04‏/06‏/2016

نظرية الحركات الإيقاعية: هل كان الانتخاب الطبيعي ثملا عندما طور الموسيقى والرقص؟


جينيفر جراي وباتريك سوايزي يرقصان على جذع شجرة، من فيلم dirty dancing
"تبدأ حياتنا بتهويدة،
 تنضج على وقع موسيقى الزفاف،
 ثم تنتهي بالموسيقى الجنائزية" Tianyan Wang, 2015

هل كان الانتخاب الطبيعي ثمِلا عندما طوَّر الموسيقى والرقص؟ نحن نؤمن بأنه حكيم ويبحث دائما عن مصلحتنا الوجودية، فهل أصاب حينما انتخب الرقص والموسيقى - هذه الأشياء الدنيوية الفانية؟ إذا كانت الموسيقى تكيُّفا، فما هي المشاكل التطورية التي واجهها الإنسان والحيوانات الأخرى بعذوبة الموسيقى وحرارة الرقص؟

"الموسيقى موجودة دائما في تاريخ وثقافات الإنسان، ولديها القدرة على استحثاث المكافآت rewards وإثارة العواطف emotions الإيجابية والسلبية"، "والموسيقى لا تكون وحدها أبدا، بل تكون مصحوبة بالرقص والحركات المتناغمة الأخرى، ليس في الإنسان وحده، بل حتى في الحيوانات الأخرى". "وإلى جانب الرقص، تتشارك الموسيقى الكثير من الصفات والدوائر العصبية neural circuits مع الكلام". لكن برغم هذا يبقى وجود الموسيقى مُلغِزا وسرُّ نشوئها محيِّرا. "منذ داروين (1871)، الكثير من العلماء اعتقدوا أن موسيقى الإنسان يجب أن تكون تكيُّفا adaptation" أي يجب أن يكون الإنسان واجه بعض المشكلات التطورية التي تطورت الموسيقى لحلها. دراسات التوائم وعَمَهِ الموسيقى الفِطري congenital amusia (عدم القدرة على ملاحظة، تذكُّر، إدراك الموسيقى منذ الولادة) أكدت أن للقدرات الموسيقية أسسًا وراثية. لكن السؤال هنا "ما هي الضغوط التطورية المسؤولة عن نشوء الموسيقى والمشاعر الموسيقية؟".

هناك العديد من النظريات التي أجابت على هذا السؤال:
1- نظرية الانتخاب الجنسي sexual selection لداروين (1871): الموسيقى والرقص تطورا لفوائدهما في اجتذاب القرناء الجنسيين.
2- نظرية اتصال الأم بالطفل mother-baby connection لديسيناياكي (2000): احتياج الطفل إلى الاتصال بأمه يمكن أن يؤدي إلى تفاعُل مبني على الموسيقى [1].
3- نظرية التماسك الاجتماعي لبراون (2000) [1]. 

لكن في دراسة مثيرة (2015) [2] يقدِّم  Tianyan Wangمن جامعة تسينغ-هوا الصينية فرضية أخرى لتفسير نشوء الموسيقى والرقص والكلام من منظور أحيائي اجتماعي. وفقًا لتأثير دوبلر (نسبة إلى الرياضي الفيزيائي النمساوي كريستيان دوبلر: هو تغيُّر التردد أو الطول الموجي بالنسبة لمُستمِعٍ يتحرك نحو مصدر الصوت أو بعيدا عنه) [3] يرى Tianyan Wang أن الموسيقى والرقص يشكلان نوعا واحدا من الحركات (الحركات الإيقاعية rhythmic movements). ثم يفترض أن نظام المكافأة والشعور المتعلِّقين بالحركات الإيقاعية RRRE)) الذي يدفعنا للبحث عن الموسيقى والأحداث الإيقاعية نشأ لتكييف المتعضِّيات -الكائنات- مع بيئاتهم الداخلية والخارجية. ويرى أن نظام RRRE يستدعي نوعا آخر من المكافآت والمشاعر المتعلقة بالمجتمع تُدعى (SRRE).

ما هي علاقة الموسيقى والرقص ببقائنا؟ 
كما عرفنا، الموسيقى والرقص ينشطان نظام (RRRE) الذي بدوره يؤدي إلى تنشيط وظائف بيولوجية مثل الانتخاب الجنسي، ووظائف اجتماعية مثل تقوية علاقة الأم والطفل، ويعزز التماسك الاجتماعي. وهنا تغدو هذه الوظائف التي اعتُقِد أنها هي الضغوط التطورية التي جعلتنا نبحث ونستمتع بالموسيقى، تغدو هذه الوظائف ضغوطا ثانوية للضغط الأولي البيولوجي الذي هو نظام RRRE المسؤول عن نشوء الموسيقى كتكيُّف مع الحركات والأحداث الإيقاعية الداخلية والخارجية.
الحركات الإيقاعية موجودة بكثرة في البيئات المختلفة (الماء، الهواء، الأشجار) وتنتج بسبب قوى الطبيعة (الرياح، المد والجزر) أو بفعل الحيوانات؛ لذا تكيَّفت الكائنات المائية aquatic والبرية arboreal مع هذه الإيقاعات لمعايشة البيئات المرنة التي تحيط بها. الحيتان المفترسة وأُسود البحر مثلا طوَّرت حركات سباحة مميزة للتوافق مع بيئة المحيطات المتقلِّبة. من هنا يكون إدراك وإنتاج الحركات الإيقاعية وأيضا التناغم مع الإيقاعات الخارجية والداخلية بالغ الأهمية لبقاء الكائن المتعضي وتكاثُره؛ لهذا السبب طورنا نظام المكافأة RRRE من أسلافنا المائيين والبريين.

سبب بيولوجي أولي؟
هذا يعني أن الموسيقى تطورت لمواجهة ضغوط تطورية مهمة لبقائنا. وفي الواقع، تذكر دراسة حديثة (Sescousse et al., 2013) أن المكافآت المتحصلة من الأحداث الإيقاعية هي مكافآت أولية، أي كتلك المتحصلة من الطعام والجنس. بل إن تناغم الكائن المتعضِّي مع الأحداث الإيقاعية يمكن أن يكون أكثر أهمية لبقائنا من الطعام والجنس!
إذن ببساطة، نحن نستمتع بالموسيقى ونتراقص معها لأننا نبحث عن إرضاء أنفسنا وإشباع مشاعرنا، ما نبحث عنه يوفِّره لنا نظام تطور منذ القِدم لدى أسلافنا السابحين ومتسلقي الأشجار؛ وهؤلاء الأسلاف أصلا طوَّروا هذا النظام (RRRE) ليتغلبوا على تقلبات البيئة الإيقاعية (المتكررة) مثل حركات المد والجزر وهبوب الرياح.

هذه الدراسة معقدة ومتعددة الأهداف، فهي تبحث عن أصول الموسيقى والرقص والكلام معا، ولكنها على كل حال تنوِّرنا بافتراضٍ جديد يمكن أن يكون هو الضغط التطوري الذي أدى إلى تطويرنا هذا الشغف بالموسيقى والحركات الإيقاعية المصاحبة لها.

شكرا عزيزتي الطبيعة، تسقط التُّهمة! 
الخلاصة هي أن الانتخاب الطبيعي لم يكن ثملا، بل عاقلا جدا وحكيما كما نعرفه، إذ جمع بين الضرورة البقائية (التواؤم مع البيئة المتقلبة) والفوائد التكاثرية (الانتخاب الجنسي وعلاقة الأم بالطفل) ولمَّ شمل المجتمع في النهاية.


المراجع: 
[1] ir.lib.uwo.ca/cgi/viewcontent.cgi?article=1069&context=lme
[2] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4332322

01‏/06‏/2016

زهراء



تزيحُ خصلات شعرها عن وجهها. هكذا يبدأ الصباحُ غالبًا، وتشرق الشمسُ أكثر عندما تفتحُ عينيها. أول ما يواجهها هو السقفُ الذي أكلت الرطوبة جزءًا لا يستهان منه، وهي تحب أن تحدق فيه قبل أن تقوم بأي حركة. ترتّب أحقادها وتتساءل ماذا يوجد وراءه. إنها تدركُ جيّدًا أنه "ياسر". جارهم السكران الذي يضربُ زوجته كل يومٍ ويحبّ الموسيقى. لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتّى يبدأ بإزعاجه -كما يقول والدها- على نقيض ما تعتقدُ طبعًا، فقد كانت ترى أن الموسيقى هي حسنتهُ الحاليةُ الوحيدة. الشاهد اليتيمُ الذي ظلّ على عبقريته القديمة، فقد كان ياسر محاسبًا ماهرًا جدًّا يقدر على حلّ المعادلات الرياضية بخفّة قطةِ تمرُّ من تحت سيارة. يدهشُ الجميع حين يبدأ بالكلام فقد كان مثقّفًا، ثريًّا بالنظريات العلمية، وله رأيه الخاص في بدايات العالم ومجيئنا -نحن المخلوقات المزعجة- إليه. في أحد الأيام -منذ سنة تقريبًا- عاد ياسر من الشركة التي كان يعمل بها وأغلق باب غرفته. ظلّ وحيدًا لأسبوع ثم بدأ بأن يكون سواه. حينها لطمت زوجته وجهها وقالت: "لم يعد ياسر من الشركة في ذلك اليوم المشؤوم"، ولا أحد يعرف ما الذي حدث بالضبط. كانت "زهراء" متأقلمة مع جنون العباقرة ولم يكن جارهم المحاسب الموسيقيّ السكّير أول نموذج تراه لحماقة الوطن. ظلت تحدّقُ في السقف لخمسة عشرة دقيقة ثم قررت النهوض. في الطريق إلى المغسلة التقت بأمها التي كانت تبتسمُ ببساطة. لمّا عبرت بقربها قالت: "صباح الخير"، فاستمرت والدتها بالابتسام دون أن تتكلم.


فوق المغسلة مرآةٌ غبّشها الوقت ولم يستعد زجاجها لمعانه التام رغم كل النظافة التي تحرص عليها زهراء. يتبيّن وجهها طريقه الشفاف. لها بشرةٌ قمحيّة و"عينان خام" كما كان يقول لها رؤوف منذ سنين. شعرها مكنسةٌ مصنوعة من أوراق الخريف الناضح بخرابه الجميل، وكان لها غمازة واضحة في ذقنها الصغير تعطيها مسحة من الابتسامة الإجبارية. وهكذا كانت تبتسمُ عند المرآة في تمام الساعة السابعة كل صباح، ثم تنصرفُ لأداء واجباتها العادية متلخّصة في الترتيب والتنظيف والطبخ والغسيل. كل البيت كان يقوم على كتفيها. من بابه إلى محرابه. وكان والدها رجلًا قاسيًا وبلا عاطفة. انتهت رسالته السامية حين أنجب ثلاثة أولاد ورماهم نحو الحياة، وبهذا شارك في الجيل الجديد ولا يستطيع أحد أن يغيّب اسمه من بين المنجزين الذين تناسلوا على نحو جيد. لم تكن زهراء تحمل له أي عاطفة في المقابل مع أنها كانت تتمنى لو أنها تشعر أن لها سندًا أو صديقًا يتذكرها بقطعة شوكولا أو يحدثها بشيء غير الطلبات اليومية المجهدة.

كانت تبحث عن الحرية. لكنها لم تكن تعرف أن تحدد لها ملامح واضحة فقد كانت مفكرة دقيقة جدّا وملعونة للدرجة التي أنبت لها تفكيرها كل العوائق الكبيرة والاختلاطات التي يواجهها العالم من حولها. ولم تستطع أن تفهم لم وفي مكان آخر هناك امرأة تشبهها تعيش حياة أفضل منذ أن ولدت؟ "من أنا؟" ضاعت زهراء في ضباب هذا السؤال طويلًا. وكانت تدرك أنها في رحلة مضنية لإيجاد وجودها وإثباته. "حسنًا" قالت بتركيز وبدأت تكتب:
"أنا زهراء قادر الحاج حسن. عمري ثلاثون عامًا. كان عندي تجربة حبٍّ فاشلة لكن هذا يعني أنني أحببت. أعمل في التدريس. أوه! لقد تفاعلتُ مع أشخاص رائعين وشهدت على نطقهم لأول جملة صحيحة باللغة الفرنسية، ولم أكف يومًا عن سؤالهم عن أحلامهم. إنني أتساءل هل أصبح عزيز رسّامًا الآن؟ وهل سافرت غادة خارج هذا البلد حتى تنال حريتها كما كانت تقول؟ وهل صار أسامة خبّازًا؟
إنني موهوبة أيضًا في تنسيق الطعام. هل طبق السلطة الذي أقدمه -على أقل تقدير- يكون عاديًّا؟ أقسم ببشرتي الشفافة أن أخي يلتهمه ويقول لي متلمّضًا: "زهراء، هذا سعادة". بإمكاني أن أرقص ببراعة على أغنيات فيروز الكئيبة التي تندر فيها الموسيقى الشقية، وعلى جملة أم كلثوم البليغة جدا التي تختصر تمردي حين تقول: "عايزنا نرجع زيّ زمان؟" يزمّ جسدي نفسه مستفزًّا الهواء والمخلوقات اللطيفة، ثم يقهقه بصوت مدوٍّ: "ئول للزمان إرجع يا زمان!". حتّى أن صديقتي قالت لي أن أنتقل لإنشاء مدرستي الخاصة بالرقص وأن أخلص الناس من حركاتهم البليدة.
لديّ الكثير من المظلات الملونة التي تموج حول وجهي وبإمكاني أن أغير طقس المدينة من خلال قميصي البحري كما يمكنني أن أقرأ بسرعة بالغة، وأصطبغ بلون الورق حتى لو كان الكترونيًّا. في الأسبوع الماضي تتبعت أثر قطة سوداء في العتمة، وتغلبتُ على خوفي فيما يخصّ دناءة عينيها ولغتها المفاجئة، فنظرتُ إليها مباشرة حين ماج ضوء سيارة عابرة ثم ضربتُ الأرض برجليّ حتى طردتها من البقعة التي أردتُ أن أقف عليها، كما ذهبت إلى المقهى الذي في نهاية الشارع مع صديقتي التي أعتبرها "تحويشة عمري" أليس عظيمًا أن يمتلك الإنسان منا صديقًا حقيقيًّا لهذه الدرجة؟ كان المقهى يبدو غائرًا في بشرة الحياة مثل ندبة. تتراوح أضواؤه بين درجتي الأبيض والبرتقالي، وتنبعث منه رائحة الشاي والفاكهه، ويسمع صياح رجال متحمسين لكرة تحف على العشب لكنها لا تكمل طريقها تجاه الهدف.
هل أكون الكرة؟ كان النادل الذي كان يحدق بي شابًّا طويلًا يرتدي قميصّا تفاحيًّا وبنطالًا كحليّا ويحيط معصمه بساعة ضخمة على نحو مبالغ فيه، وكمعظم الرجال الذي التقيت بهم هذا الأسبوع فقد كان يستحم بالعطر ولا بدّ أن أشير إلى أن العطر كان فاشلًا جدا وأنني قررت في لحظة حماس أدبي أن أكوره في روايتي القريبة التي سأجمع فيها كل الرجال التافهين وعلى رأسهم أبي وعمي بلال وبائع الخضرة، صاحب الدهون السمكية المتراكمة في عقله.
إنني إذن موجودة. أسمع أنفاسي وأمتلك هذه اللحظة التي أكتب فيها وأجد الوقت رغم أمومتي المفروضة علي حتى أشذب شعري وأضع الكحل وأقهر الحشرات التي تخرج من رأسي. إنني لا أقل أهمية عن أي فنان يصفّق له الآخرون. أنا كل الآخرين وإنني أصفق لنفسي، وأعينها كل يوم على القيام لأمنح هذا الوطن فتاة حلوة تساهم في إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن.
أنا زهراء التي أرعى عصفوريّ دوري وأحرص على إطعامهما كل صباح. أضع الياسمين في شعر أمي حتّى لا تشقى وأسلّم على كل الأصدقاء الذين يختلفون عني ولا أبيع معتقداتي لأحد ولا أسول استعارتها أيضًا، وأعطر قميص أخي قبل أن يلتقي بحبيبته. ألا تعرفون؟ إنني أمنحها الرائحة الأبدية التي تدفعها إلى سماع دقات قلبه فأخي لا يعرف كيف يقول لها ذلك. وهي تبتسمُ مطولا وهي تتنفس منه.
أجزم أنني لن أشيخ ولن أشك في وجودي مرة أخرى، ولن أسمح لجمالي أن يصير لعنة كما حدث لجارنا المسكين. إنني أمنحكم عبقريتي كيفما أشاء. ووحدي أقرر متى أرفع يدي لأريكم الغبار الكوني العالق تحت إبطي".

30‏/05‏/2016

لوردي




كان كلّ ما في "لوردي" بسيطًا باستثناء اسمها الذي اعتبرهُ أستاذ اللغة العربية شيئًا خارجًا عن مألوف شخصيّتها، ولا يليق بتلعثمها حين تلقي قصيدةً ولا برداءة خطّها وهي ترسمُ الياء في نهاية كلمة "علي". كانت قليلة الأصدقاء. تصاحبها "سلمى" المصابة بفرط الفلسفة، و "علياء" التي كان همّها الوحيد أن ترسم خطوطًا غير مفهومة وتسمّيها لوحات فنيّة، ثم تسخرُ من بيكاسو ودافنشي، وهي تمضغُ اللّبان بالنعناع وتصنعُ منه بالونًا كبيرًا جدًّا. كانت لوردي تتخيّلُ أن البالون يمكن ألا ينفجر بل يأخذ بالاتّساع فقط حتّى يصير وطنًا لها، تجلسُ داخلهُ وتمدّ رجليها، ثمّ تشاهدُ غباشةَ العالم الخارجي. لكنّ صوت انتهائه وارتطامه بشفاه علياء الغليظة كان يوقِفُ مجرى خيالها ويعيدها نحو الواقع، ويلفتُ انتباهها أن لها ظلّا على الأرض يميلُ معها ويعكسُ شكل جسدها المكتنز الذي لم تكتشف بعد، فقد قالت لها أمها أن الجسد هو الجزءُ القذرُ منّا، لكنّ الروح هي الأهم وعليها تغذيتها بالصمت الطويل، والتأمل، وعدم التدخل في مشاكل العالم وبالتالي عدم التفكير في حلّها وبالتالي انعدامٌ نسبيٌّ للوجود. كانت لوردي تنتفضُ عندما تتذكر هذه المواعظ التي استمرت والدتها بتكرارها على طاولة الفطور كلّ يوم. وكانت تتساءل في كهفها العميق عن إمكانية أن يكون هذا سخيفًا جدًّا وتافهًا، وأرادت بكلّ عمق أن يكون لها صديقً وفيٌّ -غير "دبّها الأحمر" الكبير الذي يغنّي ذات الأغنية منذ خمسة سنوات- تحكي له عن الرعب الذي يرافقها، وكيف أنها تخاف من نفسها لكنها تريد أن تقرأها رغم كل شيء، وتريد أن تدرك شجاعتها المخبّأة وتكون قادرة على مناقشة صديقتها في القضايا الفلسفية برأي يخصها وحدها، والخربشة أيضًا، إذ لطالما شعرت لوردي برغبتها في رسم امرأة عارية مزهوة بجسدها. وكانت تتساءل: "هل تستطيع امرأة متّسخة الروح أن تزهو بجسدها؟" كانت ترى أن التصالح مع الجسد يحتاج إلى قوة روحية عظمى، وهذا ما حاول الأستاذ حسين "الخرفان"-كما يسمّيه الطلاب- أن يقوله يوم الأربعاء الفائت.

تسكنُ لوردي في حيًّ متوسط الرفاهية، فيه "دكان" كبيرة جدا تتلخص فيها كلّ مفاهيم الحرب اللعينة من غلاء الأسعار وانعدام الشفقة والمعلبات التي تجبر على شرائها. في الحيّ بضع سيارات لامعة يغلبُ عليها اللون "الرماديّ الفاتح" الذي كان يساعدها على التأكد من شكلها جيئة وذهابًا من المدرسة. وقفت لوردي أمام سيّارة "العم محمود" الأكثر فخامة. كانت مكتنزة على نحوٍ مغرٍ، شعرها بنيٌّ قد طُبخ للتوّ فسالت منه رائحة الشوكولا المدهشة. ممسّدٌ نحو الخلف تشعّ منه شموسٌ ضغيرةٌ ومشاكسة. لها بشرة بيضاء لا تخلو من التورّد وما يميّزها هي "الشامةُ" التي تعلو فمها المخلوق بتأنٍ تامٍ وملفت.
"قشطة يا قشطة" قاطع شابٌّ تأملها، ومن دون أن تفكر قالت له: "تضرب بشكلك" وكأنها تعني: "أنا حلوة جدا، أحلى منكم جميعًا، أحلى من كل خرابكم اللعين".
ثم مررت يدها على السيارة وقالت: "أبو محمود بنئ دايمًا إنو ما معو مصاري. نخر راس أبي وهوّ بنئ. إي وحياة هالشجرة إنو سيارتو لحالها حقها بلاوي. لك أنا بئدر إشتري فيها كومة كتب وإعمل بالبائي طيارات ورق وساعتها أبو محمود بينجلط طبعًا".

تدخلُ لوردي المنزل. تخلع حذاءها وجوربها الذي يكون غالبًا مخططًا بعدة ألوان. تسلم على والدها المتسمر أمام الأخبار ثم تتبع رائحة الأكل. "محااااااشي؟" تصرخ لوردي ببهجة، وحين تمدّ يدها نحو الوعاء تتلقى ضربة خفيفة. تصعد مسرعة نحو غرفتها. تبدل ملابسها. تغسل وجهها ويديها ثم تنزل. على المنضدة الخشبية المستديرة تبدأ بالتهام طعامها المفضل. دائمًا تكون أول من ينتهي. تبدأ بعدها بفتح أحاديثها البسيطة وتستخدم يد والدها كملهمٍ أساسي. أحيانًا تخترعُ أحداثًا وهمية لتنال ضحكته، وحين تنجح تمعنُ في الاختراع أكثر حتّى يقهقه. تشعرُ عندها بالانتصار الصغير الذي يعطي لوجودها معنى مقدسًّا، ويجعلها جذابةً بما يكفي لتغطّي على أصوات القصف البعيدة، ويجعل قامتها أكثر ارتفاعًا من "الدولار" اللعين. هكذا تقضي لوردي أيامها. أحيانًا تحاول أن تقول شيئًا مهمًا للمرأة الصغيرة، أو أن تحصل على فرصة للغناء لكنها تعجز دومًا عن إيجاد الأغنية الملائمة لذلك كانت تكتفي بالاستماع لدبها الوفي، وتصفق له بحرارة.

اليوم هو الأول من أيار والشتاء قد حلّ من جديد.  البلاد تحتفل -رغم كل شيء- بعيد العمال. لوردي  تتذمر دومًا من الاحتفالات والعطل وتضع نفسها ندًّا إذ تقول: "لماذا لا يحتفل أحد بيوم للطالبات؟ لماذا لا تحصل البلاد على عطلة في يوم ميلادي؟". قررت خالتها أن تصطحبها ليقوموا بإحضار صديقة نازحة كانت قد تركت بيتها بسبب الأوضاع الصعبة. فرحت لوردي جدا وفكرت أن بإمكانها أن تحصل على نافذة متحركة، وأن تحظى بالهواء الكافي لتستجلب أحلامها وقدرتها الخارقة. في تمام الساعة التاسعة كانتا تقفان على باب "كراج الحافلات". اندهشت جدًّا بالناس الذين يعافرون الحياة رغم اليأس، ويختارون لأسباب متعددة أن يتوجهوا نحو متابعة مشاغلهم رغم الثقب الواضح في ظهورهم. تقول وهي تستند على كتف خالتها: "كثافة سكانية ملفتة، لم ترد في كتاب الجغرافيا" تضحكُ بصوت مرتفع، تستمرّ بالضحك حتّى..
بوووم
تفر العصافير القريبة ويهتزّ سرير فتاة في الطابق الخامس من هول الانفجار. يسيطر الضباب الكثيف والصراخ. وهناك قريبًا جدًّا تركض لوردي. إلى أين تأخذها قدماها؟ وما هو الطريق الذي يجب أن تسلكه؟ حاملة عبء وطنها على كتفها ورامية ثقل الدماء فوق كفّها الأيمن وقابضة على سمكة حيّة بيدها اليسرى. أما قلبها فهو لوحة مليئة بالألوان التي يعبث فيها الخوف ثم يفر منها صوت داخلي يقول: "أنت قوية. أنت جبل. أنت حلوة جدا والحلوات لا يمتن هكذا. ليس عن طريق الخطأ، ولا قبل أن يرسمن رجلًا أسمر يدخن سيجارته العاشرة ويلعب الغمّيضة مع ذاكرته".يستحيل الخوف إلى قطعة هشّة من القطن ويطير حتى يصير شيئًا مجهولًا لا يعرف عنه إلا اختفاؤه بين ضفائر الفتيات اللواتي كنّ يصرخن أيضًا. من يمنحنا الحياة؟ كانت خطواتها تتساءل وكلما لهثت أكثر تأكدت أنها الآن مسؤولة عن منح الحياة لنفسها ومن الخطأ أن تتوقف عن الركض. فالتوقف الآن يعني الموت، انهيار القمة التي عمرتها واستنبتت منها مطرًا وبحرًا وقاربًا. كان يعني التخلي عن شجرة الزيتون في حديقة بيتهم الأول وعن مذاق القبلة الأولى وعن الذراع الرطبة التي ستعلق عليها خيوط الفجر وبدايات العالم وتحارب بها الأسئلة الكثيرة والحزن الذي لا يهدأ. أخيرًا تنال لوردي ما تمنته دائما وهي الآن بعد أن جلست على رصيف آمن تشعر أن روحها هي مجموعة من الدبابيس التي ثقبت عقدة الجسد حتى طار وتهشم. وسوف تعرف لاحقًا أنها فقدت خالتها وصديقة كانت موجودة في نفس المكان.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.