانقطاع بعد الوصل، وقصّة التلاشي، ثم أخبرتُها عن رغبتي في تناول طبق فاخر من "البيتزا"، وحاجتي إلى الحصول على مكتبةٍ جديدة.

تفقّدتُ وجهي، مررتُ أصابعي على الحفرة الصغيرة المتوضعة تحت عيني اليمنى وكانت معبّأة بالقهوة. شعرتُ بالانتماء إلى عمقها وأنني أخيرًا قادرة على البكاء الشديد والحاد لأسباب غير مفهومة، وقادرة أن أتعلّم وأصير أقوى. يا أمي نحنُ -أنت وأنا- جميلتان جدًّا وطفلتان، يكادُ شعرنا يصيرُ شمسًا، وتكادُ أيدينا تحوّلُ الجدار إلى ربيع، والأطفال حين يحزنون يقلقون ويصرخون طوال الليل، ولا تنفعُ معهم علاجاتُ البالغين أبدًا. إنهم ينهمرون من الداخل ولا يملكون اللغة الكافية ليعبروا عن أسبابهم، فردّي الباب الخشبيّ اللعين، وأغلقي النافذة وأسدلي الستارة العسليّة. أنا نور نفسي، وقررت أن أسهر مع خوفي، مع فيروز، مع كتابٍ قديم، وساعة ضبطتُها على نقاش طويل وحاد، وقد أصفعهُ -ذلك الظلّ المغرور الذي يظهرُ في كلّ الأوقات-، هذه معركتي وسوف أنهيها الآن.

سوف أرقصُ حتّى يذوب جسدي على الأرض ويصير بخارًا، أو رملًا ملوّنًا، أو كلمةً عالقةً في حنجرة خصري الذي عجز عن ترجمتها كما هو مُنتظَر، وما هو الانتظار؟ أعتقدُ أنه خيالٌ نتغذّى عليه حتّى نُلقي ببعض الحمل على الآخرين، لكننا بعد كلّ سقطةٍ نتعلّمُ ألا نؤجّل شيئًا إلى يومٍ آخر وألا نذوب في شخصٍ سوانا. إن مسألة الذوبان في سوانا أمرٌ موجِعٌ حقًّا وعبثي لأنه لن يعطف علينا كما نفعل وسوف يكون قاسيًا وماضيًا في قسوته دون توقّف، ولن ننجو يا أمي. صدّقيني لن نفعل. هل نجوتِ أنت بعد موت أبي؟ هل تعترفين الآن بفرحةٍ كاملة؟ وهل يجرّدكِ فستانٌ جديدٌ وملونٌ من بؤسك؟ وهل تستعيدين بهجة الأشياء الصغيرة التي تركع تحت قدميك، وتبجّلين الأصدقاء المخلصين الذين يهتمون بعودة ابتسامتك، وتستمتعين بما أورثتهُ لك نفسك من روحٍ هائمة وخفيفةٍ يحلفُ بها الطيرُ ويغشاها الجمال؟ لقد فقدتِ كل هذا، وإنك في داخلك غير راضيةٍ عن الابتعاد حتّى وإن قلتِ أنه "قدر". لقد رحلتِ أيضًا بطريقةٍ أو بأخرى. لأننا حين نفقدُ من نحب بهذه الطريقة القاهرة نصيرُ أعداء أنفسنا أولا، ويأخذنا الغرور بحيث لا نعود بسطاء كما كنّا، وهذا ما أقسمتُ ألا أفعلهُ منذ أن ماتت جدتي قبل خمس سنوات.

إنني أشكرُ أبي الرقيق الذي علّمني ألا أخاف الموت/ موته أيضًا، وألا أشعر أنه ندٌّ لي. اصطحبني في مشوارٍ طويل إلى البساتين حيث راقبنا الطيور وغياب الشمس، وتحسسنا العشب النديّ وقطفنا شقائق النعمان، وخضنا في الأحاديث العادية، وكان يستمع لي باهتمام شديد ويتعامل مع هزائمي السخيفة على أنها هزائمه هو، ثمّ غطّ في صمته الطويل وقال: "هل تؤمنين بفلسفة الرسائل؟ لقد أنهيتُ رسالتي يا حلوتي، بطريقةٍ ما، لم يعد عندي ما أقوله أو أفعله، ولقد سعدتُ جدا بآخر رحلةٍ قمتُ بها برفقة أحبابي، لقد كانت رقصةً مدهشة، تلويحةً صادقة جدا، وأشعر الآن أن أعصابي تدخلُ مرحلة استرخائها واختلالها، ولن يضرّني أن يضيع مني الزمن أو يهبط صدري لأنني حظيتُ الآن بتلويحة أخرى، وصادقتُكِ بحيث تبقين "أنت أنت"، و "أنا أنا"، لذا أنا أثق بشوقك وأعرف أنك سوف تشتاقين إلي، وليس لنفسكِ التي تركتِها في داخلي".

قال ذلك وضغط على يدي، ثم قمنا نحو الطريق الواسع وخطونا بكل مرح، كان وجهه أشبه برغيف خبزٍ تناولته في قرية جبلية، كبيرًا ونقيًّا وشهيًّا، وكان قميصهُ العسليّ المقطع يشبهُ طبقًا من الحلويات الفاخرة التي منعتها الحرب عنا لكنه كان ثريًّا بها دوما. رحل بعد عشرة أيام على سريرٍ أبيض وعبر إغماضة طويلة، وحين كان المنزل يفرغُ من المحاضرات الفظيعة كنتُ ألجأ إلى الحديقة فأجلسُ قرب شجرة الغاردينيا وأغني، وحين كنتُ أغني كنتُ أتفاعل مع نفسي كثيرًا ويغشاني شعورٌ بالفرح إذ كان بمقدوري أن استرجع أبي وأتنبأ بشكله الآن، وقد كان يبدو لي هادئًا وهو يجلسُ على أرضيةٍ زرقاء تحت نافذةٍ مفتوحة، يدخن سيجارته ويشربُ قهوته، وهو يكتبُ مسرحيةً جديدة، أو يصوغ قصيدة بحريةً يهديها لأمي في عيد ميلادها بعد مئة عام. كان مشغولًا كما أعتقد، إن بكاءهم وأسئلتهم الحمقاء لم تؤثر على مجرى يومه أبدًا ولم تجلعه يرفع رأسه حتى يرى ما يحصل حوله، فلقد وجد رسالة أخرى، رحلة مختلفة يقطعها في داخلي كوجودٍ مستقل، ونكون نحن -هو و أنا- جبلًا يلتقي بشاطئ بحر، بكلّ ما في ذلك من الهيبة والقداسة والتفريق.


على الهامش: تفوّهت فيروز بأنقى عباراتها حين قالت "أنا مش سوده بس الليل، سوّدني بجناحو" وطربتُ لذلك حتى أضأتُ بالكامل واحترقت، نظر لي جدّي الذي كان يكرهُ فيروز وقال بشماتة: "هاد يلي بيسمع كلامها"، ضحك عصفور نابتٌ من جلدي ولم أرى الجنة ولم أرى الجحيم أيضًا، إنه شارعٌ خلفي ويدي مبسوطة حتّى آخرها!

12‏/04‏/2016

مسرحية من جزء وحيد: الآباء والأمهات (الأجزاء الأخيرة)





المشهد الرابع: الضُّباط في كل مكان
أوسا، العجوز، الكلب

قعدت أوسا مقابلةً ثيودور. ثيودور يحك أنفه بإفراط ويعطس. ثم يسألها:
-         هل تظنينني طبيبا؟
-           لا.
-         لكني طبيب.
-         هذا إنساني ومُلهم.
-         لِمَ أشعر بأنك تتجنبينني؟
-         أنا لا أتجنبك.
يخرج قطعتي حلوى، يعطيها واحدة:
-         نعم، فأنت التي لحقتِ بي في النهاية.
أوسا تفرك قطعة الحلوى:
-         لقد فكرت في كلامك. (ثيودور صامتا). أعني كلامك عن الوالدين. لا أدري لم أعدت التفكير فيه برغم قسوته وبعده عن الصواب. أخبرتني أم الولد بأن أباه مُصاب بالصرع منذ الطفولة.
-         مورِّثات صالحة وأخرى فاسدة.
-         إذن، فلنتفق على أن هناك وجها مظلما للآباء والأمهات. لكن أليس هذا معقولا؟ إنهم بشر ولا حول لهم ولا قوة.
-         أنا لا أهتم بشفقتك عليهم. إنهم أوغاد.. أوغاد تماما. أجساد شبقة محمومة بالجنس والخوف. تتلذذ ليلا بالظلام العاطفي الدافئ وتخطط نهارا لما يمكن أن تكونه نُطفها التي لم تزل تتذبذب.
-         ما الذي يزعجك في هذا يا ثيو؟
-         أن هذه النطف ستواجه طول حياتها أسوأ المصائر وأوقح الظروف.
-         وهل للوالدين ذنب واضح هنا؟
-         نعم. فنحن لا نشعر بالاستقلال إلا بعد ربع قرن من مشهد التربية الطويل جدا.
يقاطعهما الشرطي:
-         من الجميل أن تتصالحا. أشكرك أيها الغريب. في أي جامعة درست الطب؟
ثيودور يتعمد تمثيل وجه مشمئز:
-         في مدينة لا تعرفها من مدن الشرق الأوسط.
-         هل أنت شرقي؟؟ لا أدري لم توقعت هذا.
ثيودور يهمل سؤاله. يبتسم:
-         شكرا لك. أنت تعمل بنشاط.
الشرطي يربت على كتف ثيودور:
-         أنا فخور بالحديث معك يا بني، ولتعذرني على كثرة الكلام.
أوسا تكتم ضحكة. ثيودور يهز رأسه. الشرطي يغادر ببطء.
ثيودور بلا ملامح:
-         هل ضحكتك دائما حلوة؟
أوسا تتخلص من ضحكتها:
-         أنت لئيم.
يرغب في القرب منها. يدرك أن ضحك الأنثى بعد الغضب يعني العطاء والتمكين. ينظر سريعا إلى ساقيها القمحيتين الناعمتين. إلى سروال الجينز الأسود القصير المشدود إلى وسطها بحزام رقيق أبيض. لقد أحدثت خُرمين إضافيين لنحول خصرها وهشاشته. وحول جذعها وصدرها يلتف قميص زهري يوحي بأن التي ترتديه تصلح أن تكون ضحية. في كل مكان منه مِزَقٌ مفتعلة وهو لا يمانع أن يكشف عن لون الصدرية الصغيرة المتكورة خلفه. يعود ثيودور إلى نقطته:
-         خلال ربع قرن سنخضع لأبشع أنواع التعذيب: التجنيد الوالدي. كلا الأبوين يختلفان فيما بينهما ومعنا حول ما يجب أن نكونه، يفرضان علينا أنواعا من القوانين والمُثل والطقوس التي قد لا تعنينا في شيء إلا أنها تعطي الآخرين الصورة التي يحبونها: ضُبَّاط غلاظ يحكمهم المجتمع فيفرغون غضبهم وخوفهم على الجنود المساكين.
-         لكن أليس الضباط أشد حكمة وأكثر تجربة من الجنود؟
-         سأوافقك لو أن أمك علمتك في يوم ما كيف تفتنين شابا أو كيف تحصلين على أصدقاء كثر.
-         كلا لم تفعل.
ثيودور يعزز انتصاره:
-         ولن تفعل. لو كان دافعهم هو إعطاؤنا حكمهم وتجاربهم لكانوا منصفين. لكنهم... (يتوقف عن الكلام). انظري إلى هذا الكلب الأبيض يلحس ساقي مُربيته الجافتين. لقد جاء إلى الوجود حاملا من والديه غريزة اللحس. إنهم يريدوننا أن نلحس الساق التي يخشون أن تركلهم. إن اللحس في هذه الحالة يعني لوالدينا عملا أخلاقيا فيه كل الصلح والتواضح والطاعة.
تتابع أوسا لسان الكلب المتورِّد وهو يلحس ساقي العجوز. لقد أسَرَها ثيودور بقدرته على التشبيه لكنها حاولت ألا تقتنع ببلاغته. قالت بذكاء:
-         فلماذا يربينا والدونا على أشياء ويأمروننا بتجنب أشياء أخرى؟
-         لأن هذه الأشياء نفعتهم وجلبت لهم الحظ والسعادة والأمن. إن الأب الذي يبيع المخدرات سيكون حلمه أن يرى أبناءه تجارا لهم مكانة وصيت في السوق.
أوسا تضع قطعة الحلوى على لسانها الصغير وتمصها مُصْدِرةً صوتا مقرفا:
-         لكن الأبناء ليسوا كما تتخيل: كلابا مطيعة دائما. إنهم يعصون ويختارون ما يريدون.
-         يفعلون هذا خارج البيت. عندها سيكونون منبوذين مطرودين.
-         يبدو لي هذا مقبولا. فلا يمكن أن يجتمع الأضداد في بيت واحد. لا يمكن أن يتناول المتدين إفطاره مع غير المتدين. العائلة هي مجتمع خاص له قوانينه وإمكاناته.
-         لا أتحدث عن العائلة.
-         حديثنا عن الوالدين سيقودنا إلى الحديث عن العائلة. بعد ربع القرن يا ثيو سوف يكون صعبا أن تنسى كل شيء. هل تنسى أن الوالدين هما من منحاك الأمان والسعادة حتى كبرت؟ إنك طبيب وتعرف أكثر مني أهمية وجود الأبوين لنمو الأطفال وحمايتهم من الأمراض واضطرابات العاطفة.
-         أنا لا أدعو إلى إعدام كل آباء العالم يا أوسا. أنا أعترض على هذه القداسة التي تشجعهم ليتحكموا فينا.
أوسا تنظر إلى ساعة جوالها:
-         بعد ساعتين ونصف سنفترق.
-         سنبقى معا ساعتين ونصف! لا تهتمي.
تتنفس بنعومة وتتأمل الشعر الأشقر الخفيف على معصمها.
صمت. لا أحد يكثر الكلام غير أوسا وثيودور. ينظر ثيودور إلى وجهه في المرآة. تلاحظ أوسا أنه عندما يفعل هذا يكون منزعجا. تحاول أن تبدو له عميقة التفكير بعد أن تبين لها أنه يحب هذا النوع من الرفقاء:
-         نحن لا نشعر بالكمال دائما أمام المرآة.
ثيودور بدون تحريك رأسه:
-         نعم. أحيانا أظن المرآة نوعا من الوهم البصري. السراب. الأوجه المجوّفة.
-         أنت تخيفني.
-         لا أتعمد إخافتك. هناك الكثير من الأشياء أواجه صعوبة في عدم التفكير فيها.
أوسا تتهرب من الفكرة:
-         لكن الناس، الجوالات، عدسات الكاميرا... كلها تقول لنا ما تقوله المرايا!
ثيودور يرفع رأسه فيرى عينين سوداوين متوهجتين. يبتسم:
-         كل الناس أيضا يرون السراب.
ثم ينظر إليها صامتا. لقد اكتشف أن لديها ترقوتين هشتين. نحولها الجسدي يغريه بضغطها بين ذراعيه. إنه يشتهيها. تركيبها الطفلي ينفي عنها كل عيوب وآفات البالغين. يتكلم بصوت أعلى ليقاطع صوته الداخلي:
-         حتى لو صرنا وصارت الأشياء حولنا أطول بأربعين مرة لن يلاحظ أحد هذا.
أوسا ضاحكة:
-         أنت حقا عجيب. أحبك.
ثيودور:
-         هل تعلمين؟ إنني أكره صورتي في المرآة. لذا أحاول تغيير العالم لأمحو وجهي. هاتان العينان وهذا الفم (يتكلم بينما ينظر إلى وجهه) وهاتان الأذنان السخيفتان وهذه الأنف الغبية.. إنها نسخ شابة من صفات أبي. (يحرك إصبعه على شاشة الجوال، يريها صورة). هل ترين هذا الواقف بكل ثقة؟ إنه أبي. أعني الإله الذي خلقني على صورته. إنه الضابط الذي يجعلني آكل الزجاج إن عصيته.
تناوله أوسا الجوال. تقول بارتباك:
-         ثيودور .. إنك منفعل. دعنا نتكلم عن شيء آخر.
-         لن نفعل. أقصد إذا أحببت أن تفعلي فافعلي أنت. أما أنا فهذا هو موضوعي المفضل.
-         هل كان أبوك قاسيا معك؟
-         لا.
-         أمك؟
-         لا.
-         إنك حقا تشبه أباك تماما. كأنكما توأم. لكن تبقى هناك فروق كبيرة.
-         مثل ماذا؟ الأفكار؟ (يضحك) إنها من توريث الأب الأكبر. حضرة اللواء "المجتمع". يا صغيرتي (تلتفت إليه باهتمام) نحن في هذه الحياة أبناء لآباء دائمين.. الضباط في كل مكان. لو كنت رساما لصورت هذا في لوحة: ضُبَّاط يمتلكون لحى طويلة ويشدون حول أجسادهم ملابس ثقيلة، يشهرون المسدسات في وجوه بعضهم، ويركلون الجنود الصغار الذين يستلقون على الأرض ويلمعون أحذيتهم.
شعرت أوسا بشهوة البكاء. لم تعرف كيف فتنها هذا الكلام القاسي.

المشهد الخامس: حلم
ثيودور وحيدا

يتحرك القطار بسرعة لطيفة. تتدلى جمجمة ثيودور ويرفعها كلما سقطت من على كتفه. وفي كل مرة يغلق فمه قبل أن يبلل الريق معطفه النظيف. رجال في الخمسين يحدقون في ساعات أيديهم متوجسين من التأخر عن مواعيدهم. مراهقون يستعدون لفعل كل الأشياء وخرق كل القوانين في مدينة أحلامهم. شاب يوهم الناظرين بأنه يقرأ كتابا بينما يخبئ يمينه تحت ملابس رفيقته التي تكبره كثيرا. أطفال يصرخون معلقين على صدور أمهاتهم. ثيودور يلعب بدمية على هيئة طفلة شقراء. النار تملؤ المكان. رؤوس اللهب الحامية تقترب من ساقيه. هدوء. لا أحد هنا ليصرخ أو يفعل شيئا. ثم يتحرك ثيودور الصغير ويركض نحو جدار عال، ممسكا الدمية بيد ويضرب بالأخرى باكيا. افتحوا لي. افتحو لي. الجماجم الغاضبة تقترب. تدنو من أصابعه المستطيلة الرقيقة ولا تمسها. يشعر ثيودور بالدفء. يتفحص الظلام المحيط به. يسمع نداء رجل من خلف الجدار، صارخا بصوت حنون:
-         فؤاااااد. تعال بسرعة إلى هنا. تسلق الجدار.
يوجه رأسه الضخم يمينا ويسارا وإلى الخلف:
-         لااا.
-         ستحترق إن لم تفعل. هيا يا حبيبي.
-         قلت لا. هذه النار لن تحرقني.
ينخفض الصوت قليلا. ينوح. يتهدج:
-         ما هذه المصيبة التي حلت بنا؟ ثيودور، أرجوك اتبعني ولن أضربك.
-         لن أتبعك بعد اليوم.
-         لم لا تصدقني يا ثيودور؟
-         لأنك لا تقول الحقيقة. النار لا تؤلمني كما تؤلمك.
-         يا بُني النار تحرق كل شيء. هيا تسلق.
يغطي ثيودور أذنيه بيدي الدمية. ويردد بصوت مبحوح:
-         النار لا تحرق شيئا. يا صغيرتي. إنها تحرق الكبار. فابقي معي ولن تحترقي. ولا تعصيني يا صغيرتي.
يسكت الصوت ولا يبقى إلا سكون الظلام وصوت النار. ينتعش ثيودور. يلين نائما.
-         فؤااااد. آه فؤااااد. إنني أحترق.
يستيقظ ثيودور. يرى والده يقاوم جماجم اللهب وهي تنطح جمجمته المذعورة. يحاول الاقتراب منه لكن الدمية تلتصق بساقه:
-         لا تقتل نفسك يا ثيودور. إذا لمست جسده ستحترق.
يحاول ثيودور أن يركض لكن الدمية تعيقه. يحاول تمزيقها لكنها فجأة صارت قوية كأنما صنعت من حديد. يتحرك ثيودور في مكانه باكيا خائفا ويتخيل والده يذوب في النار كما يذوب الشمع.

المشهد السادس: الموت
ثيودور، أوسا، العجوز، جميع الركاب

-         ثيو.. ثيو لا تخف أنت هنا.
يفتح عينيه ببطء فيرى وجه أوسا.
-         ما هذا؟ هل كنت أحلم؟
-         ربما. كنت تعاني من صعوبة التنفس. لا عليك. استيقظ الآن واهدأ.
يزيح رأسه بعيدا عنها. يفرك عينيه:
-         لقد كان حلما مؤلما. احترق أبي.
-         أبوك؟
-         نعم أبي. ربما هو ليس أبي لكنه كان رجلا ضخما.  
تعطيه قارورة ماء قائلة:    
-         هل ستقصه علي؟
يشرب، يستطعم الماء في فمه، ينظر إليها:
-         لا أذكر شيئا. متى سيصل هذا القطار الكريه؟
كانت أوسا تمسد شعره بأصابعها التي تنتهي بأظافر طويلة شاحبة، غرست أظافرها في أعماق شعره فارتاح جسده وهدأ. وفي تلك اللحظة سُمِعت شهقة خفيفة تبعتها سقطة تلك العجوز الثقيلة، ونبح الكلب مذعورا.
قفز ثيودور وأحاط معصم العجوز بأصابعه فلم يجد نبضا. نظر حوله فلم ير سوى أوسا تحيط فمها بيديها جاحظة العينين. انهمر الركاب وتجمعوا حول العجوز وكلبها الذي لم يتوقف عن النباح وأقبل الشرطي يتفحص الموقع بعيني محقق. أعلن ثيودور كعادته:
-         فلتنصرفوا أرجوكم، نحتاج إلى هواء نقي.
ثم حاول إنعاش العجوز ولم يكن لديه حتى الدافع لإنقاذها. ألصق سببابته اليسرى بإبهامه حول فمها، وضع فمه بحذر ونفخ بسرعة. ثم انتقل إلى صدرها وهزه عدة مرات. ثم عاد إلى فمها. كرر هذا مرارا ثم بدا عليه اليأس وهو يرفع وجهه إلى الجميع ويعلن وفاتها. صمت الركاب وأمسكوا ببعضهم، وصرخت أوسا صرخة انتهت بسقوطها فاقدة الوعي.
نهض ثيودور وأهرق بعض الماء على وجهها المصفر فأفاقت ببطء، وسألت:
-         أين أمي؟
رد ثيودور مندهشا:
-         هل هي أمك؟ لا تقلقي لقد ماتت.
-         لا، غير معقول.
-         لماذا؟ لقد ماتت.
صمتت أوسا قليلا ثم قالت ناظرة إلى أمها ذات الجسد السمين الممدد على أرض القطار:
-         غير معقول يا ثيودور .. غير معقول يا ناس. لقد كانت في طريقها للموت في فرنسا وطن آبائها وأجدادها!
ثيودور ساخرا:
-         ولكن من كان يدري أنها ستموت قبل أن يصل هذا القطار اللعين؟
أوسا شاردة العينين:
-         ثيو.. حبيبي إنها أمي.
ثيودور معتذرا:
-         أعلم هذا، لكن يجب أن تتأكدي من أننا سنسعى لتجهيز جنازتها في فرنسا، لا تقلقي أوسا.
دنت عجوز أخرى وضمت أوسا الباكية. انصرف الركاب حزينين إلى مقاعدهم بعد أن أمرهم الشرطي. غطى ثيودور العجوز بمعطفه الكاكي النظيف وكان ذهنه مشغولا بصورة مخيفة: إن الرجل الذي يتحكم بالقطار هو الوحيد الذي لا يجب عليه التعاطف مع هذا الحدث؛ فهو ربما يشرب البيرة أو يغازل صديقته في العمل، وبدا هذا مثمرا بالنسبة لطريقة تفكيره العجيبة.

المشهد الأخير: الحياة
ثيودور وأوسا في محطة القطار

نزل ثيودور حاملا حقيبة صغيرة لا تتسع لأكثر من بذلتين ولابتوب وأدوات استحمام، نزل مسرورا وأشبع رئتيه بأول موجة هواء غمرته في محطة Gare-De-Lyon وقد كانت مطعَّمة برائحة التبغ والمنتظرين وبملامح الشاب الذي منحه فرصة الكلام بالعربية:
-         حمدا لله على سلامتك، عربي؟
-         نعم يا سيدي، ناقة أحد أجدادي العظماء أحبت مراعي شبه الجزيرة العربية كما أتوقع.
ضحك الشاب الذي كان ينطق حرف السين بطريقة مستفزة وبرز تقويم أسنانه ذو اللون الأحمر:
-         أود سؤالك عن الطقس في جنيف.
-         مناسب للـ... لم أنت مسافر؟
-         لمجرد تغيير الجو.
-         هل أبوك يعلم؟
-         أبي؟
سأل الشاب مستنكرا:
-         لماذا؟
ثيودور باسما بحماقة:
-         آسف، كنت أسأل نفسي. لن تجد الكثير من الفروق، لا أحد يغير جوا أوروبيا بآخر أوروبي، الأجواء الأوروبية تشترك في نفس درجة الرتابة ودبق الزحام في هذه الأيام، بصراحة؟ أنت تسأل الرجل الخطأ، فلتسأل أشخاصا ذاهبين، لا رجلا عائدا وفي انتظار جنازة.
الشاب يفتعل التعاطف:
-         جنازة؟ عظم الله أجركم، هل تحتاج مساعدة؟
-         لا لا.. لا أعرف صاحبة الجنازة إلا بكلبها الأبيض الذي يلحس ساقيها المقرفتين دائما. لقد كانت أم رفيقتي في السفر.
-         وكيف حال رفيقتك الآن؟
-         سعيدة جدا.
-         يا رجل، إنك تربكني. كيف تكون سعيدة وقد فقدت أمها اليوم؟
 يطلب منه ثيودور التنحي جانبا، يجلسان، يجيب ثيودور بلا تفكير:
-         رأيتها سعيدة. لا أحد يعلم كم أن وفاة أحد الوالدين أو كليهما تبعث السعادة، طبعا يجب أن نكون بالغين وقادرين على التناسل عندما يموت والدونا شر ميتة، فسنكون ساعتها قد انتظرنا موتهم طويلا.
-         أكره أفكارك.
-         طبيعي جدا. فأنت ممثل بارع. ها انظر، إنك تكبت رغبتك في ضربي.
دنا منه الشاب وصفعه صفعة أدمت خدَّه الأيمن. كان شابا رياضي الجسد وسريع الغضب كما تنبأ ثيودور. لكن الذي أدهش الشاب وأدهش الناس الذين تجمعوا أن ثيودورا لم ينفعل. كأن الأمر عاديا جدا كإلقاء تحية أو التلويح بيد للوداع بطريقة مؤلمة. أحس ثيودور بدوار طفيف ورنين في أذنه وتوجه إلى باب القطار ليتلقى أوسا الحزينة.  
قال لها وهو يلتفت إلى الوراء ويلمح الشاب المؤلم يبتعد عنه:
-         كيف حالك الآن؟
أوسا مبتسمة:
-         أشعر بالانتصار عليك.
-         تقصدين الصفعة؟ اعتدت عليها يا أوسا، أبي كان ينهي كل مجالسه الوعظية معي بصفعة تكون أخف بالنسبة لي كل ليلة.. هذا الشاب اللعين أعاد لي صورته الكريهة، لكنني سعيد لأن وجهه الذي يشبه وجهي قد توجَّع.. أستطيع أن أواسي نفسي وأقول إنه صفع أبي الذي يتمرد في وجهي.
-         أفكارك ليست سعيدة دائما. لكن هل تعلم؟ اكتشفت أن ما قلته عن الآباء والأمهات صحيح. قبل قليل كنت أنظر إلى وجه أمي، لمسته، وجدته جافا كجدار قديم، كرهته، كانت أمي تجبرنا أنا وأخي الأكبر على أكل البيض المسلوق كل صباح، وعندما نعترض كانت تحشو أفواهنا به.. كبرنا فصارت تحشو أفواهنا بالكلمات التي يجب أن نقولها لمن هم أكبر منا، والصلوات التي يجب أن نرتلها كل أحد.. لكن أبي شيء آخر، إنه ملاك خطفه الموت قبل أن أراه، قيل لي إنه كان طبيبا.. مثلك يا ثيو وقد مات في أحد المختبرات عندما تيبَّست رئتاه من محلول الفورمالين، وجدوه ميتا بلا وصية ولا تركة، وقرؤوا آخر كلمة كتبها في تقرير عن حالة عنف أسري كان ضحيتها طفل في الثالثة جيء به ميتا إلى المستشفى بأصابع محروقة.
دنت منه وناولته اسمها المكتوب على عقدها الذهبي، قالت:
-          تزوجني.
نظر إلى وجهها طويلا ثم قال وهو يتراجع إلى الوراء:
-         لن أعيش بقية عمري ضابطا قاسيا مع جميلة حمقاء مثلك!
هزت رأسها وكانت تشعر بالسعادة لأنه كان يختفي من وجودها. ثم خطرت لها فكرة أرعبتها وجعلتها تحرك رجليها بسرعة نحوه. عندما توقفت بالقرب منه كان يأمرها بالعودة. التقطت أنفاسها وسألته باكية:
-         لكن.. هذه الروح التي تسكنني.. كيف ستنال الخلود إذا مت وحيدة بلا ذرية؟
أجابها بدون أن يتوقف:
-         كوني فنانة ولن تموتي. لكن لا تكتبي على الزجاج لأن اسمك سينمحي!
أوسا تبكي بصوت عال وتركض بعيدا عن القطار الذي تتجمد فيه أمها العجوز مسجَّاةً بمعطف كاكيٍّ نظيف. يغيب صوت أوسا حتى يختفي وتعلو أصوات باريس التي لا ينقطع دبيب الحياة فيها.  يخرج الشرطي ويبحث عنهما لكنه يعود إلى بعض الركاب الذين اضطروا للانتظار مجاملةً ومواساة لأوسا. رفع سماعته ونادى نداء سريعا، ثم قال غيرَ ملتفتٍ إلى أحد:
-         هؤلاء الأطفال لا يحترفون الحياة، لقد لوثهم العلم تماما. 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.