26‏/03‏/2016

تفاصيل (8)~ موسيقى


أنا منذ البدء، هذه الأخيلةُ الملونة أنا، هذا الصوت الساري المتعفّن

هذه أغنيةٌ إيطاليّةٌ مليئةٌ بالتعب، ساعة حمراء، طائرة ضخمةٌ تمرّ فوق رأسي ولا تقلقني، صوت جارنا وهو يحدّثُ صديقته على الشرفة ويضحكُ ببذاءة، كوب شايٍ مضى على انتظاره ثلاثون دقيقة، فكرةٌ مضيئةٌ ومحرجة، أسئلةٌ وجوديّةٌ عالقةٌ أظنّها تبعثُ ما يكفي من الفوضى، وذات مرةٍ قررتُ أنا وصديقتي "الهبلة" بعد أن سكرنا بكأسين من "الكابتشينو" أنّ بعض الفوضى لا تنتهي إلا بانتهائنا، واتفقنا أن نتصالح مع هذه الحقيقةِ، وألّا يودي بنا عجزنا عن إيجاد جوابٍ إلى الانتحار، ثمّ قلنا للنادل: "أعطِنا كأسًا آخر"، وحين شربناهُ نسينا ما قلنا، ووضعت كلّ واحدةٍ منّا خطةً مُحكَمَةً لإنهاء حياتها، هي قررت أن تذهب إلى البيت، تتابع فيلمًا لريتشارد غير، وتتصل بوالدها وتخبره بطلباتها المتعلّقة بالشوكولا، وبعد ذلك تملأ حوض الاستحمام، تمدّ لسانها للفوضى، وتموت بهدوءٍ حتّى تصيرَ فقاعةً جميلة، بينما اخترتُ ببساطةٍ أن أنتظرك، الأمر يشبه أن أدخّن سجائري المفضّلة، وأبحلق في فوضاي طويلًا وبشكلٍ مستفز، أن أراقب تساقط أجزائي، وأظنّ أن قلبي هو آخر ما سيغمض عينيه، ويرتاح أخيرًا بعد أن خاض تجربتهُ الفريدة وشهد التحولات العظيمة، ألا تعتقدُ ذلك؟

انتهت الأغنيةُ الإيطاليّةُ بصراخ الرجل وأظنّ أنها طريقته ليعبّر عن فوضاهُ هو الآخر، تبدأ الآن موسيقى بطيئة مُشبَعة بالحزن، يخيّل لي أنها تعطي صورة بانوراميّة لمدينة كاملة تتشتت فيها الألوان حتّى تصير رمادية بالمجمل، وهذا النقرُ الخفيف الذي يصاحبها يشبهُ أنثى ترقصُ حافيةً عند الميناء، وتحاولُ أن تصير سمكةً قبل أن يقبض عليها تجارُ الحرب ويذبحوها لأن خصرها جميلٌ وفتّان، يتوقف النقرُ وتحلّ مكانه موسيقى أكثر دأبًا، "جاء الجرذانُ إذًا" ربّما هذا ما تقوله الفتاةُ المسكينةُ، بينما تستمرّ بالرقص وتحرّكُ يديها، ويظهر جسدها القمحيُّ من تحت الفستان الشفاف المائج، وكلّما اشتدت الموسيقى صارت ملامحُ الأنثى أكثر وضوحًا في مخيّلتي، إن لها عينا قطّة ورشاقة أفعى، وفي وجهها "شامةٌ" بارزةٌ ومُقلِقة.
تنتهي المقطوعةُ بقرع طبلٍ ولمرةٍ واحدة، ولا أستطيعُ أن أجزم ما يمكن أن تكون النهاية لكنني أفضّلُ انتصارها وأفضّل أن يكون رقصها أمضى من سيوفهم!

ألاحظ الآن أن الساعة تسيرُ نحو الثالثة والنصف ليلًا، وأنّ أمي نسيتْ إطفاء الشمعة الموضوعة في الممر الطويل، وهذا يعطيني شعورًا غامرًا بأنني عتيقة، أسكنُ في قلعةٍ تعود إلى العصر الروماني، وأنني سوف أمسكُ ذيل فستاني وأقطع الممر لأقابل رجلي السري الذي لا يبدو جذّابًا جدًّا، وربّما أحتسي معهُ النبيذ وأقبّلهُ، وبعد ذلك أُطلعهُ على حياتي الثانية التي أعيشها في مدينةٍ أكثر تحضّرًا.
وكيف أنني أرتادُ مقهىً بحريًّا وأتمتع بخصمٍ على وجبات غدائي لأن عندي بطاقة عضويةٍ مميزة، وكيف أن الحروب تُقادُ من السماء، وأن ليس بإمكانه أن يزورني لأن الرجال لا يستطيعون أن يكونوا خفيفين لهذه الدرجة ولا يستطيعون أن يكونوا أطفالًا مرتين!

توقظني الموسيقى الهنديّة الآن من أفكاري، لكنها مختلفة عما سمعتهُ من قبل، فعادة يكون الهنود أكثر حماسة، وتكون موسيقاهم معدّة للرقص البذيء الصادق، وللمتعة القصوى، لكنّ هذه الجمل منكسرةً وبطيئة أيضًا، وأظنّ أن الرجل يقول: "تركتِني في منتصف الغابة، واحترقتِ كأيّ فراشة، لكنّ الريح حملتكِ إليّ مجدّدًا بطريقةٍ غريبة، فوُلدتِ من بين ذراعي وأصبحتِ مكتملة مرّة أخرى، أووه يا عزيزتي كم نحن خالدان"


على الهامش : "كقطع سحابٍ تذوب في ضوء الشمس"

25‏/03‏/2016

القولون العصبي: عقبات يصنعها الناس!



متلازمة القولون المتهيج Irritable Bowel Syndrome هي اضطراب وظيفي مزمن في القناة المعوية المعدية (الجهاز الهضمي). يعاني المصابون بهذا الاضطراب من أعراض مثل: ألم البطن، تغير البراز: إسهال (أكثر شيوعا IBS-D)، إمساك IBS-C أو كليهما IBS-M.
حسب التحليل الإحصائي لدراسات مختلفة حول العالم (2012)، متلازمة القولون المتهيج شائعة عالميا بنسبة 11.2% تقريبا، تتراوح بين الأقل شيوعا (7%) في جنوب آسيا والأكثر شيوعا (21%) جنوب أميركا. وهي أكثر شيوعا في النساء من الرجال بنسبة 67%. نصف المرضى لاحظوا بداية الأعراض قبل سن 35، ونسبة الحدوث بعد سن الخمسين أقل بـ 25% من نسبة الحدوث في من هم أصغر.وجود أقارب عانوا من متلازمة القولون المتهيج يزيد خطر الإصابة إلى الضعف (دور الوراثة) [1].

معدلات انتشار متلازمة القولون المتهيج حول العالم؛
اللون الأبيض يشير إلى انتشار أقل واللون الأسود يشر إلى انتشار أكثر.
من الممكن أن يعاني مريض القولون المتهيج من أعراض أخرى هضمية وغير هضمية. الهضمية مثل: الإرتجاع المعدي المريئي GERD وعسر الهضم، الانتفاخ والشعور بعدم اكتمال التبرُّز. غير الهضمية مثل: متلازمة التعب المزمن، آلام مزمنة في الحوض، خلل المفصل الصُّدغي الفكِّي، الاكتئاب، القلق والاضطراب جسدي الشكل (الشعور بقلق شديد متعلق بعرض جسدي كالألم والتعب) [2].

يمكن تشخيص شخص ما بمتلازمة القولون المتهيج إذا تكررت الأعراض ثلاث مرات في الشهر على الأقل لمدة ثلاثة أشهر وإذا بدأت الأعراض لأول مرة قبل ستة أشهر على الأقل [2].

أسباب متلازمة القولون المتهيج لم تُفهم جيدا بعد، فبعض أنواع الأطعمة (الغنية بالكاربوهيدرات، القهوة، التوابل، الكحول) تؤثر في أشخاص ولا تؤثر في آخرين. كذلك القلق يزيد شدة الأعراض، لكنه لا يسبب المرض نفسه كما يتوقع كثير من الناس. يعتقد بعض الباحثين أن للهرمونات دورا مهما، فالأعراض تزداد عند النساء في أوقات الدورة الشهرية والنساء بعد سن الحيض يعانين من أعراض أقل. التهابات القناة الهضمية (الالتهابات البكتيرية) قد تزيد خطر الإصابة عند بعض الناس لسبب مجهول [3]. قد نعاني من هذا الاضطراب إذا حدث خلل في الإشارات العصبية بين أدمغتنا والأعصاب التي تغذي قنواتنا الهضمية (هناك أدلة متزايدة تدعم هذه النظرية [4]) أو إذا كانت هذه الأعصاب زائدة الحساسية للألم أو إذا اختلَّت مستويات النواقل العصبية (سيروتونين Serotonin) [2].

لا يوجد علاج نهائي لمتلازمة القولون المتهيج. هناك أدوية وتغييرات في نمط الحياة قد تخفف من شدة الأعراض. من المهم تجنب الأطعمة المهيِّجة واتباع نمط حياة جيد وتناول البروبيوتيك (ميكروبات غير ضارة كتلك الموجودة في الألبان) والأدوية مثل: الألياف والمليِّنات في حالات الإمساك، لوبرامايد Loperamide في حالات الإسهال، مضادات التشنج لتخفيف الألم، مضادات الاكتئاب. وهناك جدل حول فائدة استعمال المضادات الحيوية مثل الريفاكسيمين Rifaximin لتخفيف انتفاخ البطن [2]. من الجيد ذكر أن دراسات عديدة وجدت أن أخذ كميات كافية من البروبيوتيك (خصوصا سلالة البيفيدوباكتيريا Bifidobacteria) يساعد على التحسُّن [2].

عادة يرى الناس المصاب بمتلازمة القولون المتهيج شخصا عصبيًّا وسريع الغضب ودائم القلق أو يقولون لمن يُعرف بسرعة الغضب والقلق: أنت مصاب بالقولون العصبي! هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة، لكنني اخترت الأكثر شيوعا في العالم العربي، ومنها [,65]:

1- القولون العصبي ليس مشكلة كبيرة: يشكو بعض المرضى من إهمال الناس لهم وتهوينهم من خطورة مرضهم. هذا نتج من الفهم الخاطئ لهذا الاضطراب واعتباره مشكلة صحية بسيطة. لكن بالعكس، هذا الاضطراب يؤثر على الكثير من نواحي الحياة: الأسرة، العمل، العلاقات الاجتماعية.  

2- القلق يسبب القولون العصبي: القلق والاكتئاب عرضان نفسيان يزيدان من شدة الأعراض لكن لا يسببانها. القولون العصبي ليس مرضا نفسيا كما قد يُعتقد.

3- التشخيص مكلف لأنه يحتاج إلى الكثير من الفحوص: الحقيقة هي أنه لا يوجد فحص خاص بالقولون العصبي. يستطيع الطبيب التوصل إلى التشخيص من طريق الأعراض التي يصفها المريض وليست هناك فحوص كثيرة وباهضة الثمن. بعض المرضى لا يطلبون المساعدة الطبية بسبب هذا المفهوم الخاطئ الشائع.

4- مرضى القولون العصبي سيعيشون بقية حياتهم على حمية غذائية قاسية: كما ذُكر في الأسباب، بعض الأطعمة الغنية بالكاربوهيدرات أو الأكلات المتبَّلة قد تسبب القولون العصبي أو قد تزيد من شدة أعراضه، لكن هذا لا يعني أن المرضى سيتجنبون قائمة طويلة من الأطعمة! بعض برامج الحمية تناسب مريضا ولا تناسب آخر. بعد مناقشة الطبيب، يستطيع الشخص أن يحدد خيارات غذائه ويستمتع بها.

5- الحليب يسبب القولون العصبي: بعضهم يخلط بين مرض "عدم تحمُّل اللاكتوز" والقولون المتهيج. الحليب الذي يحتوي على اللاكتوز قد يسبب مشاكل هضمية كالغازات عند الأشخاص المصابين بعدم تحمل اللاكتوز، لكن كما قرأنا، في متلازمة القولون المتهيج ليس هناك طعام وحيد يسبب الأعراض. تجنب الأغذية التي تحتوي على اللاكتوز قد يخفف الأعراض إذا رافقته تغييرات أخرى في الطعام مثل الإكثار من الألياف والتقليل من الحبوب.

6- قد يسبب القولون العصبي أمراضا خطيرة كالسرطان: لا توجد علاقة مدروسة علميا ومُؤكدة بين القولون المتهيج والسرطان.

7- من المحال التخلص من القولون العصبي: من المعلوم أن IBS اضطراب مزمن، لكنه متقلِّب فمن الجيد السعي مع الطبيب باهتمام لتخفيف الأعراض. الأخبار الجيدة هي أن مشاكل القولون المتهيج تختفي من حياة 10% من الناس سنويا [5].

8- لا يوجد علاج جيد للقولون العصبي: هذه إحدى العقبات التي يواجهها المرضى وقد ييأسون من الشفاء والاستمرار في الحياة السعيدة بسببها. الحقيقة هي أن الاستشارة الطبية، تنظيم الغذاء، تغيير نمط الحياة واستعمال الأدوية المتاحة بدون وصفة طبية  over-the-counter drugs (مثل البانادول أو الأدول) ستتيح للمرضى فرصة الاستمتاع بحياتهم والتحكم بأعراضهم [6].


المراجع (المصطلحات الطبية مترجمة وفقا لموسوعة ويكيبيديا لتسهيل البحث)
[1] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3921083
[2] www.niddk.nih.gov/health-information/health-topics/digestive-diseases/irritable-bowel-syndrome/Pages/symptoms-causes.aspx
[3] www.mayoclinic.org/diseases-conditions/irritable-bowel-syndrome/basics/causes/con-20024578
[4] www.badgut.org/information-centre/a-z-digestive-topics/ibs-and-serotonin
[5] www.webmd.com/ibs/features/ibs-myths-common
[6] www.med.umich.edu/opm/newspage/2007/hmibs.htm


24‏/03‏/2016

تفاصيل (7)~ تبّا وحبًّا لك.



أنفي ممشوقٌ تمامًا، ولو أنني وضعتُ محور تناظرٍ في منتصفه لتطابقت جهةُ اليسار مع اليمين، لذا أنا مستعدةٌ لاستقبال رائحتك، لإدراك وجعك، للبكاء الطويل المؤلم، ولمعرفة أيّ زهرةٍ سيختارها ربيعك.
وإنني أفكرُ أن أغلي بحرًا من البُنّ وأستمتع بجزر "الهال" التي تطفو فوقهُ وتتباهى، وأنتظر حلول العمر المناسب حتّى أروي لك بعض الأشياء السخيفة التي لم تمتلك الوقت الكافي حتّى تسمعها، وحتى تدركَ أن كل هذا الضباب العطريّ لن يطغى على رائحة جلدكَ بعد السّفر الطويل، وخوض المنافي..

وإذ تسيرُ الساعةُ نحو العاشرة مساءً، فإنني أستقيمُ على سجادتي الدمشقيّة، أمسدُ شعرها الكثّ بيدي، ثمّ أرفعُ بصري نحو السقف الأجرد، وأزرعُ مشنقةً من الزهور، وأتخيّلُ أن عصفورًا يتدلّى منها وهو يبتسم، ربّما لأنهم ما استطاعوا أن يحرموه من إطلاق تغريدته الأخيره، سيكونُ من الجيّد -انفعاليًّا-أن أنتفض وأصرخ، أليس كذلك؟ أن أحلّ العقدة وأدفنهُ في حديقتي، أو تحت بلاط غرفتي، لكنني أدركُ سعادتهُ، وأعرف أن العصفور يهوى العلوّ، ولن يكون عادلًا أن أقولَ إنّ " إكرام العصفور دفنه".
أنا هكذا يا حبيبي، سأودّ إذا ما رأيتني معلّقة على ناصيةٍ أو شجرةٍ أو بندقيةٍ ألا تحزن كما يفعلون، وألا تقول أنني رحتُ هباءً من أجل انفعالاتٍ سخيفةٍ، أو قضايا حمقاء، بل اتركني وتأمّلني بهدوء واعلم أنّ "طيراني كان حَسَنًا"، وكانت غايتهُ النبيلة هي الوصولُ إليك.

23‏/03‏/2016

قصة قصيرة: سمكةُ عبدُه (2)





توقفت على بعد خمس خطوات منها. كنت قصيرة القامة تتمايل مع قوة الريح ورذاذ مطر لم أدرك وجوده. قلت لها بجراءة رجل لا ينام على سرير: "أحسنتِ، لقد دوَّختِ هذا الصياد القديم وأتعبتِه". فتلفَّتت إلى ناحية أهلها وأفلتت الخيط ثم اقتربت قائلة بارتعاش: "آسفة. لأول مرة أرمي هذا الشيء في البحر". حاولت أن أضحك لكنني لم أستطع، قلت متجهما: "وقد صدت رجلا كاملا". اقتربت وطلبت مني الابتعاد عن أهلها، أخذت بقية الخيط المتدلية من يدي ورمتها ثم قالت بصوت خائف: "سيقتلني أبي لو رآنا معا. يجب أن أتعشى بك" وضحكت، واصلت: "يا سمكتي السمراء".
عندما مشيت معها لم أكن قد عرفت من قبلها فتاة سوى ابنة عمي التي تزوجت لما رأت ميلي إلى الجوع والسهر. أسرعنا خائفين، مع أنني تظاهرت باللامبالاة. كانت ترتدي كعبين أحمرين يحلو من خلالهما بياض رجليها، وكنت أرتدي الرصيف.

قالت لي وقد بدا لها أنني لا أهرب من أهلها: "أسرع... يجب أن تكون معك سيارة لتأخذني". نظرت إليها فرأيت في وجهها مِحْجرين من القمح يضمَّان حمامتين تتلفَّتان من الفزع.

الأنثى الكاذبة لا تخاف.
أسرعت معها مؤمنا بهذه المجازفة. تركتها تصفق الرصيف بكعبيها وأسررت إلى رفيق علمت حبه لي بأن يعطيني سيارته وسجائره. عندما رآها بقية الرفاق تركب سيارة "آلتيما" عنَّابية، سمعتهم يتذكرون أمثالهم الشعبية ويتضاحكون.
ربما قالوا: "حوَّات وراقد في امجبل"، أو "صام وصام وفطر على بصلة" وقصدوني بها أو قصدوا أنفسهم معبِّرين عن آلام الحرمان التي يقاسونها.

صمتُّ طويلا متفكرا في الفعل الخطأ الذي ارتكبته. هل هو سرقة هذه الشابة من أهلها؟ أم الانشقاق عن رفاقي؟ لقد اعتدنا أن نقتسم كل شيء: السمك، السجائر، النوم، المال... ثم أيقظتني: "من أنت؟". لم أعرف إجابة محددة ومختصرة حينها، فقلت ما قالته لي من قبل: "أنا سمكتك السمراء، وأنت؟ من أنت؟". أجابت بحياء: "أنا سَحَر، أنت من هنا؟".
كيف أصف لكم المشهد يا قرَّائي؟ لم أكن كاتبا يوما، ولو تعلمون، كان آخر ما كتبته تلك الأيام هو خمس سير ذاتية بخط رديء لأحصل على عمل. قلت لها: "أنا من هنا". علَّقت: "أحب جيزان، فهي مدينة أمي". لاحظت ثقل كلامها فسألت: "وأنت من أين؟ من جدة؟". فضحكت حتى سمعت قمَّة ضحكتها.

بلا شك لقد سمعتم قمة الضحك: ذلك الصوت الذي لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى أعلى منه. إنه شهي بالنسبة لي كآخر نقطة يصل إليها خيط الصيد.

"كل هذا البياض من جدة؟" قالت ساخرة من قلة خبرتي بالنساء. فقلت: "البياض والسمرة في كل مكان". لكنها لم تتوقف عن الضحك إلا لتقول: "أنا من أبها، من الجنوب يا غشيم".

مرة أخرى حاولت الضحك لكنني لم أفلح. كانت الأيام قد مضغتني حتى أخرجتني ميتا بلا حراك كسمكة بلعت الشوكة ورضيت بمصيرها فلم تجد فرقا بين الماء والهواء ولم تحاول الفكاك عندما أخرجوها إلى الشاطئ.. لكنهم عندما رأوها جامدة تحيط بها اللزوجة أعادوها خوفا من أمراضها. لذا قررت أن أحاول الفكاك لئلا ترميني إلى الرصيف.

قلت بصوت أعلى: "إلى أين سنذهب؟ أرى أننا تركنا البحر بسرعة، لو أننا بقينا هناك لكنا في مأمن. أظن أن أباك الآن سينفجر". فهدأت.. تباطأت أنفاسها وقالت: "أنا لست مسؤولة. لقد اصطدتَني فلتفعل بي ما تشاء". ضحكتُ لأسيطر على خوفي وقلت: "سآكلك". فضحكت: "لماذا؟ أنتم الصيادون تأكلون الأسماك عندما لا تبيعونها، أتوقع أنكم تخشون أن تتعفن في أكياسكم قبل أن تعودوا". أحسست بأنها تستفز رجولتي أو ترجوني ألا أكون كالـ "صيادين" الآخرين. لكنني لم أعرف من هم هؤلاء الصيادون الذين يخبئون نساءهم في بطونهم.

توقفنا عند إشارة مرورية. وكان عداد الثواني يخبرنا بأننا سننتظر "120 ثانية".
سألتها أن تكشف عن وجهها ثم سمعت أنفاسها تحرك "البرقع" الشفاف أمام وجهها فأعادتني إلى الريح العاصف المباركة التي حملتني إلى هذا الوطن الذي لا يشاركني فيه أحد. شعرت بالأنانية. وضعت يدي أمام وجهها وطلبت منها ألا ترفع الحجاب لئلا يراها الناس في السيارات الأخرى. عبَّرت لي عن افتخارها بهذا الموقف البطولي مني بأن أمسكت بيدي اليابسة وفركتها بيديها.

لم تكن لدي موضوعات مفضلة أخوض فيها كبقية العشاق، لم أكن قارئ روايات أو رساما.. كنت صيادا وحسب، فشرحت لها بلغتي الوحيدة التي أستطيع أن أكون فصيحا عندما أتكلم بها: "تدافع الأسماك عن نفسها عادة بإفراز سائل لزج يغطي جسدها وبأشواكها، سمكتي الأولى نجت لأنني أمسكتها من الذيل فقفزت عائدة إلى الماء. أنت الآن تمسكين سمكة جافة متصلبة بلا أشواك لكن ما يميزها عن بقية الأسماك أنها لا تريد القفز من يديك". فقالت بذكاء: "لا، بل لأنها بلا ذيل!"، وضحكنا معا.

تأكدت لحظتها من رغبتها في رجل مختلف، ولكنني سألت نفسي: ممن تهرب هذه السمكة اللزجة جدا؟ لكنني فرحت عندما نزعت ذيلي وجعلتني فريدا في عالمها.
لاحظوا أن لغتي تتعقد بقدر ما نواصل الحديث. وستصير أكثر تعقيدا بعد لحظات لأن ذلك الوجه الذهبي الذي مررت أصابعي الميتة عليه أحيا فيَّ لغة قديمة كانت نائمة في أغواري.

الغور هو العمق الأعمق، وهو جزء من جسد الأرض الذي يملؤه الماء. الغور هو منطقة غارقةٌ داخلي منذ زمن بعيد وسَحَر لم تخلق فيَّ لغة جديدة بل أحيَت لغة قديمة. لغةٌ ماتت في المجتمع والجوع. فأيُّ قارئ منكم لا بد أن يشعر في نهاية هذه القصة بهول الأغوار التي هي جزء من ذاته، وسيكتشف هذه اللغة القديمة التي فقدها.

مررت أصابعي الميتة على وجهها فخجلت واعترضت بأنفاس ساخنة. كانت السيارة واقفة في مكان مظلم بعيدة عن أي وقتٍ أو إنسان. احتجت إلى يدي لأواصل القيادة. صمتنا خاشعين في رهبة لمستنا الأولى. سألتها: "أين نذهب؟" فقالت: "في أبها، دائما هناك جبل، يختبئ فيه العشاق والرهبان معا، خذني إلى أي جبل، لدي كلام كثير لأقوله لك". رددت بصوت عالٍ: "جبل"، فقالت: "نعم، جبل".

سرت بالسيارة في كل طرقات المدينة فأعطيتها انطباعا صادقا عني، لأنها لم تكن بعيدة عن الواقع عندما قالت: "منذ متى لم ترتح في بيتٍ يا عبدُه؟". فترددت وأنا أقول لها: "منذ أربعين ليلة". قالت: "غريب.. غريب.. كل شيء فيك مميز.. كل شيء فيك يجذبني. لطالما أحببت كبار السن الذين يبدون في حالة رديئة، الذين لا ينامون في المكان نفسه كل يوم".

تناولتُ علبة السجائر، فقالت: "هيا دخِّن وألهمني ونزعت حجابها كاملا وفكَّت الأزرار الثلاثة الأولى من عباءتها: "حتى اسمك النكرة، حتى هذه الهاء الغائبة تثيرني فأنا لا أدري أنت عبدُ من، لكنني لن أرفض أن تكون عبدي.. يا عبديييي يا عبُّوديييي".

ابتسمت ولم أنظر إليها. ضحكت ولمحت قميصها الزيتوني يهتز فوق صدرها، طلبت مني إقفال المكيف وفتح كل النوافذ والإسراع أكثر: "يلااااا، يا مجنون، يا صيادي الذي يشبه في ثوبه الفضفاض جبران خليل.. أنا ماري.. ماري الخاصة بك.. عذراؤك".

لن أخفيكم، منذ ركبت في سيارتي أمام رفاقي نظرت إليها كما نظروا: فتاة قليلة الأدب تثق في كل الرجال. نزعها الحجاب وإظهارها ملابسها جعلتني أتوقع أن تقول لي في أية لحظة: نم معي. لكنني توقفت عن إساءة الظن عندما صاحت: "عذراؤك".



فأي عذراء كانت سحر؟  

21‏/03‏/2016

تفاصيل (6)~ حين كنت في السوق




المدينةُ صغيرةٌ جدًّا ومفروشةٌ بالناس الذين يمشون فوق بعضهم، وقفتُ أمام "بسطة" الفاكهة، كان البائعُ رجلًا في الأربعين، يرتدي سترةً زيتيّةً ويسرّحُ شعرهُ مثل طالبٍ مدرسيٍّ مجتهد، يدهُ ضخمةٌ جدًّا لكنّها جذابة، وفي رجله حذاء قديمٌ غير ملمّع، رفع صوته بمنتهى الثقافة وسألني ماذا أريد، اقتربتُ قليلًا من أحد الصّناديق وقلت: "أريدُ فريز لو سمحت"، كان ظريفًا جدًّا إذ قال لي: "أسمح طبعًا إن كنت تنوين إعطائي ثمنه"، ابتسمتُ في وجهه الواثق، ثم قلتُ لهُ بجدّيةِ خالي الكبير حين يتحدّثُ عن المال: "طبعًا"، وشدّدتُ على حرف الباء بمنتهى القسوة، ضحك الرجلُ وهو يزيحُ سيجارتهُ من جيب قميصه، دسّها في فمهِ بكلّ مهارةٍ، ثمّ أحاطها بيده اليمنى كما يحيطُ ميناءٌ بقاربٍ متعَبٍ، واستخدم اليسرى لإشعالها، وكالعادة كان النّفسُ الأولُ مليئًا بالشّبق والاحتياج، وما تبِعَ ذلك كنتُ أفترضُ أنهُ إكمالٌ لدورةٍ طبيعيّةٍ لا أكثر، لكنني وددتُ أن أقول له: "Wow! أنت تجيدُ الرّقص"، إلا أنّهُ أيقظني من على كرسيّ التحليل حين أعطاني "كيسًا أبيض" وقال لي: "اختاري الحبّات التي تريدينها"، وكان هذا شيئًا مريبًا بالنسبة لي، يشبهُ ورقةً كُتب عليها "أجيبي عن الأسئلة التالية باختيار الجواب الأصح من بين مجموعة من الخيارات الصحيحة".

رحتُ أتأنى تمامًا، اخترت قطعةً تشبهُ فستاني، نحيلةً من الأعلى ثمّ تأخذُ شكل الانفراج الكبير مثل ستارةٍ رائعةٍ ومدهشة، قطعة كان لها شكل لقائنا الأخير يوم جلسنا تحتَ ظلال خضراء كثيفة، ورحنا نقول أننا سنغيّرُ العالم، قطعةً كانت صغيرةً جدًّا مثل الغصّة التي منعتني من قول شيءٍ يوم باغتّني بالرحيل وقلتَ لي بحماقة: "غيّري العالم وحدك، فأنا مشغولٌ بأكل نفسي!"، قطعةً متوسّطةً وأنيقةً تشبهُ سيري باتجاه قبر صديقتي وأنا أقول: "ماهذا البيتُ السيّءُ الذي اخترتيهِ يا سمر؟ ألم يكن بيتك في غرفتي أفضل وأكثر زينة؟"، شعرتُ برغبةٍ في العطاس، وحين رفعتُ راسي رأيتُ البائع الفنّان ينظر إليّ بغرابةٍ وهو يشعل سيجارتهُ الثانية، شعرتُ أن الوقت المخصّص للإجابات قد فات وعليّ أن أسلّم ورقتي، فكمشتُ كمشتين كبيرتين وكنت أفكّر "كمشتان كبيرتان تشبهان روحي"، وضع الكيس على ميزانه ثم تخلّى عن حبّتين، مرّر لي أشيائي ومررتُ له نقوده، ومن ثمّ قلتُ بهدوء: "شكرًا لك".

انعجنتُ بعدها بروائح السوق، كانت محلّاتُ الطعام هي المسيطرة، تبعثُ في المرء شعورًا قويًّا بأنهُ لم يأكل منذ عشرين سنةٍ، وتقول له: "كُلْ، كُلْ" نقرًا على الرأس وإرهابًا، استطعتُ أن أتحوّلَ إلى خيطٍ من البخار، وتصاعدتُ حتّى اجتزتُ حاجز الجائعين، لكنني أُعجبتُ برجلٍ رائعٍ كان يقفُ خلف عربتهِ ويأمر "أم كلثوم" أن تغنّي لكل المارّة، أقصد أليس شيئًا مدهشًا أن تقيم "ثومة" حفلًا فنيًا وسط سوقٍ شعبيٍّ يمشي فيه الرجال وتصرخ النساء ويبيعُ الأطفال الكعك وألا يتوقف أحدٌ ليصفّق لها حتّى؟ ابتمستُ وأنا أتلمّسُ رأسي.

وصلتُ أخيرًا إلى قهوةٍ مدخلها رصيف، قد فُرشَتْ عليه الطاولات بشكلٍ عشوائيٍّ، ورُتّب الشبانُ وأُريدَ لهم أن يلعبوا بالأوراق ويتجادلوا بشأن "فتاة الكوبا" المدهشة، ولا شكّ طبعًا أن النرجيلة هي عمادُ الجلسات الاصطهاجيّة، وأن قلب الطاولة قد يأتي تعبيرًا عصريًّا عن المزاح،  كانوا يلعبون بمرح حين صرخ رجلٌ عابر: "هذا رصيفٌ أيها الحمقى، هذا لنا، أين يمشي المواطن؟ على نفسه؟" لكنّ أحدًا لم يلتفتْ، فانصرف الرجل شاقًّا طريقهُ بين السيارات وهو يشتمُ على الأغلب!

بقامةٍ تحملُ "الفريز"، وترتدي سترةً سوداء، وتلفُّ خصرها بزنّارٍ محكَمٍ من الدانتيل المصنوع يدويّا، كنتُ أقفُ أمام هذه الشاشة الحيّة وأطقطق أصابع عقلي، حين نقرتني يدٌ رحيمةٌ على كتفي، نبت لليد لسانٌ وقال: "تأخرت؟ أنا أعتذر"، استدرتُ تمامًا وأجبت: "لا أحبّ أن تأتي على الموعد"، ضحكنا بعدها بسُكْرٍ لسبب لا نعرفهُ غير أننا أدركنا بثانيةٍ واحدةٍ أننا نحناجُ إلى الاهتزاز، غبنا بعدها في ضبابِ العدم، وكنّا نأملُ أن نُخلَقَ في زقاقٍ قديم، أن نصيرَ فانوسًا طائرًا، علبة قشطةٍ طازجة، شيئًا بسيطًا وسعيدًا لا أكثر!


20‏/03‏/2016

الوسواس القهري: حياة أسوأ أخطار أقل!



بواسطة Michael Showalter
إحصائيات: يحظى الاضطراب الوسواسي القهري OCD بالقليل من الاهتمام نظريا وسريريا. وفقا للمؤسسة الأميركية لعلم النفس APA ، أكثر من نصف المصابين بهذا الاضطراب (59.9%) لا يتلقون أي علاج (2011)، هذا بالإضافة إلى أن المرض في الواقع غالبا يُهمل تشخيصه [1]. حوالي 2.3% من الناس في سن 18-54 عاما شُخصوا بهذا المرض. معدل الإصابة يُقدَّر بـ 1 من كل 40-50 مصابٍ بشكل من أشكال OCD. في أميركا، قرابة 3.3 مليون (وفي بعض الدراسات 6 مليون) يعانون من هذا الاضطراب. من غير الشائع  تشخيص هذا الاضطراب بعد سن الأربعين. كغيره من الأمراض النفسية (أمراض القلق)، الاضطراب الوسواسي القهري أكثر شيوعا في البلدان المتطورة (2005) [2]. ذروة حدوث هذا الاضطراب في السنوات 10-19 سنة ثم 20-29 سنة (2011). ينتشر الاضطراب الوسواسي القهري بنسبة 1% بين الأطفال والمراهقين (1999). معظم المرضى (90%) لديهم اهتمام ضعيف بالذات. 75% لديهم علاقات عائلية ضعيفة. 66% عانوا من عدم القدرة على الاحتفاظ بالصداقات، من ضعف الأداء الدراسي ومن تدنِّي الطموح المهني. 40% لم يستطيعوا العمل لمدة عامين. 15% انتحروا (1996). نسبة إصابة النساء أعلى بعد سن البلوغ ونسبة إصابة الرجال أعلى في الطفولة. الأشخاص في سن المراهقة، غير المتزوجين، المدمنون أكثر عرضة للإصابة (2008) [1].

الوساوس: هي أفكار ودوافع وتصورات عقلية متكررة تسبب القلق. مثل: الخوف من الجراثيم والتلوث، أفكار جنسية أو دينية غير مرغوبة، أفكار مُعادية للنفس أو الآخرين.
الأفعال القهرية: هي سلوكات مكررة يجد الشخص الحاجة لفعلها استجابةً لأفكار وسواسية. مثل: الإفراط في النظافة وغسل اليدين، المبالغة في ترتيب الأشياء بطريقة معينة [3].

في 1999 نُشرت [4] ورقة علمية بعنوان "فرضية تطورية للاضطراب الوسواسي القهري: جهاز مناعي نفسي؟" تحاول إيجاد تفسيرات تطورية لهذا الاضطراب. تفترض هذه الدراسة أن الجهاز العصبي الحيوي في حالة الـ OCD يعمل كمنتج لسيناريوهات لا إرادية متعلقة بالخطر بحيث يحمي المتعضِّي من المرور بأخطار جسدية واجتماعية، لكنه بدلا من إنتاج هذه السناريوهات في الوقت المناسب (وقت الخطر) ينتجها في الحالات الآمنة تماما.
من المفترض أن الظواهر الوسواسية هي عملية غير مباشرة off-line لتجنب الخطر مستقبلا، لذا تختلف عن القلق والظواهر المرتبطة به التي تعمل بشكل مباشر on-line لتجنب خطر حاليّ [*].

تجادل هذه الفرضية بأن الأسلاف الذين اكتسبوا هذه الصفة (الوسوسة) تحسنت لياقتهم التكاثرية أكثر من الآخرين الذين لم يكتسبوها. فالذين تمتعوا بهذه المزيَّة استطاعوا أن يتعلموا تجنُّب الأخطار الشائعة بدون التعرض لها في الواقع بخلاف الذين لم يتمتعوا بها.
يؤيد هذه الرؤية أن الأفكار الاقتحامية غير المرغوبة والطقوس القهرية هي ظواهر عالمية عبر الثقافات. الانتشار العالي نسبيا للاضطراب الوسواسي القهري طول العمر عند بعض الناس 2.5% ولمدة عام واحد عند بعضهم 1.6% يدعم الرأي القائل بأن هذا الاضطراب يمثل نهاية عنيفة لصفة تكيفية محتملة بدلا من كونه نتيجة طفرة جينية.  

رسمة ذكية:
المصابون بالاضطراب الوسواسي القهري يركضون بعيدا عن الخطر!
البقاء للجسم المضاد أو الفكرة الأنسب: العملية الوسواسية تشابه بطريقة ما الأجسام المضادة antibodies التي ينتجها الجهاز المناعي. فإذا كانت الأجسام المضادة تحمي الجسد من الأخطار غير المرئية (البكتيريا، الفيروسات) فإن الأفكار الوسواسية تحمينا مبدئيا من الأخطار الخارجية في البيئة.

لتوضيح الصورة، دعونا نضرب مثلا: الشخص الذي لديه أفكار وسواسية (الخوف من الصعق الكهربائي) سيتجنب دائما كل ما له علاقة بالكهرباء (المولدات، الأسلاك، القوابس)، وهذا سيقلل خطر إصابته بالصعق في المستقبل، فكأنه امتلك "مناعة" ضد الصعق الكهربائي، بغض النظر عن التأثير السلبي لهذه الوسوسة على حياته (البعد عن التكنلوجيا).

إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فإن الاضطراب الوسواسي القهري هو نظير المرض  المناعي الذاتي Autoimmune disease، فكما أن الجهاز المناعي في حالة المرض المناعي الذاتي يعمل في غياب الميكروب (كما في حالة التهاب المفاصل الروماتويدي)، فإن الجهاز العصبي الحيوي ينتج سيناريوهات الخطر في غياب الخطر فيكون له أثر تدميري للنفس.

تتنبأ هذه الدراسة بزيادة سيناريوهات الخطر وطقوس تجنب الألم في الأوقات الحرجة حيويا (بيولوجيا): بعد الولادة، عند البلوغ. وهناك أدلة على زيادة خطر الإصابة بالاضطراب الوسواسي القهري في النساء أثناء الحمل وبعد الولادة.

يتصف الأطفال بشكل طبيعي بالأفكار الوسواسية القهرية. التصرفات الطقوسية شائعة جدا بين الأطفال في سن 30 شهرا وتبدأ بالاختفاء عند السنة الثالثة وتختفي تماما عند الرابعة عندما تصبح الأشياء مألوفة لدى الطفل.


المراجع:
[1] www.neurosciencesjournal.org/pdffiles/Oct11/Obsessive20110263.pdf
[2] designedthinking.com/ocd/ocd-facts-and-statistics
[3] www.nimh.nih.gov/health/topics/obsessive-compulsive-disorder-ocd/index.shtml
[4] downloads.hindawi.com/journals/bn/1999/657382.pdf
[*] يرى عالم اللسانيات ديريك بايكرتون Bickerton أن هناك طريقتين للتفكير: الطريقة المباشرة On-line thinking وهي شائعة بين المتعضِّيات المعقدة كالإنسان ومصممة لحل المشكلات التي تواجهها مباشرةً (الفرار من عدو، مثلا). والطريقة غير المباشرة Off-line thinking التي صممت لمواجهة المشكلات المحتملة غير المباشرة (الوسوسة، مثلا).

أم عيون وساع



لوحة مجهولة الفنان في غرفتي
عندما تكون قريبة منه، يرى العالم جميلا جدا. وردٌ وفلٌّ وجوانح متعبة و"حساسين ترفرف وتطل".
هي أدهشته بسُمرتها وهو بشاعرية مجنونة دلَّلها تدليلًا. 

هو يتسكع ربما في طريق قروي ضيِّق تفترشه العصافير والزنابق. وهي تسير بفتنتها التي تجمعت كلها في "شالها" و"عينيها".
هذا الطريق الذي يسكن العشبُ جزءًا منه ويترك الباقي لمشيتها التي تتلفَّت التفاتتها فتضيح النجوم وتنذبح القلوب القاسية، يشبه ضربَ الفُرشات باللون الطينيِّ على لوحةٍ مجهولة الفنان في غرفتي.

تمرُّ هذه الفتاة التي لا نعرف عنها إلا أنها "سمراء" ترتدي "تنُّورة نيلية" وشالا زهريا ميَّالًا إلى الخُضرة.
هل يحبها؟ واضح جدا أنه يفعل. وإلا كيف سيرى وحده "دنيا الورد" التي تنفتح عليها عيونها ويسمع الحساسين التي ترفرف عندما يراها؟

تترنَّح فيروز طول الأغنية على مقام الراست الهادئ المحلِّق دائما واقفةً على آلة قانون كبيرة ومتوكِّئة على قصبة مزمار، تضطرب معها القلوب المدلَّهة وتردد معها أوتار الكمان. تبدأ الأغنية بشيء يشبه خُطى أنثى تمشي برقَّة "دمْ دمْ.. دمْ دمْ دمْ" وتؤدي دور مشيتها أصابع عازف القانون.. ثم يشتعل قلب هذا العاشق ممثَّلًا بصوت الكمان الذي يلي نقرات القانون الخفيفة. يباركُ كلَّ هذا هواء ساخن يخرج من رئتين ثم يعبر فجوات المزمار مردِّدا: يا سلاااام، يا سلاااام. 




واااه، هذه خطى أنثى أم زخَّات مطر في أوائل الفجر؟ وهل هذا أنين قلبه أم فوران أتون القرية الذي يغسل الحجارة بلهيبه ويطعم الناس خبزَه؟

يلمحها خاطفة مثل فراشة ملوَّنة، يصيحُ: "يا عيني عا هالعينين ال عا دنية ورد انفتحو" وينذبح قلبه. 

وفجأة، تصير هذه الفراشة الرشيقة كونًا واسعا تتوزَّع فيه "اللفتات" وتضيع النجوم. يخاطبها سرًّا: "في نجم بلفتاتك ضاع" ثم تعلو فيروز: "ضاااااع" ويختفي صوتها. هذا العاشق القروي الذي استيقظت أنفاسه على هذا المشهد لا يجد مديحا لها أعذب من "سحرك يلي ما بينباع.. مبكِّي الوردة الجورية". 

يتصوَّر في لحظة بطيئة أنها بادلته الحب حتى طابت بينهما العشرة ولذَّ الوصال ثم، قبل أن تمضي هذه اللحظة، يراهما اختلفا وأذاعا أسرارهما وجرَّبا لوعة الهجر. وفي محاولة لإرضاء رجولته يتصورها تطلب رضاه وتقول: "ارجع ارجع" فيرجع ولا يعرف ما الذي ألمَّ به. 


لكن خياله لا يلبث أن يكون حقيقة. تؤدي الجوقة الموسيقية البسيطة مشهد خطواته تقترب من خطواته، هذا المشهد الذي لا تنقصه استفزازات المزمار وآهات الكمان.
"جلسة لنا ع الحب مجتمعين
وتنيننا ع المقعدة مجانين"
طاوعته إذن وضاق بها الطريق فقعدت بقربه.
لاحظوا الآن كيف تصيح فيروز ناقلةً شعوره بكل أمانة (الدقيقة: 4:13): "وتقرِّبي صوبي تا نحكي شوي.. عيونك وقلبي وسر هالحلوين".
وما أشهاه من موَّالٍ لِسِعة عينيها وضِرام قلبه!
"تا نحكي شوي" هذه الضراعة المحمومة إليها، إلى الحديث معها قليلا عن عينيها وقلبه، "تا نحكي شوي" تغنيها فيروز غناءً مستقلا وتكاد تبكي. 


فعمَّ كانت بقية الحديث اللطيف؟ 
حكى لها حكاية قصيرة وسكب فيها غزَلًا حلوا: كانت هناك عصفورة بالأمس تخبر أختها بسرّ، وبصراحة؟ لقد كان هذا السر عنك، وبما أنني سمعتهما سأنقله إليك، لقد حدثَتْها عن شالك، قالت: " شالك يا سمرا مغزول من لون الزهر المخضرّ". 
الآن أتصورها تتعجب: جد؟
فيمسك بيديها ويطلب منها أن تدعه يتهادى على أمواج عينيها كشراعٍ مسافرٍ إلى ميناء منسيٍّ، وأنَّى يصل هذا الشراع الخالد؟


يتم التشغيل بواسطة Blogger.