30‏/03‏/2016

قصة قصيرة: سمكةُ عبدُه (3)





لم تخش الموت عندما رأت عداد السرعة يعانق الـ "200 كلم/ساعة". ضحكت حتى ظننت أنها جُنَّت. سألتها بأعلى صوتي لأزيح الهواء الذي بيننا: "سحر، لا تخافين من السرعة كبقية البنات؟". فازدادت ضحكا: "أبدا.. أنا لا أخاف حتى من الموت نفسه". فضحكتُ قليلا وقد ظننتها فتاة انتحارية: "حتى من الموت؟ أنت الآن بحَّارة شجاعة".

أعلنت سحر ساعتها: "لا". وأخرجها هذا الرفض من البحر وأخرجني معها، فانتبهت إلى أنني نسيت نعلي على الرصيف عند فراش نومي ومنشفتي. فأخبرتها: "هل تعلمين؟ أنا حافٍ". فتوقفت عن الضحك: "حقا؟ وأنا نسيت جوالي عند أهلي. لن يناديك الطريق يا عبدي ولن يناديني أهلي، فأسرع".

"لا" قالت سحَر، فتذوقتها في عقلي ووجدتها لذيذة، فقلت معها: "لا"، لكنني لم أضحك عندما قلتها. لامست رجلي آخر ما يمكن أن تلمسه من دوَّاسة البنزين وكان العداد يحذرني بطنينه. لم أكن بحارا مثاليا لا يخاف من الموت، ولم تكن أنثى مثالية جبانة.

أوقفت السيارة فجأة قائلا: "أخاف عليك يا سحر"، فقرأت حقيقتي: "لا، أنت تخاف على نفسك، لم تخشى الموت يا حبيبي؟".
لم تخافون الموت أنتم أيها القراء؟ أنا لم أكن أعرف لم أخاف. حياتي المزرية زادتني تعلقا بالحياة، ربما أنتم لا تخافون لأنكم موتى، لكن لماذا لم تخف سحر؟

واصلت حبيبتي العذراء: "حلمت يوما بأنني مت. استيقظت مضطربة وصامتة. ثم ذهبت إلى جدتي التي تفسر أحلامي دائما فقالت لي: "ستعيشين طويلا"، لكنني عندما تذكرت حلمي بعد أيام ضحكت للغاية، واكتشفت أنني سخيفة، فلا أحد يشعر بأنه ميت، ولولا أنني استيقظت لما تذكرت موتي الصغير، بعدها يا عبدي لم أعد أخاف من الموت، ستقولي إنني أكذب عليك، لكن فلتعلم أنني إن كذبت فسأجد عالما أوسع من هذه السيارة العنابية الملأى بأشرطة فيروز والمرشدي وطلال، هذه السيارة كلها صدق، رائحة الحبَّار النتن التي تطوف على إطارها الخشبي الناعم، أنت، أنا (تضحك)، لاحظ أنني لم أزل سخيفة، فأنا أضعك في المرتبة التالية بعد الحبَّار النتن. اسمعني الآن، لقد لمست اليوم بأظافري قطعة حبَّار، كانت ليِّنة ولزجة مثل دودة، أدخلت الشوكة فيها وأحكمت خياطتها ثم رميتها وأنا خارجة من الوعي، هل تعلم فيم كنت أفكر؟ في شعور ذلك الجسد المتورِّد الذي كان يتحرك قبل أن يصير لعبة تتسلى بها فتاة من الجبل. أنا وأنت سنصير قطعا لينة ولزجة، أجسادا جميلة صارت بشعة، ولكنْ أرواحا خالدة".

انتهت من كلامها ولم يكن ثمة شيء أجمل من هدير ماكينة السيارة وصمتها. كل كلمة نطقت بها كانت ترعبني، ما الذي يستطيع صيَّاد كثُّ الشارب أن يرد به على هذه الكلمات الغامضة البعيدة عن رأسه الخاوي إلا من رائحة الملح والعفن؟

قلت شاعرا بالضآلة: "ولكن أرواحنا ستخرج من أجساد..." فقاطعتني: "حبيبي، أنا لا أتكلم عن هذه الأرواح. دعك من هذا، فلنسمِّها "أفكارا"، أفكارا خالدة جدا يا عبدي. هل تملك ورقة وقلما؟". ولم تعطني حتى فرصة البحث، ففتحت الأدراج حتى عثرت على صورة لهوية رفيقي وبدأت تكتب خلفها، لكنها توقفت: "لا حاجة للكتابة، هذه صورة صديقك، صورة ثمينة في الواقع، فهي هوية حاسمة، وجهه الذي يقاوم الابتسام واسمه الرباعي وتاريخ ميلاده ووطنه وبعض المعلومات الرقمية"، مزقت الورقة وضغطت عليها بيديها، كوَّرتها ثم رمت بها من نافذتي: "لقد عبَرَتك هذه الهوية الغامضة بسرعة يوما ما والآن هي خارج حدودك، لا تستطيع أن تخبرني أين هي الآن ولا تستطيع أن تعيدها، لكن قل لي من هو صاحب هذه الهوية؟".

واصلت النظر إلى فمها: "ها؟ إنه رفيقي، عرفته قبل سنوات في محل بيع السمك". قالت: "رائع، لكن في هذا العالم ملايين الناس نعرفهم في محل بيع السمك، اذكر لي شيئا مميزا في رفيقك". فكرت قليلا: "رفيقي يعزف على العود". التقطَتْ بقية الكلام من فمي: "فهو إذن فنَّان! مثل هؤلاء الفنانين الذين يسكنون هذه الأشرطة الصفراء. لكن كم من هؤلاء الفنانين مات؟ طلال مات، المرشدي مات، عبد الرحمن الحداد مات، فيصل علوي مات وفيروز ترفض أن تموت لكنها ستفعل. عبدي أين أنت؟".
"ها؟" قلت لها ببلاهة. فواصلتْ الكلام الذي واصل هو أيضا إرعابي: "كن معي قليلا حبيبي. لقد مات كل هؤلاء لكن أصواتهم لم تزل بيننا. أين أجسادهم؟ إنها الآن مثل قطعة الحبَّار التي جمعت بيننا، لزجة ولينة في مكان ما لكنها قادرة على إشعال الحب في قلبين متباعدين: أحدهما من الساحل والآخر من الجبل".

حاولت الفرار من أفكارها المرهقة بالتفكير في ما سيفعله أهلها إذا عادت إليهم: هل سيضربونها؟ سيقتلونها؟ سيعانقونها فرحا وامتنانا؟ هل سأمثل دور المنقذ الأسطوري وأقف منتظرا مديحهم وهداياهم؟

لكن سحَر أنثى كثيرة الكلام. إنها من الأشخاص الذين أحفظ كل كلماتهم كما قالوها بعد أن نفترق: والدتي، خطيب الجامع وأحد كبار السن الهزليين في القرية. وأفكارها التي كانت تتباهى بأنها جديدة لم تكن جديدة بالنسبة لي، لقد كان لها صدى معروفا في داخلي، أحسست بأن كل كلمة "تهزُّها" لها "جواب" في "أوتار" روحي كما يقول رفيقي حين يشرح لي كيف يعزف".

في تلك اللحظة تحولت إلى فيلسوف، قلت وكنت أتجنب أن تلتقي عيوننا: "صحيح، عندما أمسكت بآلة العود لأول -وكنت أحلم بلمسها- وجدت صندوقا خشبيا مخرَّما وبضعة أوتار تشبه خيوط الصيد. حاولت تحريك أصابعي فلم أخرج نغمة واحدة. العود إلى تلك اللحظة كان عدمًا، "لا شيء"، كان صمتا. لكن رفيقي يقول غير هذا عندما يضمُّه إلى صدره ويخرج كل أنفاسه شاديا بصوته الجميل". 

توقفت عن الكلام عندما شعرت بدفء جسدها يمتد نحوي. طبيعة حياتي تحبب إليَّ المد في كل شيء: مد البحر، مد الشراع، مد المواويل الساحلية. لكن هذا المد الذي انتهى بفمها في فمي لم يكن محببا. تغير لون وجهها وهمست: "أحبك، أقبِّل فمك، ألمس شاربك بلساني، أمص عرقك..." وكانت سخونة أنفاسها تنخرني نخر الأمواج في الصخور الرواسي. لم أستطع إيقافها، ربما تلذذت، لكنني حين أدركت أنني أتلذذ وأمسك جسدها بشفتيَّ كانت قد قررت العودة إلى مكانها وشرعت قائلة: "حلو؟ أعرف أنه حلو. رائحت سجائرك وأسماكك وشعر صدرك... حلو حلو.. لكنني الآن أشعر بالخوف. لست خائفة منك ولا من نفسي. لست خائفة من شيء واضح ومعلوم، المجهول هو ما يخيفني. هذه الأنفاس التي منحتك ومنحتني، هذه اللمسات الشاهقة المبحوحة، أين هي الآن؟ أين ستكون عندما سنستحيل إلى أجساد متشققة، إلى أرصفة عقيمة يعبرها العائدون وينتظرون موتها؟ حلو حلو، لكنك خائف مثلي، ربما لأنك تفعل هذا للمرة الأولى، أنا أيضا، لكن هناك شبحا يخيفنا، يا عبدي إنه شبح الموت".

احتجت إلى الحركة، اشتهيت أن أضربها. حركتُ السيارة عائدا إلى البحر ولم أتكلم.
صمتت هي أيضا قبل أن تقول: "نحن نخاف الموت لسبب بسيط، ليس لأننا نحب أنفسنا كثيرا، بل لأننا نكره العدم أكثر من حبنا لأنفسنا. العدم مخيف وأسود. نراه كل الوقت في كل شيء: الليل، الغروب، نهاية المناسبات، أواخر الضحك... لكن كيف نموت ضاحكين؟ كيف نستقبل الموت بصدورنا الملأى بالحب والحياة؟ علينا أن نستفيد من المنتحرين في هذا الشأن. ما الذي يفعله المنتحرون عادة؟ يكتبون رسائل طويلة منقحة جيدا، وربما يستعينون بمدقق لغوي لأجل هذا ثم يعلنون عنها في مكان تسهل ملاحظته ويرحلون بكل لطف".

تصورت ما قالته جيدا وضحكت. ولما رأتني ضاحكا بكت.
مسدت شعرها بيميني: "سَحَر، أكرهك". ولم أندهش حين ردَّت نفس الكلمة إلي. فقد كنا كائنين خرجا للتو من حياة إلى أخرى، انتقلا من مرحلة الحركة الفوضوية وغريزة الجنس التي تسيِّر الناس إلى مرحلة التحليق المرتب الذي يهدف إلى غاية واحدة: أن يستمر تحليقا إلى الأبد.


"أكرهك".. "أكرهك" كانت فاتحة عهد جديد في حياتي. أعلم أن الناس يبدؤون حياتهم غالبا بالعكس. لكن الناس ليسوا كلهم خالدين. هناك أسماك تتناسل وتلد أسماكا مثلها، وهناك بحر واحد لا ينتهي. 


* هذا هو الجزء الأخير, 

27‏/03‏/2016

مسرحية من جزء وحيد: الآباء والأمهات (1,2,3)



إنه اليوم العالمي للمسرح، وهو اليوم الذي قررت فيه نشر هذه المسرحية القصيرة التي أنهيت كتابتها في 16.3.2016 وقررت الاحتفاظ بها وإرسالها إلى بعض الأصدقاء. أشكر الآن كل الأصدقاء الذين قرؤوها وأبدوا إعجابهم وعلُّقوا بإخلاص. وأرجو أن تكون بداية جيدة لأفكاري المسرحية. 


المشهد الأول: تحية مزعجة
 أوسّا، ثيودور

-       أعني.. لقد التقينا فجأة في هذا القطار المسافر إلى باريس. هل أبدو مضحكة؟ إنني أشبه عارضة أزياء تسقط أمام الجمهور. هيي، هل تسمعني؟
كان يحدق في المرآة حتى تتحد عيناه وتصبحا عينا كبيرة، يرتعش جسده.
-         اسمع، أنا لن أصدق أن اسمك "ثيودور". لن أفعل حتى تريني بطاقتك.
تأمَّلَ وجهها الذهبي الصغير ثم قال بإنجليزية متقنة:
-         نعم، هو ليس اسمي. أعتقد أننا نستطيع الحديث عن شيء آخر.
باسمةً قالت:
-         فلتفعل.
-         حسنا يا أوسّا، لقد التقينا صدفة.
-         ما تريد أن تفعل في باريس؟
-         لا أعرف. ركبت الميترو عندما علمت أنه سيخرجني من جنيف.
-         مضحك. وأنا لا أعرف. قد أزور تمثال الإبهام. يقال إنه يجلب الحظ.
أرخى عضلات وجهه:
-         ابقي معي. أنا سأجلب لك حظوظا كثيرة. أنا كائن عجيب.
-         سأتأكد من هذا. لا أثق في الغرباء عادة. ولكنك حقا عجيب. عندما لمحتك تختصم مع ذلك الرجل أحببت صوتك.
رأت تعابير وجهه تضطرب، وضعت يدها على ركبته:
-         هل أزعجتك؟
-         لا. هو من أزعجني.
-         ما قال لك؟
-         ناداني "يا ولدي".
ضحكت:
-         أظنه لم يقصد أذيتك. إنه مسنٌّ جدا.
-         شعرتُ بأنه دقَّ مسمارا في أنفي. أنا حساس. لم تخبئين عقدك؟
اضطربت. أخرجته. فدنا منها ولمس حروفه بيده (Asa)، قال بصوت منخفض:
-         اسمٌ عميق.
-         أوافقك. إنه يعني "الإله" في النرويجية. ويعني "جميلة" في النيجيرية. له معان كثيرة في لغات أخرى كالجناح والأمل.. ويُستعمل أحيانا كتحيّة للنساء.
ردد اسمها متعجبا:
-         أوسّا...
-         هل أنت قليل الكلام دائما؟
-         لا. لكنني أخفي انزعاجي. وددت أني ضربته.
-         أوه لا. إنه مسكين. لِمَ أزعجك نداؤه؟
غرق في مرآته. لفظ أنفاسا ساخنة على سطحها فتكون ضباب خفيف. كتب عليه Asa. وقبل أن يريها كانت الحروف قد تكثفت. البرد شديد. كلبٌ يلحس ساقي عجوز نائمة. وثيودور يشعر بخيبة طفل بنى بيتا كبيرا ثم هدَّته حماقة ريح مفاجئة. تناولت منه المرآة ونفخت فيها بهدوء. كتبت Asa. نفخت فيها. أرته فابتسم.
-         النفخ والكتابة.
-         هذه هوايتك؟ تشبه الكتابة والمحو على الرمل.
سكت قليلا، قال:
-         أزعجني لأنه فرض علي بهذا النداء أمورا كثيرة. استحقرني.
-         لا أرى في ندائه أي معنى للاستحقار. كبار السن في كل مكان ينادوننا بهذه الطريقة. تعلم؟ أشعر بشيء من القدسية في هذا النداء (تغمض عينيها في صمت عميق وقصير). لا أدري لم لا تفعل.
-         إنها كلمة سيئة.
-         ولدي؟!
-         نعم.
-         أنت تربكني. ألم تسمعها من والديك؟
-         سمعتها حتى كرهتها. تعلمين؟ الآباء والأمهات أشخاص منبوذون في عالمي.
-         لماذا؟
-         لا يجب أن يكون هناك آباء وأمهات.
أحسَّت أوسا بالجفاء. حاولت أن تعرض عنه لكن وجهه الأسمر المسلوق في حرارة البحر الأحمر حاصرها. ثيودور.. ثيو.. تصورت في لحظة غير منطقية أنها تناديه إلى الإفطار في صباح هادئ وهي ترتدي بيجاما بيضاء تغطي رحمها الناتئ. أيقظها:
-         لقد عشت في عائلة عربية أول ثلاثين عاما من حياتي.
-         ثم؟
-         ثم اكتشفت أن الحياة العائلية تكيُّف لم يعد ضروريا. ينجو الإنسان من التشرد والجهل لكنه يقع في وجود عسكري تجنيدي سخيف. بغض النظر عن الاسم وألوان الملابس والمدرسة التي سوف يختارها له هذان الإلهان، سيجد في النهاية أن إمكانيات وجوده كلها قد اختيرت له قبل أن يكون جنينا أشبه بالوزغة.
-         يا إلهي. أنت قاس.
يضحك يقول بنفس درجة الصوت:
-         أنت جبانة. إنك مرغمة على حب العائلة لأنها تمثل لك نهاية مُرضية. إن في حوضك  كيسا سميكا يجب أن يمتلئ حتى تحظيْ بفرصة البقاء في الذرية. أنا رجل حر.
-          اخرس.
قالت أوسا بصوت عال ونهضت. همهم الرُّكاب. صاحَ ثيودور بصوت أعلى:
-         يا أمنا القديسة المسكينة.. أنت بحاجة إلى زوج يحميك وأب لأفراخك الضعاف.. أنت بحاجة إلى أبناء أقوياء يطعمونك عندما تصيرين عجوزا كئيبة.. أنت بحاجة إلى مجموعة من الموجودات لتمارسي عليها خوفك وعارك ونقصك وقلقك.
وضع ثيودور يديه المرتجفتين على فخذيه. استيقظ بعض النائمين وبحث الرُّكاب عن رجل في منتصف الأربعين يرتدي معطفا كاكيًّا نظيفا، ويتكلم بصوت عال بدون أن تبدو عليه ملامح الغضب...

المشهد الثاني: تلك الفتاة السويسرية
ثيودور، الشرطي

-         سيدي أنت الوحيد الذي علا صوته عن الحد اللازم إلى الآن. ما هي مشكلتك؟
نظر إلى وجهه المنفعل مبتسما:
-         أعتذر. مشكلتي الوحيدة هي أنني أتكلم أثناء نومي. هل هناك غرف لهذا النوع من الناس؟
-         هل تتذاكى علي؟ رأيتك تجادل تلك الفتاة، من فضلك التزم الهدوء.
وضع ثيودور قبعته البنية على وجهه لإهانته. أزاحها الشرطي بلطف وانحنى حتى دنى من وجهه، ثم قال بصوت خفيض:
-         اسمع، أظنك تحتاج إلى تغيير مقعدك.
-         هل تحللني نفسيا يا رجل؟ حقا ركاب هذا القطار كلهم نبلاء. لن أغير مقعدي. وسأحاول أن أتجنب الحديث معك إلى نهاية الرحلة.
-         اتفقنا.
ابتسم الشرطي هامًّا بالقيام. هز رأسه في زاوية غامضة ثم توجه إلى ثيودور:
-         هل هي زوجتك؟
-         من هي؟
-         تلك الفتاة السويسرية.
-         كلا.
-         رأيتك تلمس عقدها.
-         هل وظيفتك هنا هي رؤيتي؟ أم أنك تعاني من انحراف جنسي؟
-         دعنا ننس أنني رأيتكما. ما صلتك بها؟
-         أجلس بجانبها في هذا القطار البطيء.
ضحك الشرطي ضحكة سريعة. ضرب على ركبة ثيودور:
-         هيا أيها الغريب، لا تكن مُحتالا.. أنا أعرف هذه الأشياء.. (يضحك بطريقة تزعج ثيودور) إنكم تعبرون عن حبكم بافتعال المشكلات.. نعم.. أرى هذا.. فأنا أب لستة أبناء.
ثيودور مرخيا ساقه اليمنى على ركبته اليسرى:
-         أنا لا أهتم بتكوينك العائلي. أرجوك أريد البقاء وحيدا.
-         لن يؤسفني هذا. هل كنت أبا؟
-         يا عزيزي أنا لا أحب الخوض في هذه الموضوعات. هل كل الناس هنا آباء؟
-         إنك لا تدري. أنا أدري ما الذي يقلقك.
-         ممتاز. دعني وحدي.
-         هذا ما كان يقوله لي أولادي. فلتهدأ. إنك مهما فعلت لن تهيج أعصابي.
ثيودور يلتزم الصمت والشرطي يواصل الكلام ببرود:
-         لقد عشت ست فترات مراهقة. وإذا أضفنا إليها فترتي الخاصة ستصير سبعا. إنك لا تزعجني. لأنني أعرف أن الإنسان يغضب عندما يشعر بالتهديد. ينعكس خوفُه إلى شجاعة وهمية وصمتُه إلى صوت عال. الصوت العالي لم يزل يخيف الناس حتى لو كان صوت طفل أو رجلٍ جبان. يجعل القلب ينبض بسرعة والجسد مستعدا للفرار. لكن ما يُهددك؟ ما يرعبك إلى هذا الحد؟ (ثيودور لا يجيب). كل أبنائي كانوا يغضبون لأسباب مفهومة: حب الاستقلالية والدفاع عن القناعات. بعد أن كبروا عرفت هذا. كل واحد منهم الآن يلتزم بعائلة خاصة وأبناء ثائرين آخرين. لم أكتشف -وأنا في السبعين من العمر- أي وجود لهذه الاستقلالية أو القناعة. نحن يا عزيزي نعيش حياة ملتزمة. قد يزعجنا الاتزام بما يلتزم به الآخرون لأسباب تتعلق بالكبرياء والتمرد الصبياني. لكنه سينجينا من عذاب الوحدة.
أخافت ثيودور كلمة "صبياني"، وتمنى لو بصقها في وجهه، فقال وهو ينظر بعيدا:
-         ستة أبناء ولا أدري كم من الأحفاد! إنك من الأشخاص الأكثر أنانية الذين عرفتهم.
الشرطي يسيطر على انفعاله بهذا السؤال:
-         لماذا؟
ثيودور مبتسما:
-         لأنك تريدني الآن ابنا سابعا!
سمعا جلبة قريبة، انتصب الشرطي وأسرع إلى جهة الزحام. بقي ثيودور ممتعضا من الثرثرة الأبوية التي سمعها.
-         كلام فارغ.
قال بأنفاسه. ودفعه الفضول لاستكشاف سبب الجلبة من مكانه.

المشهد الثالث: طفلٌ يُصرع
ثيودور، الشرطي، أبٌ غاضب

رأى ثيودور ذلك الشرطي يسأل الركاب بسرعة حتى وصل إليه:
-         هل هنا طبيب؟
سأل ثيودور:
-         ما الخطب؟
الشرطي في عجلة:
-         طفلٌ يُصرع.
-         أنا سأراه.
الشرطي متفائلا:
-         أنت طبيب؟ هيا فلتسرع معي.
وهما يسيران نحو مصدر الجلبة:
الأطباء لم يعودوا يهتمون بحالات كالصرع في زحام قطار أو في مطعم قروي، إنهم يعتكفون على ورقاتهم العلمية كالعناكب. لم أتوقع أنك طبيب. هل معك بطاقة؟ حسنا ها هو الولد.
دنا ثيودور، قال بصوت واثق:
-         لا تفعلوا أي شيء. انفضوا قليلا أرجوكم.
كان الطفل في نهاية النوبة، اقترب ثيودور بلطف وجعله يسلتقي على يمينه. بقي منتظرا ولم يفعل شيئا. سمع أحدهم يقول:
-         محتال.
علا صوته وكان يشق الصفوف متجها إلى ثيودور:
-         ما الذي تفعله بابني أيها اللعين؟
لم يجب ثيودور. دفعه الرجل بيديه. حال الشرطي بينهما. أجاب ثيودور باتزان:
-         في نوبات الصرع لا نملك إلا أن نفعل هكذا وننتظر. أرجوك إنه عملي. هااا انظر إنه يسترخي.
انقضت الأم على ولدها بفزع وضمته إلى صدرها وهي تشكر الله. عاد ثيودور إلى مقعده. لحقت به أوسَّا. 


يتم التشغيل بواسطة Blogger.