03‏/08‏/2016

مطر





مطرٌ مطر.
الموسيقى الهشّة تسكن أذني وصرير السّرير الحديديّ يصيرُ أكثر وضوحًا والرواية اللعينة التي بدأتُ بها لا تنتهي. هنا، الفستان المليء برائحة النبيذ يستوطن فراغ الأرض ويعوي. كانت له أنثاه قبل قليل، لكنه الآن وحيدٌ ومظلم.
مطرٌ مطر.
وأروقة المعبد الذي صلّينا فيه صلاتنا الأولى قد هُدمت. هل تشعر بالحزن مثلي لأن ليس هناك ظلًا كبيرًا نرمي عليه أصابعنا المتعبَة؟ وهل يؤذيكَ كما يؤذيني ظهور الحقيقة بهذا الشّكل المُفجِع، وانتهاء كوب العصير، وخراب موسم الزيتون وموت جارتنا إثر سكتة قلبيّة وقد كان بإمكانها أن تموت إثر انفجار عظيم لو أنها رافقتني هذا الصباح؟
مطرٌ مطر.
يولّي الرقص وجهه نحو الطرف الآخر وينام مثلَ أي رجلٍ بليد لا يقدّر توهّج الشعر ونعومة القطن واستحالة الفحم إلى جمرٍ برتقاليّ عجيب. يصيرُ الليل مسرحًا هزليًّا وينتظر الجميع وصول القطار. يبنيه بعض الجالسين من الحجر الذي تساقط على رؤوسهم عقبَ آخر غارة جويّة وينتظرون كالحمقى أن يتحرّك فعلًا. بينما يصدّق الآخرون قصّة فيروز عن "المحطّة" ويرفضون أن يصدّقوا أنّ المحطّة لا تعدو كونها "حقل بطاطا" وأنّ بإمكانهم إذا استثمروها أن يشتروا بثمنها قطارًا حقيقيًّا ويعبروا. أنا؟ أحرّك المكعّبات الملونة وأصنع منها صندوقًا مثقوبًا من كلّ الجوانب لأنني لا أطيقُ منزلًا من دون نوافذ ولا أستطيعُ تقبّل السّجن الذي يشيّده لي الآخرون.
مطرٌ مطر.
يا أيها المرميّ مثل سجادة في سوق الأشياء المستعلمة من يشتريك؟ إنك رغم كلّ شيء تبدو أقلّ من طموحاتهم وعليك في كلّ الأحوال ومن أجل نفسك أولا أن تفتت هذا النسيج الغبيّ الذي أنت عليه وتصنع من خيوطك الملونة شيئًا آخر أكثر خفّة. طائرة ورق مثلا. فقد كان خطأ يا عزيزي أن نربط الأشياء الضخمة بالأهمية دوما.
مطرٌ مطر.
وقد اختبأت العصافير في شعري. بنيتُ خيمة فسيحة على كتفي ولجأت إليها. أنا المشرّدة على حدود نفسي. الراغبة في السّفر إليك أبدًا.

02‏/08‏/2016

عندما يصير لون شعرنا أبيض



إلى هداية،

أكتب إليكِ هذه الرسالة وأنشرها. أعلم أنني بنشرها قد أزعجك، فقد ترين أن حميمية الرسالة ستضيع في عوالم أخرى غير عالمنا. لكنني أنشرها لأنني أكسبها قيمة أكبر من لذة الحميمية.
قلتُ اليوم لأمي: "إنني لو عشتُ عمري كله في غرفة مظلمة لما احتجتُ إلى غير الماء والطعام لئلا أموت". فجأة قلتُ عبارتي الغريبة التي آذت مشاعرها. شعرتُ بالارتياح عندما انتهيت، وكأنني فرغت من قراءة ذاتي كاملة. لكنني احتجتُ إلى تعقيب، فقلت: "أنا ممتلئ، أنا أملأ نفسي بنفسي". فبدت على وجهها علامات الارتياح الممتزج بالارتياب.
تذكَّرتُ حديثنا منذ أيام. عمَّ كنا نتحدث يا حبيبتي؟ نعم، عن اللقاء. كنتِ تتمنين أن نلتقي قريبا. أدركت أنني المسؤول عن كل تلك الحواجز التي اعترضت يديك في طريقهما إليَّ. كنت مغرورا عندما تصوَّرتُ أنك آتية، وأنني وِجهتك. لم أضع أمنيتي إلى جانب أمنيتك فرحتُ أتفنن في المواساة قائلا: "سنلتقي قبل أن نموت، إذا عشتِ إلى السبعين فسوف نلتقي، سنلتقي حتى بعد مئات الأعوام". ضحكتِ حينها وأكَّدتِ لي صحة كلامي.
تحدثنا عن الحرب، ضغطنا كتب التاريخ كلها في دقيقتين وتوصلنا إلى أن ما تبقى من أعمارنا الافتراضية يمنحنا بعض الأمل في انتهاء الحرب، ثم لقائنا. "أنا لا أريدكِ في زينة شبابك على أية حال، أريدك حتى لو كنتِ عجوزا" قلتُ لمعابثةِ وجهك الذي أظنُّ أنه انكمش حينها. فقلتِ، وشعرتُ بأنك أصدق مني: "ستكونُ أروعَ في نهاية العمر". وانقطعَ الاتصال!

لويتُ في مكاني مرارا، نظرتُ إلى القاع وكنتُ في مكان شاهق. النظرُ إلى الأسفل أكسبني شجاعة انتظارك. وكم كنتُ بارعًا في المواساة حين قلتُ مرة أخرى: "لن تستمر هذه الحرب إلا ما يكفي لتغيير لون شعرنا، ما رأيك أن نلتقي عندما يصير لون شعرنا أبيض". ضحِكْتِ يا حلوة الضحكة، وأحسستُ اهتزاز نهديك.
لكننا لن نعوِّل على أجسادنا أكثر، صحيح؟ نحن كاتبان يا زوجة الروح. نحن لبلابتانِ راسختان في الوجود. نكتب على أجسادنا الجميلة حياتنا ثم نتساقط. نكون بعد السقوط الظاهري أعمقَ معنى وأشد تأثيرا. قد يكتب على جذعينا عاشقان بعد آلاف السنين، أو قد يحيلنا نحَّاتٌ ماهرٌ إلى تمثالين أبديين، أو قد نصيرُ أبوابا ونوافذ يعبُرها الناس ليصيروا لبلابات، وينتصر جمال الأرواح على جمال الأجساد. نحن قويَّان يا زوجة الروح، أو كما يقول كازانتزاكيس: "دمنا مرجانٌ أحمر، ونحن نبني جزيرة فوق الهاوية."

فاضحكي.. لينمو الياسمين من جديد حول غمَّازتيك. أنا من سيجعل ضحكتك أشهى من ضحكات كل الإناث. سأكوِّرها بين يدي وسأنفخ فيها بقوة رئتيَّ الشَّابتين لتصيرشيئا يعيد خلق نفسه من جديد كل مرة. وكذا ستفعلين أنتِ بضحكاتي ودموعي وعَرَقي وشعري المتساقط وأظافري، اتفقنا؟

أنهي الرسالة شاعرا بالنشوة. بقيت هذه السطور تطعنني يوما كاملا. والآن أنشرها لأنصِّب نفسي معلما للآخرين، لأعلمهم كيف يحبون وجودهم إلى الأبد.



دائرة



هذه الدائرةُ لا تحميني، لكنها تشبهُ المجال الخارق لأنثى "مطّاطيّة"!




تجمّع الرجالُ في الساحة الكبيرةِ، وكانوا يتشاورون بشأن شيءٍ مهمٍ كما كان يبدو. رفع أحدهم يده بغضبٍ وتعالتِ الشّتائمُ، وكاد اثنان أن يتقاتلا لولا أن تدخّل ثالثٌ تظهرُ على حركاته الجسديّة مسحةٌ من الحكمة والاتزان. هذا ما رأيته عندما أزحتُ الستارة لأسلم على العالم الذي ما كان ليبدو لي مختلفًا كثيرًا، فقد تساوى الوقتُ أخيرًا، وصارتِ الساعة السّادسة صباحًا لا تختلفُ عن السادسة مساءً إلا في فنجان القهوة بالحليب!
فركتُ عينيّ وتتبّعتُ لونهما الذي قادني إلى باب الغرفةِ حيثُ فتحتهُ وخرجتْ. كنتُ أمشي كأنثى تجرّها خصلةُ شعرٍ في مقدّمةِ رأسها. سلّمتُ على أمّي -كما يفعلُ الطيّبون- وقد كانت تكتبُ على دفترها الصغير بضع ملاحظاتٍ لم أتبيّنها، ترخي نظّارتها على أنفها ثم تقفُ قليلًا -تفكّرُ على ما يبدو- وتنغمسُ في الكتابة مجدّدًا وهذا ما جعلها تردّ تحيّتي بإيماءةٍ واحدة.
"يالَ الثلاثاء النيسانيّ الموحِش" قلتُ هذا بمنتهى الإجحاف والطفولة، وبرز في وجهي مدرّب التفكير الإيجابيّ  الذي قرأتُ لهُ بضع سخافاتٍ على أحد المواقع وهو يقول: "ما زال في بدايته، لا تحكمي على الأشياء في بدايتها"، عمومًا. لقد تخلّصتُ منه كمن يفقأ فقاعة لأنني أعرفُ أنني لستُ في البداية. لقد قطعتُ إلى الآن شوطًا كبيرًا جدًّا وأشعرُ أن نيسان عالقٌ هنا منذ سنتين وأنّ يوم الثلاثاء تحديدًا يتكرّرُ بشكلٍ لا يُطاقْ، وعندما أقولُ هذا لأخي وهو يشربُ كوب القهوة ويدخّنُ سيجارتهُ "الأولى" يضحكُ بعبث، بدخان، كأنما ضحكتهُ غيمةٌ نُفخَتْ للتوّ من رئة السّماء، ثمّ يعلّق: "مجنونة!".

أنا الآن أجلسُ على الكرسيّ الأسود الوثير الذي كان أبي قد صنعهُ لي قائلًا: "في العمل لا بدّ أن تكون جلستكِ مريحة، ثقي بي". في الحقيقة أنا غارقةٌ فيه تمامًا ولن أخفي زهوي بحذائي الجديد الذي يشبهُ في ذوقه حذاء المدرسة الابتدائية. إنه لامعٌ جدًّا كأنه مرآةٌ تعكسُ ذكرى مصطفى وهو يقول: "أنا بحبِّكْ لأنو كندرتك نظيفة" فأضحكُ وأحزنُ في آن على ضياع يد الصداقة منا بسبب الحرب والموت، لكنني سرعان ما أبتسمُ مجدّدًا وأضربُ بقدميّ الأرض محدثةً طرقاتٍ سريعة وإسبانية حتّى تفرغ الموسيقى التي تسري في رأسي، وتستكين الحياة التي تضجّ خلف الزجاج النظيف.



على الهامش: "إنّي مرساةٌ لا ترسو".













31‏/07‏/2016

موتُ الأخ



خذي أيتها الطبيعة من جسدي كل نرجسة
ومن كتبي كل حكمة
وخذي من طريقي كل خطوة
خذي كل ما تشائين، فأنا التمثال الراسخ في أرضي
المكبَّل ببعضي.

أنا الإنسان الذي صار حجرا
والأغنية التي تجمدت قبل أن تُسمع
وأنا كل الحجارة الصمّاء المعذبة والتائهة
وأنا الصمت الذي كله سجن وموت وبلادة.

الحزن صيرني إلى هذه الكينونة
أو إلى عدم الكينونة
أو إلى الكينونة العدم
والحزن جعل جسدي ناطقا بلا حراك
وجعل لساني كبقية جسدي
جعلني متكلما بلا لغة
جعلني لغويا بلا كلام.

فلتأخذي أيتها الطبيعة رثائي وفظاعتي
أنا الشاعر تحت السيف
والكاهن المستوحش الوحيد
والكتاب الذي يُرمى في النهر ولا يجادل 
ولا يملك حتى قدرة العويل الأخير
وأنا فكرة الإنسان
الغائبة حتى عن إدراك الإنسان وشعوره
المسافرة بلا كلل وبلا فائدة وبلا رجوع وبلا قرار
أنا الفكرة التي عنها يتكلمون ويتعاركون ويتقاتلون ويتلاعنون
الفكرة الهامدة الخرساء التي لا يمكن أن تكون
إلا مجردة من ذاتها.

فهل بعد هذا التوسُّل ما يرقق عواطفك نحوي؟
هل بعد هذه الحسرات والبشاعات، 
بعد هذا الخضوع والكآبة والاستماتة ما يغريك بأخذ أشيائي الزهيدة، 
أشيائي التي لا تتحدد أو تسمي نفسها أو تفصح أو تصرخ أو تستغيث؟ 
هل بعد؟ هل بعد؟

خذيها يا أيتها الطبيعة الأم والأب، ويا كل الرحمة ويا كل القسوة ويا كل الوجود
وهبي لي لغة تشقُّ صلابة وجهي
وتتمدد في العالم
من هذا المكان الصغير المعذّب الذي هو أنا
من المكان الصغير المعذب الراسخ في عذابه.


يتم التشغيل بواسطة Blogger.