18‏/03‏/2016

قصة قصيرة: سمكةُ عبدُه (1)





لا تهملوا كلامي. دعوكم من كلام الكتب واستمعوا إلى حديث الحياة في وجهي وفي مفاصلي. أين نمتم آخر مرة؟ قولوا لي أين نمتم؟ فإذا لم تجدوا إلا فرشكم الناعمة الواسعة فاستيقظوا. إن الحب لا يدخل غرف الملوك. أنا لست كاتبا. إنني صيَّاد سيء الحظ. ولئن وجدتم كلماتي سهلة فلا تسخروا من لغتي. فقد علمتني الأسماك أن أرمي طُعمًا واحدا وأنتظر. ببساطة أنتظر حتى يهتز الخيط أو أسحبه بحذر لئلا يعلق بين الصخور ثم أعيد الرمية إلى نفس المكان.

نمت على الشاطئ أربعين ليلة. لن أنزعج إذا لم تصدقوني. أربعين ليلة اكتوى جسدي بلهب النهار وارتجف في نسيم الليل البارد. مزَّقني الجوع كما يمزق الجفاف جذوع الأشجار العالية. لم أنقضَّ على أكتاف الجذوع المجاورة ولم أنل الجذوع الأعلى مني. كنت راسخا في مكانتي وموقعي الاجتماعي الدقيق الذي لا ينساه أي أحد. لذا عاهدت نفسي على الاعتكاف في البحر حتى حين. وكان البحر هو المكان الذي لم أحتج إلى رفيق أو بطاقة لدخوله. فاستوطنته حتى تعلم دمي كيف يتموَّج مثل مائه وحتى تعلمت رئتاي كيف تتسعان وتضيقان مع مده وجزره.

وفي تلك الليلة. الليلة التي كانت أخيرة لسبب ما يجب أن تعرفوه. في تلك الليلة توقفت عن أن أكون بحرا وعدت إنسانا يتدفق فيه الحنين تدفُّق العيون بين ثنايا الجبال. كنت قد استأنست مرقدي في ذلك المكان العام الذي يجتمع فيه الناس. كل الناس كانوا يأتون إلى البحر.. إليَّ.

أنام ساعتين عندما تكون الريح معي وأكثر عندما تكون ضدي. أبقى أياما أغتذي بالماء وما يجود به علي الصيادون الرفاق من طُعوم سمك "الباغة". لن تعرفوا هذا النوع من الأسماك أيها النيام على أسرَّتهم الجامدة. رائحته الكريهة وقسوة جلده تساعد الصيادين على إغراء الأسماك الأخرى. لكنني كنت أملِّحه وأقليه مضطرا حتى أسغته كما تسوغون أوهامكم.
وفي تلك الليلة، غاب عني الرفاق وهجمت ريح عاصف على بيتي. فتكسرت أمواجي وتطايرت أسماكي. لم أستطع النوم فصنعت خيطا جديدا وضاعفت أثقاله ثم رميته بكل غضب. كنت أردد في نفسي: "فليشرب أهل هذه المدينة الصامتون صدأي.. فليأكلوا أشواكي". ولم أكن حاقدا إلا على هذا الفرق الذي شعرت به: أنا في عالم والناس كلهم في عالم آخر.

ثم حدث الحب.
الحب يحدث حدوثا ولا يأتي إتيانا. تكون أنت وإنسانٌ آخر في مكان ما ثم يحدث الحب.

أحسست بقوة تشدُّ ذراعيَّ إليها. توقعت أن حوتا ضخما احتضن شوكتي ليصطادني. شددت بقوة ثم حاولت تبسيط الأمر وقلت إن هذه صخرة لئيمة ربضت على طُعمي. لم يكن هذا جديدا. ففي تلك الليلة كنت قد أحصيت عشرات الخيوط التي مزقتها لهذا السبب التافه. وكما قلت، لأنني صياد سيء الحظ كنت دائما أثير سخرية الصيادين الآخرين وشفقتهم. فبعد أن أعلن عن نبأ سمكة من نوع "العربي" وأتراقص شادًّا الخيط نحو صدري، كنت غالبا أكتشف أنني سحبت زوجا من "الكابوريا" أو مجموعة من حشائش البحر!
لكنني هذه المرة، رغم أنني أخرجت شيئا آخر غير السمك، واصلت الرقص.

تحلَّق حولي الصيادون يشجعونني ويشدون معي الخيط. قال أحدهم جادًّا: هذه سمكة كبيرة ستأكل منها أسبوعا كاملا. وقال آخر ساخرا: هذه صخرة ترقص معك. وقال آخرون: هذه سفينة.. هذه حورية بحر.. هذا صرصار عملاق. لكنني قلت: انتظروا.
شمَّرت ثوبي البالي وتنفست بعمق، قلت في نفسي: إنها تهز الخيط، لا تفعل هذا إلا الأسماك. وواصلت الشدَّ بعزمٍ حتى ارتخى الخيط. بُهِتَ أصدقائي وعادوا إلى صنَّاراتهم الشاهقة فتوقعت أن البحر يمازحني.

لكن البحر لا يمزح أبدا. لم يزل الخيط داخل الماء، فسحبته مُتعبا ويائسا، ثم لاحظت أن الشد لم يزل مستمرا. ما هذا؟ إنها شوكة أخرى عالقة في شوكتي. حاولت إخفاء الأمر عن رفاقي لئلا يشيعوا بين الصيادين آخر خيباتي. أمسكت بالخيط الآخر واستخرجت منه صنارتي. ثم جلبته إلى الرصيف غيرَ مهتم بنداءات الرفاق وأسئلتهم وضحكاتهم. تتبعته ولم أدرِ أكنتُ سمكةً في هيئة رجلٍ في الخامسة والثلاثين رثِّ الثياب والمنظر؟ أم كنت صيَّادا متواضعا يسير نحو سمكة في هيئة أنثى في منتصف العشرين تضع حول يديها قفازين ويتدلى الخيط خجولا من يمينها الذابلة؟


هذا كان صيدي في اليوم الواحد والأربعين، في تلك الليلة. 

تتمة القصة في الأجزاء الآتية. 

تفاصيل (5)~ بين الصحو والنوم



التّاسعة مساءً،

ضوءٌ خفيفٌ يلدهُ زجاجُ الباب، يخترقُ صوتُ مولّدة الكهرباء نوم الإله، ويصيحُ ديكُ جارنا بصوتهِ الغريب، وإذا ما أنصتُّ تمامًا قد أسمعُ صوت أنفاسي، تكّات الساعة الرماديّة، والموسيقى التي قد أحدثُها في حال تقلّبي، وربّما تردُ إليّ ضحكةُ أخي من الغرفة المجاورة، لكنّ أكثر الأصوات وضوحًا هو خرمشةُ الريح على ستائرِروحي، وصوتُ الفحمِ الذي يحترقُ حين يلامس جسد طائرٍ يُشوَى، وحفيفُ القهوةِ بالدلّةِ النحاسية وهي تخضعُ لتلاعبِ النار حتى تتعتّق.
تبدو هذه الأصوات مخيفة بالنسبة لي، فأتكمّشُ بثوب المساء وأحركُّ عيني في كلّ الاتجاهات، وأنا أنادي بصمتي مستذكرةً كلّ التهويداتِ التي أحفظها حتّى أنام، وأسقط في سكونٍ تام، وأصير جسدًا مسطّحًا، وحتّى تنعم روحي  بقسطٍ من الراحة،  بهدنة، بممرٍ إنساني يمتدُّ على الشريط الحدوديّ بين الواقع والخيال.

حين أبدأ بالغناء الخفيف تتهدّلُ أطرافي، وأتركُ الثوب الأسود مكتسبةً خفّة المسارات التي يمليها اللحن علي، أرى يدًا تمتدُّ لتمسّد شعري، وأخرى لتردّ عليّ الغطاء، وأخرى لتقيس حرارتي ويدًا أخيرةً لتردّ الستارة وتطقطق أصابعها، أغمض عيني الثقيلتين وأتنفّسُ بانتظام، وكم من الجميل أن أكتب الآن بعد النوم:

أنا في أرضٍ واسعةٍ ومعشبة، فيها بقرةٌ ضخمةٌ وأطفال فضوليّون يتناوبون على حلبها، وشقائق النعمان كثيفةٌ تجذبُ عاشقَين لالتقاط صورة، على جانبِ الأرض بيتٌ حجريٌّ مهجور يضفي مسحة الحنين بتاريخ بؤسه ووجهه الدّميم، يظهرُ في الحدّ البعيد بناءٌ عمرانيٌّ لم يكتمل بعد، ويُلحَظُ مرورُ بعض الغربان الوديعةِ بين الحين والآخر
أنا أرتدي قميصًا أبيض منقطًّا بالأزرق، وبنطالًا بحريًّا وصندلًا عسليًّا، وأبدو مثل تمثالٍ شمعيٍّ  حتّى أنني أشك في كوني حقيقيةً أم لا، أليس جميلًا في كلّ الأحوال أن يتمتّع تمثالٌ بكلّ هذا ويمتلك فرصة الحركة ومراقبة الربيع؟
لا شيء هنا ينذر بالسّوء، وكلّ النّسمات تتوزع بالعدل على الأعشاب القصيرة التي لا تعاني من التقصّف أو الدّهس، أقول: "المجدُ لكأسٍ من البرتقال في هذا الطّقس البهيج"، فيرفعُ طفلٌ رأسهُ ويمدُّ لسانهُ ثم يعلق: "ستشربين الحليب" فأضحك.
أنا الآن أضحكُ في حلمي
وأودُّ أن أستيقظ حتى أعثر على الطّفل وأقبّلهُ فرغم كل شيء يبدو الطّفلُ بعيًدا جدًّا!  

15‏/03‏/2016

قصة قصيرة: أنفاس الموتى


"العزاء" للفنان السعودي عبد الوهاب العطيف

أعادت فاطمة الصورة إلى الحائط المصلوب بمسمارين في زاوية غرفته، انقبضت عضلات وجهها، انبسطت، فكأن كيسا من الدموع السوداء انفتح بفعل أنفاسه النائحة. توسدت جسده المغروس في أرض الغرفة الذي يقاوم السقوط كجذع يحترق. رأسها المرتاح على كتفه تحسس نبض شرايين رقبته، كلا لم يكن نبضا، بل سفنا ملأى بالجائعين تتحطم عند خشبة المرفأ في ديمومة مخيفة. 
عندما دخلت إليه مخطوفة من راحة نومها، رأى في وجهها شحوب المفزوعين الذين لم تزل ذكرى كابوس تنخرهم، جثَت بالقرب من سريره الخشبي المغزول من جدائل القصب (القعادة)، وأمسكت بيمينه التي كانت تنضغط في طرفها سيجارة جديدة. كعادته في ليالي الحزن يتكئ على مخدتين كان ينام عليها أخوه الأصغر، ويعري سجائره حتى تغادر وجودها. لم يدر كيف ذهل عن إغلاق الباب، ولكنها فاطمة! إذا شاء قلبها أن تحترق كل الأبواب لتدفئ روحها لفعلت. سحب يده بهدوء وأطفأ السيجارة، سألها: "ما بك يا ابنة العم؟"، فرفعت وجهها مجيبة. 
ضائع في ساحة خوف تشتعل تحت سواد شعرها المنسرح. علم هذا كما يعلم الآباء بأسرار أطفالهم، فشد يده حول يديها وتنهد. نطقت فاطمة: "راقصني يا علي". تكلم بدون أن يبدي أي انفعال: "أراقصك.. كم معي فطوم! ساعديني على النهوض"... "لكن هل أهل البيت نيام؟ سمعت قبل قليل ضجيج الصغار". فاطمة تنفض الرماد عن شعره بأنفاسها: "تحولوا إلى أحلام ناعمة بعد أن حكت لهم أمي حكاية "أبو مشعل" عندما أضلَّها حتى ضاعت يوم عرسها. نمت معهم خائفة، لكن ليس من هذا العفريت الخرافة، بل من رفضك. جئتك من النوم لأن.. (تضحك) لأنني اشتهيت الرقص معك". 
هصَرَ يمينها من المعصم، شعرت بهشاشتها، تمايلت معه متمسكة بعنقه الطويل بينما لف يساره حول خصرها بإتقان اكتسبه من رحلاته إلى أميركا ومن روايات جين أوستن. سار بها مندفعا كأنه شهاب محترق حتى التصق ظهرها بالباب، أقفله، ثم أعادها إلى زاوية الغرفة. 
لم يكن يفضل الكلام بعد منتصف الليل، وهي لم تسمعه إلا لهو قلبها الراكض على صدره. قالت وهي تحاول متابعة رجليه برجليها. 
- هل تذكر؟ عندما لمستني لأول مرة كنت فاقدة الوعي، وكنت أنت تضرب وجهي بيديك هاتين وتناديني باسمي. الآن أنا بلا وعي، أو لا أملك منه سوى ما أدرك به وجودك معي وروعة هذا الظلام المضيء قليلا. 
- نعم، تمنيت ذلك اليوم أنك لا تفيقين أبدا. فطوم أنا أشد صدرك فلا تخافي من السقوط، حركي ساقيك كريشتين. هكذا أحسن. 
- رائحة نومي ما زالت تجننك؟ 
رد مبتسما: 
- أوووف، أكثر. 
اختار أن يلبي رغبتها برقصة فوكستروت. هذه الرقصة بالتحديد لم تكن سهلة عليها فحسب، بل لذيذة. هادئة ومرتبة. يسايرها فيها كما تقفز الأحصنة على رقعة شطرنج، ويحدثها وتحدثه بأجمل الذكرى وأصعب الأحلام. 
علقت بصوت هامس: 
- علي، إنه يربكني. 
- من هو؟
- عيناه فيهما عمق مزعج، أنتما تحملان نفس الإزعاج ونفس الشعر الخفيف بين الحاجبين. 
- تقصدين أخي؟ 
- آسفة حبيبي. 
أحست فاطمة بألم انشداد ذراعه حول خصرها: 
- إنك تعلم كم أنا ضعيفة. لا تحزن. 
- لا أحزن يا فطوم.. فأنا أعيش الحزن دائما. 
- رحمه الله. 
- لا يهمني ما دام هذا الرأس لم يرحمني. 
- قل لي كيف أفرحك؟ أنا أحبك. 
سكت لدقيقة حتى أعادت السؤال وقد أطلقت حمامتي وجهها في عينيه. أجاب متنهدا: 
- لقد مات بطريقة مؤلمة. لم يتألم هو لأنه كان ميت الإحساس. لكن الألم عبَّر عن نفسه في جسدي. أشعر بارتطام السيارة واحتراقها وأصرخ مستنجدا لكنني لا أموت. ذاكرته امتزجت بذاكرتي. أرانا نبني بيوتا من الطوب الصغير ونخطط للزواج من بنات الجيران. أرانا نملأ الأكياس بالماء ثم نمزقها بأنيابنا الصغيرة ونقلد جارنا عندما يحلب ناقته. رائحة ملابسه تغلبني دائما. كلما شممت شالا من شالاته امتلأ دمي بشعور الفقد والعزلة. 
تعرقت يدها فقربها من فمه ونفخ فيها مرارا ثم واصل: 
- لم نكن قريبين كأخوين. عرفته داخلا أو خارجا من البيت في عجالة وعرفني غائبا في أسفاري أو محبوسا في مكتبي. لقد شعرت دائما بأنني أفضل وأحكم منه. لكنه بعد أن رحل صار الأفضل والأنقى والأحكم.. بل صار يوجهني إلى أماكنه وأصدقائه وسجائره يا فاطمة. 
- هذه هي الدنيا يا حبيبي.. كلنا سنذهب ذهابا.. ستمحونا الأيام. 

توقف عن الرقص، انمزق منها مضطربا، لحقت به وحملت وجهه على راحتيها، كانت عيناه تهربان إلى الصورة المعلقة بينهما، بدأت تقول له: 
- سأصلي لأجله ليرتاح.. لقد روينا معا من لبن أمي، فتش عنه في عيني، في دمي، في رائحتي. كل ما أريده هو أن...
قاطعها: 
- فاطمة، إنني حزين لأنني اشتقت إليه، لا تظني أنني أضعته. أخي لم يمت إلا بالنسبة لي ولك ولأمي التي تحلم بأن تستيقظ وتجده يفتش عن أموالها بين أطباق الطعام. لقد مات جسده الذي بنى البيوت الصغيرة وتمنى الزواج من ابنة جارنا وحفظ كل طرقات القرية. أما بيوته وأمنياته وخطوات نعليه فخالدة لم تمت. إنها في ذاكرتي وفي أوراقي. سأكتب عنه حتى أموت وألقاه يتربع على عرش الخلود مع "زيوس" و"هِرمِس" وأبطال الأجيال الآتية. سأكتب عنه وعن حزني حتى يذوب جليد الموت وتتقافز أنفاسه في هيئة أسماك ملونة أبدية. 
بكت فاطمة وسالت أنفها فضحكت قائلة:
- لقد أصبحت في الخامسة والعشرين وها أنا أبكي كما تبكي الصغيرات. 
ثم عادت تبكي وتئن واضعة يديها على صدره ورأسها على يديها. قال علي وهو يفرك خصلاتها: 
- أما عيناه والشعر الذي بينهما فيكفي أن نتزوج يا فاطمة لننقل كل هذا إلى ذريتنا ومعه أمراضه وضحكاته وإدماناته. 
أشعلها هذا الوعد فعلا نشيجها قبل أن تهدأ وتترك بللا سرعان ما جف على قميصه كمطر الصحراء. التفتت إلى الصورة، تأملتها كما يتأمل زوار الكنائس إيماءات التماثيل الرخامية ثم تناولتها برفق. 


14‏/03‏/2016

انفجار عظيم؟ نعم.. لا



أطلَّ البروفيسور المصري أحمد فرج علي بجامعة بنها وسوريا داس Saurya Das من جامعة ليثبريدج بورقتهما العلمية المعنونة بـ Cosmology from quantum potential التي تتنبأ بأن كوننا أزلي بلا بداية وأبدي بلا نهاية، أي بلغة الفيزياء بلا انفجار عظيم ولا انسحاق عظيم.
بالإضافة إلى ما قد تحدثه هذه التنبؤات من ضجيج في الأوساط الدينية والفلسفية وحتى الفنية، بدا أنها ستثير ضجيجا أكبر في الأوساط العلمية، فما الذي يشغل فيزياء يومنا هذا غير بداية الكون ونهايته؟
لم أستطع فهم البحث جيدا فاستعنت بصديقي العراقي على الفيس بوك -وهو بالمناسبة كاتب في العلوم الحقيقية- المهندس Faissal Alamry. رحب بي كعادته، وأجاب على سؤالين طرحتهما بكل هذا الكرم والعمق. 

سأترككم مع المحادثة... 


هل حقا يمكن الاستغناء عن الانفجار العظيم كنظرية كونية؟

لا أعتقد. كانت هناك نظرية الكون الدائم Steady State theory لتوماس غولد وهرمان بوندي وفريد هويل.لكن نظرية الانفجار العظيم جاءت بعد رصد إدون هابل للكون واكتشاف أنه يتألف من عدد من المجرات في حالة تباعد عن بعضها البعض. اضطر آينشتاين إلى أن يتخلى عن صيغة ما يعرف بأينشتاين ديستر -هي صيغة مشتركة بين ألبرت آينشتاين ودي ستر عالم الريضيات الفرنسي- الذي افترض فيه أن الكون نموذج ثابت مؤلف من الزمكان الكوني، و طرح مفهوم الثابت الكوني.

أضاف جورج غاموف وجورج لامتر إلى نظرية الانفجار العظيم العديد من الفرضيات، لكن فريد هويل عالم الفلك البريطاني أو الفيزياء الكونية رفض هذه النظرية وأطلق عليها تسمية big pang أي الضربة العظيمة أو الانفجار العظيم. ألكسندر فريدمان طرح افتراضين حول تناظر الكون: الأول ينص على أن الكون متناظر في جميع اتجاهاته، و الافتراض الثاني ينص على أن الافتراض الأول صحيح اذا ما نظرنا الى الكون من مكان آخر. و قد طرح ثلاث احتماليات حول هذين الافتراضين الأولى تنص على أنه إذا كانت كثافة المادة في الكون أقل من الكثافة الحرجة critical density البالغة وفقا لحسابات أخرى تتطلب قراءة أو اطلاعا 8×10-30 جم/سم3 فإن الكون بدأ بانفجارعظيم ويحتوي على عدد محدد من المجرات ويتخذ الشكل الكروي ويستمر بالتمدد حتى يصل إلى مرحلة تتجمع فيه المجرات ويبدأ الكون بالانكماش ومن ثم تطرأ عليه حالة شبيهة بالانفجار العظيم تعرف بالانسحاق العظيم big Crunch. الاحتمال الثاني أنه إذا كانت كثافة المادة في الكون أكبر من الكثافة الحرجة فان الكون بدأ بانفجار عظيم ولا يحتوي على عدد محدد من المجرات بل عدد لا نهائي ولا يحتوي على حواف كروية. والاحتمال الثالث هو الكون المسطح الذي يملك نفس مواصفات الاحتمال الثاني والذي أيضا بدأ بانفجار عظيم ويحتوي عددا لانهائيا من المجرات ولا يحتوي حواف كروية عندما تكون كثافة المادة مساوية للكثافة الحرجة، وهذا الاحتمال طرح من قبل هوارد روبرتسون. هذه الاحتماليات تدعم نظرية الانفجار العظيم.
فرضية الإشعاع الرجعي التي طرحها جورج غامووف والتي تفترض أن هناك إشعاعا في الكون موجودا ببضع درجات فوق الصفر المطلق تولد عن تفاني المادة وأضدادها في بداية الانفجار العظيم تم رصده من قبل روبرت ويلسن وارنو بنزياس من خلال رصد خلفية اشعاع موجة المكرويف الكونية Cosmic Microwave Background Radiation وهي إحدى حزم الأشعة الكونية، وتم تأكيد هذه الفرضية عام 1990 من خلال القمر الصناعي كوبي.

هناك صيغة نظرية التوحيد الإجمالية وهي صيغة افتراضية تفترض أنه قبل فترة وجيزة جدا من حدوث الانفجار العظيم تقدرهذه الفترة بـ 10-43 ثانية تعرف بفترة عصر بلانك تولدت طاقة التوحيد الإجمالية التي تكافئ طاقة بلانك التي تبلغ 2 مليار جول أي ما يعادل 1.2×1028 إلكترون فولت والتي توحدت اعتمادا عليها القوى الأساسية الثلاث في الفيزياء: النووية الشديدة والنووية الضعيفة والكهرومغناطيسية بقوة واحدة هي القوة الموحدة العظمى.

هذا فيما يتعلق بنظرية الانفجارالعظيم أما فيما يتعلق بهذه الورقة فسأوجز لك ما هو موجود بالخلاصة. هذه الورقة تدور حول نظرية أو معادلة QRE  Quantum corrected Raychaudhuri Equation وهي معادلة ضمن النظرية النسبية العامة طرحت من قبل الفيزيائي الهندي رايشودري والسوفيتي لاندو. هذه المعادلة تصف حركة المادة بشكل دقيق وتتعلق بصيغة روجر بنروز وستيفن هاوكنغ المتعلقة بالحالة التفريدة singularity التي تفترض أن بداية الكون حالة تفردية. الحالة التفردية هي الحالة التي لا تنطبق عليها قوانين الفيزياء وتتكسر عندها قوانين الفيزياء وتمثل داخل الثقب الأسود. هناك معادلة فريدمان الذي مر ذكره من الدرجة الثانية اشتقت اعتمادا على نظرية QRE وتحتوي على صيغتي كم تصحيحيتين، هذه الصيغ عامة ولا يمكن تجنبها وتتبع بشكل طبيعي وصفا قائما على ميكانيكيا الكم لكوننا، في البداية يتم استحداث ثابت كوني أو ملاحظة مقدار طاقة مظلمة صحيح، والطاقة المظلمة تشكل النسبة الأكبر من الكون تبلغ 72% من الكون، وهي مصدر لقوة عزم تمددي تعمل على توسيع الكون وهي قوة مضادة للجاذبية.


وأيضا تتضمن هذه الورقة افتراض أن الغرافتون (كم الطاقة التي تحمل عليه الجاذبية وفقا لنظرية الكم) يمتلك كتلة خلافا لما هو مفترض.
 و الصيغة التصحيحية الثانية تفترض عودة تفردية الزمن، وقد ذكرنا معنى التفردية بشكل مستقل، والتي تتنبأ بالكون الدائم المستمر وتكون هنا حالة اللاتجانس واللاتناظر غير متوقعة ولا تعطي أي نتيجة واضحة.
و هنا يتم الحديث عن أن الكون يخضع للنسبية العامة والتي تفترض أن الكون عبارة عن مشبك زمكاني نسبي ينحني ويتأثر بتأثير الجاذبية، وأن صيغة جاذبية الكم تكون مهملة.



لكن هل من الممكن أن يكون الكون موجودا باستمرار بلا نقطة بداية؟

النظرية النسبية العامة تخضع للتصحيحات الكمومية (نظرية الكم هي نظرية واسعة تأسست اعتمادا عليها الفيزياء الحديثة وتتناول دراسة الفيزياء الميكروسكوبية حيث إنها تتعامل مع الأنظمة الذرية التي تتألف منها الذرات والأنظمة الكمومية التي هي أصغر من الذرات وتتعامل مع جسيمات المادة والأساسية منها 12 هي الكواركات quarks الستة: العلوي والسفلي والغريب والجذاب والقعري والقمي. والكواركات هي التي تؤلف الهادرونات التي تشكل التركيبة النووية للذرة مثل البروتونات والنيوترونات التي تتألف من الكواركات السفلي والعلوي، و تتعامل مع القوى الأساسية الأربع وهي: النووية الشديدة التي تحكم ترابط الكواركوت مع بعضها ضمن الهادرونات وتحكم ترابط الهادرونات مع بعضها ضمن تركيبة نواة الذرة وتحمل على كم طاقة جسيم افتراضي لا يمتلك كتلة وإنما يمتلك مستوى طاقة يدعى غلوون، والنووية الشديدة هي أكبر أنواع القوى من حيث التأثير لكن أصغرها من حيث مدى التأثير حيث تأثيرها لا يتجاوز نواة الذرة البالغ قطرها 10-14 مترا، والنووية الضعيفة التي تحكم الانحلالات الجسيمية والنوى الذرية وتحمل على جسيمات مادة تمتلك كتلة وهي حوامل الطاقة الوحيدة التي تملك كتلة وهذه البوزونات هي W+, W-, Z و تبلغ نسبة تأثيرها إلى النووية الشديدة 10-13 مرة، والقوة الكهرومغناطيسية وهذه القوة تتولد من الجسيمات المشحونة وتؤثر على الجسيمات المشحونة وهي التي تحكم ترابط الجسيمات المشحونة بشحنتين مختلفتين مثل ترابط دوران الإلكترونات سالبة الشحنة حول النواة موجبة الشحنة ضمن تركيبة الذرة و تحمل على كم طاقة لا يمتلك كتلة وإنما مستوى طاقة يعرف بالفوتون وهو الذي يشل حزم الموجات الكهرومغناطيسية مثل أشعة غاما المتولدة من الانحلالات النووية وهي الأعلى من حيث الطاقة والتردد والأقصر من حيث الطول الموجي وتأتي بعدها أشعة إكس من حيث الطاقة والتردد والأقصر من حيث الطول الموجي ثم الأشعة فوق البنفسجية ثم أشعة الضوء المرئي الذي تتراوح تردداته ما بين 4 الى 700 ترليون هيرتز وطوله الموجي 700 نانو متر ، ثم الأشعة تحت الحمراء التي تمثل النسبة الأكبر من الطيف الحراري، موجات المايكرويف التي تستخدم لنقل البث التلفزيوني وحزم النت وموجات الاتصال كما يحدث الآن بيني وبينك! وهي ثاني أقل موجة من حيث الطاقة والتردد وثاني أكبر طول موجي بعد موجات الراديو التي هي أقل موجات من حيث التردد والطاقة وأكبر طول موجي، و تبلغ نسبة تأثير القوة الكهرومغناطيسية إلى النووية الشديدة 1\137. وأضعف أنواع القوى من حيث التأثير وأبعدها من حيث مدى التأثير هي الجاذبية تحمل كما قلنا وفقا للكم على الغرافتونات لكنها أي الجاذبية تخضع لعدة تفسيرات وتبلغ نسبة تأثيرها إلى النووية الشديدة 10-30.

هنا مختصر هذه الدراسة تعتمد على إعادة صياغة جاذبية الكم وفقا لأبحاث الثابت الكوني وكانت هذه صيغة دعمت الكون المستمر الدائم لكن لا يعني أنها أثبتت صحتها ولا يعني أن نظرية الانفجار العظيم غير صحيحة.


صفحة المهندس

المصدر: http://arxiv.org/pdf/1404.3093.pdf

13‏/03‏/2016

تفاصيل (4)~ الثالث عشر من آذار




منتصفُ النهار، الثالث عشر من آذار/ يومَ تفتَّحتْ زهرةُ الخوخِ على جبيني ولم تذبلْ!

سخِرَ الجميعُ منّي، وقالوا إنّني مُضحِكَة بينما قال والدي وهو يطفِئُ سيجارتهُ في حوضِ الحديقة "هذا دليلُ الذّكاء، ثقي بي!"، وأشعلَ سيجارةً أخرى، ولأنّني وثقتُ بهِ حقّقتُ النّجاةَ بطريقةٍ ما، وبدَلَ أن أقطعَ الغصنَ الصّغيرَ الذي منحني إيّاهُ إلهُ الرّبيع، ربّيتهُ حتّى صار شجرةً وكنتُ أستظلُّ بفيءِ رأسي طويلًا حين كان الحرُّ يداهِمُ الآخرين، وأخطّطُ لنزهةٍ في بريّةِ أفكاري عندما كانوا يجدونَ الوطنَ المغلقَ المليءَ بالتّحفِ والشّعارات هو المكان الأفضل.

إنّهُ الثالث عشر من آذار يا "جماعة"، حيثُ قرّرَ المطرُ أن يصيرَ قويًّا، ويجمّدَ دموعهُ ويُصلّبَها مُستَجيبًا لنداء طفلٍ يقول "أريدُ أن أذهبَ إلى الحقل وألعبَ بالشّمس"، فيتكوّرُ النّور ويغنّي، تستجيبُ لهُ خطوات النّاسْ، وتتعجّلُ فتاةٌ إلى لقاء حبيبها عند مدخلِ العمارةِ التّاسعة حتّى تعطيهِ قطعةً من الكعكِ الذي خبزتهُ بالأمس، وحتّى تقولَ لهُ "ربيعٌ سعيد" دون أن يتصافحا، ودون أن يدنو منها.

إنّهُ الثالث عشر من آذار
حتّى الرجل المتزمّت الذي نَهَرَ الفتياتِ عن لعبِ كرةِ المضربِ في الشّارع بدا صامتًا في حالةِ موتٍ واستسلام، ولم يستطِعْ أن يُوقِفَ صرخات تحمّسهنَّ وتعليقاتهنّ المرِحة، وشتيمة إحداهنّ اللذيذة التي تلخّصُ حفنةً كبيرةً من الغضب، لن يقولَ لهنّ "سيغضبُ الله، أنتنّ مائعاتٌ وبلا تربية" لأنّ بائعًا جوّالًا سيأخذُ صوتهُ وهو ينادي "توت شامي"، فتصطبغُ الدّنيا باللون القاني الشهي وتبدأ لعبةُ الألسنة الأشد احمرارًا.


على الهامش: قررتُ أن أصنعَ صورتي بنفسي!

يتم التشغيل بواسطة Blogger.